الباحث القرآني
* (فصل)
ومن ذلك قوله تعالى ﴿والنّازِعاتِ غَرْقًا والنّاشِطاتِ نَشْطًا والسّابِحاتِ سَبْحًا فالسّابِقاتِ سَبْقًا فالمُدَبِّراتِ أمْرًا﴾
فهذه خمسة أمور وهي صفات الملائكة
فأقسم سبحانه بالملائكة الفاعلة لهذه الأفعال إذ ذلك من أعظم آياته وحذف مفعول النزع والنشط لأنه لو ذكر ما تنزع وتنشط لأوهم التقييد به وأن القسم على نفس الأفعال الصادرة من هؤلاء الفاعلين فلم يتعلق الغرض بذكر المفعول كقوله: ﴿فَأمّا مَن أعْطى واتَّقى﴾ ونظائره فكان نفس النزع هو المقصود لا عين المنزوع
وأكثر المفسرين على أنها الملائكة التي تنزع أرواح بني آدم من أجسامهم وهم جماعة كقوله ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا﴾
وقوله: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ﴾
وأما قوله: ﴿قُلْ يَتَوَفّاكم مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾
فإما أن يكون واحدًا وله أعوان، وإما أن يكون المراد الجنس لا الوحدة كقوله: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وكُتُبِهِ﴾ وقوله: ﴿وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾ والنزع هو اجتذاب الشيء بقوة والإغراق في النزع هو أن يجتذبه إلى آخره ومنه إغراق النزع في جذب القوة بأن يبلغ بها غاية المد فيقال أغرق في النزع ثم صار مثلًا لكل من بالغ في فعل حتى وصل إلى آخره
والغرق اسم مصدر أقيم مقامه كالعطاء والكلام أقيم مقامه الاعطاء والتكلم
واختلف الناس هل النازعات متعد أو لازم فعلى القول الذي حكيناه يكون متعديًا.
وهذا قول علي ومسروق ومقاتل وأبي صالح وعطيه عن ابن عباس.
وقال ابن مسعود هي أنفس الكفار وهو قول قتادة والسدي وعطاء عن ابن عباس على هذا فهو فعل لازم وغرقًا على هذا معناه نزعًا شديدًا أبلغ ما يكون وأشده.
وفي هذا القول ضعف من وجوه أحدها أن عطف ما بعده عليه يدل على أنها الملائكة فهي السابحات والمدبرات والنازعات الثاني أن الإقسام بنفوس الكفار خاصة ليس بالبين ولا في اللفظ ما يدل عليه الثالث أن النزع مشترك بين نفوس بني آدم والإغراق لا يختص بالكافر وقال الحسن النازعات هي النجوم تنزع من المشرق إلى المغرب وغرقا هو غروبها
قال تنزع من هاهنا وتغرق هاهنا واختاره الأخفش وأبو عبيد وقال مجاهد هي شدائد الموت وأهواله التي تنزع الأرواح نزعًا شديدًا وقال عطاء وعكرمة هي القسى والنازعات على هذا القول بمعنى النسب أو ذوات النزع التي ينزع بها الرامي فهو النازع.
قلت النازعات اسم فاعل من نزع ويقال نزع كذا إذا اجتذبه بقوة ونزع عنه إذا خلاه وتركه بعد ملابسته له
ونزع إليه إذا ذهب إليه وما إليه وهذا إنما توصف به النفوس التي لها حركة إرادية للميل إلى الشيء أو الميل عنه وأحق ما صدق عليه هذا الوصف الملائكة لأن هذه القوة فيها أكمل وموضع الآية فيها أعظم فهي التي تغرق في النزع إذا طلبت ما تنزعه أو تنزع إليه والنفس الإنسانية أيضًا لها هذه القوة والنجوم أيضا تنزع أفق إلى أفق فالنزع حركة شديدة سواء كانت من ملك أو نفس إنسانية أو نجم والنفوس تنزع إلى أوطانها وإلى مألفها، وعند الموت تنزع إلى ربها المنايا تنزع النفوس
والقسى تنزع بالسهام والملائكة تنزع من مكان إلى مكان وتنزع ما وكلت بنزعه والخيل تنزع في أعنتها نزعًا تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها.
فالصفة واقعة على كل من له هذه الحركة التي هي آية من آيات الرب تعالى فإنه هو الذي خلقها وخلق محلها وخلق القوة والنفس التي بها تتحرك ومن ذكر صورة من هذه الصور فإنما أراد التمثيل وإن كانت الملائكة أحق من تناوله هذا الوصف
فأقسم بطوائف الملائكة وأصنافهم فهم النازعات التي تنزع الأرواح من الأجساد والناشطات التي تنشطها أي تخرجها بسرعة وخفة من قولهم نشط الدلو من البئر إذا أخرجها وأنا أنشط بكذا أي أخف له وأسرع والسابحات التي تسبح في الهواء في طريق ممرها إلى ما أمرت به كما تسبح الطير في الهواء فالسابقات التي تسبق وتسرع إلى ما أمرت به لا تبطئ عنه ولا تتأخر فالمدبرات أمور العباد التي أمرها ربها بتدبيرها وهذا أولى الأقوال.
وقد روي عن ابن عباس أن النازعات الملائكة تنزع نفوس الكفار بشدة وعنف والناشطات الملائكة التي تنشط أرواح المؤمنين بيسر وسهولة واختار الفراء هذا القول فقال هي الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها وتنزع نفس الكافر
قال الواحدي: إنما اختار ذلك لما بين النشط والنزع من الفرق في الشدة واللين فالنزع الجذب بشدة والنشط الجذب برفق ولين والناشطات هي النفوس التي تنشط لما أمرت به والملائكة أحق الخلق بذلك ونفوس المؤمنين ناشطة لما أمرت به
وقيل السابحات هي النجوم تسبح في الفلك كما قال تعالى ﴿كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾
وقيل هي السفن تسبح في الماء وقيل هي نفوس المؤمنين تسبح بعد المفارقة صاعدة إلى ربها
قلت والصحيح أنها الملائكة والسياق يدل عليه.
وأما السفن والنجوم فإنما تسمى جارية وجواري كما قال تعالى ﴿وَمِن آياتِهِ الجَوارِ في البَحْرِ كالأعْلامِ﴾ وقال ﴿حَمَلْناكم في الجارِيَةِ﴾ وقال ﴿الجَوارِ الكُنَّسِ﴾
ولم يسمها سابحات وإن أطلق عليها فعل السباحة كقوله ﴿كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ ويدل عليه ذكره السابقات بعدها والمدبرات بالفاء وذكره الثلاثة الأول بالواو لأن السبق والتدبير مسبب عن المذكور قبله فإنها نزعت ونشطت وسبحت فسبقت إلى ما أمرت به فدبرته ولو كانت السابحات هي السفن أو النجوم أو النفوس الآدمية لما عطف عليها فعل السبق والتدبير بالفاء فتأمله
قال مسروق ومقاتل والكلبي فالسابقات سبقا هي الملائكة قال مجاهد وأبو روق سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح والإيمان والتصديق
قال مقاتل تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة
وقال الفراء والزجاج هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء إذا كانت الشياطين تسترق السمع.
وهذا القول خطأ لا يخفى فساده إذ يقتضي الاشتراك بين الملائكة والشياطين في إلقائهم الوحي، وأن الملائكة تسبقهم به إلى الأنبياء.
وهذا ليس بصحيح فإن الوحي الذي تأتي به الملائكة إلى الأنبياء لا تسترقه الشياطين، وهم معزولون عن سماعه، وإن استرقوا بعض ما يسمعونه من ملائكة السماء الدنيا من أمور الحوادث، فالله سبحانه صان وحيه إلى الأنبياء أن تسترق الشياطين شيئًا منه وعزلهم عن سمعه.
ولو أن قائل هذا القول فسر السابقات بالملائكة التي تسبق الشياطين بالرجم بالشهب قبل إلقاء الكلمة التي استرقها لكان له وجه، فإن الشيطان يبدر مسرعًا بإلقائه إلى وليه فتسبقه الملائكة في نزوله بالشهب الثواقب فتهلكه، وربما ألقى الكلمة قبل إدراك الشهب له
وفسرت (السابقات سبقًا) بالأنفس السابقات إلى طاعة الله ومرضاته.
وأما (المدبرات أمرًا) فأجمعوا على أنها الملائكة.
قال مقاتل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت يدبرون أمر الله تعالى في الأرض، وهم (المقسمات أمرًا)
قال عبد الرحمن بن ساباط جبريل موكل بالرياح وبالجنود، وميكائيل موكل بالقطر والنبات، وملك الموت موكل بقبض الأنفس، وإسرافيل ينزل بأمر الله عليهم.
وقال ابن عباس هم الملائكة وكلهم الله بأمور عرفهم العمل بها والوقوف عليها بعضهم لبني آدم يحفظون ويكتبون وبعضهم وكلوا بالأمطار والنبات والخسف والمسخ والرياح والسحاب. انتهى.
وقد أخبر أن الله وكل بالرجم ملكا، وللرؤيا ملك موكل بها، وللجنة ملائكة موكلون بعمارتها وعمل آلاتها وأوانيها وغراسها وفرشها ونمارقها وأرائكها، وللنار ملائكة موكلة بعمل ما فيها وإيقادها وغير ذلك.
فالدنيا وما فيها والجنة والنار والموت وأحكام البرزخ قد وكل الله بذلك كله ملائكة يدبرون ما شاء الله من ذلك ولهذا كان الإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الذي لا يتم الإيمان إلا به
وأما من قال أنها النجوم فليس هذا من قول أهل الإسلام ولم يجعل الله النجوم تدبر شيئًا من الخلق بل هي مدبرة ومسخرة كما قال الله تعالى ﴿والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأمْرِهِ﴾
فالله سبحانه هو المدبر بملائكته لأمر العالم العلوي والسفلي
قال الجرجاني وذكر (السابقات والمدبرات) بالفاء وما قبلها بالواو لأن ما قبلها أقسام مستأنفة، وهذان القسمان منشآن عن الذي قبلهما كأنه قال فاللاتي سبحن فسبقن، كما تقول قام فذهب أوجب الفاء أن القيام كان سببًا للذهاب، ولو قلت قام وذهب لم تجعل القيام سببًا للذهاب.
واعترض عليه الواحدي فقال هذا غير مطرد في هذه الآية، لأنه يبعد أن يجعل السبق سببًا للتدبير مع أن السابقات ليست الملائكة في قول المفسرين.
قلت: الملائكة داخلون في السابقات قطعًا وأما اختصاص السابقات بالملائكة فهذا محتمل وأما قوله يبعد أن يكون السبق سببًا للتدبير فليس كما زعم بل السبق المبادرة إلى تنفيذ ما يؤمر به الملك فهو سبب الفعل الذي أمر به وهو التدبير مع أن الفاء دالة على التعقيب وأن التدبير يتعقب السبق بلا تراخ بخلاف الإقسام الثلاثة والله أعلم.
وجواب القسم محذوف يدل عليه السياق وهو البعث المستلزم لصدق الرسول وثبوت القرآن أو أنه من القسم الذي أريد به التنبيه على الدلالة والعبرة بالمقسم به دون أن يراد به مقسمًا عليه بعينه.
وهذا القسم يتضمن الجواب المقسم عليه وإن لم يذكر لفظًا.
ولعل هذا مراد من قال أنه محذوف للعلم به لكن هذا الوجه ألطف مسلكًا، فإن المقسم به إذا كان دالًا على المقسم عليه مستلزمًا استغنى عن ذكره بذكره، وهذا غير كونه محذوفًا لدلالة ما بعده عليه فتأمله.
ولعل هذا قول من قال أنه إنما أقسم برب هذه الأشياء، وحذف المضاف فإن معناه صحيح لكن على غير الوجه الذي قدروه، فإن إقسامه سبحانه بهذه الأشياء لظهور دلالتها على ربوبيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته فالإقسام بها في الحقيقة إقسام بربوبيته وصفات كماله فتأمله.
* (فصل: في أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها، وأن حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات الملائكة والحيوانات، وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحب)
وهذا باب شريف من أشرف أبواب الكتاب وقبل تقريره لا بد من بيان مقدمة وهي أن الحركات ثلاث حركة إرادية وحركة طبيعية وحركة قسرية وبيان الحصر أن مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك أو من غيره.
فإن كان من المتحرك فإما أن يقارنها شعوره وعلمه بها أولا، فإن قارنها الشعور والعلم فهي الإرادية.
وإن لم يقارنها الشعور والعلم فهي الطبيعية، وإن كانت من غيره فهي القسرية.
وإن شئت أن تقول المتحرك إما أن يتحرك بإرادته أو لا فإن تحرك بإرادته فحركته إرادية وإن تحرك بغير إرادته فإما أن تكون حركته إلى نحو مركزه أولا فإن تحرك إلى جهة مركزه فحركته طبيعية وإن تحرك إلى غير جهة مركزه فحركته قسرية إذا ثبت هذا فالحركة الإرادية تابعة لإرادة المتحرك.
والمراد إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره ولا بد أن ينتهي المراد لغيره إلى مراد لنفسه دفعا للدور والتسلسل الإرادة إما أن تكون لجلب منفعة ولذة إما للمتحرك وإما لغيره أو دفع ألم ومضرة إما عن المتحرك أو عن غيره والعاقل لا يجلب لغيره منفعة ولا يدفع عنه مضرة إلا لما له في ذلك من اللذة ودفع الألم فصارت حركته الإرادية تابعة لمحبته بل هذا حكم كل حي متحرك.
وأما الحركة الطبيعية فهي حركة الشيء إلى مستقره ومركزه وتلك تابعة للحركة التي اقتضت خروجه عن مركزه وهي القسرية التي إنما تكون بقسر قاسر أخرجه عن مركزه إما باختياره كحركة الحجر إلى أسفل إذا رمي به إلى جهة فوق، وإما بغير اختيار محركه كتحريك الرياح للأجسام إلى جهة مهابها، وهذه الحركة تابعة للقاسر وحركة القاسر ليست منه بل مبدؤها من غيره فإن الملائكة موكلة بالعالم العلوي والسفلي تدبره بأمر الله عز وجل كما قال الله تعالى ﴿فالمُدَبِّراتِ أمْرًا﴾ وقال فالمقسمات أمر وقال تعالى ﴿والمُرْسَلاتِ عُرْفًا فالعاصِفاتِ عَصْفًا والنّاشِراتِ نَشْرًا فالفارِقاتِ فَرْقًا فالمُلْقِياتِ ذِكْرًا﴾ وقال ﴿والنّازِعاتِ غَرْقًا والنّاشِطاتِ نَشْطًا والسّابِحاتِ سَبْحًا فالسّابِقاتِ سَبْقًا فالمُدَبِّراتِ أمْرًا﴾
وقد وكل الله سبحانه بالأفلاك والشمس والقمر ملائكة تحركها ووكل بالرياح ملائكة تصرفها بأمره وهم خزنتها قال الله تعالى ﴿وَأمّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ﴾
وقال غير واحد من السلف عتت على الخزان فلم يقدروا على ضبطها ذكره البخاري في صحيحه.
ووكل بالقطر ملائكة وبالسحاب ملائكة تسوقه إلى حيث أمرت به وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قالَ: " بَيْنا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحّى ذَلِكَ السَّحابُ، فَأفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ، فَإذا شَرْجَةٌ مِن تِلْكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ، فَإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بِمِسْحاتِهِ، فَقالَ لَهُ: يا عَبْدَ اللهِ ما اسْمُكَ؟ قالَ: فُلانٌ - لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ في السَّحابَةِ - فَقالَ لَهُ: يا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْألُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحابِ الَّذِي هَذا ماؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لِاسْمِكَ، فَما تَصْنَعُ فِيها؟ قالَ: أمّا إذْ قُلْتَ هَذا، فَإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنها، فَأتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأرُدُّ فِيها ثُلُثَهُ " ووكل الله سبحانه بالجبال ملائكة، وثبت عن النبي ﷺ أنه جاءه ملك الجبال يسلم عليه ويستأذنه في هلاك قومه إن أحب فقال
"بل أستأني لهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا"
ووكل بالرحم ملكا يقول يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة يا رب ذكر أم أنثى؟ فما الرزق فما الأجل وشقي أم سعيد؟
ووكل بكل عبد أربعة من الملائكة في هذه الدنيا حافظان عن يمينه وعن شماله يكتبان أعماله، ومعقبات من بين يديه ومن خلفه أقلهم اثنان يحفظونه من أمر الله.
ووكل بالموت ملائكة ووكل بمساءلة الموتى ملائكة في القبور.
ووكل بالرحمة ملائكة، وبالعذاب ملائكة، وبالمؤمن ملائكة يثبتونه ويؤزونه إلى الطاعات أزا.
ووكل بالنار ملائكة يبنونها ويوقدونها ويصنعون أغلالها وسلاسلها ويقومون بأمرها.
ووكل بالجنة ملائكة يبنونها ويفرشونها ويصنعون أرائكها وسررها وصحافها ونمارقها وزرابيها.
فأمر العالم العلوي والسفلي والجنة والنار بتدبير الملائكة بإذن ربهم تبارك وتعالى وأمره ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وهم بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ و ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهم ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ فأخبر أنهم لا يعصونه في أمره وأنهم قادرون على تنفيذ أوامره ليس بهم عجز عنها بخلاف من يترك ما أمر به عجزا فلا يعصى الله ما أمره وإن لم يفعل ما أمره به وكذلك البحار قد وكلت بها ملائكة تسجرها وتمنعها أن تفيض على الأرض فتغرق أهلها وكذلك أعمال بني آدم خيرها وشرها قد وكلت بها ملائكة تحصيها وتحفظها وتكتبها ولهذا كان الإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الذي لا يتم إلا به وهي خمس الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
وإذا عرف ذلك عرف أن كل حركة في العالم فسببها الملائكة وحركتهم طاعة الله بأمره وإرادته فيرجع الأمر كله إلى تنفيذ مراد الرب تعالى شرعا وقدرا والملائكة هم المنفذون ذلك بأمره ولذلك سموا ملائكة من الألوكة وهي الرسالة فهم رسل الله في تنفيذ أوامره.
والمقصود أن حركات الأفلاك وما حوته تابعة للحركة الإرادية المستلزمة للمحبة فالمحبة والإرادة أصل كل فعل ومبداه فلا يكون الفعل إلا عن محبة وإرادة حتى دفعه للأمور التي يبغضها ويكرهها فإنما يدفعها بإرادته ومحبته لأضدادها واللذة التي يجدها بالدفع كما يقال شفى غيظه وشفى صدره والشفاء والعافية يكون للمحبوب وإن كان كريها مثل شرب الدواء الذي يدفع به ألم المرض فإنه وإن كان مكروها من وجه فهو محبوب لما فيه من زوال المكروه وحصول المحبوب وكذلك فعل الأشياء المخالفة للهوى فإنها وإن كانت مكروهة فإنما تفعل لمحبة وإرادة وإن لم تكن محبوبة لنفسها، فإنه مستلزمة للمحبوب لنفسه فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة ولذلك كانت المحبة والإرادة أصلا للبغض والكراهة فإن البغيض المكروه ينافي وجود المحبوب والفعل إما أن يتناول وجود المحبوب أو دفع المكروه المستلزم لوجود المحبوب فعاد الفعل كله إلى وجود المحبوب
والحركة الاختيارية أصلها الإرادة والقسرية والطبيعية تابعتان لها فعاد الأمر إلى الحركة الإرادية فجميع حركات العالم العلوي والسفلي تابعة للإرادة والمحبة وبها تحرك العالم ولأجلها فهي العلة الفاعلية والغائية بل هي التي بها ولأجلها وجد العالم فما تحرك في العالم العلوي والسفلي حركة إلا والإرادة والمحبة سببها وغايتها بل حقيقة المحبة حركة نفس المحب إلى محبوبه فالمحبة حركة بلا سكون وكمال المحبة هو العبودية والذل والخضوع والطاعة للمحبوب وهو الحق الذي به وله خلقت السماوات والأرض والدنيا والآخرة قال تعالى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وقال الله تعالى ﴿وَما خَلَقْنا السَّماءَ والأرْضَ وما بَيْنَهُما باطِلًا﴾ وقال تعالى ﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا﴾
والحق الذي خلق به ولأجله الخلق هو عبادة الله وحده التي هي كمال محبته والخضوع والذل له ولوازم عبوديته من الأمر والنهى والثواب والعقاب ولأجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب وخلق الجنة والنار والسماوات والأرض إنما قامت بالعدل الذي هو صراط الله الذي هو عليه وهو أحب الأشياء إلى الله تعالى قال الله تعالى حاكيا عن نبيه شعيب عليه السلام ﴿إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلى اللَّهِ رَبِّي ورَبِّكم ما مِن دابَّةٍ إلّا هو آخِذٌ بِناصِيَتِها إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فهو على صراط مستقيم في شرعه وقدره وهو العدل الذي به ظهر الخلق والأمر والثواب والعقاب وهو الحق الذي به وله خلقت السماوات والأرض وما بينهما ولهذا قال المؤمنون في عبادتهم ﴿رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا سُبْحانَكَ﴾
فنزهوا ربهم سبحانه أن يكون خلق السماوات عبثا لغير حكمة ولا غاية محمودة وهو سبحانه يحمد لهذه الغايات المحمودة كما يحمد لذاته وأوصافه فالغايات المحمودة في أفعاله هي الحكمة التي يحبها ويرضاها وخلق ما يكره لاستلزامه ما يحبه وترتب المحبوب له عليه ولذلك يترك سبحانه فعل بعض ما يحبه لما يترتب عليه من فوات محبوب له أعظم منه أو حصول مكروه أكره إليه من ذلك المحبوب وهذا كما ثبط قلوب أعدائه عن الأيمان به وطاعته لأنه يكره طاعاتهم ويفوت بها ما هو أحب إليه منها من جهادهم وما يترتب عليه من الموالاة فيه والمعاداة وبذل أوليائه نفوسهم فيه وإيثار محبته ورضاه على نفوسهم ولأجل هذا خلق الموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها قال تعالى ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا﴾
وقال ﴿إنّا جَعَلْنا ما عَلى الأرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهم أيُّهم أحْسَنُ عَمَلًا﴾
وقال تعالى ﴿وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا﴾
فأخبر سبحانه عن خلق العالم والموت والحياة، وتزيين الأرض بما عليها أنه للابتلاء والامتحان ليختبر خلقه أيهم أحسن عملا
فيكون عمله موافقا لمحاب الرب تعالى فيوافق الغاية التي خلق هو لها وخلق لأجلها العالم وهي عبوديته المتضمنة لمحبته وطاعته وهي العمل الأحسن وهو مواقع محبته ورضاه وقدر سبحانه مقادير تخالفها بحكمته في تقديرها وامتحن خلقه بين أمره وقدره ليبلوهم أيهم أحسن عملا فانقسم الخلق في هذا الابتلاء فريقين فريقا داروا مع أوامره ومحابه ووقفوا حيث وقف بهم الأمر، وتحركوا حيث حركهم الأمر واستعملوا الأمر في القدر وركبو سفينة الأمر في بحر القدر، وحكموا الأمر على القدر ونازعوا القدر بالقدر امتثالا لأمره واتباعا لمرضاته.
فهؤلاء هم الناجون.
والفريق الثاني عارضوا بين الأمر والقدر وبين ما يحبه ويرضاه وبين ما قدره وقضاه.
ثم قال ابن القيم:
فحركات العالم العلوي والسفلي وما فيهما موافقة للأمر إما الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه، وإما الأمر الكوني الذي قدره وقضاه وهو سبحانه لم يقدره سدى ولا قضاه عبثا بل لما فيه من الحكمة والغايات الحميدة وما يترتب عليه من أمور يحب غاياتها وإن كره أسبابها ومادئها فإنه سبحانه وتعالى يحب المغفرة وإن كره معاصي عباده ويحب الستر وإن كره ما يستر عبده عليه ويحب العتق وإن كره السبب الذي يعتق عليه من النار ويحب العفو كما في الحديث (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)
وإن كره ما يعفو عنه من الأوزار ويحب التوابين وتوبتبهم، وإن كره معاصيهم التي يتوبون إليه منها منها ويحب الجهاد وأهله بل هم أحب خلقه إليه وإن كره أفعال من يجاهدونه وهذا باب واسع قد فتح لك فادخل منه يطلعك على رياض من المعرفة مونقة مات من فاتته بحسرتها وبالله التوفيق.
وهذا موضع يضيق عنه عدة أسفار واللبيب يدخل إليه من بابه.
وسر هذا الباب أنه سبحانه كامل في أسمائه وصفاته فله الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه ما وهو يحب أسماءه وصفاته ويحب ظهور آثارها في خلقه فإن ذلك من لوازم كماله فإنه سبحانه وتر يحب الوتر جميل يحب الجمال عليم يحب العلماء جواد يحب الأجواد قوي والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف حيي يحب أهل الحياء وفي يحب أهل الوفاء شكور يحب الشاكرين صادق يحب الصادقين محسن يحب المحسنين.
فإذا كان يحب العفو والمغفرة والحلم والصفح والستر لم يكن بد من تقديره للأسباب التي تظهر آثار هذه الصفات فيها ويستدل بها عباده على كما أسمائه وصفاته ويكون ذلك أدعى لهم إلى محبته وحمده وتمجيده والثناء عليه بما هو أهله فتحصل الغاية التي خلق لها الخلق وإن فاتت من بعضهم فذلك لفوات سبب لكمالها وظهورها فتضمن ذلك الفوات المكروه له أمرا هو أحب إليه من عدمه فتأمل هذا الموضع حق التأمل وهذا ينكشف يوم القيامة للخليفة بأجمعهم حين يجمعهم في صعيد واحد ويوصل إلى كل نفس ما ينبغي إيصاله إليها من الخير والشر واللذة والألم حتى مثقال الذرة ويوصل كل نفس إلى غاياتها التي تشهد هي أنها أولى بها فحينئذ ينطق الكون بأجمعه بحمده تبارك وتعالى قالا وحالا كما قال سبحانه وتعالى ﴿وَتَرى المَلائِكَةَ حافِّينَ مِن حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وقُضِيَ بَيْنَهم بِالحَقِّ وقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾
فحذف فاعل القول لأنه غير معين بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم فيه فيحمده أهل السماوات وأهل الأرض والأبرار والفجار والإنس والجن حتى أهل النار.
قال الحسن أو غيره لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا.
وهذا والله أعلم هو السر الذي حذف لأجله الفاعل في قوله ﴿قيلَ ادْخُلُوا أبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها﴾
وقوله ﴿وَقِيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ﴾ كأن الكون كله نطق بذلك وقاله لهم والله تعالى أعلم بالصواب.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["وَٱلنَّـٰزِعَـٰتِ غَرۡقࣰا","وَٱلنَّـٰشِطَـٰتِ نَشۡطࣰا","وَٱلسَّـٰبِحَـٰتِ سَبۡحࣰا","فَٱلسَّـٰبِقَـٰتِ سَبۡقࣰا","فَٱلۡمُدَبِّرَ ٰتِ أَمۡرࣰا"],"ayah":"وَٱلنَّـٰشِطَـٰتِ نَشۡطࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق