الباحث القرآني

ذكر أمورا أربعة: الخلق والتسوية والتَّقْدِير والهِدايَة. فسوى خلقه وأتقنه وأحكمه، ثمَّ قدر لَهُ أسباب مَصالِحه في معاشه وتقلباته وتصرفاته، وهداه إليها. والهِدايَة: تَعْلِيم فَذكر أنه الَّذِي خلق وعلم، كَما ذكر نَظِير ذَلِك في أول سُورَة أنزلها على رَسُوله ﷺ. وَقد تقدم ذَلِك. وَقالَ تَعالى حِكايَة عَن عدوه فِرْعَوْن أنه قالَ لمُوسى ﴿فَمن رَبكُما يا مُوسى قالَ رَبنا الَّذِي أعطى كل شَيْء خلقه ثمَّ هدى﴾ وَهَذِه المرتبَة أسبق مَراتِب الهِدايَة وأعمها. * وقال في (شفاء العليل) ذكر سبحانه أربعة أمور عامة الخلق والتسوية والتقدير والهداية وجعل التسوية من تمام الخلق والهداية من تمام التقدير. قال عطاء "خلق فسوى أحسن ما خلقه وشاهده قوله تعالى: ﴿الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ فإحسان خلقه يتضمن تسويته وتناسب خلقه وأجزائه بحيث لم يحصل بينها تفاوت يخل بالتناسب والاعتدال فالخلق الإيجاد والتسوية إتقانه وإحسان خلقه" وقال الكلبي "خلق كل ذي روح فجمع خلقه وسواه باليدين والعينين والرجلين" وقال مقاتل" خلق لكل دابة ما يصلح لها من الخلق" وقال أبو إسحاق "خلق الإنسان مستويا" وهذا تمثيل وإلا فالخلق والتسوية شامل للإنسان وغيره قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وما سَوّاها﴾ وقال: ﴿فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماوات﴾ فالتسوية شاملة لجميع مخلوقاته: ﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ﴾ وما يوجد من التفاوت وعدم التسوية فهو راجع إلى عدم إعطاء التسوية للمخلوق فإن التسوية أمر وجودي تتعلق بالتأثير والإبداع فما عدم منها فلعدم إرادة الخالق للتسوية وذلك أمر عدمي يكفي فيه عدم الإبداع والتأثير. فتأمل ذلك فإنه يزيل عنك الإشكال في قوله: ﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ﴾ فالتفاوت حاصل بسبب عدم مشيئة التسوية كما أن الجهل والصمم والعمى والخرس والبكم يكفي فيها عدم مشيئة خلقها وإيجادها وتمام هذا يأتي إن شاء الله في باب دخول الشر في القضاء عند قول النبي ﷺ: "والشر ليس إليك" والمقصود أن كل مخلوق فقد سواه خالقه سبحانه في مرتبة خلقه وإن فاتته التسوية من وجه آخر لم يخلق له. * (فصل) وأما التقدير والهداية فقال مقاتل "قدر خلق الذكر والأنثى فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها" وقال ابن عباس والكلبي وكذلك قال عطاء "قدر من النسل ما أراد ثم هدى الذكر للأنثى" واختار هذا القول صاحب النظم فقال: "معنى هدى هداية الذكر لإتيان الأنثى كيف يأتيها" لأن إتيان ذكران الحيوان لإناثه مختلف لاختلاف الصور والخلق والهيآت، فلولا أنه سبحانه جبل كل ذكر على معرفة كيف يأتي أنثى جنسه لما اهتدى لذلك. وقال مقاتل أيضا: "هداه لمعيشته ومرعاه" وقال السدي: "قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج" وقال مجاهد: "هدى الإنسان لسبيل الخير والشر والسعادة والشقاوة" وقال الفراء: "التقدير فهدى وأضل فاكتفى من ذكر أحدهما بالآخر" قلت: الآية أعم من هذا كله وأضعف الأقوال فيها قول الفراء إذا المراد هاهنا الهداية العامة لمصالح الحيوان في معاشه ليس المراد هداية الإيمان والضلال بمشيئته. وهو نظير قوله: ﴿رَبُّنا الَّذِي أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾ فإعطاء الخلق إيجاده في الخارج والهداية التعليم والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه ويقيمه. وما ذكر مجاهد فهو تمثيل منه لا تفسير مطابق للآية فإن الآية شاملة لهداية الحيوان كله ناطقه وبهيمه، طيره ودوابه، فصيحه وأعجمه. وكذلك قول من قال أنه هداية الذكر لإتيان الأنثى تمثيل أيضا وهو فرد واحد من أفراد الهداية التي لا يحصيها إلا الله. وكذلك قول من قال هداه للمرعى فإن ذلك من الهداية فإن الهداية إلى التقام الثدي عند خروجه من بطن أمه، والهداية إلى معرفته أمه دون غيرها حتى يتبعها أين ذهبت؟ والهداية إلى قصد ما ينفعه من المرعى دون ما يضره منه؟ وهداية الطير والوحش والدواب إلى الأفعال العجيبة التي يعجز عنها الإنسان كهداية النحل إلى سلوك السبل التي فيها مراعيها على تباينها ثم عودها إلى بيوتها من الشجر والجبال وما يغرس بنو آدم. ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى﴾ وهذه الحجة عليهم في الحقيقة لأن النبي امتثل هذا الأمر وقال سبحان ربي الأعلى سبحان ربي العظيم ولو كان الأمر كما زعموا لقال سبحان اسم ربي العظيم ثم إن الأمة كلهم لا يجوز لأحد منهم أن يقول عبدت اسم ربي ولا سجدت لاسم ربي ولا ركعت لاسم ربي ولا باسم ربي ارحمني وهذا يدل على أن الأشياء متعلقة بالمسمى لا بالاسم وأما الجواب عن تعلق الذكر والتسبيح المأمور به بالاسم فقد قيل فيه إن التعظيم والتنزيه إذا وجب للمعظم فقد تعظم ما هو من سببه ومتعلق به كما يقال سلام على والباب السامي والمجلس الكريم ونحوه وهذا جواب غير مرض لوجهين أحدهما أن رسول الله ﷺ لم يفهم هذا المعنى وإنما قال سبحان ربي فلم يعرج على ما ذكرتموه. الثاني أنه يلزمه أن يطلق على الاسم التكبير والتحميد والتهليل وسائر ما يطلق على المسمى فيقال الحمد لاسم الله ولا إله إلا اسم الله ونحوه وهذا مما لم يقله أحد بل الجواب الصحيح أن الذكر الحقيقي محله القلب لأنه ضد النسيان والتسبيح نوع من الذكر فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك دون اللفظ باللسان والله تعالى أراد من عباده الأمرين جميعا ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما فصار معنى الآيتين سبح ربك بقلبك ولسانك واذكر ربك بقلبك ولسانك فأقحم الاسم تنبيها على هذا المعنى حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان لأن ذكر القلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه. والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع مدلوله، لأن اللفظ لا يراد لنفسه فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبح دون ما يدل عليه من المعنى وعبر لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة فقال: "المعنى سبح ناطقا باسم ربك" متكلما به وكذا: ﴿ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلاّ أسْماءً سَمَّيْتُمُوها﴾، ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ المعنى سبح ربك ذاكرا اسمه وهذه الفائدة تساوي رحلة لكن لمن يعرف قدرها فالحمد لله المنان بفضله ونسأله تمام نعمته حجة ثالثة قالوا قال تعالى: ﴿ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلاّ أسْماءً سَمَّيْتُمُوها﴾ وإنما عبدوا مسمياتها. والجواب: أنه كما قلتم إنما عبدوا المسميات ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة كاللات والعزى وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها وليس لها من الألوهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها وهذا كمن سمى قشور البصل لحما وأكلها فيقال ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه وكمن سمى التراب خبزا وأكله يقال: ما أكلت إلا اسم الخبز بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه وما الحكمة ثم إلا مجرد الاسم فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى. فإن قيل: فما الفائدة في دخول الباء في قوله: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ﴾ ولم تدخل في قوله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى﴾؟ قيل التسبيح يراد به التنزيه والذكر المجرد دون معنى آخر ويراد به ذلك مع الصلاة وهو ذكر وتنزيه مع عمل ولهذا تسمى الصلاة تسبيحا فإذا أريد التسبيح المجرد فلا معنى للباء لأنه لا يتعدى بحرف جر لا تقول سبحت بالله وإذا أردت المقرون بالفعل وهو الصلاة أدخلت الباء تنبيها على ذلك المراد كأنك قلت سبح مفتتحا باسم ربك أو ناطقا باسم ربك كما تقول صل مفتتحا أو ناطقا باسمه ولهذا السر والله أعلم دخلت اللام في قوله تعالى ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ والمراد التسبيح الذي هو السجود والخضوع والطاعة ولم يقل في موضع سبح الله ما في السماوات والأرض كما قال ﴿ولله يسجد من في السماوات والأرض﴾ [الرعد: ١٥] وتأمل قوله تعالى ﴿إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون﴾ [الأعراف: ٢٠٦] فكيف قال ويسبحونه لما ذكر السجود باسمه الخاص فصار التسبيح ذكرهم له وتنزيههم إياه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب