الباحث القرآني

* [فَصْلٌ: المُحَرَّماتُ عَلى أرْبَعِ مَراتِبَ] وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحانَهُ القَوْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ في الفُتْيا والقَضاءِ، وجَعَلَهُ مِن أعْظَمِ المُحَرَّماتِ، بَلْ جَعَلَهُ في المَرْتَبَةِ العُلْيا مِنها، فَقالَ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ والإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٣] فَرَتَّبَ المُحَرَّماتِ أرْبَعَ مَراتِبَ، وبَدَأ بِأسْهَلِها وهو الفَواحِشُ، ثُمَّ ثَنّى بِما هو أشَدُّ تَحْرِيمًا مِنهُ وهو الإثْمُ والظُّلْمُ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِما هو أعْظَمُ تَحْرِيمًا مِنهُما وهو الشِّرْكُ بِهِ سُبْحانَهُ، ثُمَّ رَبَّعَ بِما هو أشَدُّ تَحْرِيمًا مِن ذَلِكَ كُلِّهِ وهو القَوْلُ عَلَيْهِ بِلا عِلْمٍ، وهَذا يَعُمُّ القَوْلَ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ بِلا عِلْمٍ في أسْمائِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ وفي دِينِهِ وشَرْعِهِ وقالَ تَعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ الكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [النحل: ١١٧] فَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ سُبْحانَهُ بِالوَعِيدِ عَلى الكَذِبِ عَلَيْهِ في أحْكامِهِ، وقَوْلِهِمْ لِما لَمْ يُحَرِّمْهُ: هَذا حَرامٌ، ولِما لَمْ يَحِلَّهُ: هَذا حَلالٌ، وهَذا بَيانٌ مِنهُ سُبْحانَهُ أنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أنْ يَقُولَ: هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ إلّا بِما عَلِمَ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أحَلَّهُ وحَرَّمَهُ. وَقالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِيَتَّقِ أحَدُكم أنْ يَقُولَ: أحَلَّ اللَّهُ كَذا، وحَرَّمَ كَذا، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْت، لَمْ أُحِلَّ كَذا، ولَمْ أُحَرِّمْ كَذا؛ فَلا يَنْبَغِي أنْ يَقُولَ لِما لا يَعْلَمُ وُرُودَ الوَحْيِ المُبِينِ بِتَحْلِيلِهِ وتَحْرِيمِهِ أحَلَّهُ اللَّهُ ورَحِمَهُ اللَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ أوْ بِالتَّأْوِيلِ. * (فائدة) وَدَخَلَ في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ والإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ تَحْرِيمُ كُلِّ فاحِشَةٍ ظاهِرَةٍ وباطِنَةٍ، وكُلُّ ظُلْمٍ وعُدْوانٍ في مالٍ أوْ نَفْسٍ أوْ عِرْضٍ، وكُلُّ شِرْكٍ بِاللَّهِ وإنْ دَقَّ في قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ أوْ إرادَةٍ بِأنْ يَجْعَلَ لِلَّهِ عَدْلًا بِغَيْرِهِ في اللَّفْظِ أوْ القَصْدِ أوْ الِاعْتِقادِ، وكُلُّ قَوْلٍ عَلى اللَّهِ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ عَنْهُ ولا عَنْ رَسُولِهِ في تَحْرِيمٍ أوْ تَحْلِيلٍ أوْ إيجابٍ أوْ إسْقاطٍ أوْ خَبَرٍ عَنْهُ بِاسْمٍ أوْ صِفَةٍ نَفْيًا أوْ إثْباتًا أوْ خَبَرًا عَنْ فِعْلِهِ؛ فالقَوْلُ عَلَيْهِ بِلا عِلْمٍ حَرامٌ في أفْعالِهِ وصِفاتِهِ ودِينِهِ. * [فَصْلٌ القَوْلُ عَلى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ] وَأمّا القَوْلُ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ فَهو أشَدُّ هَذِهِ المُحَرَّماتِ تَحْرِيمًا، وأعْظَمُها إثْمًا، ولِهَذا ذُكِرَ في المَرْتَبَةِ الرّابِعَةِ مِنَ المُحَرَّماتِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْها الشَّرائِعُ والأدْيانُ، ولا تُباحُ بِحالٍ، بَلْ لا تَكُونُ إلّا مُحَرَّمَةً، ولَيْسَتْ كالمَيْتَةِ والدَّمِ ولَحْمِ الخِنْزِيرِ، الَّذِي يُباحُ في حالٍ دُونَ حالٍ. فَإنَّ المُحَرَّماتِ نَوْعانِ: مُحَرَّمٌ لِذاتِهِ لا يُباحُ بِحالٍ، ومُحَرَّمٌ تَحْرِيمًا عارِضًا في وقْتٍ دُونَ وقْتٍ، قالَ اللَّهُ تَعالى في المُحَرَّمِ لِذاتِهِ ﴿قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ﴾ [الأعراف: ٣٣] ثُمَّ انْتَقَلَ مِنهُ إلى ما هو أعْظَمُ مِنهُ فَقالَ ﴿والإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ [الأعراف: ٣٣] ثُمَّ انْتَقَلَ مِنهُ إلى ما هو أعْظَمُ مِنهُ، فَقالَ ﴿وَأنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا﴾ [الأعراف: ٣٣] ثُمَّ انْتَقَلَ مِنهُ إلى ما هو أعْظَمُ مِنهُ، فَقالَ ﴿وَأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٣] فَهَذا أعْظَمُ المُحَرَّماتِ عِنْدَ اللَّهِ وأشَدُّها إثْمًا، فَإنَّهُ يَتَضَمَّنُ الكَذِبَ عَلى اللَّهِ، ونِسْبَتَهُ إلى ما لا يَلِيقُ بِهِ، وتَغْيِيرَ دِينِهِ وتَبْدِيلَهُ، ونَفْيَ ما أثْبَتَهُ وإثْباتَ ما نَفاهُ، وتَحْقِيقَ ما أبْطَلَهُ وإبْطالَ ما حَقَّقَهُ، وعَداوَةَ مَن والاهُ ومُوالاةَ مَن عاداهُ، وحُبَّ ما أبْغَضَهُ وبُغْضَ ما أحَبَّهُ، ووَصَفَهُ بِما لا يَلِيقُ بِهِ في ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأقْوالِهِ وأفْعالِهِ. فَلَيْسَ في أجْناسِ المُحَرَّماتِ أعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنهُ، ولا أشَدُّ إثْمًا، وهو أصْلُ الشِّرْكِ والكُفْرِ، وعَلَيْهِ أُسِّسَتِ البِدَعُ والضَّلالاتُ، فَكُلُّ بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ في الدِّينِ أساسُها القَوْلُ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ. وَلِهَذا اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ والأئِمَّةِ لَها، وصاحُوا بِأهْلِها مِن أقْطارِ الأرْضِ، وحَذَّرُوا فِتْنَتَهم أشَدَّ التَّحْذِيرِ، وبالَغُوا في ذَلِكَ ما لَمْ يُبالِغُوا مِثْلَهُ في إنْكارِ الفَواحِشِ، والظُّلْمِ والعُدْوانِ، إذْ مَضَرَّةُ البِدَعِ وهَدْمُها لِلدِّينِ ومُنافاتُها لَهُ أشُدُّ، وقَدْ أنْكَرَ تَعالى عَلى مَن نَسَبَ إلى دِينِهِ تَحْلِيلَ شَيْءٍ أوْ تَحْرِيمَهُ مِن عِنْدِهِ، بِلا بُرْهانٍ مِنَ اللَّهِ، فَقالَ ﴿وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ [النحل: ١١٦] الآيَةَ. فَكَيْفَ بِمَن نَسَبَ إلى أوْصافِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ما لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ؟ أوْ نَفى عَنْهُ مِنها ما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؟ قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِيَحْذَرْ أحَدُكم أنْ يَقُولَ: أحَلَّ اللَّهُ كَذا، وحَرَّمَ اللَّهُ كَذا، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ، لَمْ أُحِلَّ هَذا، ولَمْ أُحَرِّمْ هَذا. يَعْنِي التَّحْلِيلَ والتَّحْرِيمَ بِالرَّأْيِ المُجَرَّدِ، بِلا بُرْهانٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ. وَأصْلُ الشِّرْكَ والكُفْرِ هو القَوْلُ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ، فَإنَّ المُشْرِكَ يَزْعُمُ أنَّ مَنِ اتَّخَذَهُ مَعْبُودًا مِن دُونِ اللَّهِ، يُقَرِّبُهُ إلى اللَّهِ، ويَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ، ويَقْضِي حاجَتَهُ بِواسِطَتِهِ، كَما تَكُونُ الوَسائِطُ عِنْدَ المُلُوكِ، فَكُلُّ مُشْرِكٍ قائِلٌ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ، دُونَ العَكْسِ، إذِ القَوْلُ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ قَدْ يَتَضَمَّنُ التَّعْطِيلَ والِابْتِداعَ في دِينِ اللَّهِ، فَهو أعَمُّ مِنَ الشِّرْكِ، والشِّرْكُ فَرْدٌ مِن أفْرادِهِ. وَلِهَذا كانَ الكَذِبُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُوجِبًا لِدُخُولِ النّارِ، واتِّخاذِ مَنزِلَةٍ مِنها مُبَوَّءًا، وهو المَنزِلُ اللّازِمُ الَّذِي لا يُفارِقُهُ صاحِبُهُ، لِأنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْقَوْلِ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ، كَصَرِيحِ الكَذِبِ عَلَيْهِ، لِأنَّ ما انْضافَ إلى الرَّسُولِ فَهو مُضافٌ إلى المُرْسِلِ، والقَوْلُ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ صَرِيحٍ افْتِراءُ الكَذِبِ عَلَيْهِ ﴿وَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الأنعام: ٢١]. فَذُنُوبُ أهْلِ البِدَعِ كُلُّها داخِلَةٌ تَحْتَ هَذا الجِنْسِ فَلا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ مِنهُ إلّا بِالتَّوْبَةِ مِنَ البِدَعِ. وَأنّى بِالتَّوْبَةِ مِنها لِمَن لَمْ يَعْلَمْ أنَّها بِدْعَةٌ، أوْ يَظُنُّها سُنَّةً، فَهو يَدْعُو إلَيْها، ويَحُضُّ عَلَيْها؟ فَلا تَنْكَشِفُ لِهَذا ذُنُوبُهُ الَّتِي تَجِبُّ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنها إلّا بِتَضَلُّعِهِ مِنَ السُّنَّةِ، وكَثْرَةِ اطِّلاعِهِ عَلَيْها، ودَوامِ البَحْثِ عَنْها والتَّفْتِيشِ عَلَيْها، ولا تَرى صاحِبَ بِدْعَةٍ كَذَلِكَ أبَدًا. فَإنَّ السُّنَّةَ بِالذّاتِ تَمْحَقُ البِدْعَةَ، ولا تَقُومُ لَها، وإذا طَلَعَتْ شَمْسُها في قَلْبِ العَبْدِ قَطَعَتْ مِن قَلْبِهِ ضَبابَ كُلِّ بِدْعَةٍ، وأزالَتْ ظُلْمَةَ كُلِّ ضَلالَةٍ، إذْ لا سُلْطانَ لِلظُّلْمَةِ مَعَ سُلْطانِ الشَّمْسِ، ولا يَرى العَبْدُ الفَرْقَ بَيْنَ السُّنَّةِ والبِدْعَةِ، ويُعِينُهُ عَلى الخُرُوجِ مِن ظُلْمَتِها إلى نُورِ السُّنَّةِ، إلّا المُتابَعَةُ، والهِجْرَةُ بِقَلْبِهِ كُلَّ وقْتٍ إلى اللَّهِ، بِالِاسْتِعانَةِ والإخْلاصِ، وصِدْقِ اللَّجْإ إلى اللَّهِ، والهِجْرَةِ إلى رَسُولِهِ، بِالحِرْصِ عَلى الوُصُولِ إلى أقْوالِهِ وأعْمالِهِ وهَدْيِهِ وسُنَّتِهِ «فَمَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ» ومَن هاجَرَ إلى غَيْرِ ذَلِكَ فَهو حَظُّهُ ونَصِيبُهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، واللَّهُ المُسْتَعانُ. * [فَصْلٌ: لا يُفْتِي ولا يَحْكُمُ إلّا بِما يَكُونُ عالِمًا بِالحَقِّ فِيهِ] إذا نَزَلَتْ بِالحاكِمِ أوْ المُفْتِي النّازِلَةُ فَإمّا أنْ يَكُونَ عالِمًا بِالحَقِّ فِيها أوْ غالِبًا عَلى ظَنِّهِ بِحَيْثُ قَدْ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ في طَلَبِهِ ومَعْرِفَتِهِ، أوْ لا، فَإنْ لَمْ يَكُنْ عالِمًا بِالحَقِّ فِيها ولا غَلَبَ عَلى ظَنِّهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أنْ يُفْتِيَ، ولا يَقْضِيَ بِما لا يَعْلَمُ، ومَتى أقْدَمَ عَلى ذَلِكَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِعُقُوبَةِ اللَّهِ، ودَخَلَ تَحْتَ قَوْله تَعالى ﴿قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ والإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٣] فَجَعَلَ القَوْلَ عَلَيْهِ بِلا عِلْمٍ أعْظَمَ المُحَرَّماتِ الأرْبَعِ الَّتِي لا تُباحُ بِحالٍ؛ ولِهَذا حَصَرَ التَّحْرِيمَ فِيها بِصِيغَةِ الحَصْرِ. وَدَخَلَ تَحْتَ قَوْله تَعالى ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: ١٦٨] ﴿إنَّما يَأْمُرُكم بِالسُّوءِ والفَحْشاءِ وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٦٩] ودَخَلَ في قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «مَن أفْتى بِغَيْرِ عِلْمٍ فَإنَّما إثْمُهُ عَلى مَن أفْتاهُ» وكانَ أحَدُ القُضاةِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ ثُلُثاهم في النّارِ، وإنْ كانَ قَدْ عَرَفَ الحَقَّ في المَسْألَةِ عِلْمًا أوْ ظَنًّا غالِبًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أنْ يُفْتِيَ ولا يَقْضِيَ بِغَيْرِهِ بِالإجْماعِ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِن دِينِ الإسْلامِ، وهو أحَدُ القُضاةِ الثَّلاثَةِ والمُفْتِينَ الثَّلاثَةِ والشُّهُودِ الثَّلاثَةِ، وإذا كانَ مَن أفْتى أوْ حَكَمَ أوْ شَهِدَ بِغَيْرِ عِلْمٍ مُرْتَكِبًا لِأعْظَمِ الكَبائِرِ، فَكَيْفَ مَن أفْتى أوْ حَكَمَ أوْ شَهِدَ بِما يَعْلَمُ خِلافَهُ؟ فالحاكِمُ والمُفْتِي والشّاهِدُ كُلٌّ مِنهم مُخْبِرٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ؛ فالحاكِمُ مُخْبِرٌ مُنَفِّذٌ، والمُفْتِي مُخْبِرٌ غَيْرُ مُنَفِّذٍ، والشّاهِدُ مُخْبِرٌ عَنْ الحُكْمِ الكَوْنِيِّ القَدَرِيِّ المُطابِقِ لِلْحُكْمِ الدِّينِيِّ الأمْرِيِّ؛ فَمَن أخْبَرَ مِنهم عَمّا يَعْلَمُ خِلافَهُ فَهو كاذِبٌ عَلى اللَّهِ عَمْدًا ﴿وَيَوْمَ القِيامَةِ تَرى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى اللَّهِ وُجُوهُهم مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر: ٦٠]، ولا أظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلى اللَّهِ وعَلى دِينِهِ، وإنْ أخْبَرُوا بِما لَمْ يَعْلَمُوا فَقَدْ كَذَبُوا عَلى اللَّهِ جَهْلًا، وإنْ أصابُوا في الباطِنِ، وأخْبَرُوا بِما لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ لَهم في الإخْبارِ بِهِ. وَهم أسْوَأُ حالًا مِن القاذِفِ إذا رَأى الفاحِشَةَ وحْدَهُ فَأخْبَرَ بِها فَإنَّهُ كاذِبٌ عِنْدَ اللَّهِ، وإنْ أخْبَرَ بِالواقِعِ؛ فَإنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ في الإخْبارِ بِها إلّا إذا كانَ رابِعَ أرْبَعَةٍ، فَإنْ كانَ كاذِبًا عِنْدَ اللَّهِ في خَبَرٍ مُطابِقٍ لِمَخْبَرِهِ حَيْثُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ في الإخْبارِ بِهِ فَكَيْفَ بِمَن أخْبَرَ عَنْ حُكْمِهِ بِما لَمْ يَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ حَكَمَ بِهِ، ولَمْ يَأْذَنْ لَهُ في الإخْبارِ بِهِ؟ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ الكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ [النحل: ١١٦] ﴿مَتاعٌ قَلِيلٌ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [النحل: ١١٧]، وقالَ تَعالى: ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلى اللَّهِ وكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذْ جاءَهُ﴾ [الزمر: ٣٢] والكَذِبُ عَلى اللَّهِ يَسْتَلْزِمُ التَّكْذِيبَ بِالحَقِّ والصِّدْقِ، وقالَ تَعالى: ﴿وَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ويَقُولُ الأشْهادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ﴾ [هود: ١٨]. وَهَذِهِ الآياتُ وإنْ كانَتْ في حَقِّ المُشْرِكِينَ والكُفّارِ فَإنَّها مُتَناوِلَةٌ لِمَن كَذَبَ عَلى اللَّهِ في تَوْحِيدِهِ ودِينِهِ وأسْمائِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ، ولا تَتَناوَلُ المُخْطِئَ المَأْجُورَ إذا بَذَلَ جَهْدَهُ واسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ في إصابَةِ حُكْمِ اللَّهِ وشَرْعِهِ، فَإنَّ هَذا هو الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَلا يَتَناوَلُ المُطِيعَ لِلَّهِ وإنْ أخْطَأ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. * [فَصْلٌ مَنزِلَةُ الغَيْرَةِ] وَمِن مَنازِلِ " إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ " مَنزِلَةُ الغَيْرَةِ قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ﴾ [الأعراف: ٣٣] وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أبِي الأحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما أحَدٌ أغْيَرَ مِنَ اللَّهِ، ومِن غَيْرَتِهِ: حَرَّمَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ. وما أحَدٌ أحَبَّ إلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللَّهِ. ومِن أجْلِ ذَلِكَ أثْنى عَلى نَفْسِهِ. وما أحَدٌ أحَبَّ إلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللَّهِ. مِن أجْلِ ذَلِكَ: أرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ». وَفِي الصَّحِيحِ أيْضًا، مِن حَدِيثِ أبِي سَلَمَةَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. قالَ «إنَّ اللَّهَ يَغارُ، وإنَّ المُؤْمِنَ يَغارُ، وغَيْرَةُ اللَّهِ: أنْ يَأْتِيَ العَبْدُ ما حُرِّمَ عَلَيْهِ». وَفِي الصَّحِيحِ أيْضًا: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ «أتَعْجَبُونَ مِن غَيْرَةِ سَعِدٍ؟! لَأنا أغْيَرُ مِنهُ. واللَّهُ أغْيَرُ مِنِّي». وَمِمّا يَدْخُلُ في الغَيْرَةِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا﴾ [الإسراء: ٤٥]. قالَ السَّرِيُّ لِأصْحابِهِ: أتَدْرُونَ ما هَذا الحِجابُ؟ حِجابُ الغَيْرَةِ. ولا أحَدَ أغْيَرُ مِنَ اللَّهِ. إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَجْعَلِ الكُفّارَ أهْلًا لِفَهْمِ كَلامِهِ، ولا أهْلًا لِمَعْرِفَتِهِ وتَوْحِيدِهِ ومَحَبَّتِهِ. فَجَعَلَ بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِهِ وكَلامِهِ وتَوْحِيدِهِ حِجابًا مَسْتُورًا عَنِ العُيُونِ، غَيْرَةً عَلَيْهِ أنْ يَنالَهُ مَن لَيْسَ أهْلًا بِهِ. والغَيْرَةُ مَنزِلَةٌ شَرِيفَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، جَلِيلَةُ المِقْدارِ. ولَكِنَّ الصُّوفِيَّةَ المُتَأخِّرِينَ مِنهم مَن قَلَبَ مَوْضُوعَها. وذَهَبَ بِها مَذْهَبًا باطِلًا. سَمّاهُ غَيْرَةً فَوَضَعَها في غَيْرِ مَوْضِعِها. ولُبِّسَ عَلَيْهِ أعْظَمُ تَلْبِيسٍ. كَما سَتَراهُ. والغَيْرَةُ نَوْعانِ: غَيْرَةٌ مِنَ الشَّيْءِ. وغَيْرَةٌ عَلى الشَّيْءِ. والغَيْرَةُ مِنَ الشَّيْءِ: هي كَراهَةُ مُزاحَمَتِهِ ومُشارَكَتِهِ لَكَ في مَحْبُوبِكَ. والغَيْرَةُ عَلى الشَّيْءِ: هي شِدَّةُ حِرْصِكَ عَلى المَحْبُوبِ أنْ يَفُوزَ بِهِ غَيْرُكَ دُونَكَ أوْ يُشارِكَكَ في الفَوْزِ بِهِ. والغَيْرَةُ أيْضًا نَوْعانِ: غَيْرَةُ العَبْدِ مِن نَفْسِهِ عَلى نَفْسِهِ، كَغَيْرَتِهِ مِن نَفْسِهِ عَلى قَلْبِهِ، ومِن تَفْرِقَتِهِ عَلى جَمْعِيَّتِهِ، ومِن إعْراضِهِ عَلى إقْبالِهِ، ومِن صِفاتِهِ المَذْمُومَةِ عَلى صِفاتِهِ المَمْدُوحَةِ. وَهَذِهِ الغَيْرَةُ خاصِّيَّةُ النَّفْسِ الشَّرِيفَةِ الزَّكِيَّةِ العُلْوِيَّةِ. وما لِلنَّفْسِ الدَّنِيَّةِ المَهِينَةِ فِيها نَصِيبٌ. وعَلى قَدْرِ شَرَفِ النَّفْسِ وعُلُوِّ هِمَّتِها تَكُونُ هَذِهِ الغَيْرَةُ. ثُمَّ الغَيْرَةُ أيْضًا نَوْعانِ: غَيْرَةُ الحَقِّ تَعالى عَلى عَبْدِهِ، وغَيْرَةُ العَبْدِ لِرَبِّهِ لا عَلَيْهِ. فَأمّا غَيْرَةُ الرَّبِّ عَلى عَبْدِهِ: فَهي أنْ لا يَجْعَلَهُ لِلْخَلْقِ عَبْدًا. بَلْ يَتَّخِذُهُ لِنَفْسِهِ عَبْدًا. فَلا يَجْعَلُ لَهُ فِيهِ شُرَكاءَ مُتَشاكِسِينَ. بَلْ يُفْرِدُهُ لِنَفْسِهِ. ويَضِنُّ بِهِ عَلى غَيْرِهِ. وهَذِهِ أعْلى الغَيْرَتَيْنِ. وَغَيْرَةُ العَبْدِ لِرَبِّهِ، نَوْعانِ أيْضًا: غَيْرَةٌ مِن نَفْسِهِ. وغَيْرَةٌ مِن غَيْرِهِ. فالَّتِي مِن نَفْسِهِ: أنْ لا يَجْعَلَ شَيْئًا مِن أعْمالِهِ وأقْوالِهِ وأحْوالِهِ وأوْقاتِهِ وأنْفاسِهِ لِغَيْرِ رَبِّهِ، والَّتِي مِن غَيْرِهِ: أنْ يَغْضَبَ لِمَحارِمِهِ إذا انْتَهَكَها المُنْتَهِكُونَ. ولِحُقُوقِهِ إذا تَهاوَنَ بِها المُتَهاوِنُونَ. وَأمّا الغَيْرَةُ عَلى اللَّهِ: فَأعْظَمُ الجَهْلِ وأبْطَلُ الباطِلِ. وصاحِبُها مِن أعْظَمِ النّاسِ جَهْلًا. ورُبَّما أدَّتْ بِصاحِبِها إلى مُعاداتِهِ وهو لا يَشْعُرُ. وإلى انْسِلاخِهِ مِن أصْلِ الدِّينِ والإسْلامِ. وَرُبَّما كانَ صاحِبُها شَرًّا عَلى السّالِكِينَ إلى اللَّهِ مِن قُطّاعِ الطَّرِيقِ. بَلْ هو مِن قُطّاعِ طَرِيقِ السّالِكِينَ حَقِيقَةً. وأخْرَجَ قَطْعَ الطَّرِيقِ في قالَبِ الغَيْرَةِ. وأيْنَ هَذا مِنَ الغَيْرَةِ لِلَّهِ؟ الَّتِي تُوجِبُ تَعْظِيمَ حُقُوقِهِ، وتَصْفِيَةَ أعْمالِهِ وأحْوالِهِ لِلَّهِ؟ فالعارِفُ يَغارُ لِلَّهِ. والجاهِلُ يَغارُ عَلى اللَّهِ. فَلا يُقالُ: أنا أغارُ عَلى اللَّهِ. ولَكِنْ أنا أغارُ لِلَّهِ. وَغَيْرَةُ العَبْدِ مِن نَفْسِهِ: أهَمُّ مِن غَيْرَتِهِ مِن غَيْرِهِ. فَإنَّكَ إذا غِرْتَ مِن نَفْسِكَ صَحَّتْ لَكَ غَيْرَتُكَ لِلَّهِ مِن غَيْرِكَ، وإذا غِرْتَ لَهُ مِن غَيْرِكَ، ولَمْ تَغِرْ مِن نَفْسِكَ: فالغَيْرَةُ مَدْخُولَةٌ مَعْلُولَةٌ ولا بُدَّ. فَتَأمَّلْها وحَقِّقِ النَّظَرَ فِيها. فَلْيَتَأمَّلِ السّالِكُ اللَّبِيبُ هَذِهِ الكَلِماتِ في هَذا المَقامِ، الَّذِي زَلَّتْ فِيهِ أقْدامُ كَثِيرٍ مِنَ السّالِكِينَ. واللَّهُ الهادِي والمُوَفِّقُ المُثَبِّتُ. كَما حُكِيَ عَنْ واحِدٍ مِن مَشْهُورِي الصُّوفِيَّةِ، أنَّهُ قالَ: لا أسْتَرِيحُ حَتّى لا أرى مَن يَذْكُرُ اللَّهَ. يَعْنِي غَيْرَةً عَلَيْهِ مِن أهْلِ الغَفْلَةِ وذِكْرِهِمْ. والعَجَبُ أنَّ هَذا يُعَدُّ مِن مَناقِبِهِ ومَحاسِنِهِ. وَغايَةُ هَذا: أنْ يُعْذَرَ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَغْلُوبًا عَلى عَقْلِهِ. وهو مِن أقْبَحِ الشَّطَحاتِ. وذِكْرُ اللَّهِ عَلى الغَفْلَةِ وعَلى كُلِّ حالٍ خَيْرٌ مِن نِسْيانِهِ بِالكُلِّيَّةِ. والألْسُنُ مَتى تَرَكَتْ ذِكْرَ اللَّهِ - الَّذِي هو مَحْبُوبُها - اشْتَغَلَتْ بِذِكْرِ ما يُبْغِضُهُ ويَمْقُتُ عَلَيْهِ. فَأيُّ راحَةٍ لِلْعارِفِ في هَذا؟ وهَلْ هو إلّا أشَقُّ عَلَيْهِ، وأكْرَهُ إلَيْهِ؟ وَقَوْلٌ آخَرُ: لا أُحِبُّ أنْ أرى اللَّهَ ولا أنْظُرَ إلَيْهِ. فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ؟ قالَ: غَيْرَةً عَلَيْهِ مِن نَظَرِ مِثْلِي. فانْظُرْ إلى هَذِهِ الغَيْرَةِ القَبِيحَةِ، الدّالَّةِ عَلى جَهْلِ صاحِبِها، مَعَ أنَّهُ في خِفارَةِ ذُلِّهِ وتَواضُعِهِ وانْكِسارِهِ واحْتِقارِهِ لِنَفْسِهِ. * [فَصْلٌ دَلالَةُ الفِعْلِ في النَّفْسِ] وَأمّا الأصْلُ الثّانِي - وهو دَلالَتُهُ عَلى أنَّ الفِعْلَ في نَفْسِهِ حَسَنٌ وقَبِيحٌ - فَكَثِيرٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَإذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وجَدْنا عَلَيْها آباءَنا واللَّهُ أمَرَنا بِها قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أتَقُولُونَ عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ - قُلْ أمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ وأقِيمُوا وُجُوهَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأكم تَعُودُونَ - فَرِيقًا هَدى وفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ اللَّهِ ويَحْسَبُونَ أنَّهم مُهْتَدُونَ - يابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ - قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هي لِلَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ القِيامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ والإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٨-٣٣] فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ فِعْلَهم فاحِشَةٌ قَبْلَ نَهْيِهِ عَنْهُ، وأمَرَ بِاجْتِنابِهِ بِأخْذِ الزِّينَةِ، والفاحِشَةُ هاهُنا هي طَوافُهم بِالبَيْتِ عُراةً - الرِّجالُ والنِّساءُ - غَيْرُ قُرَيْشٍ ثُمَّ قالَ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ﴾ [الأعراف: ٢٨] أيْ لا يَأْمُرُ بِما هو فاحِشَةٌ في العُقُولِ والفِطَرِ، ولَوْ كانَ إنَّما عُلِمَ كَوْنُهُ فاحِشَةً بِالنَّهْيِ، وأنَّهُ لا مَعْنى لِكَوْنِهِ فاحِشَةً إلّا تَعَلُّقُ النَّهْيِ بِهِ، لَصارَ مَعْنى الكَلامِ أنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِما يَنْهى عَنْهُ، وهَذا يُصانُ عَنِ التَّكَلُّمِ بِهِ آحادُ العُقَلاءِ، فَضْلًا عَنْ كَلامِ العَزِيزِ الحَكِيمِ، وأيُّ فائِدَةٍ في قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِما يَنْهى عَنْهُ؟ فَإنَّهُ لَيْسَ لِمَعْنى كَوْنِهِ فاحِشَةً عِنْدَهم إلّا أنَّهُ مَنهِيٌّ عَنْهُ، لا أنَّ العُقُولَ تَسْتَفْحِشُهُ. ثُمَّ قالَ تَعالى ﴿قُلْ أمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ﴾ [الأعراف: ٢٩] والقِسْطُ عِنْدَهم هو المَأْمُورُ بِهِ، لا أنَّهُ قِسْطٌ في نَفْسِهِ، فَحَقِيقَةُ الكَلامِ قُلْ أمَرَ رَبِّي بِما أمَرَ بِهِ. ثُمَّ قالَ ﴿قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: ٣٢] دَلَّ عَلى أنَّهُ طَيِّبٌ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وأنَّ وصْفَ الطَّيِّبِ فِيهِ مانِعٌ مِن تَحْرِيمِهِ مُنافٍ لِلْحِكْمَةِ. ثُمَّ قالَ ﴿قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ﴾ [الأعراف: ٣٣] ولَوْ كانَ كَوْنُها فَواحِشَ إنَّما هو لِتَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بِها، ولَيْسَتْ فَواحِشَ قَبْلَ ذَلِكَ، لَكانَ حاصِلُ الكَلامِ: قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ ما حَرَّمَ، وكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الإثْمِ والبَغْيِ، فَكَوْنُ ذَلِكَ فاحِشَةً وإثْمًا وبَغْيًا بِمَنزِلَةِ كَوْنِ الشِّرْكِ شِرْكًا، فَهو شِرْكٌ في نَفْسِهِ قَبْلَ النَّهْيِ وبَعْدَهُ. فَمَن قالَ: إنَّ الفاحِشَةَ والقَبائِحَ والآثامَ إنَّما صارَتْ كَذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ، فَهو بِمَنزِلَةِ مَن يَقُولُ: الشِّرْكُ إنَّما صارَ شِرْكًا بَعْدَ النَّهْيِ، ولَيْسَ شِرْكًا قَبْلَ ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذا وهَذا مُكابَرَةٌ صَرِيحَةٌ لِلْعَقْلِ والفِطْرَةِ، فالظُّلْمُ ظُلْمٌ في نَفْسِهِ قَبْلَ النَّهْيِ وبَعْدَهُ، والقَبِيحُ قَبِيحٌ في نَفْسِهِ قَبْلَ النَّهْيِ وبَعْدَهُ، والفاحِشَةُ كَذَلِكَ، وكَذَلِكَ الشِّرْكَ، لا أنَّ هَذِهِ الحَقائِقَ صارَتْ بِالشَّرْعِ كَذَلِكَ. نَعَمْ، الشّارِعُ كَساها بِنَهْيِهِ عَنْها قُبْحًا إلى قُبْحِها، فَكانَ قُبْحُها مِن ذاتِها، وازْدادَتْ قُبْحًا عِنْدَ العَقْلِ بِنَهْيِ الرَّبِّ تَعالى عَنْها وذَمِّهِ لَها، وإخْبارِهِ بِبُغْضِها وبُغْضِ فاعِلِها، كَما أنَّ العَدْلَ والصِّدْقَ والتَّوْحِيدَ، ومُقابَلَةَ نِعَمِ المُنْعِمِ بِالثَّناءِ والشُّكْرِ حَسَنٌ في نَفْسِهِ، وازْدادَ حُسْنًا إلى حُسْنِهِ بِأمْرِ الرَّبِّ بِهِ، وثَنائِهِ عَلى فاعِلِهِ، وإخْبارِهِ بِمَحَبَّتِهِ ذَلِكَ ومَحَبَّةِ فاعِلِهِ. بَلْ مِن أعْلامِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ أنَّهُ يَأْمُرُهم بِالمَعْرُوفِ ويَنْهاهم عَنِ المُنْكَرِ، ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ، ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ. فَلَوْ كانَ كَوْنُهُ مَعْرُوفًا ومُنْكَرًا وخَبِيثًا وطَيِّبًا إنَّما هو لِتَعَلُّقِ الأمْرِ والنَّهْيِ والحِلِّ والتَّحْرِيمِ بِهِ، لَكانَ بِمَنزِلَةِ أنْ يُقالَ: يَأْمُرُهم بِما يَأْمُرُهم بِهِ، ويَنْهاهم عَمّا يَنْهاهم عَنْهُ، ويُحِلُّ لَهم ما يُحِلُّ لَهُمْ، ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ ما يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ! وأيُّ فائِدَةٍ في هَذا؟ وأيُّ عِلْمٍ يَبْقى فِيهِ لِنُبُوَّتِهِ؟ وكَلامُ اللَّهِ يُصانُ عَنْ ذَلِكَ، وأنْ يُظَنَّ بِهِ ذَلِكَ، وإنَّما المَدْحُ والثَّناءُ والعِلْمُ الدّالُّ عَلى نُبُوَّتِهِ أنَّ ما يَأْمُرُ بِهِ تَشْهَدُ العُقُولُ الصَّحِيحَةُ حُسْنَهُ وكَوْنَهُ مَعْرُوفًا، وما يَنْهى عَنْهُ تَشْهَدُ قُبْحَهُ وكَوْنَهُ مُنْكَرًا، وما يُحِلُّهُ تَشْهَدُ كَوْنَهُ طَيِّبًا، وما يُحَرِّمُهُ تَشْهَدُ كَوْنَهُ خَبِيثًا، وهَذِهِ دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ، وهي بِخِلافِ دَعْوَةِ المُتَغَلِّبِينَ المُبْطِلِينَ، والكَذّابِينَ والسَّحَرَةِ، فَإنَّهم يَدْعُونَ إلى ما يُوافِقُ أهْواءَهم وأغْراضَهم مِن كُلِّ قَبِيحٍ ومُنْكَرٍ وبَغْيٍ وإثْمٍ وظُلْمٍ. وَلِهَذا قِيلَ لِبَعْضِ الأعْرابِ وقَدْ أسْلَمَ، لَمّا عَرَفَ دَعْوَتَهُ ﷺ عَنْ أيِّ شَيْءٍ أسْلَمْتَ؟ وما رَأيْتَ مِنهُ مِمّا دَلَّكَ عَلى أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ قالَ ما أمَرَ بِشَيْءٍ، فَقالَ العَقْلُ: لَيْتَهُ نَهى عَنْهُ، ولا نَهى عَنْ شَيْءٍ، فَقالَ العَقْلُ: لَيْتَهُ أمَرَ بِهِ، ولا أحَلَّ شَيْئًا، فَقالَ العَقْلُ: لَيْتَهُ حَرَّمَهُ، ولا حَرَّمَ شَيْئًا، فَقالَ العَقْلُ: لَيْتَهُ أباحَهُ، فانْظُرْ إلى هَذا الأعْرابِيِّ، وصِحَّةِ عَقْلِهِ وفِطْرَتِهِ، وقُوَّةِ إيمانِهِ، واسْتِدْلالِهِ عَلى صِحَّةِ دَعْوَتِهِ بِمُطابَقَةِ أمْرِهِ لِكُلِّ ما حَسُنَ في العَقْلِ، وكَذَلِكَ مُطابَقَةُ تَحْلِيلِهِ وتَحْرِيمِهِ، ولَوْ كانَ جِهَةُ الحُسْنِ والقُبْحِ والطِّيبِ والخُبْثِ مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ الأمْرِ والنَّهْيِ والإباحَةِ والتَّحْرِيمِ بِهِ لَمْ يَحْسُنْ مِنهُ هَذا الجَوابُ، ولَكانَ بِمَنزِلَةِ أنْ يَقُولَ: وجَدْتُهُ يَأْمُرُ ويَنْهى، ويُبِيحُ ويُحَرِّمُ، وأيُّ دَلِيلٍ في هَذا؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ﴾ [النحل: ٩٠]. وَهَؤُلاءِ يَزْعُمُونَ أنَّ الظُّلْمَ في حَقِّ عِبادِهِ هو المُحَرَّمُ والمَنهِيُّ عَنْهُ، لا أنَّ هُناكَ في نَفْسِ الأمْرِ ظُلْمًا نَهى عَنْهُ، وكَذَلِكَ الظُّلْمُ الَّذِي نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ هو المُمْتَنِعُ المُسْتَحِيلُ، لا أنَّ هُناكَ أمْرًا مُمْكِنًا مَقْدُورًا لَوْ فَعَلَهُ لَكانَ ظُلْمًا، فَلَيْسَ في نَفْسِ الأمْرِ عِنْدَهم ظُلْمٌ مَنهِيٌّ عَنْهُ ولا مُنَزَّهٌ عَنْهُ، إنَّما هو المُحَرَّمُ في حَقِّهِ، والمُسْتَحِيلُ في حَقِّهِ، فالظُّلْمُ المُنَزَّهُ عَنْهُ عِنْدَهم هو الجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وجَعْلُ الجِسْمِ الواحِدِ في مَكانَيْنِ في آنٍ واحِدٍ، ونَحْوُ ذَلِكَ. والقُرْآنُ صَرِيحٌ في إبْطالِ هَذا المَذْهَبِ أيْضًا، قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أطْغَيْتُهُ ولَكِنْ كانَ في ضَلالٍ بَعِيدٍ قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكم بِالوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وما أنا بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق: ٢٧] أيْ لا أُؤاخِذُ عَبْدًا بِغَيْرِ ذَنْبٍ، ولا أمْنَعُهُ مِن أجْرِ ما عَمِلَهُ مِن صالِحٍ، ولِهَذا قالَ قَبْلَهُ ﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكم بِالوَعِيدِ﴾ [ق: ٢٨] المُتَضَمِّنِ لِإقامَةِ الحُجَّةِ، وبُلُوغِ الأمْرِ والنَّهْيِ، وإذا آخَذْتُكم بَعْدَ التَّقَدُّمِ فَلَسْتُ بِظالِمٍ، بِخِلافِ مَن يُؤاخِذُ العَبْدَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ بِأمْرِهِ ونَهْيِهِ، فَذَلِكَ الظُّلْمُ الَّذِي تَنَزَّهَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْهُ. وَقالَ تَعالى ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وهو مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْمًا ولا هَضْمًا﴾ [طه: ١١٢] يَعْنِي لا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِن سَيِّئاتِ ما لَمْ يَعْمَلْهُ، ولا يُنْقَصُ مِن حَسَناتِ ما عَمِلَ، ولَوْ كانَ الظُّلْمُ هو المُسْتَحِيلَ الَّذِي لا يُمْكِنُ وُجُودُهُ لَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ الخَوْفِ مِنهُ مَعْنًى، ولا لِلْأمْنِ مِن وُقُوعِهِ فائِدَةٌ. وَقالَ تَعالى ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ ومَن أساءَ فَعَلَيْها وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] أيْ لا يَحْمِلُ المُسِيءُ عِقابَ ما لَمْ يَعْمَلْهُ، ولا يُمْنَعُ المُحْسِنُ مِن ثَوابِ عَمَلِهِ. وَقالَ تَعالى ﴿وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرى بِظُلْمٍ وأهْلُها مُصْلِحُونَ﴾ [هود: ١١٧] فَدَلَّ عَلى أنَّهُ لَوْ أهْلَكَهم مَعَ إصْلاحِهِمْ لَكانَ ظالِمًا، وعِنْدَهم يَجُوزُ ذَلِكَ، ولَيْسَ بِظُلْمٍ لَوْ فَعَلَ، ويُأوِّلُونَ الآيَةَ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ أخْبَرَ أنَّهُ لا يُهْلِكُهم مَعَ إصْلاحِهِمْ، وعُلِمَ أنَّهُ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وخِلافُ خَبَرِهِ ومَعْلُومِهِ مُسْتَحِيلٌ، وذَلِكَ حَقِيقَةُ الظُّلْمِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الآيَةَ لَمْ يُقْصَدْ بِها هَذا قَطْعًا ولا أُرِيدَ بِها، ولا تَحْتَمِلُهُ بِوَجْهٍ، إذْ يَئُولُ مَعْناها إلى أنَّهُ ما كانَ لِيُهْلِكَ القُرى بِظُلْمٍ بِسَبَبِ اجْتِماعِ النَّقِيضَيْنِ وهم مُصْلِحُونَ، وكَلامُهُ تَعالى يَتَنَزَّهُ عَنْ هَذا ويَتَعالى عَنْهُ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ هَؤُلاءِ أيْضًا العَبَثُ والسُّدى والباطِلُ، كُلُّها هي المُسْتَحِيلاتُ المُمْتَنِعَةُ الَّتِي لا تَدْخُلُ تَحْتَ المَقْدُورِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْها، إذْ نَسَبَهُ إلَيْها أعْداؤُهُ المُكَذِّبُونَ بِوَعْدِهِ ووَعِيدِهِ، المُنْكِرُونَ لِأمْرِهِ ونَهْيِهِ، فَأخْبَرَ أنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الخَلْقِ عَبَثًا وباطِلًا، وحِكْمَتُهُ وعِزَّتُهُ تَأْبى ذَلِكَ، قالَ تَعالى ﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا وأنَّكم إلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥] أيْ لِغَيْرِ شَيْءٍ، لا تُؤْمَرُونَ ولا تُنْهَوْنَ، ولا تُثابُونَ ولا تُعاقَبُونَ، والعَبَثُ قَبِيحٌ، فَدَلَّ عَلى أنَّ قُبْحَ هَذا مُسْتَقِرٌّ في الفِطَرِ والعُقُولِ، ولِذَلِكَ أنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ إنْكارَ مُنَبِّهٍ لَهم عَلى الرُّجُوعِ إلى عُقُولِهِمْ وفِطَرِهِمْ، وأنَّهم لَوْ فَكَّرُوا وأبْصَرُوا لَعَلِمُوا أنَّهُ لا يَلِيقُ بِهِ، ولا يَحْسُنُ مِنهُ أنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ عَبَثًا، لا لِأمْرٍ ولا لِنَهْيٍ، ولا لِثَوابٍ ولا لِعِقابٍ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ حُسْنَ الأمْرِ والنَّهْيِ والجَزاءِ مُسْتَقِرٌّ في العُقُولِ والفِطَرِ، وأنَّ مَن جَوَّزَ عَلى اللَّهِ الإخْلالَ بِهِ فَقَدْ نَسَبَهُ إلى ما لا يَلِيقُ بِهِ، وإلى ما تَأْباهُ أسْماؤُهُ الحُسْنى وصِفاتُهُ العُلْيا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ أنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: ٣٦] قالَ الشّافِعِيُّ: مُهْمَلًا لا يُؤْمَرُ ولا يُنْهى، وقالَ غَيْرُهُ: لا يُثابُ ولا يُعاقَبُ، وهُما مُتَلازِمانِ، فَأنْكَرَ عَلى مَن يَحْسَبُ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ قَبِيحٌ تَأْباهُ حِكْمَتُهُ وعِزَّتُهُ، وأنَّهُ لا يَلِيقُ بِهِ، ولِهَذا اسْتَدَلَّ عَلى أنَّهُ لا يَتْرُكُهُ سُدًى بِقَوْلِهِ: ﴿ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِن مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى﴾ [القيامة: ٣٧] إلى آخِرِ السُّورَةِ، ولَوْ كانَ قُبْحُهُ إنَّما عُلِمَ بِالسَّمْعِ لَكانَ يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِأنَّهُ خِلافُ السَّمْعِ، وخِلافُ ما أعْلَمَناهُ وأخْبَرَنا بِهِ، ولَمْ يَكُنْ إنْكارُهُ لِكَوْنِهِ قَبِيحًا في نَفْسِهِ، بَلْ لِكَوْنِهِ خِلافَ ما أخْبَرَ بِهِ، ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا لَيْسَ وجْهَ الكَلامِ. وَكَذَلِكَ إنْكارُهُ سُبْحانَهُ قُبْحَ الشِّرْكِ بِهِ في إلَهِيَّتِهِ، وعِبادَةَ غَيْرِهِ مَعَهُ بِما ضَرَبَهُ لَهم مِنَ الأمْثالِ، وأقامَ عَلى بُطْلانِهِ مِنَ الأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ، ولَوْ كانَ إنَّما قَبُحَ بِالشَّرْعِ لَمْ يَكُنْ لِتِلْكَ الأدِلَّةِ والأمْثالِ مَعْنًى. وَعِنْدَ نُفاةِ التَّحْسِينِ والتَّقْبِيحِ يَجُوزُ في العَقْلِ أنْ يَأْمُرَ بِالإشْراكِ بِهِ وبِعِبادَةِ غَيْرِهِ! وإنَّما عُلِمَ قُبْحُهُ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ عَنْهُ!. فَيا عَجَبًا! أيُّ فائِدَةٍ تَبْقى في تِلْكَ الأمْثالِ والحُجَجِ، والبَراهِينِ الدّالَّةِ عَلى قُبْحِهِ في صَرِيحِ العُقُولِ والفِطَرِ؟ وأنَّهُ أقْبَحُ القَبِيحِ وأظْلَمُ الظُّلْمِ؟ وأيُّ شَيْءٍ يَصِحُّ في العَقْلِ إذا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عِلْمٌ بِقُبْحِ الشِّرْكِ الذّاتِيِّ، وأنَّ العِلْمَ بِقُبْحِهِ بَدِيهِيٌّ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ العَقْلِ، وأنَّ الرُّسُلَ نَبَّهُوا الأُمَمَ عَلى ما في عُقُولِهِمْ وفِطَرِهِمْ مِن قُبْحِهِ، وأنَّ أصْحابَهُ لَيْسَتْ لَهم عُقُولٌ ولا ألْبابٌ ولا أفْئِدَةٌ، بَلْ نَفى عَنْهُمُ السَّمْعَ والبَصَرَ، والمُرادُ سَمْعُ القَلْبِ وبَصَرُهُ، فَأخْبَرَ أنَّهم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، وذَلِكَ وصْفُ قُلُوبِهِمْ أنَّها لا تَسْمَعُ ولا تُبَصِرُ ولا تَنْطِقُ، وشَبَّهَهم بِالأنْعامِ الَّتِي لا عُقُولَ لَها تُمَيِّزُ بِها بَيْنَ الحَسَنِ والقَبِيحِ، والحَقِّ والباطِلِ، ولِذَلِكَ اعْتَرَفُوا في النّارِ بِأنَّهم لَمْ يَكُونُوا مِن أهْلِ السَّمْعِ والعَقْلِ، وأنَّهم لَوْ رَجَعُوا إلى أسْماعِهِمْ وعُقُولِهِمْ لَعَلِمُوا حُسْنَ ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وقُبْحَ مُخالَفَتِهِمْ. قالَ اللَّهُ تَعالى حاكِيًا عَنْهم ﴿وَقالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أوْ نَعْقِلُ ما كُنّا في أصْحابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: ١٠] وكَمْ يَقُولُ لَهم في كِتابِهِ " أفَلا تَعْقِلُونَ "، " لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ ". فَيُنَبِّهُهم عَلى ما في عُقُولِهِمْ وفِطَرِهِمْ مِنَ الحَسَنِ والقَبِيحِ، ويَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِها، ويُخْبِرُ أنَّهُ أعْطاهُمُوها لِيَنْتَفِعُوا بِها، ويُمَيِّزُوا بِها بَيْنَ الحَسَنِ والقَبِيحِ والحَقِّ والباطِلِ. وَكَمْ في القُرْآنِ مِن مَثَلٍ عَقْلِيٍّ وحِسِّيٍّ يُنَبِّهُ بِهِ العُقُولَ عَلى حُسْنِ ما أمَرَ بِهِ، وقُبْحِ ما نَهى عَنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ في نَفْسِهِ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِضَرْبِ الأمْثالِ لِلْعُقُولِ مَعْنًى، ولَكانَ إثْباتُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الأمْرِ والنَّهْيِ دُونَ ضَرْبِ الأمْثالِ، وتَبْيِينِ جِهَةِ القُبْحِ المَشْهُودَةِ بِالحُسْنِ والعَقْلِ. والقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِهَذا لِمَن تَدَبَّرَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب