الباحث القرآني

* (فصل) الجَهْمِيَّةُ رَدُّوا مُحْكَمَ قَوْلِهِ ﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ﴾ وقَوْلِهِ ﴿وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي﴾ [السجدة: ١٣] وقَوْلِهِ ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ﴾ [النحل: ١٠٢] وقَوْلِهِ: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: ١٦٤] وقَوْلِهِ ﴿اصْطَفَيْتُكَ عَلى النّاسِ بِرِسالاتِي وبِكَلامِي﴾ [الأعراف: ١٤٤] وغَيْرِها مِن النُّصُوصِ المُحْكَمَةِ بِالمُتَشابِهِ مِن قَوْلِهِ: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٠٢]: وقَوْلِهِ ﴿إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [الحاقة: ٤٠] والآيَتانِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإنَّ صِفاتِ اللَّهِ جَلَّ جَلالُهُ داخِلَةٌ في مُسَمّى اسْمِهِ؛ فَلَيْسَ " اللَّهُ " اسْمًا لِذاتٍ لا سَمْعَ لَها ولا بَصَرَ لَها ولا حَياةَ لَها ولا كَلامَ لَها ولا عِلْمَ، ولَيْسَ هَذا رَبَّ العالَمِينَ، وكَلامُهُ تَعالى وعِلْمُهُ وحَياتُهُ وقُدْرَتُهُ ومَشِيئَتُهُ ورَحْمَتُهُ داخِلَةٌ في مُسَمّى اسْمِهِ؛ فَهو سُبْحانَهُ بِصِفاتِهِ وكَلامِهِ الخالِقُ، وكُلُّ ما سِواهُ مَخْلُوقٌ، وأمّا إضافَةُ القُرْآنِ إلى الرَّسُولِ فَإضافَةُ تَبْلِيغٍ مَحْضٍ، لا إنْشاءٍ. والرِّسالَةُ تَسْتَلْزِمُ تَبْلِيغَ كَلامِ المُرْسَلِ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْسَلِ كَلامٌ يُبَلِّغُهُ الرَّسُولُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا؛ ولِهَذا قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِن السَّلَفِ؛ مَن أنْكَرَ أنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا فَقَدْ أنْكَرَ رِسالَةَ رُسُلِهِ فَإنَّ حَقِيقَةَ رِسالَتِهِمْ تَبْلِيغُ كَلامِ مَن أرْسَلَهُمْ؛ فالجَهْمِيَّةُ وإخْوانُهم رَدُّوا تِلْكَ النُّصُوصَ المُحْكَمَةَ بِالمُتَشابِهِ، ثُمَّ صَيَّرُوا الكُلَّ مُتَشابِهًا، ثُمَّ رَدُّوا الجَمِيعَ، فَلَمْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ فِعْلًا يَقُومُ بِهِ يَكُونُ بِهِ فاعِلًا كَما لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ كَلامًا يَقُومُ بِهِ يَكُونُ بِهِ مُتَكَلِّمًا؛ فَلا كَلامَ لَهُ عِنْدَهم ولا أفْعالَ، بَلْ كَلامُهُ وفِعْلُهُ عِنْدَهم مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، وذَلِكَ لا يَكُونُ صِفَةً لَهُ؛ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ إنّما يُوصَفُ بِما قامَ بِهِ لا بِما لَمْ يَقُمْ بِهِ. * (فائدة) لَيْسَ في الوُجُود المُمكن سَبَب واحِد مُسْتَقل بالتأثير بل لا يُؤثر سَبَب ألْبَتَّةَ إلّا بانضمام سَبَب آخر إلَيْهِ وانْتِفاء مانع يمْنَع تَأْثِيره هَذا في الأسْباب المشهودة بالعيان، وفي الأسْباب الغائبة والأسباب المعنوية كتأثير الشَّمْس في الحَيَوان والنبات فَإنَّهُ مَوْقُوف على أسباب أخر من وجود مَحل قابل وأسْباب أخر تنضم إلى ذَلِك السَّبَب وكَذَلِكَ حُصُول الوَلَد مَوْقُوف على عدَّة أسباب غير وطْء الفَحْل وكَذَلِكَ جَمِيع الأسْباب مَعَ مسبباتها فَكل ما يخاف ويرجى من المَخْلُوقات فأعلى غاياته أن يكون جُزْء سَبَب غير مُسْتَقل بالتأثير ولا يسْتَقلّ بالتأثير وحده دون توقف تَأْثِيره على غَيره إلّا الله الواحِد القهّار فَلا يَنْبَغِي أن يُرْجى ولا يخاف غَيره وهَذا برهان قَطْعِيّ على أن تعلق الرَّجاء والخَوْف بِغَيْرِهِ باطِل فَإنَّهُ لَو فرض أن ذَلِك سَبَب مُسْتَقل وحده بالتأثير لكانَتْ سببيته من غَيره لا مِنهُ فَلَيْسَ لَهُ من نَفسه قُوَّة يفعل بها فَإنَّهُ لا حول ولا قُوَّة إلّا بِالله فَهو الَّذِي بِيَدِهِ الحول كُله والقُوَّة كلها فالحول والقُوَّة الَّتِي يُرْجى لأجلهما المَخْلُوق ويخاف إنَّما هما لله وبِيَدِهِ في الحَقِيقَة فَكيف يخاف ويرجى من لا حول لَهُ ولا قُوَّة بل خوف المَخْلُوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المَكْرُوه بِمن يرجوه ويخافه فَإنَّهُ على قدر خوفك من غير الله يُسَلط عَلَيْك وعَلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان وهَذا حال الخلق أجمعه وإن ذهب عَن أكْثَرهم علما وحالا فَما شاءَ الله كانَ ولا بُد وما لم يَشَأْ لم يكن ولَو اتّفقت عَلَيْهِ الخليقة. * (فصل) تَأمل اخْتِلاف سير الكَواكِب وما فِيهِ من العَجائِب، كَيفَ تَجِد بَعْضها لا يسير إلّا مَعَ رفقته لا يفرد عَنْهُم سيره أبدا بل لا يَسِيرُونَ إلا جَمِيعًا، وبَعضها يسير سيرا مُطلقًا غير مُقَيّد برفيق ولا صاحب، بل إذا اتّفق لَهُ مصاحبته في منزل وافقه فِيهِ لَيْلَة وفارقه اللَّيْلَة الأخرى، فَبينا تراهُ ورفيقه وقرينه إذْ رأيتهما مفترقين متابعدين كَأنَّهُما لم يتصاحبا قطّ، وهَذِه السيارة لَها في سَيرها سيران مُخْتَلِفانِ غايَة الِاخْتِلاف سير عام يسير بها فلكها، وسير خاص تسير هي في فلكها، كَما شبهوا ذَلِك بنملة تدب على رحى ذات الشمال والرحى تَأْخُذ ذات اليَمين، فللنملة في ذَلِك حركتان مُخْتَلِفَتانِ إلى جِهَتَيْنِ متاينتين إحداهما بِنَفسِها والأخرى مُكْرَهَة عَلَيْها تبعا للرحى تجذبها إلى غير جِهَة مقصدها، وبِذَلِك يَجْعَل التَّقْدِيم فِيها كل منزلَة إلى جِهَة الشرق ثمَّ يسير فلكها وبمنزلتها إلى جِهَة الغرب فسل الزَّنادِقَة والمعطلة أي طبيعة اقْتَضَت هَذا وأي فلك أوجبه وهلا كانَت كلها راتبة أوْ منتقلة أوْ على مِقْدار واحِد وشكل واحِد وحركة واحِدَة وجريان واحِد، وهل هَذا إلا صنع من بهرت العُقُول حكمته وشهِدت مصنوعاته ومتبدعاته بأنه الخالِق البارئ المصور الَّذِي لَيْسَ كمثله شَيْء، أحسن كل شَيْء خلقه وأتقن كل ما صنعه وأنه العَلِيم الحَكِيم الَّذِي خلق فسوى وقدر فهدى، وأن هَذِه إحدى آياته الدّالَّة عَلَيْهِ وعجائب مصنوعاته الموصلة للأفكار إذا سافَرت فِيها إليه، وأنه خلق مسخر مربوب مُدبر ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ (٥٤)﴾ فَإن قلت فَما الحِكْمَة في كَون بعض النُّجُوم راتبا وبَعضها منتقلا قيل إنَّها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدّلالَة والحكم الَّتِي نشأت من تنقلها في منازلها ومسيرها في بروجها ولَو كانَت كلها منتقلة لم يكن لمسيرها منازِل تعرف بها ولا رسم يُقاس عَلَيْها لأنه إنَّما يُقاس مسير المتنقلة مِنها بالراتب كَما يُقاس مسير السائرين على الأرض بالمنازل الَّتِي يَمرونَ عَلَيْها فَلَو كانَت كلها بِحال واحِدَة لاختلط نظامها ولبطلت الحكم والفوائد والدلآلات الَّتِي في اختلافها ولتشبث المُعَطل بذلك وقالَ لَو كانَ فاعلها ومبدعها مُخْتارًا لم تكن على وجه واحِد وأمر واحِد وقدر واحِد فَهَذا التَّرْتِيب والنظام الَّذِي هي عَلَيْهِ من ادل الدَّلائِل على وجود الخالِق وقدرته وإرادته وعلمه وحكمته ووحدانيته.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب