الباحث القرآني

ثم قرر سبحانه بعد هذا القسم أمر المعاد ونبوة موسى المستلزمة لنبوة محمد إذ من المحال أن يكون موسى نبيًا ومحمد ليس نبيًا مع أن ما يثبت نبوة موسى فلمحمد نظيره أو أعظم منه. وقرر سبحانه تكليمه لموسى بندائه له بنفسه فقال ﴿إذْ ناداهُ رَبُّه﴾ فأثبت المستلزم للكلام والتكليم، وفي موضع آخر أثبت النجاء والنداء والنجاء نوع من التكليم ومحال ثبوت النوع بدون الجنس ثم أمره أن يخاطبه بألين خطاب فيقول له ﴿فَقُلْ هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَكّى وأهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فَتَخْشى﴾ ففي هذا من لطف الخطاب ولينه وجوه: أحدهما إخراج الكلام مخرج العرض ولم يخرجه مخرج الأمر والإلزام وهو ألطف ونظيره قول إبراهيم لضيفه المكرمين ﴿ألا تَأْكُلُونَ﴾ ولم يقل كلوا. الثاني قوله (إلى أن تزكى) والتزكي النماء والطهارة والبركة والزيادة فعرض عليه أمرًا يقبله كل عاقل ولا يرده إلا كل أحمق جاهل. الثالث قوله (تزكى) ولم يقل أزكيك فأضاف التزكية إلى نفسه، وعلى هذا يخاطب الملوك. الرابع قوله (وأهديك) أي أكون دليلًا لك وهاديًا بين يديك فنسب الهداية إليه، والتزكي إلى المخاطب أي أكون دليلًا لك وهاديًا فتزكى أنت كما تقول للرجل: هل لك أن أدلك على كنز تأخذ منه ما شئت؟ وهذا أحسن من قوله أعطيك. الخامس قوله (إلى ربك) فإن في هذا ما يوجب قبول ما دل عليه وهو أنه يدعوه ويوصله إلى ربه فاطره وخالقه الذي أوجده ورباه بنعمه حنينا وصغيرًا وكبيرا وآتاه الملك وهو نوع من خطاب الاستعطاف والإلزام كما تقول لمن خرج عن طاعة سيده ألا تطيع سيدك ومولاك ومالكك؟ وتقول للولد ألا تطيع أباك الذي رباك؟ السادس قوله (فتخشى) أي إذا اهتديت إليه وعرفته خشيته لأن من عرف الله خافه ومن لم يعرفه لم يخفه فخشيته تعالى مقرونة بمعرفته وعلى قدر المعرفة تكون الخشية. السابع أن في قوله (هل لك) فائدة لطيفة وهي أن المعنى هل لك في ذلك حاجة أو أرب؟ ومعلوم أن كل عاقل يبادر إلى قبول ذلك لأن الداعي إنما يدعو إلى حاجته ومصلحته لا إلى حاجة الداعي، فكأنه يقول الحاجة لك وأنت المتزكي، وأنا الدليل لك والمرشد لك إلى أعظم مصالحك فقابل هذا بغاية الكفر والعناء، وادعى أنه رب العالمين. هذا وهو يعلم أنه ليس بالذي خلق فسوى ولا قدر فهدى، فكذب الخبر وعصى الأمر ثم أدبر يسعى بالخديعة والمكر فحشر جنوده فأجابوه ثم نادى فيهم بأنه ربهم الأعلى، واستخفهم فأطاعوه فبطش به جبار السماوات والأرض بطشة عزيز مقتدر وأخذه نكال الآخرة والأولى ليعتبر بذلك من يعتبر فاعتبر بذلك من خشى ربه من المؤمنين وحق القول على الكافرين. * (فائدة) كثير من الناس يطلب من صاحبه بعد نيله درجة الرياسة الأخلاق التي كان يعامله بها قبل الرياسة فلا يصادفها فينتقض ما بينهما من المودة وهذا من جهل الصاحب الطالب للعادة وهو بمنزلة من يطلب من صاحبه إذا سكر أخلاق الصاحب وذلك غلط فإن الرياسة سكرة كسكرة الخمر أو أشد ولو لم يكن للرياسة سكرة لما اختارها صاحبها على الآخرة الدائمة الباقية فسكرتها فوق سكرة القهوة بكثير ومحال أن يرى من السكران أخلاق الصاحي وطبعه ولهذا أمر الله تعالى أكرم خلقه عليه بمخاطبة رئيس القبط بالخطاب اللين فمخاطبة الرؤساء بالقول اللين أمر مطلوب شرعا وعقلا وعرفا ولذلك تجد الناس كالمفطورين عليه وهكذا كان النبي ﷺ يخاطب رؤساء العشائر والقبائل وتأمل امتثال موسى لما أمر به كيف قال لفرعون: ﴿هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَكّى وأهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فَتَخْشى﴾ فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض، لا مخرج الأمر وقال: ﴿إلى أنْ تَزَكّى﴾ ولم يقل إلى أن أزكيك فنسب الفعل إليه هو، وذكر لفظ التزكي دون غيره لما فيه من البركة والخير والنماء. ثم قال ﴿وَأهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ﴾ أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك. وقال ﴿إلى رَبِّكَ﴾ استدعاء لإيمانه بربه الذي خلقه ورزقه ورباه بنعمه صغيرا ويافعا وكبيرا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب