الباحث القرآني
فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هي بما يدعونا إليه الله والرسول من العلم والإيمان. فعلم أن موت القلب وهلاكه بفقد ذلك.
وشبه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب القبور. وهذا من أحسن التشبيه، فإن أبدانهم قبور لقلوبهم. فقد ماتت قلوبهم وقبرت في أبدانهم. فقال الله تعالى: ﴿إنّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشاءُ وما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِى القُبُورِ﴾ [فاطر: ٢٢].
ولقد أحسن القائل:
؎وَفِى الجهلِ قَبْلَ الموْتِ مَوْتٌ لأهْلِه ∗∗∗ وأجْسامُهُمْ، قَبْلَ القُبُورِ، قُبُورُ
؎وَأرْواحُهم في وحْشَةٍ مِن جُسُومِهم ∗∗∗ ولَيْسَ لَهم حَتّى النُّشُورِ نُشُورُ
ولهذا جعل سبحانه وحيه الذي يلقيه إلى الأنبياء روحا، كما قال تعالى: ﴿يُلْقِى الرُّوحَ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ [غافر: ١٥]. في موضعين من كتابه، وقال ﴿وَكَذلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ [الشورى: ٥٢]؛ لأن حياة الأرواح والقلوب به، وهذه الحياة الطيبة هي التي خص بها سبحانه من قَبِلَ وحيه، وعمل به فقال:
﴿مَن عَمِلَ صالحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧].
فخصهم سبحانه وتعالى بالحياة الطيبة في الدارين.
* (فصل)
تضمنت هذه الآية أمورا.
أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل باستجابة لله ولرسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية، مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات. فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهرا وباطنا. فهؤلاء هم الأحياء، وإن ماتوا وغيرهم أموات وأن كانوا أحياء الأبدان. ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول ﷺ.
فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة. فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة. وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول.
قال مجاهد لِما يُحْيِيكم يعني: للحق.
وقال قتادة: هو هذا القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال السدي: هو الإسلام، أحياهم به بعد موتهم بالكفر.
قال بن إسحاق وعروة بن الزبير - واللفظ له - لما يحييكم: يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم.
وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة. وهي القيام بما جاء به الرسول ظاهرا وباطنا.
قال الواحدي: والأكثرون على أن معنى قوله: لِما يُحْيِيكم هو الجهاد. وهو قول ابن إسحاق، واختيار أكثر أهل المعاني.
قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم، يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد، فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم، واجترأ عليهم عدوهم.
قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة. أما في الدنيا: فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد.
وأما في البرزخ: فقد قال تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتًا بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.
وأما في الآخرة: فإن حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم، ولهذا قال ابن قتيبة: لما يحييكم يعني الشهادة.
وقال بعض المفسرين: لما يحييكم يعني الجنة. فإنها دار الحيوان، وفيها الحياة الدائمة الطيبة. حكاه أبو علي الجرجاني. والآية تتناول هذا كله. فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب الحياة الطيبة، وكمال الحياة في الجنة. والرسول داع إلى الإيمان وإلى الجنة. وهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة. والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره. ومتى نقصت فيه هذه الحياة له من الألم والضعف بحسب ذلك. ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافي من ذلك.
وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل، والغي والرشاد، والهوى والضلال فيختار الحق على ضده، فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات، والأعمال. وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق، وقوة البغض والكراهة للباطل: فشعوره وتميزه ونصرته بحسب نصيبه من هذه الحياة.
كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم، ويكون ميله إلى النافع ونصرته عن المؤلم أعظم فهذا بحسب حياة البدن. وذلك بحسب حياة القلب. فإذا بطلت حياته بطل تمييزه وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار، كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه. فيصير حيا بذلك النفخ. وكان فضل ذلك من جملة الأموات فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول ﷺ من الروح الذي ألقى الله إليه قال تعالى: ﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ وقال: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾
وقال: ﴿وَكَذلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ ولا الإيمانُ ولكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾
فأخبر أن وحيه روح ونور.
فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول الملكي فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان.
ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له إحدى الحياتين، وفاتته الأخرى.
قال تعالى: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنها﴾
فجمع له بين النور والحياة، كما جمع لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة. قال ابن عباس وجميع المفسرين: كان كافرا ضالا فهديناه.
وقوله: ﴿وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ﴾ يتضمن أمورا.
أحدها: أنه يمشي في الناس بالنور، وهم في الظلمة. فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل، فضلوا ولم يهتدوا للطريق. وآخر معه نور يمشي به في الطريق ويراها، ويرى ما يحذره فيها.
وثانيها: أنه يمشي بنوره فهم يقتبسون فيه لحاجتهم إلى النور.
وثالثها: أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط إذا بقي أهل الشرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم.
وقوله: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ﴾
المشهور في الآية: أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان. ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته وبين أهل معصيته وبين طاعته.
وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين: وفي الآية قول آخر: أن المعنى: أنه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافية. فهو بينه وبين قلبه. ذكره الواحدي عن قتادة.
وكان هذا أنسب بالسياق. لأن الاستجابة أصلها بالقلب فلا تنفع الاستجابة بالبدن. دون القلب.
فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه. فيعلم هل استجاب له قلبه، وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه.
وعلى القول الأول: فوجه المناسبة: إنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم. فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة، وعقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانته، فيكون كقوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهم كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وقوله: ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ وقوله: ﴿فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِن قَبْلُ﴾.
ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب، وإن استجاب بالجوارح.
وفي الآية سر آخر وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به وهو الاستجابة، وبين القدر والإيمان به. فهي كقوله: ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ وما تَشاؤُنَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ وقوله: ﴿فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ. وما يَذْكُرُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾
والله أعلم.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱسۡتَجِیبُوا۟ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا یُحۡیِیكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَحُولُ بَیۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥۤ إِلَیۡهِ تُحۡشَرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق