الباحث القرآني
وقد أثنى الله سبحانه على عبده جبريل في القرآن أحسن الثناء، ووصفه بأجمل الصفات فقال:
﴿فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ (١٥) الجَوارِ الكُنَّسِ (١٦) واللَّيْلِ إذا عَسْعَسَ (١٧) والصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ (١٨) إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أمِينٍ (٢١)﴾
فهذا جبريل، فوصفه بأنه رسوله، وأنه كريم عنده، وأنه ذو قوة ومكانة عند ربه سبحانه، وأنه مطاع في السماوات، وأنه أمين على الوحي.
فمن كرمه على ربه: أنه أقرب الملائكة إليه.
قال بعض السلف: منزلته من ربه منزلة الحاجب من الملك.
ومن قوته: أنه رفع مدائن قوم لوط على جناحه، ثم قلبها عليهم.
فهو قوي على تنفيذ ما يؤمر به، غير عاجز عنه، إذ تطيعه أملاك السماوات فيما يأمرهم به عن الله تعالى.
قال ابن جرير في "تفسيره": عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح: أمين على أن يدخل سبعين سُرادقًا من نور بغير إذن.
ووصفه بالأمانة يقتضي صدقه ونصحه، وإلقاءه إلى الرسل ما أمر به من غير زيادة ولا نقصان ولا كتمان.
فالمكانة والأمانة والقوة والقرب من الله.
ونظير الجمع له بين المكانة والأمانة: قول العزيز ليوسف عليه السلام: ﴿إنّكَ اليَوْمَ لَدَيَنا مَكِين أمِينٌ﴾ [يوسف: ٥٤].
والجمع بين القوة والأمانة: نظير قول ابنة شعيب في موسى عليهما السلام: ﴿إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأمِينُ﴾ [القصص: ٢٦].
* (فصل)
* قال في (التبيان)
ومن ذلك قوله سبحانه ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ الجَوارِ الكُنَّسِ واللَّيْلِ إذا عَسْعَسَ والصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ﴾
أقسم سبحانه بالنجوم في أحوالها الثلاثة من طلوعها وجريانها وغروبها.
هذا قول علي وابن عباس وعامة المفسرين وهو الصواب.
والخنس جمع خانس والخنس الانقباض والاختفاء ومنه سمي الشيطان خناسًا لانقباضه وانكماشه حين يذكر العبد ربه ومنه قول أبي هريرة فانخنست والكنس جمع كانس وهو الداخل في كناسه أي في بيته ومنه تكنست المرأة إذا دخلت في هودجها ومنه كنست الظباء إذا أوت إلى أكناسها.
والجواري أي جمع جارية كغاشية وغواش قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل وهذا قول مقاتل وعطاء وقتادة وغيرهم قالوا الكواكب تخنس بالنهار فتختفي ولا ترى وتكنس في وقت غروبها ومعنى تخنس على هذا القول تتأخر عن البصر وتتوارى عنه بإخفاء النهار لها وفيه قول آخر وهو أن خنوسها رجوعها وهي حركتها الشرقية فإن لها حركتين حركة بفعلها وحركة بنفسها فخنوسها حركتها بنفسها راجعة وعلى هذا فهو قسم بنوع من الكواكب وهي السيارة.
وهذا قول الفراء.
وفيه قول ثالث وهو أن خنوسها وكنوسها اختفاؤها وقت مغيبها فتغيب في مواضعها التي تغيب فيها.
وهذا قول الزجاج.
ولما كان للنجوم حال ظهور وحال اختفاء وحال جريان وحال غروب أقسم سبحانه بها في أحوالها كلها ونبه بخنوسها على حال ظهورها لأن الخنوس هو الاختفاء بعد الظهور ولا يقال لما لا يزال مختفيًا أنه قد خنس فذكر سبحانه جريانها وغروبها صريحًا وخنوسها وظهورها واكتفى من ذكر طلوعها بجريانها الذي مبدؤه الطلوع فالطلوع أول جريانها
فتضمن القسم طلوعها وغروبها وجريانها واختفاءها وذلك من آياته ودلائل ربوبيته
وليس قول من فسرها بالظباء وبقر الوحش بالظاهر لوجوه:
أحدها أن هذه الأحوال في الكواكب السيارة أعظم آية وعبرة.
الثاني اشتراك أهل الأرض في معرفته بالمشاهدة والعيان.
الثالث أن البقر والظباء ليست لها حالة تختفي فيها عن العيان مطلقًا بل لا تزال ظاهرة في الفلوات.
الرابع إن الذين فسروا الآية بذلك قالوا ليس خنوسها من الاختفاء.
قال الواحدي هو من الخنس في الأنف وهو تأخر الأرنبة وقصر القصبة والبقر والظباء أنوفهن خنس والبقرة خنساء والظبي أخنس
ومنه سميت الخنساء لخنس أنفها، ومعلوم أن هذا أمر خفي يحتاج إلى تأمل، وأكثر الناس لا يعرفونه، وآيات الرب التي يقسم بها لا تكون إلا ظاهرة جلية يشترك في معرفتها الخلائق.
وليس الخنس في أنف البقرة والظباء بأعظم من الاستواء والاعتدال في أنف ابن آدم فالآية فيه أظهر.
الخامس أن كنوسها في أكنتها ليس بأعظم من دخول الطير وسائر الحيوانات في بيته الذي يأوي فيه ولا اظهر منه حتى يتعين للقسم.
السادس أنه لو كان جمعًا للظبي لقال الخنس بالتسكين لأنه جمع أخنس فهو كأحمر وحمر ولو أريد به جمع بقرة خنساء لكان على وزن فعلاء أيضا كحمراء وحمر، فلما جاء جمعه على فعل بالتشديد استحال أن يكون جمعًا لواحد من الظباء والبقر، وتعين أن يكون جمعًا لخانس كشاهد وشهد وصائم وصوم وقائم وقوم ونظائرها.
السابع أنه ليس بالبين أقسام الرب تعالى بالبقر والغزلان وليس هذا عرف القرآن ولا عادته، وإنما يقسم سبحانه من كل جنس بأعلاه كما أنه لما أقسم بالنفوس أقسم بأعلاها وهي النفس الإنسانية.
ولما أقسم بكلامه أقسم بأشرفه وأجله وهو القرآن ولما أقسم بالعلويات أقسم بأشرفها وهي السماء وشمسها وقمرها ونجومها.
ولما أقسم بالزمان أقسم بأشرفه وهو الليالي العشر، وإذا أراد سبحانه أن يقسم بغير ذلك أدرجه في العموم كقوله ﴿فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وما لا تُبْصِرُونَ﴾ وقوله ﴿الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ في قراءة رسول الله ونحو ذلك.
الثامن أن اقتران القسم بالليل والصبح يدل على أنها النجوم وإلا فليس باللائق اقتران البقر والغزلان، والليل والصبح في قسم واحد.
وبهذا احتج أبو إسحاق على أنها النجوم فقال هذا أليق بذكر النجوم منه بذكر الوحش.
التاسع أنه لو أراد ذلك سبحانه لبينه وذكر ما يدل عليه كما أنه لما أراد بالجواري السفن قال ﴿وَمِن آياتِهِ الجَوارِ في البَحْرِ كالأعْلامِ﴾
وهنا ليس في اللفظ ولا في السياق ما يدل على أنها البقر والظباء وفيه ما يدل على أنها النجوم من الوجوه التي ذكرناها وغيرها.
العاشر أن الارتباط الذي بين النجوم التي هي هداية للسالكين ورجوم للشياطين وبين المقسم عليه وهو القرآن الذي هو هدى للعالمين، وزينة للقلوب، وداحض لشبهات الشيطان أعظم من الارتباط الذي بين البقر والظباء والقرآن. والله أعلم.
* (فصل)
واختلف في عسعسة الليل هل هي إقباله أم إدباره فالأكثرون على أن عسعس بمعنى ولى وذهب وأدبر.
هذا قول علي وابن عباس وأصحابه.
قال الحسن أقبل بظلامه وهو إحدى الروايتين عن مجاهد.
فمن رجح الإقبال قال أقسم الله سبحانه وتعالى بإقبال الليل وإقبال النهار فقوله ﴿والصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ﴾ مقابل لليل إذا عسعس.
قالوا ولهذا أقسم الله ب ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى والنَّهارِ إذا تَجَلّى﴾ وبالضحى.
قالوا فغشيان الليل نظير عسعسته وتجلي النهار نظير تنفس الصبح إذ هو مبدؤه وأوله
ومن رجح أنه إدباره احتج بقوله تعالى ﴿كَلاّ والقَمَرِ واللَّيْلِ إذْ أدْبَرَ والصُّبْحِ إذا أسْفَرَ﴾ فأقسم بإدبار الليل وإسفار الصبح وذلك نظير عسعسة الليل وتنفس الصبح
قالوا: والأحسن أن يكون القسم بانصرام الليل وإقبال النهار فإنه عقيبه من غير فصل، فهذا أعظم في الدلالة والعبرة، بخلاف إقبال الليل وإقبال النهار فإنه لم يعرف القسم في القرآن بهما، ولأن بينهما زمنًا طويلًا فالآية في انصرام هذا ومجيء الآخر عقيبه بغير فصل أبلغ.
فذكر سبحانه حالة ضعف هذا وإدباره وحالة قوة هذا وتنفسه وإقباله يطرد ظلمة الليل بتنفسه، فكلما تنفس هرب الليل وأدبر بين يديه وهذا هو القول والله أعلم.
* (فصل)
ثم ذكر سبحانه المقسم عليه وهو القرآن وأخبر أنه قول رسول كريم وهو هاهنا جبريل قطعًا لأنه ذكر صفته بعد ذلك بما يعينه به وأما الرسول الكريم في الحاقة فهو محمد لأنه نفى بعده أن يكون قول من زعم من أعدائه أنه قوله فقال ﴿وَما هو بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ولا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ﴾
فأضافه إلى الرسول الملكي تارة، وإلى البشري تارة، وإضافته إلى كل واحد من الرسولين إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده
وإلا تناقضت النسبتان ولفظ الرسول يدل على ذلك فإن الرسول هو الذي يبلغ كلام من أرسله وهذا صريح في أنه كلام من أرسل جبريل ومحمدا، وأن كلًا منهما بلغه عن الله فهو قوله مبلغًا وقول الله الذي تكلم به حقًا فلا راحة لمن أنكر أن يكون الله متكلمًا بالقرآن وهو كلامه حقًا في هاتين الآيتين بل هما من أظهر الأدلة على كونه كلام الرب تعالى وأنه ليس للرسولين الكريمين منه إلا التبليغ فجبريل سمعه من الله ومحمد سمعه من جبريل
ووصف رسوله الملكي في هذه السورة بأنه كريم قوي مكين عند الرب تعالى مطاع في السماوات أمين فهذه خمس صفات تتضمن تذكية سنة القرآن وأنه سماع محمد من جبريل وسماع جبريل من رب العالمين فناهيك بهذا السند علوًا وجلالة قول الله سبحانه بنفسه تزكيته الصفة الأولى كون الرسول الذي جاء به إلى محمد كريمًا ليس كما يقول أعداؤه إن الذي جاء به شيطان فإن الشيطان خبيث مخبث لئيم قبيح المنظر عديم الخير باطنه أقبح من ظاهره وظاهره أشنع من باطنه وليس فيه ولا عنده خير فهو أبعد شيء عن الكرم والرسول الذي ألقى القرآن إلى محمد كريم جميل المنظر بهي الصورة كثير الخير طيب مطيب معلم الطيبين وكل خير في الأرض من هدى وعلم ومعرفة وإيمان وبر فهو مما أجراه ربه على يده وهذا غاية الكرم الصوري والمعنوي
الوصف الثاني أنه ذو قوة كما قال في موضع آخر ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوى﴾
وفي ذلك تنبيه على أمور:
أحدها أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو منه وأن ينالوا منه شيئًا وأن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يقربه
الثاني أنه موال لهذا الرسول الذي كذبتموه ومعاضد له ومواد له وناصر كما قال تعالى ﴿وَإنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإنَّ اللَّهَ هو مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ المُؤْمِنِينَ والمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾
ومن كان هذا القوي وليه ومن أنصاره وأعوانه ومعلمه فهو المهدي المنصور والله هاديه وناصره.
الثالث أن من عادى هذا الرسول فقد عادى صاحبه ووليه جبريل ومن عادى ذا القوة والشدة فهو عرضة للهلاك.
الرابع أنه قادر على تنفيذ ما أمر به لقوته فلا يعجز عن ذلك مؤد له كما أمر به لأمانته فهو القوي الأمين وأحدكم إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو وكالة أو غيرها فإنما ينتدب لها القوي عليه الأمين على فعله وإن كان ذلك الأمر من أهم الأمور عنده انتدب له قويًا أمينًا معظمًا ذا مكانة عنده مطاعًا في الناس كما وصف الله عبده جبريل بهذه الصفات وهذا يدل على عظمة شان المرسل والرسول والرسالة والمرسل إليه حيث انتدب له الكريم القوي المكين عنده المطاع في الملأ الأعلى الأمين حق الأمين فإن الملوك لا ترسل في مهماتها إلا الأشراف ذوي الأقدار والرتب العالية.
وقوله ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ﴾ أي له مكانة ووجاهة عنده وهو أقرب الملائكة إليه
وفي قوله ﴿عِنْدَ ذِي العَرْشِ﴾ إشارة إلى علو منزلة جبريل إذ كان قريبًا من ذي العرش سبحانه
وفي قوله ﴿مطاع ثم﴾ إشارة إلى أن جنوده وأعوانه يطيعونه إذا ندبهم لنصر صاحبه وخليله محمد، وفيه إشارة أيضًا إلى أن هذا الذي تكذبونه وتعادونه سيصير مطاعًا في الأرض كما أن جبريل مطاع في السماء، وأن كلًا من الرسولين مطاع في محله وقومه.
وفيه تعظيم له بأنه بمنزلة الملوك المطاعين في قومهم فلم ينتدب لهذا الأمر العظيم إلا مثل هذا الملك المطاع.
وفي وصفه بالأمانة إشارة إلى حفظه ما حمله وأدائه له على وجهه.
ثم نزه رسوله البشري وزكاه عما يقول فيه أعداؤه فقال ﴿وَما صاحِبُكم بِمَجْنُونٍ﴾
وهذا أمر يعلمونه ولا يشكون فيه وإن قالوا بألسنتهم خلافه فهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين
ثم أخبر عن رؤيته لجبريل وهذا يتضمن أنه ملك موجود في الخارج يرى بالعيان ويدركه البصر لا كما يقول المتفلسفة ومن قلدهم أنه العقل الفعال وأنه ليس مما يدرك بالبصر وحقيقته عندهم أنه خيال موجود في الأذهان لا في الأعيان وهذا مما خالفوا به جميع الرسل وأتباعهم وخرجوا به عن جميع الملل ولهذا كان تقرير رؤية النبي لجبريل أهم من تقرير رؤيته لربه تعالى فإن رؤيته لجبريل هي أصل الإيمان الذي لا يتم إلا باعتقادها ومن أنكرها كفر قطعًا وأما رؤيته لربه تعالى فغايتها أن تكون مسألة نزاع لا يكفر جاحدها بالاتفاق وقد صرح جماعة من الصحابة بأنه لم يره وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على ذلك فنحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى، وإن كانت رؤية الرب أعظم من رؤية جبريل ومن دونه، فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها ألبتة.
ثم نزه رسوليه كليهما أحدهما بطريق النطق، والثاني بطريق اللزوم عما يضاد مقصود الرسالة من الكتمان الذي هو الضنة والبخل والتبديل والتغيير الذي يوجب التهمة فقال ﴿وَما هو عَلى الغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾
فإن الرسالة لا يتم مقصودها إلا بأمرين أدائها من غير كتمان وأدائها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان والقراءتان كالآيتين فتضمنت إحداهما وهي قراءة الضاد تنزيهه عن البخل فإن الضنين هو البخيل يقال ضننت به أضن بوزن بخلت به أبخل ومعناه ومنه قول جميل بن معمر:
؎أجود بمضنون التلاد وإنني ∗∗∗ بسرك عمن سالني لضنين
قال ابن عباس رضي الله عنهما ليس بخيلًا بما أنزل الله وقال مجاهد لا يضن عليهم بما يعلم
وأجمع المفسرون على أن الغيب هاهنا القرآن والوحي
وقال الفراء يقول تعالى يأتيه غيب السماء وهو منفوس فيه فلا يضن به عليكم وهذا معنى حسن جدًا، فإن عادة النفوس الشح بالشيء النفيس ولا سيما عمن لا يعرف قدره ويذمه ويذم من هو عنده، ومع هذا فهذا الرسول لا يبخل عليكم بالوحي الذي هو أنفس شيء وأجله.
وقال أبو علي الفارسي المعنى يأتيه الغيب فيبينه ويخبر به ويظهره ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده ويخفيه حتى يأخذ عليه حلوانا وفيه معنى آخر وهو أنه على ثقة من الغيب الذي يخبر به فلا يخاف أن ينتقض ويظهر الأمر بخلاف ما أخبر به كما يقع الكهان وغيرهم ممن يخبر بالغيب فإن كذبهم أضعاف صدقهم.
وإذا أخبر أحدهم بخبر لم يكن على ثقة منه بل هو خائف من ظهور كذبه فإقدام هذا الرسول على الإخبار بهذا الغيب العظيم الذي هو أعظم الغيب واثقًا به مقيمًا عليه مبديًا له في كل مجمع ومعيدًا مناديًا به على صدقه مجلبًا به على أعدائه من أعظم الأدلة على صدقه
وأما قراءة من قرأ (بظنين) بالظاء فمعناه المتهم يقال ظننت زيدًا بمعنى اتهمته وليس من الظن الذي هو الشعور والإدراك فإن ذاك يتعدى إلى مفعولين ومنه ما أنشده أبو عبيدة:
؎أما وكتاب الله لا عن شناءة ∗∗∗ هجرت ولكن المحب ظنين
والمعنى وما هذا الرسول على القرآن بمتهم بل هو أمين لا يزيد فيه ولا ينقص.
وهذا يدل على أن الضمير يرجع إلى محمد لأنه قد تقدم وصف الرسول الملكي بالأمانة ثم قال ﴿وَما صاحِبُكم بِمَجْنُونٍ﴾ ثم قال وما هو أي وما صاحبكم بمتهم ولا بخيل
واختار أبو عبيدة قراءة الظاء لمعنيين:
أحدهما أن الكفار لم يبخلوه وإنما اتهموه فنفي التهمة أولى من نفي البخل.
الثاني أنه قال على الغيب ولو كان المراد البخل لقال بالغيب لأنه يقال فلان ضنين بكذا وقلما يقال على كذا.
قلت ويرجحه أنه وصفه بما وصف به رسوله الملكي من الأمانة فنفى عنه التهمة كما وصف جبريل بأنه أمين ويرجحه أيضًا أنه سبحانه نفى أقسام الكذب كلها عما جاء به من الغيب فإن ذلك لو كان كذبًا فإما أن يكون منه أو ممن علمه وإن كان منه فأما أن يكون تعمده أو لم يتعمده فإن كان من معلمه فليس هو بشيطان رجيم وإن كان منه مع التعمد فهو المتهم ضد الأمين وإن كان عن غير تعمد فهو المجنون فنفى سبحانه عن رسوله ذلك كله وزكى سند القرآن أعظم تزكية.
فلهذا قال سبحانه ﴿وَما هو بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾ ليس تعليم الشيطان ولا يقدر عليه ولا يحسن منه، كما قال تعالى ﴿وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وما يَنْبَغِي لَهم وما يَسْتَطِيعُونَ﴾
فنفى فعله وابتغاءه منهم وقدرتهم عليه وكل من له أدنى خبرة بأحوال الشياطين والمجانين والمتهمين وأحوال الرسل يعلم علمًا
لا يمارى فيه ولا يشك بل علمًا ضروريًا كسائر الضروريات منافاة أحدهما للآخر ومضادته له كمنافاة أحد الضدين لصاحبه بل ظهور المنافاة بين الأمرين للعقل أبين من ظهور المنافاة بين النور والظلمة للبصر ولهذا وبخ سبحانه من كفر بعد ظهور هذا الفرق المبين بين دعوة الرسل ودعوة الشياطين فقال أين تذهبون؟
قال أبو إسحاق فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم.
قلت: هذا من أحسن اللازم وأبينه أن تبين للسامع الحق ثم تقول له إيش تقول خلاف هذا وأين تذهب خلاف هذا قال تعالى ﴿فبأي حديث بعده يؤمنون﴾ وقال ﴿فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون﴾ فالأمر منحصر في الحق والباطل والهدى والضلال فإذا عدلتم عن الهدى والحق فأين العدول وأين المذهب.
ونظير هذا قوله ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ﴾
أي إن أعرضتم عن الإيمان بالقرآن والرسول وطاعته فليس إلا الفساد في الأرض والشرك والمعاصي وقطيعة الرحم ونظيره قوله تعالى ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمّا جاءَهم فَهم في أمْرٍ مَرِيجٍ﴾ لما تركوا الحق وعدلوا عنه مرج عليهم أمرهم والتبس فلا يدرون ما يقولون وما يفعلون بل لا يقولون شيئًا إلا كان باطلًا ولا يفعلون شيئًا إلا كان ضائعًا غير نافع لهم وهذا شأن كل من خرج عن الطريق الموصل إلى المقصود ونظيره قوله تعالى ﴿فَإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فاعْلَمْ أنَّما يَتَّبِعُونَ أهْواءَهُمْ﴾ وقد كشف هذا المعنى كل الكشف بقوله عز وجل ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَماذا بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلالُ فَأنّى تُصْرَفُونَ﴾
* (فصل)
ثم أخبر تعالى عن القرآن بأنه (ذكرٌ للعالمين)
وفي موضع آخر (تذكرة للمتقين)
وفي موضع آخر لرسوله ولقومه، وفي موضع آخر ذكر مطلق، وفي موضع آخر ذكر مبارك، وفي موضع آخر وصفه بأنه ذو الذكر.
وبجمع هذه المواضع تبين المراد من كونه ذكرًا عاما وخاصا وكونه ذا ذكر فإنه يذكر العباد بمصالحهم في معاشهم ومعادهم ويذكرهم بالمبدأ والمعاد ويذكرهم بالرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وحقوقه على عباده ويذكرهم بالخير ليقصدوه وبالشر ليجتنبوه ويذكرهم بنفوسهم وأحوالها وآفاتها وما تكمل به ويذكرهم بعدوهم وما يريد منهم وبماذا يحترزون من كيده
ومن أي الأبواب والطرق يأتي إليهم ويذكرهم بفاقتهم وحاجتهم إليه، وأنهم مضطرون إليه لا يستغنون عنه نفسًا واحدًا ويذكرهم بنعمه عليهم ويدعوهم بها إلى نعم أخرى أكبر منها ويذكرهم بأسه وشده بطشه وانتقامه ممن عصى أمره وكذب رسله ويذكرهم بثوابه وعقابه
ولهذا يأمر سبحانه عباده أن يذكروا ما في كتابه كما قال ﴿وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكم ورَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكم بِقُوَّةٍ واذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾
وإذا كان كذلك فأحق وأولى وأول من كان ذاكرًا له من أنزل عليه ثم لقومه ثم لجميع العالمين وحيث خص به المتقين فلأنهم الذين انتفعوا بذكره.
وأما وصفه بأنه ذو الذكر فلأنه مشتمل على الذكر فهو صاحب الذكر ومنه الذكر فهو ذكر وفيه الذكر كما أنه هدى وفيه الهدى وشفاء وفيه الشفاء ورحمه وفيه الرحمة
وقوله سبحانه ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ﴾ بدل من العالمين وهو بدل بعض من كل وهذا من أحسن ما يستدل به على أن البدل في قوة ذكر عاملين مقصودين فإن جهة كونه ذكرًا للعالمين كلهم غير جهة كونه ذكرًا لأهل الإستقامة فإنه ذكر للعموم بالصلاحية والقوة وذكر لأهل الاستقامة بالحصول والنفع فكما أن البدل أخص من المبدل منه فالعامل المقدر فيه أخص من العامل الملفوظ في المبدل منه ولا بد من هذا فتأمله.
وقوله ﴿لِمَن شاءَ مِنكُمْ﴾ رد على الجبرية القائلين بأن العبد لا مشيئة له أو أن مشيئته مجرد علامة على حصول الفعل لا ارتباط
بينها وبينه إلا مجرد اقتران عادي من غير أن يكون سببًا فيه.
وقوله ﴿وَما تَشاءُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ رد على القدرية القائلين بأن مشيئة العبد مستقلة بإيجاد الفعل من غير توقف على مشيئة الله بل متى شاء العبد الفعل وجد ويستحيل عندهم تعلق مشيئة الله بفعل العبد بل هو يفعله بدون مشيئة الله
فالآيتان مبطلتان لقول الطائفتين.
فإن قال الجبري هو سبحانه لم يقل إن الفعل واقع بمشيئة العبد بل أخبر أن الاستقامة تحصل عند المشيئة ونحن قائلون بذلك وقال القدري قوله ﴿وَما تَشاءُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ مختلفة فمشيئة العبد هي الموجبة للفعل التي بها يقع ومشيئة الله لفعله هو أمره بذلك ونحن لا ننكر ذلك.
فالجواب أن هذا من تحريف الطائفتين أما الجبري فيقال له اقتران الفعل عندك بمشيئة العبد بمنزلة اقترانه بكونه وشكله وسائر أغراضه التي لا تأثير لها في الفعل، فإن نسبة جميع أغراضه إلى الفعل في عدم التأثير نسبة إرادية عندك، والاقتران حاصل بجميع أغراضه فما الذي أوجب تخصيص المشيئة سوى الله سبحانه في فطر الناس أو عقولهم أو شرائعهم بين نسبة المشيئة والإرادة إلى الفعل ونسبة سائر أغراض الحي إذا كان عندك ليس إلا مجرد الاقتران عادة، والاقتران العادي حاصل مع الجميع.
وأما القدري فتحريفه أشد لأنه حمل المشيئة على الأمر، وقال المعنى وما تشاؤون إلا بأمر الله وهذا باطل قطعًا فإن المشيئة في القرآن لم تستعمل في ذلك وإنما استعملت في مشيئة التكوين كقوله ﴿وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ﴾ وقوله ﴿وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما اقْتَتَلُوا﴾ وقوله ﴿وَلَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها﴾ وقوله ﴿أفَلَمْ يَيْأسِ الَّذِينَ آمَنُوا أنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدى النّاسَ جَمِيعًا﴾ ونظائر ذلك مما لا يصح فيه حمل المشيئة على الأمر ألبتة.
والذي دلت عليه الآية مع سائر أدلة التوحيد وأدلة العقل الصريح أن مشيئة العباد من جملة الكائنات التي لا توجد إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى فما لم يشأ لم يكن ألبتة كما أن ما شاء كان ولا بد.
ولكن هاهنا أمرًا يجب التنبيه عليه وهو أن مشيئة الله سبحانه تارة تتعلق بفعله وتارة تتعلق بفعل العبد فتعلقها بفعله وهو أن يشاء من نفسه إعانة عبده وتوفيقه وتهيئته للفعل فهذه المشيئة تستلزم فعل العبد ومشيئته ولا يكفي في وقوع الفعل مشيئة الله لمشيئة عبده دون أن يشاء فعله فإنه سبحانه قد يشاء من عبده المشيئة وحدها فيشاء العبد الفعل ويريده ولا يفعله لأنه لم يشأ من نفسه إعانته عليه وتوفيقه له.
وقد دل على هذا قوله تعالى ﴿وَما تَشاءُونَ إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ وقوله ﴿وَما يَذْكُرُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾
وهاتان الآيتان متضمنتان إثبات الشرع والقدر والأسباب والمسببات وفعل العبد واستناده إلى فعل الرب ولكل منهما عبودية مختص بها فعبودية الآية الأولى والاجتهاد واستفراغ الوسع والاختيار والسعي وعبودية الثانية الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إليه واستنزال التوفيق والعون منه والعلم بأن العبد لا يمكنه أن يشاء ولا يفعل حتى يجعله الله كذلك
وقوله ﴿رب العالمين﴾ ينتظم ذلك كله ويتضمنه فمن عطل أحد الأمرين فقد جحد كمال الربوبية وعطلها. وبالله التوفيق.
{"ayahs_start":15,"ayahs":["فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِٱلۡخُنَّسِ","ٱلۡجَوَارِ ٱلۡكُنَّسِ","وَٱلَّیۡلِ إِذَا عَسۡعَسَ","وَٱلصُّبۡحِ إِذَا تَنَفَّسَ","إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولࣲ كَرِیمࣲ","ذِی قُوَّةٍ عِندَ ذِی ٱلۡعَرۡشِ مَكِینࣲ","مُّطَاعࣲ ثَمَّ أَمِینࣲ"],"ayah":"مُّطَاعࣲ ثَمَّ أَمِینࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق