الباحث القرآني

* (فصل في الأذكار الجالبة للرزق الدافع للضيق والأذى) قال الله سبحانه وتعالى عن نبيه نوح ﷺ: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم إنَّهُ كانَ غَفّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكم مِدْرارًا (١١) ويُمْدِدْكم بِأمْوالٍ وبَنِينَ ويَجْعَلْ لَكم جَنّاتٍ ويَجْعَلْ لَكم أنْهارًا (١٢)﴾ وفي بعض المسانيد عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب» وذكر أبو عمر عن عبد البر في (التمهيد) له حديثًا مرفوعًا إلى النبي ﷺ «من قرأ سورة الواقعة كل يوم لم تصبه فاقة أبدًا». * [فَصْلٌ الِاسْتِغْفارُ] وَأمّا الِاسْتِغْفارُ فَهو نَوْعانِ: مُفْرَدٌ، ومَقْرُونٌ بِالتَّوْبَةِ، فالمُفْرَدُ: كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ لِقَوْمِهِ ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم إنَّهُ كانَ غَفّارًا يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكم مِدْرارًا﴾ [نوح: ١٠] وكَقَوْلِ صالِحٍ لِقَوْمِهِ ﴿لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ [النمل: ٤٦] وَكَقَوْلِهِ تَعالى ﴿واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٩٩] وَقَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٣] والمَقْرُونُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكم مَتاعًا حَسَنًا إلى أجَلٍ مُسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ [هود: ٣] وَقَوْلِ هُودٍ لِقَوْمِهِ ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكم مِدْرارًا﴾ [هود: ٥٢] وَقَوْلِ صالِحٍ لِقَوْمِهِ ﴿هُوَ أنْشَأكم مِنَ الأرْضِ واسْتَعْمَرَكم فِيها فاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود: ٦١] وَقَوْلِ شُعَيْبٍ ﴿واسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ ودُودٌ﴾ [هود: ٩٠] فالِاسْتِغْفارُ المُفْرَدُ كالتَّوْبَةِ، بَلْ هو التَّوْبَةُ بِعَيْنِها، مَعَ تَضَمُّنِهِ طَلَبَ المَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ، وهو مَحْوُ الذَّنْبِ، وإزالَةُ أثَرِهِ، ووِقايَةُ شَرِّهِ، لا كَما ظَنَّهُ بَعْضُ النّاسِ أنَّها السَّتْرُ، فَإنَّ اللَّهَ يَسْتُرُ عَلى مَن يَغْفِرُ لَهُ ومَن لا يَغْفِرُ لَهُ، ولَكِنَّ السَّتْرَ لازِمُ مُسَمّاها أوْ جُزْؤُهُ، فَدَلالَتُها عَلَيْهِ إمّا بِالتَّضَمُّنِ وإمّا بِاللُّزُومِ. وَحَقِيقَتُها وِقايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ، ومِنهُ المِغْفَرُ، لِما يَقِي الرَّأْسَ مِنَ الأذى، والسَّتْرُ لازِمٌ لِهَذا المَعْنى، وإلّا فالعِمامَةُ لا تُسَمّى مِغْفَرًا، ولا القُبَّعُ ونَحْوُهُ مَعَ سَتْرِهِ، فَلا بُدَّ في لَفْظِ المِغْفَرِ مِنَ الوِقايَةِ، وهَذا الِاسْتِغْفارُ هو الَّذِي يَمْنَعُ العَذابَ في قَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٣] فَإنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ مُسْتَغْفِرًا، وأمّا مَن أصَرَّ عَلى الذَّنْبِ، وطَلَبَ مِنَ اللَّهِ مَغْفِرَتَهُ، فَهَذا لَيْسَ بِاسْتِغْفارٍ مُطْلَقٍ، ولِهَذا لا يَمْنَعُ العَذابَ، فالِاسْتِغْفارُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ، والتَّوْبَةُ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِغْفارَ، وكُلٌّ مِنهُما يَدْخُلُ في مُسَمّى الآخَرِ عِنْدَ الإطْلاقِ. وَأمّا عِنْدَ اقْتِرانِ إحْدى اللَّفْظَتَيْنِ بِالأُخْرى، فالِاسْتِغْفارُ: طَلَبُ وِقايَةِ شَرِّ ما مَضى، والتَّوْبَةُ: الرُّجُوعُ وطَلَبُ وِقايَةِ شَرِّ ما يَخافُهُ في المُسْتَقْبَلِ مِن سَيِّئاتِ أعْمالِهِ. فَهاهُنا ذَنْبانِ: ذَنْبٌ قَدْ مَضى، فالِاسْتِغْفارُ مِنهُ: طَلَبُ وِقايَةِ شَرِّهِ، وذَنْبٌ يُخافُ وُقُوعُهُ، فالتَّوْبَةُ: العَزْمُ عَلى أنْ لا يَفْعَلَهُ، والرُّجُوعُ إلى اللَّهِ يَتَناوَلُ النَّوْعَيْنِ رُجُوعٌ إلَيْهِ لِيَقِيَهُ شَرَّ ما مَضى، ورُجُوعٌ إلَيْهِ لِيَقِيَهُ شَرَّ ما يُسْتَقْبَلُ مِن شَرِّ نَفْسِهِ وسَيِّئاتِ أعْمالِهِ. وَأيْضًا فَإنَّ المُذْنِبَ بِمَنزِلَةِ مَن رَكِبَ طَرِيقًا تُؤَدِّيهِ إلى هَلاكِهِ، ولا تَوَصِّلُهُ إلى المَقْصُودِ، فَهو مَأْمُورٌ أنْ يُوَلِّيَها ظَهْرَهُ، ويَرْجِعَ إلى الطَّرِيقِ الَّتِي فِيها نَجاتُهُ، والَّتِي تُوصِلُهُ إلى مَقْصُودِهِ، وفِيها فَلاحُهُ. فَهاهُنا أمْرانِ لا بُدَّ مِنهُما: مُفارَقَةُ شَيْءٍ، والرُّجُوعُ إلى غَيْرِهِ، فَخُصَّتِ التَّوْبَةُ بِالرُّجُوعِ، والِاسْتِغْفارُ بِالمُفارَقَةِ، وعِنْدَ إفْرادِ أحَدِهِما يَتَناوَلُ الأمْرَيْنِ، ولِهَذا جاءَ - واللَّهُ أعْلَمُ - الأمْرُ بِهِما مُرَتَّبًا بِقَوْلِهِ: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ﴾ [هود: ٣] فَإنَّهُ الرُّجُوعُ إلى طَرِيقِ الحَقِّ بَعْدَ مُفارَقَةِ الباطِلِ. وَأيْضًا فالِاسْتِغْفارُ مِن بابِ إزالَةِ الضَّرَرِ، والتَّوْبَةُ طَلَبُ جَلْبِ المَنفَعَةِ، فالمَغْفِرَةُ أنْ يَقِيَهُ شَرَّ الذَّنْبِ، والتَّوْبَةُ أنْ يَحْصُلَ لَهُ بَعْدَ هَذِهِ الوِقايَةِ ما يُحِبُّهُ، وكُلٌّ مِنهُما يَسْتَلْزِمُ الآخَرَ عِنْدَ إفْرادِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب