الباحث القرآني
ثم أخبر سبحانه عن سوء حال الإنسان وإصراره على المعصية والفجور وأنه لا يرعوي ولا يخاف يومًا يجمع الله فيه عظامه ويبعثه حيًا بل هو مريد للفجور ما عاش فيفجر في الحال ويريد الفجور في غد وما بعده وهذا ضد الذي يخاف الله والدار الآخرة فهذا لا يندم يندم على ما مضى منه ولا يقلع في الحال ولا يعزم في المستقبل على الترك بل هو عازم على الاستمرار وهذا ضد التائب المنيب.
ثم نبه سبحانه على الحامل له على ذلك وهو استبعاده ليوم القيامة وليس هذا استبعادًا لزمنه مع إقراره بوقوعه بل هو استبعاد لوقوعه كما حكى عنه في موضع آخر قوله ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾
أي بعيد وقوعه وليس المراد أنه واقع بعيد زمنه هذا قول جماعة من المفسرين منهم ابن عباس وأصحابه.
قال ابن عباس يقدم الذنب ويؤخر التوبة.
وقال قتادة وعكرمة قدما قدما في معاصي الله لا ينزع عن فجوره.
وفي الآية قول آخر وهو أن المعنى بل يريد الإنسان ليكذب بما أمامه من البعث ويوم القيامة.
وهذا قول ابن زيد واختيار ابن قتيبة وأبي إسحاق.
قال هؤلاء ودليل ذلك قوله ﴿يَسْألُ أيّانَ يَوْمُ القِيامَةِ﴾
ويرجح هذا القول لفظة ﴿بل﴾ فإنها تعطي أن الإنسان لم يؤمن بيوم القيامة مع هذا البيان والحجة بل هو مريد للتكذيب به ويرجحه أيضًا أن السياق كله في ذم المكذب بيوم القيامة لا في ذم العاصي والفاجر وأيضًا فإن ما قبل الآية وما بعدها يدل على المراد فإنه قال ﴿أيَحْسَبُ الأِنْسانُ ألَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ﴾
فأنكر سبحانه عليه حسبانه أن الله لا يجمع عظامه ثم قرر قدرته على ذلك ثم أنكر عليه إرادة التكذيب بيوم القيامة فالأول حسبان منه أن لا يحييه بعد موته والثاني تكذيب منه بيوم البعث وأنه يريد أن يكذب بما وضح وبان دليل وقوعه وثبوته فهو مريد للتكذيب به ثم أخبر عن تصريحه بالتكذيب فقال ﴿يَسْألُ أيّانَ يَوْمُ القِيامَةِ﴾
فالأول إرادة التكذيب، والثاني نطق بالتكذيب وتكلم به.
وهذا قول قوي كما ترى، لكن ينبغي إفراغ هذه الألفاظ في قوالب هذا المعنى.
فإن لفظة ﴿يفجر﴾ إنما تدل على عمل الفجور لا على التكذيب، وحذف الموصول مع ما جره وإبقاء الصلة خلاف الأصل فإن أصاب هذا القول قالوا تقديره ليكفر بما أمامه.
وهذا المعنى صحيح لكن دلالة هذا اللفظ عليه ليست بالبينة.
فالجواب أن الأمر كذلك لكن الفعل إذا ضمن معنى فعل آخر لم يلزم إعطاءه حكمه من جميع الوجوه بل من جلالة هذه اللغة العظيمة الشأن وجزالتها أن يذكر المتكلم فعلًا وما يضمنه معنى فعل آخر، ويجري على المضمن أحكامه لفظًا وأحكام الفعل الآخر معنى فيكون في قوة ذكر الفعلين مع غاية الاختصار.
ومن تدبر هذا وجده كثيرًا في كلام الله تعالى.
فلفظ ﴿يفجر﴾ اقتضت ﴿أمامه﴾ بلا واسطة حرف ولا اسم موصول فأعطيت ما اقتضته لفظًا واقتضى ما تضمنه الفعل من ذكر الحرف والموصول فأعطيته معنى فهذا وجه هذا القول لفظًا ومعنى والله أعلم.
ثم أخبر سبحانه عن حال هذا الإنسان إذا شاهد اليوم الذي كذب به فقال ﴿فَإذا بَرِقَ البَصَرُ وخَسَفَ القَمَرُ وجُمِعَ الشَّمْسُ والقَمَرُ يَقُولُ الإنْسانُ يَوْمَئِذٍ أيْنَ المَفَرُّ﴾
فبرق بصره أي يشخص يشاهده من العجائب التي كان يكذب بها وخسف القمر ذهب ضوؤه وانمحى ﴿وجمع الشمس والقمر﴾
ولم يجتمعا قبل ذلك بل يجمعهما الذي يجمع عظام الإنسان بعد ما فرقها البلى ومزقها ويجمع للإنسان يومئذ جميع عمله الذي قدمه وأخره من خير أو شر ويجمع ذلك من جمع القرآن في صدر رسوله، ويجمع المؤمنين في دار الكرامة فيكرم وجوههم بالنظر إليه ويجمع المكذبين في دار الهوان وهو قادر على ذلك كله كما جمع خلق الإنسان من نطفة من مني يمنى ثم جعله علقة مجتمعة الأجزاء بعد ما كانت نطفة متفرقة في جميع بدن الإنسان وكما يجمع بين الإنسان وملك الموت ويجمع بين الساق والساق، إما ساق الميت أو ساق من يجهز بدنه من البشر ومن يجهز روحه من الملائكة أو يجمع عليه شدائد الدنيا والآخرة فكيف أنكر هذا الإنسان أن يجمع بينه وبين عمله وجزائه وأن يجمع مع بني جنسه ليوم الجمع وأن يجمع عليه بين أمر الله ونهيه وعبوديته فلا يترك سدى مهملة معطلًا لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب فلا يجمع عليه ذلك
فما أجمع هذه السورة لمعان الجمع والضم، وقد افتتحت بالقسم بيوم القيامة الذي يجمع الله فيه بين الأولين والآخرين وبالنفس اللوامة التي اجتمع فيها همومها وغمومها وإرادتها واعتقاداتها وتضمنت ذكر المبدأ والمعاد والقيامة الصغرى والكبرى وأحوال الناس في المعاد وانقسام وجوههم إلى ناظرة منعمة، وباسرة معذبة.
وتضمنت وصف الروح بأنها جسم ينتقل من مكان إلى مكان فتجمع من تفاريق البدن حتى تبلغ التراق ويقول الحاضرون من راق أي من يرقى من هذه العلة التي أعيت على الحاضرين أي التمسوا له من يرقيه والرقية آخر الطب وقيل من يرقى بها ويصعد أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب فعلى الأول تكون من رقى يرقي كرمى يرمي.
وعلى الثاني من رقى يرقى كشقى يشقى، ومصدره الرقاء ومصدر الأول الرقية.
والقول الأول أظهر لوجوه أحدها أنه ليس كل ميت يقول حاضروه من يرقى بروحه وهذا إنما يقوله من يؤمن برقي الملائكة بروح الميت وأنهم ملائكة رحمة، وملائكة عذاب بخلاف التماس الرقية وهي الدعاء فإنه قل ما يخلو منه المحتضر.
الثاني أن الروح إنما يرقى بها الملك بعد مفارقتها، وحينئذ يقال من يرقى بها.
وأما قبل المفارقة فطلب الرقية للمريض من الحاضرين أنسب من طلب علم من يرقى بها إلى الله.
الثالث أن فاعل الرقية يمكن العلم به فيحسن السؤال عنه ويفيد السامع.
وأما الراقي إلى الله فلا يمكن العلم بتعيينه حتى يسأل عنه و (مَن) إنما يسأل بها عن تعيين ما يمكن السائل أن يصل إلى العلم بتعيينه.
الرابع أن مثل هذا السؤال إنما يراد به تحضيض وإثارة اهتمام إلى فعل يقع بعد من نحو قوله ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ أو يراد به إنكار فعل ما يذكر بعدها
كقوله ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلا بِإذْنِه﴾
وفعل الراقي إلى الله لا يحسن فيه واحد من الأمرين هنا بخلاف فاعل الرقية فإنه يحسن فيه الأول.
الخامس أن هذا خرج على عادة العرب وغيرهم في طلب الرقية لمن وصل إلى مثل تلك الحال فحكى الله سبحانه ما جرت عادتهم بقوله وحذف فاعل القول، لأنه ليس الغرض متعلقًا بالقائل بل بالقول، ولم تجر عادة المخاطبين بأن يقولوا من يرقى بروحه.
فكان حمل الكلام على ما ألف وجرت العادة بقوله أولى، إذ هو تذكير لهم بما يشاهدونه ويسمعونه.
السادس أنه لو أريد هذا المعنى لكان وجه الكلام أن يقال من هو الراقي ومن الراقي، ولا وجه للكلام غير ذلك كما يقال من هو القائل منكما كذا وكذا.
وفي الحديث: من القائل كلمة كذا.
السابع إن كلمة من إنما يسأل بها عن التعيين كما يقول من الذي فعل كذا ومن ذا الذي قاله فيعلم أن فاعلًا وقائلًا فعل وقال، ولا يعلم تعيينه فيسأل عن تعيينه بـ (مَن) تارة وبـ (أي) تارة وهم لم يسألوا عن تعيين الملك الراقي بالروح إلى الله
فإن قيل بل علموا أن ملك الرحمة والعذاب صاعد بروحه ولم يعلموا تعيينه فيسأل عن تعيين أحدهما؟
قيل هم يعلمون أن تعيينه غير ممكن فكيف يسألون عن تعيين ما لا سبيل للسامع إلى تعيينه، ولا إلى العلم به.
الثامن أن الآية إنما سيقت لبيان يأسه من نفسه ويأس الحاضرين معه وتحقق أسباب الموت وأنه قد حضر ولم يبق شيء ينجع فيه ولا مخلص منه، بل هو قد ظن أنه مفارق لا محالة.
فالحاضرون قد علموا أنه لم يبق لأسباب الحياة المعتادة تأثير في بقائه فطلبوا أسبابًا خارجة عن المقدور تستجلب بالرقى والدعوات فقالوا ﴿مَن راقٍ﴾
أي من يرقى هذا العليل من أسباب الهلاك، والرقية عندهم كانت مستعملة حيث لا يجدي الدواء.
التاسع أن مثل هذا إنما يراد به النفي والاستبعاد، وهو أحد التقديرين في الآية أي لا أحد يرقي من هذه العلة بعد ما وصل صاحبها إلى هذه الحال فهو استبعاد لنفي الرقية، لا طلب لوجود الراقي كقوله ﴿قال من يحيي العظام وهي رميم﴾
أي لا أحد يحييها، وقد صارت إلى هذه الحال.
فإن أريد بها هذا المعنى استحال أن يكون من الرقي وإن أريد بها الطلب استحال أيضًا أن يكون منه.
وقد بينا أنها في مثل هذا إنما تستعمل للطلب أو للإنكار.
وحينئذ فنقول في الوجه العاشر إنها إما أن يراد بها الطلب أو الاستبعاد.
والطلب إما أن يراد به طلب الفعل أو طلب التعيين، ولا سبيل إلى حمل واحد من هذه المعاني على الرقي لما بيناه والله أعلم.
{"ayahs_start":5,"ayahs":["بَلۡ یُرِیدُ ٱلۡإِنسَـٰنُ لِیَفۡجُرَ أَمَامَهُۥ","یَسۡـَٔلُ أَیَّانَ یَوۡمُ ٱلۡقِیَـٰمَةِ"],"ayah":"بَلۡ یُرِیدُ ٱلۡإِنسَـٰنُ لِیَفۡجُرَ أَمَامَهُۥ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق