قال الشافعي رضي الله عنه: أي هملا لا يؤمر ولا ينهى؟
وقال غيره: لا يثاب ولا يعاقب.
والقولان واحد. لأن الثواب والعقاب غاية الأمر والنهي.
فهو سبحانه خلقهم للأمر والنهي في الدنيا. والثواب والعقاب في الآخرة.
فأنكر سبحانه على من زعم أنه يترك سدى إنكار من جعل في العقل استقباح ذلك واستهجانه.
وأنه لا يليق أن ينسب ذلك إلى أحكم الحاكمين.
* وقال في (بدائع الفوائد)
قال الشافعي رحمه الله: "مهملا لا يؤمر ولا ينهى "
وقال غيره: "لا يجزي بالخير والشر ولا يثاب ولا يعاقب"
والقولان متلازمان فالشافعي ذكر سبب الجزاء والثواب والعقاب وهو الأمر والنهي والآخر ذكر غاية الأمر والنهي ذكر سبب الجزاء والثواب والعقاب ثم تأمل قوله تعالى بعد ذلك: ﴿ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِن مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى﴾
فمن لم يتركه وهو نطفة سدى بل قلب النطفة وصرفها حتى صارت أكمل مما هي وهي العلقة ثم قلب العلقة حتى صارت أكمل مما هي حتى خلقها فسوى خلقها فدبرها بتصريفه وحكمته في أطوار كمالاتها حتى انتهى كمالها بشرا سويا فكيف يتركه سدى لا يسوقه.
فإذا تأمل العاقل البصير أحوال النطفة من مبدئها إلى منتهاها دلته على المعاد والنبوات كما تدله على إثبات الصانع وتوحيده وصفات كماله فكما تدل أحوال النطفة من مبدئها إلى غايتها على كمال قدرة فاطر الإنسان وبارئه، فكذلك تدل على كمال حكمته وعلمه وملكه وأنه الملك الحق المتعالى عن أن يخلقها عبثا ويتركها سدى بعد كمال خلقها.
* وقال في (الصواعق المرسلة)
احتج سبحانه على أنه لا يترك الإنسان مهملا معطلا عن الأمر والنهي والثواب والعقاب وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك فإن من نقله من نطفة مني إلى العلقة ثم إلى المضغة ثم خلقه وشق سمعه وبصره وركب فيه الحواس والقوى والعظام والمنافع والأعصاب والرباطات التي هي أسره وأتقن خلقه وأحكمه غاية الإحكام وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سدى فلا يليق ذلك بحكمته ولا تعجز عنه قدرته.
فانظر إلى هذا الحجاج العجيب بالقول الوجيز الذي لا يكون أوجز منه والبيان الجليل الذي لا يتوهم أوضح منه ومأخذه القريب الذي لا تقع الظنون على أقرب منه.
* وقال في (إعلام الموقعين)
بَيَّنَ سُبْحانَهُ كَيْفِيَّةَ الخَلْقِ واخْتِلافِ أحْوالِ الماءِ في الرَّحِمِ إلى أنْ صارَ مِنهُ الزَّوْجانِ الذَّكَرُ والأُنْثى، وذَلِكَ أمارَةُ وُجُودِ صانِعٍ قادِرٍ عَلى ما يَشاءُ، ونَبَّهَ سُبْحانَهُ: عِبادَهُ بِما أحْدَثَهُ في النُّطْفَةِ المُهِينَةِ الحَقِيرَةِ مِن الأطْوارِ، وسَوْقُها في مَراتِبِ الكَمالِ مِن مَرْتَبَةٍ إلى مَرْتَبَةٍ أعْلى مِنها، حَتّى صارَتْ بَشَرًا سَوِيًّا في أحْسَنِ خَلْقٍ وتَقْوِيمٍ - عَلى أنَّهُ لا يَحْسُنُ بِهِ أنْ يَتْرُكَ هَذا البَشَرَ سُدًى مُهْمَلًا مُعَطَّلًا لا يَأْمُرُهُ ولا يَنْهاهُ ولا يُقِيمُهُ في عُبُودِيَّتِهِ، وقَدْ ساقَهُ في مَراتِبِ الكَمالِ مِن حِينِ كانَ نُطْفَةً إلى أنْ صارَ بَشَرًا سَوِيًّا، فَكَذَلِكَ يَسُوقُهُ في مَراتِبِ كَمالِهِ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ وحالًا بَعْدَ حالٍ إلى أنْ يَصِيرَ جارَهُ في دارِهِ يَتَمَتَّعُ بِأنْواعِ النَّعِيمِ، ويَنْظُرُ إلى وجْهِهِ، ويَسْمَعُ كَلامَهُ.
* (فصل)
ومن أسرارها أن إثبات النبوة والمعاد يعلم بالعقل وهذا أحد القولين لأصحابنا وغيرهم.
وهو الصواب فإن الله سبحانه أنكر على من حسب أنه يترك سدى فلا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب ولم ينف سبحانه ذلك بطريق الخبر المجرد بل نفاه نفي ما لا يليق نسبته إليه ونفي منكر على من حكم به وظنه ثم استدل سبحانه على فساد ذلك وبين أن خلقه الإنسان في هذه الأطوار وتنقله فيها طورًا بعد طور حتى بلغ نهايته يأبى أن يتركه سدى فإنه ينزه عن ذلك كما ينزه عن العبث والعيب والنقص
وهذه طريقة القرآن في غير موضع كما قال تعالى ﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا وأنَّكم إلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إلَهَ إلا هو رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ﴾ فجعل كمال ملكه وكونه سبحانه الحق وكونه لا إله إلا هو وكونه رب العرش المستلزم لربوبيته لكل ما دونه مبطلًا لذلك الظن الباطل والحكم الكاذب وإنكار هذا الحسبان عليهم مثل إنكاره عليهم حسبانهم أنه لا يسمع سرهم ونجواهم وحسبان أنه لا يراهم ولا يقدر عليهم وحسبان أنه يسوي بين أوليائه وبين أعدائه في محياهم ومماتهم وغير ذلك مما هو منزه عنه تنزيهه عن سائر العيوب والنقائص وأن نسبة ذلك كنسبة ما يتعالى عنه مما لا يليق من اتخاذ الولد والشريك ونحو ذلك مما ينكره سبحانه على من حسبه أشد الإنكار فدل على أن ذلك قبيح ممتنع نسبته إليه كما يمتنع أن ينسب إليه سائر ما ينافي كماله المقدس
ولو كان نفي تركه سدى إنما يعلم بالسمع المجرد لم يقل بعد ذلك ﴿ألَمْ يَكُ نُطْفَة﴾ إلى آخره ومما يدل أن تعطيل أسمائه وصفاته ممتنع وكذلك تعطيل موجبها ومقتضاها فإن ملكه الحق يستلزم أمره ونهيه وثوابه وعقابه وكذلك يستلزم إرسال رسله وإنزال كتبه وبعث المعاد ليوم يجزى فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فمن أنكر ذلك فقد أنكر حقيقة ملكه ولم يثبت له الملك الحق ولذلك كان منكر ذلك كافرًا بربه وإن زعم أنه يقر بصانع العالم فلم يؤمن بالملك الحق الموصوف بصفات الجلال والمستحق لنعوت الكمال كما أن المعطل لكلامه وعلوه على خلقه لم يؤمن به سبحانه فإنه آمن برب لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يصعد إليه قول ولا عمل ولا ينزل من عنده ملك ولا أمر ولا نهي ولا ترفع إليه الأيدي ومعلوم أن هذا الذي آمن به رب مقدر في ذهنه ليس هو رب العالمين وإله المرسلين.
وكذلك إذا اعتبرت اسمه الحي وجدته مقتضيًا لصفات كماله من علمه وسمعه وبصره وقدرته وإرادته ورحمته وفعله ما يشاء واسمه القيوم مقتض لتدبير أمر العالم العلوي والسفلي وقيامه بمصالحه وحفظه له فمن أنكر صفات كماله لم يؤمن بأنه الحي القيوم وإن أقر بذلك ألحد في أسمائه وعطل حقائقها حيث لم يمكنه تعطيل ألفاظها وبالله التوفيق.
{"ayahs_start":36,"ayahs":["أَیَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَن یُتۡرَكَ سُدًى","أَلَمۡ یَكُ نُطۡفَةࣰ مِّن مَّنِیࣲّ یُمۡنَىٰ","ثُمَّ كَانَ عَلَقَةࣰ فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ","فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَیۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰۤ","أَلَیۡسَ ذَ ٰلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰۤ أَن یُحۡـِۧیَ ٱلۡمَوۡتَىٰ"],"ayah":"فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَیۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰۤ"}