الباحث القرآني
«وَسُئِلَ ﷺ عَنْ قَوْله تَعالى ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾
فَقالَ: إنّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ عَلى ظَهْرِهِ بِيَمِينِهِ فاسْتَخْرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّةً، فَقالَ: خُلِقَ هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ، وبِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ عَلى ظَهْرِهِ فاسْتَخْرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّةً فَقالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلنّارِ، وبِعَمَلِ أهْلِ النّارِ يَعْمَلُونَ فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ العَمَلُ؟ فَقالَ: إنّ اللَّهَ إذا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حَتّى يَمُوتَ عَلى عَمَلٍ مِن أعْمالِ أهْلِ الجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وإذا خَلَقَ العَبْدَ لِلنّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ النّارِ حَتّى يَمُوتَ عَلى عَمَلٍ مِن أعْمالِ أهْلِ النّارِ فَيَدْخُلَ النّارَ».
* [فَصْلٌ الخِلافُ في خَلْقِ الأجْسادِ قَبْلَ الأرْواحِ أوِ العَكْسُ]
وَأمّا قَوْلُ إسْحاقَ: إنَّ العُلَماءَ أجْمَعُوا عَلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ أنَّها الأرْواحُ قَبْلَ الأجْسادِ، فَإسْحاقُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - قالَ بِما بَلَغَهُ، وانْتَهى إلى عِلْمِهِ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِإجْماعٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النّاسُ: هَلْ خُلِقَتِ الأجْسادُ قَبْلَ الأرْواحِ، أوْ مَعَها؟ عَلى قَوْلَيْنِ حَكاهُما شَيْخُنا، وغَيْرُهُ.
وَهَلْ مَعْنى الآيَةِ أخْذُ الذُّرِّيَّةِ بَعْضِهِمْ مِن بَعْضٍ، وإشْهادُهم بِما فَطَرَهم عَلَيْهِ، أوْ إخْراجُهم مِن ظَهْرِ آدَمَ واسْتِنْطاقُهُمْ؟ عَلى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ.
والَّذِينَ قالُوا: " إنَّ الأرْواحَ خُلِقَتْ قَبْلَ الأجْسادِ " لَيْسَ مَعَهم نَصٌّ مِن كِتابِ اللَّهِ ولا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وغايَةُ ما مَعَهم قَوْلُهُ: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ الآيَةَ، وقَدْ عُلِمَ أنَّها لا تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ.
وَأمّا الأحادِيثُ الَّتِي فِيها أنَّهُ " أخْرَجَهم مِثْلَ الذَّرِّ "، فَهَذا هَلْ هو أشْباحُهم أوْ أمْثالُهُمْ؟ فِيهِ قَوْلانِ، ولَيْسَ فِيها صَرِيحٌ بِأنَّها أرْواحُهم.
والَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ القُرْآنُ، والسُّنَّةُ، والِاعْتِبارُ أنَّ الأرْواحَ إنَّما خُلِقَتْ مَعَ الأجْسادِ، أوْ بَعْدَها، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ خَلَقَ جَسَدَ آدَمَ قَبْلَ رُوحِهِ، فَلَمّا سَوّاهُ وأكْمَلَ خَلْقَهُ نَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ، فَكانَ تَعَلُّقُ الرُّوحِ بِهِ بَعْدَ خَلْقِ جَسَدِهِ.
وَكَذَلِكَ سُنَّتُهُ سُبْحانَهُ في خَلْقِ أوْلادِهِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ المُتَّفَقُ عَلى صِحَّتِهِ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: " «إنَّ خَلْقَ أحَدِكم يُجْمَعُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» ".
وَقَدْ غَلِطَ بَعْضُ النّاسِ حَيْثُ ظَنَّ أنَّ نَفْخَ الرُّوحِ إرْسالُ الرُّوحِ وبَعْثُها إلَيْهِ، وأنَّها كانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ ذَلِكَ، ونَفْخَها تُعَلُّقُها بِهِ، ولَيْسَ ذَلِكَ مُرادَ الحَدِيثِ، بَلْ إذا تَكامَلَ خَلْقُ الجَنِينِ أرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِ المَلِكَ فَنَفَخَ فِيهِ نَفْخَةً، فَتَحْدُثُ الرُّوحُ بِتِلْكَ النَّفْخَةِ، فَحِينَئِذٍ حَدَثَتْ لَهُ الرُّوحُ بِواسِطَةِ النَّفْخَةِ.
وَكَذَلِكَ كانَ خَلْقُ المَسِيحِ: أرْسَلَ اللَّهُ المَلَكَ إلى أُمِّهِ، فَنَفَخَ في فَرْجِها نَفْخَةً فَحَمَلَتْ بِالمَسِيحِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا - قالَتْ إنِّي أعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا - قالَ إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ لِأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ [مريم: ١٧-١٩].
وَهَذا صَرِيحٌ في إبْطالِ قَوْلِ مَن قالَ: " إنَّ هَذِهِ الرُّوحَ الَّتِي خاطَبَها هي رُوحُ المَسِيحِ "، فَإنَّ رُوحَ المَسِيحِ إنَّما حَدَثَتْ مِن تِلْكَ النَّفْخَةِ الَّتِي نَفَخَها رَسُولُ اللَّهِ، وكَيْفَ يَقُولُ المَسِيحُ لِأُمِّهِ: أنا رَسُولُ رَبِّكِ لِأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا؟ وكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿فَنَفَخْنا فِيها مِن رُوحِنا﴾ [الأنبياء: ٩١]، أيْ مِن رُوحِ ولَدِها، فَتَكُونُ رُوحُ المَسِيحِ هي النّافِخَةَ لِنَفْسِها في بَطْنِ أُمِّهِ؟!
وَهَذا قَوْلٌ تَكْثُرُ الدَّلائِلُ عَلى بُطْلانِهِ، وإنَّما أشَرْنا إلى ذَلِكَ إشارَةً.
* وقال في (كتاب الروح) ما نصه:
المسألة الثامنة عشرة [وهي تقدم خلق الأرواح على الأجساد أو تأخر خلقها عنها]
فهذه المسألة للناس فيها قولان معروفان حكاهما شيخ الإسلام وغيره، وممن ذهب إلى تقدم خلقها محمد بن نصر المروزي وأبو محمد بن حزم، وحكاه ابن حزم إجماعا. ونحن نذكر حجج الفريقين وما هو الأولى منها بالصواب.
قال من ذهب إلى تقدم خلقها على خلق البدن: قال اللّه تعالى: ﴿ولَقَدْ خَلَقْناكم ثُمَّ صَوَّرْناكم ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ قالوا ثم للترتيب والمهلة فقد تضمنت الآية أن خلقها مقدم على أمر اللّه للملائكة بالسجود لآدم.
ومن المعلوم قطعا أن أبداننا حادثة بعد ذلك، فعلم أنها الأرواح.
قالوا: ويدل عليه قوله سبحانه: ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهم وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾ قالوا: وهذا الاستنطاق والإشهاد إنما كان لأرواحنا إذ لم تكن الأبدان حينئذ موجودة، ففي الموطأ:
حدثنا: مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عن عمر بن الخطاب سأل عن هذه الآية: وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهم فقال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يسأل عنها فقال: «خلق اللّه آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، وخلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون» فقال رجل: يا رسول اللّه ففيم العلم؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه إذا خلق الرجل للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار».
قال الحاكم: هذا حديث على شرط مسلم، وروى الحاكم أيضا من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا: «لما خلق اللّه آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر، ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا} من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: من هؤلاء يا رب؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه؛ فقال: يا رب من هذا؟ فقال: هذا ابنك داود يكون في آخر الأمم، قال: كم جعلت له من العمر؟ قال: ستين سنة، قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، فقال اللّه تعالى: ﴿إذا يكتب ويختم فلا يبدل، فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ فقال: أو لم تجعلها لابنك داود؟ قال: فجحد فجحد ذريته ونسي فنسيت ذريته وخطئ فخطئت ذريته- قال هذا على شرط مسلم. ورواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح﴾. ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن أول من جحد آدم». وزاد محمد بن سعد: ثم أكمل اللّه لآدم ألف سنة ولداود مائة سنة.
وفي صحيح الحاكم أيضا من حديث أبي جعفر الرازي حدثنا الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى: ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ الآية قال جمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أرواحا ثم صورهم واستنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق: وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ أ لَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ} قال فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم: أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ} فلا تشركوا بي شيئا فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي، فقالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك، ورفع لهم أبوهم آدم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك، فقال رب لو سويت بين عبادك، فقال إني أحب أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله: ﴿وإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهم ومِنكَ ومِن نُوحٍ﴾ وهو قوله تعالى: {فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} وهو قوله تعالى: ﴿هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولى﴾ وقوله تعالى: ﴿وما وجَدْنا لِأكْثَرِهِمْ مِن عَهْدٍ وإنْ وجَدْنا أكْثَرَهم لَفاسِقِينَ﴾ وكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فدخل من فيها. وهذا إسناد صحيح.
فقال إسحاق بن راهويه: حدثنا بقية بن الوليد قال: أخبرني الزبيدي محمد بن الوليد عن راشد بن سعد عن الرحمن بن أبي قتادة البصري عن أبيه عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجلا قال: يا رسول اللّه أ نبدأ الأعمال أم قد مضى القضاء؟ فقال: «إن اللّه لما أخرج ذرية آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه، فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار».
قال إسحاق: وأنبأنا النضر، حدثنا أبو معشر عن سعيد المقبري ونافع مولى الزبير عن أبي هريرة قال: لما أراد اللّه أن يخلق آدم- فذكر خلق آدم- فقال له آدم: أي يدي أحب إليك أن أريك ذريتك فيها؟ فقال: يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين، فبسط يمينه فإذا فيها ذريته كلها ما هو خالق إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته، والمبتلي على هيئته، والأنبياء على هيئتهم، فقال ألا أعفيتهم كلهم؟ فقال: إني أحب أن أشكر». وذكر الحديث.
وقال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا الليث بن سعد، حدثني ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن عبد اللّه بن سلام قال: «خلق اللّه آدم ثم قال بيديه فقبضهما، فقال: اختر يا آدم، فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يديه يمين، فبسطها فإذا فيها ذريته، فقال:
من هؤلاء يا رب؟ قال: من قضيت أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة.
قال: وأخبرنا إسحاق حدثنا جعفر بن عون، أنبأنا هشام بن سعد زيد بن أسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة.
وحدثنا إسحاق وعمرو بن زرارة، أخبرنا إسماعيل عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ الآية قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ ميثاقهم: أ لَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى شَهِدْنا.
ورواه أبو جمرة الضبعي ومجاهد وخبيب بن أبي ثابت وأبو صالح وغيرهم عن ابن عباس.
وقال إسحاق أخبرنا جرير عن منصور عن مجاهد عن عبد اللّه بن عمرو في هذه الآية قال: أخذهم كما يؤخذ المشط بالرأس.
وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن الزبير بن موسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: إن اللّه ضرب منكبه الأيمن فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة، ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء، فقال: هؤلاء أهل النار، ثم أخذ عهده على الإيمان به والمعرفة له ولأمره والتصديق وبأمره من بني آدم كلهم وأشهدهم على أنفسهم فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقروا.
وذكر محمد بن نصر من تفسير السدي عن ابن مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن أناس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في قوله تعالى: ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ الآية. لما أخرج اللّه آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ وكهيئة الذر فقال لهم: أدخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: أدخلوا النار ولا أبالي}
فذلك حيث يقول: وأصْحابُ اليَمِينِ} وأصْحابُ الشِّمالِ} ثم أخذ منهم الميثاق فقال: أ لَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى} فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ، أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ} فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن اللّه ربه، ولا مشرك إلا وهو يقول: إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} فذلك قوله تعالى: ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ وقوله تعالى: ﴿ولَهُ أسْلَمَ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وقوله تعالى: {فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ قال: يعني يوم أخذ عليهم الميثاق.
قال إسحاق: وأخبرنا روح بن عبادة حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال:
سمعت محمد بن كعب القرظي يقول في هذه الآية: وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ الآية أقروا له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل أن يخلق أجسادها.
قال: وحدثنا الفضل بن موسى عن عبد الملك عن عطاء في هذه الآية قال:
أخرجوا من صلب آدم حين أخذ منهم الميثاق ثم ردوا في صلبه.
قال إسحاق: وأخبرنا علي بن الأجلع عن الضحاك قال: إن اللّه أخرج من ظهر آدم يوم خلقه ما يكون إلى أن تقوم الساعة فأخرجهم مثل الذر فقال: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾ قالت الملائكة: ﴿شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ﴾ ثم قبض بيمينه فقال: هؤلاء في الجنة، وقبض أخرى فقال: هؤلاء في النار.
قال إسحاق: وأخبرنا أبو عامر العقدي وأبو نعيم الملائي قال: حدثنا هشام ابن سعد عن يحيى وليس بابن سعيد قال: قلت لابن المسيب: ما تقول في العزل؟ قال: إن شئت حدثتك حديثا هو حق، إن اللّه سبحانه لما خلق آدم أراه كرامة لم يرها أحد من خلق اللّه، أراه كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، فمن حدثك أن يزيد فيهم شيئا أو ينقص منهم فقد كذب ولو كان لي سبعون ما باليت.
وفي تفسير ابن عيينة عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: ولَهُ أسْلَمَ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا} قال: يوم أخذه الميثاق.
قال إسحاق: فقد كانوا في ذلك الوقت مقرين وذلك أن اللّه عز وجل أخبر أنه قال: أ لَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى واللّه تعالى لا يخاطب إلا من يفهم عنه المخاطبة ولا يجيب إلا من فهم السؤال، فإجابتهم إياه بقولهم دليل على أنهم قد فهموا عن اللّه وعقلوا عنه استشهاده إياهم: أ لَسْتُ بِرَبِّكم فأجابوه من بعد عقل منهم للمخاطبة وفهم لها بأن ﴿قالُوا بَلى﴾ فأقروا له بالربوبية.
* [فصل: الدليل على أن الأرواح خلقت بعد الأبدان]
واحتجوا أيضا بما رواه أبو عبد اللّه بن منده أخبرنا محمد بن صابر البخاري، حدثنا محمد بن المنذر بن سعيد الهروي، حدثنا جعفر بن محمد بن هارون المصيصي، حدثنا عتبة بن السكن، حدثنا أرطاة بن المنذر، حدثنا عطاء بن عجلان، عن يونس بن حلبس، عن عمرو بن عبسة قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: «إن اللّه خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».
فهذا بعض ما احتج به هؤلاء.
قال الآخرون: الكلام معكم في مقامين، أحدهما: ذكر الدليل على أن الأرواح خلقت بعد خلق الأبدان، الثاني: الجواب عما استدللتم به.
فأما المقام الأول: فقد قال تعالى ﴿يا أيُّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى﴾ وهذا خطاب للإنسان الذي هو روح وبدن فدل على أن جملته مخلوقة بعد خلق الأبوين وأصرح منه قوله يا أيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنها زَوْجَها وبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثِيرًا ونِساءً واتَّقُوا اللَّهَ} الآية، وهذا صريح في أن خلق جملة النوع الإنساني بعد خلق أصله.
فإن قيل: فهذا لا ينفي تقدم خلق الأرواح على أجسادها وإن خلقت بعد خلق أبي البشر كما دلت عليه الآثار المتقدمة.
قيل: سنبين إن شاء اللّه تعالى أن الآثار المذكورة لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا. وغايتها أن تدل بعد صحتها وثبوتها على أن بارئها وفاطرها سبحانه صور النسم وقدر خلقها وآجالها وأعمالها واستخرج تلك الصور من مادتها ثم أعادها إليها، وقدر كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا تدل على أنها خلقت خلقا مستقرا ثم استمرت موجودة حية عالمة ناطقة كلها في موضع واحد، ثم ترسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة، كما قاله أبو محمد بن حزم، فهل تحمل الآثار ما لا طاقة لها به؟ نعم، الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولا، فيجي ء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق، كشأنه تعالى في جميع مخلوقاته، فإنه قدر لها أقدارا وآجالا وصفات وهيئات ثم أبرزها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير الذي قدره لها لا تزيد عليه ولا تنقص منه.
فالآثار المذكورة إنما تدل على إثبات القدر السابق، وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم، وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وأما مخاطبتهم واستنطاقهم وإقرارهم له بالربوبية وشهادتهم على أنفسهم بالعبودية، فمن قاله من السلف فإنما هو بناء منه على فهم الآية، والآية لم تدل على هذا بل دلت على خلافه.
وأما حديث مالك فقال أبو عمر: هو حديث منقطع، مسلم بن يسار لم يلق عمر بن الخطاب، وبينهما في هذا الحديث نعيم بن ربيعة، وهو أيضا مع الإسناد لا يقوم به حجة، ومسلم بن يسار هذا مجهول، قيل: إنه مدني وليس بمسلم بن يسار البصري. قال ابن أبي خيثمة: قرأت على يحيى بن معين حديث مالك هذا عن زيد بن أبي أنيسة فكتب بيده على مسلم بن يسار «لا يعرف».
ثم ساقه أبو عمر من طريق النسائي (أخبرنا) محمد بن وهب حدثنا محمد ابن سلمة قال: حدثني أبو عبد الرحيم قال: حدثني زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة.
ثم ساقه من طريق سخبرة (حدثنا) أحمد بن عبد الملك بن واقد، حدثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد عن مسلم عن نعيم، قال أبو عمر: وزيادة من زاد في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ليست حجة أن الذي لم يذكره حفظ، وإنما الزيادة من الحافظ المتقن.
وجملة القول في هذا الحديث: أنه حديث ليس إسناده بالقائم لأن مسلم ابن يسار ونعيم بن ربيعة جميعا غير معروفين بحمل العلم، ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها من حديث عمر بن الخطاب وغيره جماعة يطول ذكرهم.
ومراد أبو عمر الأحاديث الدالة على القدر السابق، فإنها هي التي ساقها بعد ذلك، فذكر حديث عبد اللّه بن عمر في القدر وقال في آخره: وسأله رجل من مزينة أو جهينة، فقال: يا رسول اللّه ففيم العمل؟ فقال: «إن أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ييسرون لعمل أهل النار».
قال: وروى هذا المعنى في القدر عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعبد اللّه بن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو سريحة الغفاري وعبد اللّه بن مسعود وعبد اللّه بن عمرو وعمران بن حصين وعائشة وأنس بن مالك وسراقة بن جعشم وأبو موسى الأشعري وعبادة بن الصامت، وأكثر أحاديث هؤلاء لها طرق شتى ثم ساق كثيرا منها بإسناده.
وأما حديث أبي صالح عن أبي هريرة فإنما يدل على استخراج الذرية وتمثلهم في صور الذر، وكان منهم حينئذ المشرق والمظلم، وليس فيه أنه سبحانه خلق أرواحهم قبل الأجساد وأقرها بموضع واحد، ثم سل كل روح من تلك الأرواح عند حدوث بدنها إليه، نعم هو سبحانه يخص كل بدن بالروح التي قدر أن يكون له في ذلك الوقت، وأما أنه خلق نفس ذلك البدن في ذلك الوقت وفرغ من خلقها وأودعها مكان في معطلة عن بدنها حتى إذا أحدث بدنها أرسلها إليه من ذلك المكان فلا بدل شيء من الأحاديث ذلك البتة لمن تأملها.
وأما حديث أبي بن كعب فليس هو عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وغايته: لو صح، ولم يصح أن يكون من كلام أبي وهذا الإسناد يروي به أشياء منكرة جدا مرفوعة وموقوفة، وأبو جعفر الرازي وثق وضعف، وقال علي بن المديني: كان ثقة، وقال أيضا: كان يخلط، وقال ابن معين: هو ثقة، وقال أيضا:
يكتب حديثه إلا أنه يخطئ، وقال الإمام أحمد: ليس بقوي في الحديث، وقال أيضا: صالح الحديث، وقال الفلاس: سيئ الحفظ، وقال أبو زرعة: يهم كثيرا، وقال ابن حيان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير.
قلت: ومما ينكر هذا الحديث قوله: فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، فدخل في فيها. ومعلوم أن الروح الذي أرسل إلى مريم ليس هو روح المسيح بل ذلك الروح الذي نفخ فيها فحملت بالمسيح قال تعالى: ﴿فَأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا، قالَتْ إنِّي أعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا، قالَ إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ لِأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ فروح المسيح لا يخاطبها عن نفسه بهذه المخاطبة قطعا، وفي بعض طرق حديث أبي جعفر هذا أن روح المسيح هو الذي خاطبها وهو الذي أرسل إليها.
وهاهنا أربع مقامات:
- أحدها: أن اللّه سبحانه وتعالى استخرج صورهم وأمثالهم فميز شقيهم وسعيدهم ومعافاهم ومبتلاهم.
- والثاني: أن اللّه سبحانه أقام عليهم الحجة حينئذ وأشهدهم بربوبيته واستشهد عليهم ملائكته.
- الثالث: أن هذا هو تفسير قوله تعالى: ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾.
- الرابع: أنه أقر تلك الأرواح كلها بعد إخراجها بمكان وفرغ من خلقها، وإنما يتجدد كل وقت إرسال جملة منها بعد جملة إلى أبدانها.
فأما المقام الأول فالآثار متظاهرة به مرفوعة وموقوفة.
وأما المقام الثاني فإنما أخذ من أخذه من المفسرين من الآية، وظنوا أنه تفسيرها، وهذا قول جمهور المفسرين من أهل الأثر، وقال أبو إسحاق: جائز أن يكون اللّه سبحانه جعل لأمثال الذر التي أخرجها فهما تعقل به كما قال ﴿قالَتْ نَمْلَةٌ يا أيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ﴾. وقد سخر مع داود الجبال تسبح معه والطير.
وقال ابن الأنباري: مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن اللّه أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم في صور الذر، فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون، فاعترفوا بذلك وقبلوا، وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم، كما جعل للجبل عقلا حين خوطب، وكما فعل ذلك بالبعير لما سجد، والنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت.
وقال الجرجاني: ليس بين قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته» وبين الآية اختلاف بحمد اللّه؛ لأنه عز وجل إذا أخذهم من ظهر آدم فقد أخذهم من ظهور ذريته، لأن ذرية آدم لذريته، بعضهم من بعض وقوله تعالى: {أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ أي عن الميثاق المأخوذ عليهم، فإذا قالوا ذلك كانت الملائكة شهودا عليهم بأخذ الميثاق. قال: وفي هذا دليل على التفسير الذي جاءت به الرواية من أن اللّه تعالى قال للملائكة: اشهدوا، فقالوا: شهدنا. قال: وزعم بعض أهل العلم أن الميثاق إنما أخذ على الأرواح دون الأجساد، لأن الأرواح هي التي تعقل وتفهم، ولها الثواب وعليها العقاب، والأجساد أموات لا تعقل ولا تفهم، قال: وكان إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى، وذكر أنه قول أبي هريرة، قال إسحاق: وأجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم وأشهدهم، قال الجرجاني:
واحتجوا بقوله تعالى: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتًا بَلْ أحْياءٌ﴾ والأجساد قد بليت واضمحلت في الأرض والأرواح ترزق وتفرح، وهي التي تلد وتألم وتفرح وتحزن وتعرف وتنكر، وبيان ذلك في الأحلام موجود، وأن الإنسان يصبح وأثر لذة الفرح وألم الحزن باق في نفسه مما تلاقي الروح دون الجسد، قال: وحاصل الفائدة في هذا الفصل أنه سبحانه قد أثبت الحجة على كل منفوس ممن يبلغ وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم، وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها في نفسه وفي العالم، وبالرسل المنفذة إليهم مبشرين ومنذرين، وبالمواعظ بالمثلات المنقولة إليهم أخبارها، غير أنه عز وجل لا يطالب أحدا منهم من الطاعة إلا بقدر ما لزمه من الحجة وركب فيهم من القدرة وآتاهم من الأدلة. وبين سبحانه ما هو عامل في البالغين الذين أدركوا الأمر والنهي، وحجب عنا علم ما قدره في غير البالغين، إلا أنا نعلم أنه عدل لا يجوز في حكمه، وحكيم لا تفاوت في صنعه، وقادر لا يسأل عما يفعل، له الخلق والأمر، تبارك اللّه رب العالمين.
* [فصل: معنى الآية: وإذا أخذ ربك ... ]
ونازع هؤلاء غيرهم في معنى الآية، وقالوا: معنى قوله ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ أي أخرجهم وأنشأهم بعد أن كانوا نطفا في أصلاب الآباء إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم بما أظهر لهم آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم، فليس من أحد إلا وفيه من صنعة ربه ما يشهد على أنه بارئه ونافذ الحكم فيه. فلما عرفوا ذلك ودعاهم كل ما يرون ويشاهدون إلى التصديق به كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته، كما قال في غير هذا الموضع ﴿شاهِدِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ﴾ يزيدهم بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا نحن كفرة، وكما تقول: قد شهدت جوارحي بقولك تريد قد عرفته، فكأن جوارحي لو استشهدت وفي وسعها أن تنطق لشهدت، ومن هذا أعلامه وتبينه أيضا ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلهَ إلّا هُوَ﴾ يريد أعلم وبين، فأشبه ذلك شهادة من شهد عن الحكام وغيرهم. هذا كلام ابن الأنباري.
وزاد الجرجاني بيانا لهذا القول فقال حاكيا عن أصحابه: إن اللّه لما خلق الخلق ونفذ علمه فيهم بما هو كائن وما لم يكن بعد مما هو كائن، كالكائن إذ علمه بكونه مانع من غير كونه شائع في مجاز العربية أن يوضع ما هو منتظر بعد مما يقع بعد موقع الواقع لسبق علمه بوقوعه، كما قال عز وجل في موضع من القرآن كقوله تعالى: ﴿ونادى أصْحابُ النّارِ ونادى أصْحابُ الجَنَّةِ﴾ ﴿ونادى أصْحابُ الأعْرافِ﴾ وقال: فيكون تأويل قوله ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ وإذ يأخذ ربك﴾ وكذلك قوله ﴿وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ أي ويشهدهم بما ركبه فيهم من العقل الذي يكون به الفهم ويجب به الثواب والعقاب، وكل من ولد بلغ الحنث وعقل الضر والنفع، وفهم الوعد والوعيد والثواب والعقاب، صار كأن اللّه تعالى أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل وأراه من الآيات والدلائل على حدوثه، وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه، وإذا لم يجز ذلك فلا بد له من خالق هو غيره ليس كمثله، وليس من مخلوق يبلغ هذا المبلغ ولم يقدح فيه مانع من فهم إلا إذا مرّ به أمر يفزع إلى اللّه عز وجل حين يرفع رأسه إلى السماء ويشير إليها بإصبعه علما منه بأن خالقه تعالى فوقه. وإذا كان العقل الذي منه الفهم والإفهام مؤديا إلى معرفة ما ذكرنا ودالا عليه، فكل من بلغ هذا المبلغ فقد أخذ عليه العهد والميثاق، وجائز أن يقال: أقر وأذعن وأسلم، كما قال اللّه عز وجل ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا}.
قال: واحتجوا بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه»، وقوله عز وجل ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنها ثم قال تعالى وحَمَلَها الإنْسانُ﴾. فالأمانة هاهنا عهد وميثاق، فامتناع السماوات والأرض والجبال من حمل الأمانة لأجل خلوها من العقل الذي يكون به الفهم والإفهام، وحمل الإنسان إياها لمكان العقل فيه، قال: وللعرب فيها ضروب نظم، فمنها قوله:
؎ضمن القنان لفقعس بثباتها ∗∗∗ إن القنان لفقعس لا يأتلى
والقنان جبل}، فذكر أنه قد ضمن لفقعس، وضمانه له أنهم كانوا إذا حل بهم أمر من هزيمة أو خوف لجئوا إليه، فجعل ذلك كالضمان لهم، منه قول النابغة:
؎كأجارف الجولان هلل ربه ∗∗∗ وحوارن} منها خاشع متضائل
وأجارف الجولان جبالها وحوران الأرض التي إلى جانبها، وقال هذا القائل: إن في قوله تعالى: ﴿أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ﴾ دليلا على هذا التأويل، لأنه عز وجل أعلم أن هذا الأخذ للعهد عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. والغفلة هاهنا لا تخلوا من أحد وجهين: إما أن تكون عن يوم القيامة أو عن أخذ الميثاق، فأما يوم القيامة فلم يذكر سبحانه في كتابه أنه أخذ عليهم عهدا وميثاقا بمعرفة البعث والحساب، وإنما ذكر معرفته فقط، وأما أخذ الميثاق الأطفال والإسقاط، إن كان هذا العهد مأخوذا عليهم كما قال المخالف فهم لم يبلغوا بعد أخذ هذا الميثاق عليهم مبلغا يكون منهم غفلة عنه فيجحدونه وينكرونه، فمتى تكون هذه الغفلة منهم وهو عز وجل لا يؤاخذهم بما لم يكن منهم، وذكر ما لا يجوز ولا يكون محال. وقوله تعالى أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ} فلا يخلو هذا الشرك الذي يؤاخذون به أن يكون منهم أنفسهم أو من آبائهم، فإن كان منهم فلا يجوز أن يكون ذلك إلا بعد البلوغ وثبوت الجحد عليهم، إذ الطفل لا يكون منه شرك ولا غيره، وإن كان من غيرهم فالأمة مجمعة على أن لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} كما قال عز وجل في الكتاب وليس هذا بمخالف لما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: أن اللّه مسح ظهر آدم وأخرج منه ذريته فأخذ عليهم العهد، لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم اقتص قول اللّه عز وجل فجاء مثل نظمه فوضع الماضي من اللفظ موضع المستقبل. قال: وهذا شبيه القصة بقصة قوله تعالى: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكم مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾، فجعل سبحانه ما أنزل على الأنبياء من الكتاب والحكمة من ميثاقا أخذه من أممهم بعدهم يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ﴾، ثم قال للأمم أ أقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ عَلى ذلِكم إصْرِي قالُوا أقْرَرْنا قالَ فاشْهَدُوا وأنا مَعَكم مِنَ الشّاهِدِينَ فجعل سبحانه بلوغ الأمم كتابه المنزل على أنبيائهم حجة عليهم كأخذ الميثاق عليهم وجعل معرفتهم به إقرارا منهم.
قلت: وشبيه به أيضا قوله تعالى: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم ومِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكم بِهِ إذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وأطَعْنا﴾
فهذا ميثاقه الذي أخذه عليهم بعد إرسال رسله إليهم بالإيمان به وتصديقه، ونظيره قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ولا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ﴾ وقوله تعالى: ﴿ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكم يا بَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُبِينٌ. وأنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ فهذا عهده إليهم على ألسنة رسله، ومثله قوله تعالى لبني إسرائيل ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ ومثله ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ﴾ وقوله تعالى ﴿وإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهم ومِنكَ ومِن نُوحٍ وإبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ وأخَذْنا مِنهم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾، فهذا ميثاق أخذه منهم بعد بعثهم كما أخذ من أممهم بعد إنذارهم، وهذا الميثاق الذي لعن سبحانه من نقضه، وعقبه بقوله تعالى: ﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهم لَعَنّاهم وجَعَلْنا قُلُوبَهم قاسِيَةً﴾ فإنما عاقبهم بنقضهم الميثاق الذي أخذه عليهم على ألسنة رسله، وقد صرح به في قوله تعالى وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكم ورَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكم بِقُوَّةٍ واذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكم تَتَّقُونَ} ولما كانت هذه الآية ونظيرها في سورة مدنية، خاطب بالتذكير بهذا الميثاق فيها أهل الكتاب، فإنه ميثاق أخذه عليهم بالإيمان به وبرسله، ولما كانت هذه آية الأعراف في سورة مكية، ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام لجميع المكلفين ممن أقر بربوبيته ووحدانيته وبطلان الشرك، وهو ميثاق وإشهاد تقوم به عليهم الحجة، وينقطع به العذر، وتحل به العقوبة ويستحق بمخالفته الإهلاك، فلا بد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته وأن فاطرهم ربهم، وأنهم مخلوقون مربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم، ويعرفونهم حقه عليهم، وأمره ونهيه ووعده ووعيده.
ونظم الآية إنما يدل على هذا من وجوه متعددة:
- أحدها: أنه قال ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ ولم يقل آدم، وبنو آدم غير آدم.
- الثاني: أنه قال ﴿مِن ظُهُورِهِمْ﴾ ولم يقل ظهر، وهذا بدل بعض من كل أو بدل اشتمال، وهو أحسن.
- الثالث: أنه قال ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ ولم يقل ذريته.
- الرابع: أنه قال ﴿وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ أي جعلهم شاهدين على أنفسهم، فلا بد أن يكون الشاهد ذاكرا لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار لا يذكر شهادة قبلها.
- الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة ﴿إنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ﴾ والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها كما قال تعالى ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾.
- السادس: تذكيرهم بذلك لئلا يقولوا يوم القيامة ﴿إنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ﴾ ومعلوم أنهم بالإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعا ذلك الوقت فهذا لا يذكره أحد منهم.
- السابع: قوله تعالى أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ} فذكر حكمتين في هذا التعريف والإشهاد إحداهما أن لا يدعو الغفلة، والثانية أن لا يدعو التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد يتبع في تقليده غيره.
- الثامن: قوله تعالى: ﴿أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ﴾ أي لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه. وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الأعذار والإنذار.
- التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليهم بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه كقوله تعالى: ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأنّى يُؤْفَكُونَ﴾ أي: فكيف يصرفون عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن اللّه ربهم وخالقهم؛ وهذا كثير في القرآن فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بها رسله بقوله تعالى: ﴿أ في اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ فاللّه تعالى إنما ذكرهم على ألسنة رسله بهذا الإقرار والمعرفة ولم يذكرهم قط بإقرار سابق على إيجادهم ولا أقام به عليهم حجة.
- العاشر: أنه جعل هذا آية: وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها، بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب تعالى، فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به، فقال تعالى: {وكَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ أي مثل هذا التفصيل والتبيين نفصل الآيات لعلهم يرجعون من الشرك إلى التوحيد ومن الكفر إلى الإيمان.
وهذه الآيات التي فصّلها هي التي بينها في كتابه من أنواع مخلوقاته، وهي آيات أفقية ونفسية وهي آيات في نفوسهم وذواتهم، وآيات في الأقطار والنواحي مما يحدثه الرب تبارك وتعالى، مما يدل على وجوده ووحدانيته وصدق رسله، وعلى المعاد والقيامة. ومن أبينها ما أشهد به كل واحد على نفسه من أنه ربه وخالقه ومبدعه، وأنه مربوب مخلوق مصنوع حادث بعد أن لم يكن، ومحال أن يكون حدث بلا محدث، أو يكون هو المحدث لنفسه، فلا بد له من موجد أوجده، ليس كمثله شيء.
وهذا الإقرار والمشاهدة فطرة فطروا عليها، ليست بمكتسبة، وهذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ مطابقة لقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» ولقوله تعالى: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إلَيْهِ﴾.
ومن المفسرين من لم يذكر إلا هذا القول فقط كالزمخشري، ومنهم من لم يذكر إلا القول الأول فقط، ومنهم من حكى القولين كابن الجوزي والواحدي والماوردي وغيرهم.
وقال الحسن بن يحيى الجرجاني: فاعترض معترض في هذا الفصل بحديث يروى عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «إن اللّه مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد ثم ردهم في ظهره»، وقال: إن هذا مانع من جواز التأويل ذهبت إليه لامتناع ردهم في الظهر إن كان أخذ الميثاق عليهم بعد البلوغ وتمام العقل، قيل له: إن معنى ثم ردهم في ظهره ثم يردهم في ظهره كما قلنا إن معنى أخذ ربك: يأخذ ربك، فيكون معناه: ثم يردهم في ظهره بوفاتهم، لأنهم إذا ماتوا ردوا إلى الأرض للدفن، آدم خلق منها ردوا فيها، فإذا ردوا فيها فقد ردوا في آدم وفي ظهره، إذ كان آدم خلق منها وفيها رد، وبعض الشيء من الشيء، وفيما ذهبتم إليه من تأويل هذا الحديث على ظاهره تفاوت بينه وبين ما جاء به القرآن في هذا المعنى إلا أن يرد تأويله إلى ما ذكرناه لأنه عز وجل قال:
وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ولم يذكر آدم في الفصل إنما هو هاهنا مضاف إليه لتعريف ذريته أنهم أولاده، وفي الحديث: أنه} «مسح ظهر آدم»، فلا يمكن رد ما جاء في القرآن وما جاء في الحديث إلى الاتفاق إلا بالتأويل الذي ذكرناه.
قال الجرجاني: وأنا أقول: ونحن نذهب إلى ما روي في الآية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وما ذهب إليه أهل العلم من السلف الصالح أمثل، وله أقبل وبه آنس، واللّه ولي التوفيق لما هو أولى وأهدى.
على أن بعض أصحابنا من أهل السنّة قد ذكر في الرد على هذا القائل معنى يحتمل ويسوغ في النظم الجاري ومجاز العربية بسهولة، وإمكان من غير تعسف ولا استكراه، وهو أن يكون قوله تعالى: {وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مبتدأ خبر من اللّه عز وجل عما كان منه في أخذ العهد عليهم، وإذ تقتضي جوابا يجعل جوابه قوله تعالى: {قالُوا بَلى وانقطع هذا الخبر بتمام قصته، ثم ابتدأ عز وجل خبرا آخر يذكر ما يقوله المشركون يوم القيامة، فقالوا: شهدنا، يعني نشهد، كما قال الحطيئة:
؎شهد الحطيئة حين يلقى ربه ∗∗∗ أن الوليد أحق بالعذر
بمعنى يشهد الحطيئة، يقول تعالى: نشهد أنكم ستقولون يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أي عما هم فيه من الحساب والمناقشة والمؤاخذة بالكفر، ثم أضاف خبرا آخر فقال: أوْ تَقُولُوا بمعنى وأن تقولوا، لأن أو بمعنى واو النسق، مثل قوله تعالى: ﴿ولا تُطِعْ مِنهم آثِمًا أوْ كَفُورًا﴾ فتأويله: ونشهد أن تقولوا يوم القيامة: إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ} أي أنهم أشركوا وحملونا على مذهبهم في الشرك في صبانا فجرينا على مذاهبهم واقتدينا بهم، فلا ذنب لنا إذ كنا مقتدين بهم، والذنب في ذلك لهم، قالوا: إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ} يدل على ذلك قولهم: أ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ أي حملهم إيانا على الشرك، فتكون القصة الأولى خبرا عن جميع المخلوقين بأخذ الميثاق عليهم، والقصة الثانية خبر عما يقول المشركون يوم القيامة من الاعتذار.
وقال: فيما ادعاه المخالف أنه تفاوت فيما بين الكتاب والخبر لاختلاف ألفاظهما فيهما قولا يجب قبوله بالنظائر والعبر التي تأيد بها لمخالفته، فقال: إن الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن اللّه مسح ظهر آدم، أفاد زيادة خبر كان في القصة التي ذكر اللّه تعالى في الكتاب بعضها ولم يذكر كلها ولو أخبر صلى اللّه عليه وآله وسلم به سوى هذه الزيادة التي أخبر بها مما عسى أن يكون قد كان في ذلك الوقت الذي أخذ فيه العهد مما يضمنه اللّه كتابه لما كان في ذلك خلاف ولا تفاوت بل كان زيادة في الفائدة.
وكذلك الألفاظ إذا اختلف في ذاتها وكان مرجعها إلى أمر واحد لم يوجب تناقضا كما قال عز وجل في كتابه في خلق آدم فذكر مرة أنه خلق من تراب ومرة أنه خلق من حمأ مسنون، ومرة من طين لازب، ومرة من صلصال كالفخار. فهذه الألفاظ مختلفة ومعانيها أيضا في الأحوال مختلفة إذ الصلصال غير الحمأ، والحمأة غير التراب إلا أن مرجعها كلها في الأصل إلى جوهر واحد وهو التراب ومن التراب تدرجت هذه الأحوال.
فقوله سبحانه وتعالى: ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾
وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته معنى واحد في الأصل إلا أن قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم مسح ظهر آدم زيادة في الخبر عن اللّه عز وجل ومسحه عز وجل ظهر آدم واستخراج ذريته منه مسح لظهور ذريته واستخراج ذريتهم من ظهورهم كما ذكر تعالى لأنا قد علمنا أن جميع ذرية آدم لم يكونوا من صلبه لكن لما كان الطبق الأول من صلبه ثم الثاني من صلب الأول ثم الثالث من صلب الثاني جاز أن ينسب ذلك كله إلى ظهر آدم لأنهم فرعه وهو أصلهم.
وكما جاز أن يكون ما ذكر اللّه عز وجل أنه استخرجه من ظهور ذرية آدم من ظهر آدم جاز أن يكون ما ذكر صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه استخرجه من ظهر آدم من ذريته إذ الأصل والفرع شيء واحد، وفيه أيضا أنه عز وجل لما أضاف الذرية إلى آدم في الخبر احتمل أن يكون الخبر عن الذرية وعن آدم كما قال عز وجل:
فَظَلَّتْ أعْناقُهم لَها خاضِعِينَ} والخبر في الظاهر عن الأعناق والنعت للأسماء المكنية فيها وهو مضاف إليها، كما كان آدم مضافا إليه هناك، وليسا جميعا بالمقصودين في الظاهر بالخير، ولا يحتمل أن يكون قوله خاضعين للأعناق، لأن وجه جمعها خاضعات ومنه قول الشاعر:
؎وتشرق بالقول الذي قد أذعته ∗∗∗ كما شرقت صدر القناة من الدم
فالصدر مذكر، وقوله شرقت أنت لإضافة الصدر إلى القناة.
فهذا بعض كلام السلف والخلف في هذه الآية، وعلى تقدير فلا تدل على خلق الأرواح قبل الأجساد خلقا مستقرا، وإنما غايتها أن تدل على إخراج صورهم وأمثالهم في صور الذر واستنطاقهم، ثم ردهم إلى أصلهم إن صح الخبر بذلك، والذي صح إنما هو إثبات القدر السابق وتقسيمهم إلى شقي وسعيد.
* [فصل: الدليل على أن خلق الأرواح متأخر عن خلق الأبدان]
وأما الدليل على أن خلق الأرواح متأخر عن خلق أبدانها فمن وجوه:
أحدها: أن خلق أبي البشر وأصلهم كان هكذا، فإن اللّه سبحانه أرسل جبريل فقبض قبضة من الأرض ثم خمرها حتى صارت طينا، ثم صوره، ثم نفخ فيه الروح بعد أن صوره، فلما دخلت الروح فيه صار لحما ودما حيا ناطقا.
ففي تفسير أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود عن أناس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: لما فرغ اللّه عز وجل من خلق ما أحب، استوى على العرش، فجعل إبليس ملكا على سماء الدنيا، وكان من الخزان قبله من ملائكة يقال لهم الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان أهل الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازنا، فوقع في صدره وقال: ما أعطاني اللّه هذا إلا لمزية لي.
وفي لفظ لمزية لي على الملائكة، فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع اللّه على ذلك منه، فقال اللّه للملائكة: إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قالوا ربنا وما يكون حال الخليفة، وما يصنعون في الأرض؟ قال اللّه: تكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعهم بعضا، قالوا: ربنا أ تَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ قالَ إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} يعني من شأن إبليس، فجعل جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقال الأرض:
إني أعوذ باللّه منك أن تقبض مني، فرجع ولم يأخذ، وقال: رب إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها، فبعث ملك الموت. فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ باللّه أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلط، فلم يأخذ من مكان واحد، فأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء. ولذلك خرج بنو آدم مختلفين، فصعد به قبل الرب عز وجل حتى عاد طينا لازبا، واللازب هو الذي يلزق بعضه ببعض، ثم قال للملائكة: إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ. فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ}، لخلقه اللّه بيده لكيلا يتكبر إبليس عنه ليقول له: تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه، فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم منه فزعا إبليس، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له صلصلة، فذلك حين يقول: مِن صَلْصالٍ كالفَخّارِ} ويقول: لأمر ما خلقت! ودخل من فيه فخرج من دبره، فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكته، فلما بلغ الحين الذي يريد اللّه جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس، فقالت الملائكة: قل الحمد للّه، فقال:
الحمد للّه، فقال له اللّه: يرحمك ربك.
فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام، وقبل أن يبلغ الروح رجليه نهض عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: خُلِقَ الإنْسانُ مِن عَجَلٍ} وذكر باقي الحديث.
قال يونس بن عبد الأعلى: أخبرنا ابن وهب، حدثنا ابن زيد قال: لما خلق اللّه النار ذعرت منها الملائكة ذعرا شديدا وقالوا: ربما لم خلقت هذه النار؟ ولأي شيء خلقتها؟ قال: لمن عصاني من خلقي.
ولم يكن للّه يومئذ خلق إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق، إنما خلق آدم بعد ذلك، وقرأ قوله تعالى: ﴿هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ قال عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه ليت ذلك الحين، ثم قال:
وقالت الملائكة: ويأتي علينا دهر نعصيك فيه؟ لا يرون له خلقا غيرهم، قال: لا! إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة. وذكر الحديث.
قال ابن إسحاق: فيقال واللّه أعلم: خلق اللّه آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عاما قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار ولم تمسه نار، فيقال واللّه أعلم: لما انتهى الروح إلى رأسه عطس فقال: الحمد للّه ...
وذكر الحديث.
والقرآن والحديث والآثار تدل على أنه سبحانه نفخ فيه من روحه بعد خلق جسده، فمن تلك النفخة حدثت فيه الروح، ولو كانت روحه مخلوقة قبل بدنه مع جملة أرواح ذريته لما عجبت الملائكة من خلقه، ولما تعجبت من خلق النار، وقالت: لأي شيء خلقتها؟ وهي ترى أرواح بني آدم فيهم المؤمن والكافر والطيب والخبيث.
ولما كانت أرواح الكفار كلها تبعا لإبليس، بل كانت الأرواح الكافرة مخلوقة قبل كفره، فإن اللّه سبحانه إنما حكم عليه بالكفر بعد خلق بدن آدم وروحه، ولم يكن قبل ذلك كافرا، فكيف تكون الأرواح قبله كافرة ومؤمنة وهو لم يكن كافرا إذ ذاك؟ وهل حصل الكفر للأرواح إلا بتزيينه وإغوائه، فالأرواح الكافرة إنما حدثت بعد كفره، إلا أن يقال: كانت كلها مؤمنة ثم ارتدت بسببه، والذي احتجوا به على تقديم خلق الأرواح يخالف ذلك.
وفي حديث أبي هريرة في تخليق العالم الأخبار عن خلق أجناس العالم تأخر خلق آدم إلى يوم الجمعة، ولو كانت الأرواح مخلوقة قبل الأجساد لكانت من جملة العالم المخلوق في ستة أيام، فلما لم يخبر عن خلقها في هذه الأيام علم أن خلقها تابع لخلق الذرية، وأن خلق آدم وحده هو الذي وقع في تلك الأيام الستة، وأما خلق ذريته فعلى الوجه المشاهد المعاين.
ولو كان للروح وجود قبل البدن وهي حية عالمة ناطقة لكانت ذاكرة لذلك في هذا العالم شاعرة به ولو بوجه ما.
ومن الممتنع أن تكون حية عالمة ناطقة عارفة بربها، وهي بين ملأ من الأرواح، ثم تنتقل إلى هذا البدن ولا تشعر بحالها قبل ذلك بوجه ما.
وإذا كانت بعد المفارقة تشعر بحالها وهي في البدن على التفصيل وتعلم ما كانت عليه هاهنا مع أنها اكتسبت بالبدن أمورا عاقتها عن كثير من كمالها، فلأن تشعر بحالها الأول وهي غير معوقة هناك بطريق الأولى، إلا أن يقال: تعلقها بالبدن واشتغالها بتدبيره منعها من شعورها بحالها الأول.
فيقال: هب أنه منعها من شعورها به على التفصيل والكمال فهل يمنعها عن أدنى شعور بوجه ما مما كانت عليه قبل تعلقها بالبدن، ومعلوم أن تعلقها بالبدن لم يمنعها عن الشعور بأول أحوالها وهي في البدن، فكيف يمنعها من الشعور بما كان قبل ذلك.
وأيضا فإنها لو كانت موجودة قبل البدن لكانت عالمية حية ناطقة عاقلة، فلما تعلقت بالبدن سلبت ذلك كله، ثم حدث لها الشعور والعلم والعقل شيئا فشيئا، وهذا لو كان لكان أعجب الأمور أن تكون الروح كاملة عاقلة ثم تعود ناقصة ضعيفة جاهلة، ثم تعود بعد ذلك إلى عقلها وقوتها، فأين في العقل والنقل والفطرة ما يدل على هذا؟ وقد قال تعالى: ﴿واللَّهُ أخْرَجَكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكم لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ فهذه الحال التي أخرجنا عليها هي حالنا الأصلية، والعلم والعقل والمعرفة والقوة طارئ علينا، حادث فينا بعد أن لم يكن، ولم نكن نعلم قبل ذلك شيئا البتة، إذ لم يكن لنا وجود نعلم ونعقل به.
وأيضا فلو كانت مخلوقة قبل الأجساد وهي على ما هي الآن من طيب وخبث وكفر وإيمان وخير وشر لكان ذلك ثابتا لها قبل الأعمال، وهي إنما اكتسبت هذه الصفات والهيئات من أعمالها التي سعت في طلبها واستعانت عليها بالبدن فلم تكن لتتصف بتلك الهيئات والصفات قبل قيامها بالأبدان التي بها عملت تلك الأعمال.
وإن كان قدر لها قبل إيجادها ذلك ثم خرجت إلى هذه الدار على ما قدر لها فنحن لا ننكر الكتاب والقدر السابق لها من اللّه، ولو دل دليل على أنها خلقت جملة ثم أودعت في مكان حية عالمة ناطقة ثم كل وقت تبرز إلى أبدانها شيئا فشيئا لكنا أول قائل به.
فاللّه سبحانه على كل شيء قدير ولكن لا نخبر عنه خلقا وأمرا إلا بما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، ومعلوم أن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يخبر عنه بذلك، وإنما أخبر بما في الحديث الصحيح: «إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح» فالملك وحده يرسل إليه، فينفخ فيه، فإذا نفخ فيه كان ذلك سبب حدوث الروح فيه، ولم يقل:
يرسل الملك إليه بالروح فيدخلها في بدنه، وإنما أرسل إليه الملك فأحدث فيه الروح بنفخته فيه، لا أن اللّه سبحانه أرسل إليه الروح التي كانت موجودة قبل ذلك بالزمان الطويل مع الملك، ففرق بين أن يرسل إليه الملك لينفخ فيه الروح، وبين
أن يرسل إليه روح مخلوقة قائمة بنفسها مع الملك، وتأمل ما دل عليه النص من هذين المعنيين وباللّه التوفيق.
* [فَصْلٌ ضَلالُ القَدَرِيَّةِ في مَعْنى الفِطْرَةِ والرَّدُّ عَلَيْهِمْ]
قالَ شَيْخُنا: واعْلَمْ أنَّ هَذا الحَدِيثَ لَمّا صارَتِ القَدَرِيَّةُ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلى قَوْلِهِمُ الفاسِدِ، صارَ النّاسُ يَتَأوَّلُونَهُ تَأْوِيلاتٍ يُخْرِجُونَهُ بِها عَنْ مُقْتَضاهُ، فالقَدَرِيَّةُ مِنَ المُعْتَزِلَةِ، وغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الإسْلامِ، واللَّهُ لا يُضِلُّ أحَدًا، ولَكِنْ أبَواهُ يُضِلّانِهِ، والحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ وغَيْرِهِمْ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ لَمْ يُولَدْ أحَدٌ مِنهم عَلى الإسْلامِ أصْلًا، ولا جَعَلَ اللَّهُ أحَدًا مُسْلِمًا، ولا كافِرًا، ولَكِنَّ هَذا أحْدَثَ لِنَفْسِهِ الكُفْرَ، وهَذا أحْدَثَ لِنَفْسِهِ الإسْلامَ، واللَّهُ لَمْ يَفْعَلْ واحِدًا مِنهُما عِنْدَهم بِلا نِزاعٍ عِنْدَ القَدَرِيَّةِ، ولَكِنْ هو دَعاهُما إلى الإسْلامِ، وأزاحَ عِلَلَهُما، وأعْطاهُما قُدْرَةً مُماثِلَةً فِيهِما تَصْلُحُ لِلْإيمانِ، والكُفْرِ، ولَمْ يَخْتَصَّ المُؤْمِنُ بِسَبَبٍ يَقْتَضِي حُصُولَ الإيمانِ، فَإنَّ ذَلِكَ عِنْدَهم غَيْرُ مَقْدُورٍ، ولَوْ كانَ مَقْدُورًا لَكانَ ظُلْمًا، وهَذا قَوْلُ عامَّةِ المُعْتَزِلَةِ، وإنْ كانَ بَعْضُ مُتَأخَّرِيهِمْ كَأبِي الحُسَيْنِ يَقُولُ: إنَّهُ خَصَّ المُؤْمِنَ بِداعِي الإيمانِ، ويَقُولُ: عِنْدَ الدّاعِي والقُدْرَةِ يَجِبُ وُجُودُ الإيمانِ، فَهَذا في الحَقِيقَةِ مُوافِقٌ لِأهْلِ السُّنَّةِ، فَهَذا أحَدُ الوَجْهَيْنِ.
الثّانِي: أنَّهم يَقُولُونَ إنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لا تَحْصُلُ إلّا بِالنَّظَرِ المَشْرُوطِ بِالعَقْلِ، فَيَسْتَحِيلُ أنْ تَكُونَ المَعْرِفَةُ عِنْدَهم ضَرُورِيَّةً، أوْ تَكُونَ مِن فِعْلِ اللَّهِ تَعالى، وإنِ احْتَجَّتِ القَدَرِيَّةُ بِقَوْلِهِ: " «فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، ويُنَصِّرانِهِ، ويُمَجِّسانِهِ» " مِن جِهَةِ كَوْنِهِ أضافَ التَّغْيِيرَ إلى الأبَوَيْنِ، يُقالُ لَهُمْ: أنْتُمْ تَقُولُونَ إنَّهُ لا يَقْدِرُ اللَّهُ ولا أحَدٌ مِن مَخْلُوقاتِهِ عَلى أنْ يَجْعَلَهُما يَهُودِيَّيْنِ ولا نَصْرانِيَّيْنِ، ولا مَجُوسِيَّيْنِ، بَلْ هُما فَعَلا بِأنْفُسِهِما ذَلِكَ بِلا قُدْرَةٍ مِن غَيْرِهِما، ولا فِعْلٍ مِن غَيْرِهِما، فَحِينَئِذٍ لا حُجَّةَ لَكم في قَوْلِهِ: " «فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، ويُنَصِّرانِهِ، ويُمَجِّسانِهِ» ".
وَأهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّ غَيْرَ اللَّهِ لا يَقْدِرُ عَلى جَعْلِ الهُدى، والضَّلالِ في قَلْبِ أحَدٍ، فَقَدِ اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّ المُرادَ بِذَلِكَ دَعْوَةُ الأبَوَيْنِ إلى ذَلِكَ، وتَرْغِيبُهُما فِيهِ، وتَرْبِيَةُ الوَلَدِ عَلَيْهِ، كَما يَفْعَلُ المُعَلِّمُ بِالصَّبِيِّ، وذَكَرَ الأبَوَيْنِ بِناءً عَلى الغالِبِ المُعْتادِ، وإلّا فَقَدَ يَقَعُ ذَلِكَ مِن أحَدِهِما، ومِن غَيْرِهِما حَقِيقَةً وحُكْمًا.
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: واحْتَجَّ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهم وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾، فَأجابُوا بِكَلام شاهِدِينَ مُقِرِّينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِأنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ، ثُمَّ وُلِدُوا عَلى ذَلِكَ.
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: فَقَوْلُهُ: " ثُمَّ وُلِدُوا عَلى ذَلِكَ " زِيادَةٌ مِنهُ لَيْسَتْ في الكِتابِ، ولا جاءَتْ في شَيْءٍ مِنَ الأخْبارِ.
وَسَنَذْكُرُ الأخْبارَ المَرْوِيَّةَ في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ لِنُبَيِّنَ لِلنّاظِرِ فِيها أنَّهُ لا حُجَّةَ لَهُ فِيها، وأنَّهُ لا دَلِيلَ في شَيْءٍ مِنها أنَّ الأطْفالَ يُولَدُونَ، وهم عارِفُونَ بِاللَّهِ مِن وقْتِ سُقُوطِهِمْ مِن بُطُونِ أُمَّهاتِهِمْ.
قُلْتُ: قَوْلُهُ: " ثُمَّ وُلِدُوا عَلى ذَلِكَ " إنْ أرادَ بِهِ أنَّهم وُلِدُوا حالَ سُقُوطِهِمْ وخُرُوجِهِمْ مِن بُطُونِ أُمَّهاتِهِمْ عالِمِينَ بِاللَّهِ، وتَوْحِيدِهِ، وأسْمائِهِ، وصِفاتِهِ فَقَدْ أصابَ في الرَّدِّ عَلَيْهِ، وإنْ أرادَ أنَّهم وُلِدُوا عَلى حُكْمِ ذَلِكَ الأخْذِ، وأنَّهم لَوْ تُرِكُوا لَما عَدَلُوا عَنْهُ إذا عَقَلُوا، فَهو الصَّوابُ الَّذِي لا يُرَدُّ.
قالَ مُحَمَّدٌ: فَمِن أجْلِ ما رُوِيَ في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حَدَّثَنا يَحْيى قالَ: قَرَأْتُ عَلى مالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الخَطّابِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسارٍ الجُهَنِيِّ «أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، فَقالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْها؟ فَقالَ: " إنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فاسْتَخْرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّةً، فَقالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ، وبِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فاسْتَخْرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّةً فَقالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلنّارِ، وبِعَمَلِ أهْلِ النّارِ يَعْمَلُونَ، فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ العَمَلُ؟
فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " إنَّ اللَّهَ إذا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حَتّى يَمُوتَ عَلى عَمَلٍ مِن عَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ، وإذا خَلَقَ العَبْدَ لِلنّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ النّارِ حَتّى يَمُوتَ عَلى عَمَلٍ مِن أعْمالِ أهْلِ النّارِ، فَيَدْخُلُ بِهِ النّارَ».
حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، ثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنانٍ الرُّهاوِيُّ، عَنْ أبِيهِ، أخْبَرَنا زَيْدُ بْنُ أبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسارٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ الأزْدِيِّ، قالَ مُسْلِمٌ: سَألْتُ نُعَيْمًا، عَنْ هَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ نُعَيْمٌ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجاءَ رَجُلٌ فَسَألَهُ عَنْها؟ فَقالَ. . . الحَدِيثَ، وهَذا يُبَيِّنُ عِلَّةَ الحَدِيثِ الأوَّلِ، وأنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسارٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِن عُمَرَ.
قالَ: وحَدَّثَنا إسْحاقُ، أخْبَرَنا حَكّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ
عُمارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أبِي مُحَمَّدٍ رَجُلٍ مِن أهْلِ المَدِينَةِ قالَ: «سَألْتُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾
فَقالَ: سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْها كَما سَألْتَنِي، فَقالَ: " خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ بِيَدِهِ، ونَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ، ثُمَّ أجَّلَهُ فَمَسَحَ ظَهْرَهُ، فَأخْرَجَ ذَرًّا، فَقالَ: ذَرٌّ ذَرّاتُهم لِلْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ بِما شِئْتُ مِن عَمَلٍ، ثُمَّ أخْتِمُ لَهم بِأحْسَنِ أعْمالِهِمْ فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأخْرَجَ ذَرًّا، فَقالَ: ذَرٌّ ذَرّاتُهم لِلنّارِ يَعْمَلُونَ بِما شِئْتُ مِن عَمَلٍ، ثُمَّ أخْتِمُ لَهم بِأسْوَأِ أعْمالِهِمْ فَأُدْخِلُهُمُ النّارَ» ".
قُلْتُ: هَذا الحَدِيثُ أدْخَلَهُ مالِكٌ في " مُوَطَّئِهِ " عَلى ما فِيهِ مِنَ العِلَّةِ، ونَحْنُ نَذْكُرُ عِلَّتَهُ.
قالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ، مُسْلِمُ بْنُ يَسارٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِن عُمَرَ، وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهم في هَذا الإسْنادِ بَيْنَ مُسْلِمِ بْنِ يَسارٍ وبَيْنَ عُمَرَ رَجُلًا مَجْهُولًا.
وَقالَ أبُو القاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الكِنانِيُّ: لَمْ يَسْمَعْ مُسْلِمُ بْنُ يَسارٍ هَذا مِن عُمَرَ، رَواهُ عَنْ نُعَيْمٍ، عَنْ عُمَرَ.
وَقالَ ابْنُ أبِي خَيْثَمَةَ: قَرَأْتُ عَلى يَحْيى بْنِ مَعِينٍ حَدِيثَ مالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أبِي أُنَيْسَةَ، فَكَتَبَ بِيَدِهِ عَلى مُسْلِمِ بْنِ يَسارٍ: " لا يُعْرَفُ ".
وَقالَ أبُو عُمَرَ: " هَذا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ بِهَذا الإسْنادِ؛ لِأنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسارٍ هَذا لَمْ يَلْقَ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبَيْنَهُما في هَذا الحَدِيثِ نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ، وهَذا أيْضًا - مَعَ هَذا الإسْنادِ - لا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، ومُسْلِمُ بْنُ يَسارٍ هَذا مَجْهُولٌ، قِيلَ: إنَّهُ مَدَنِيٌّ، ولَيْسَ بِمُسْلِمِ بْنِ يَسارٍ البَصْرِيِّ ".
قالَ: " وجُمْلَةُ القَوْلِ في هَذا الحَدِيثِ أنَّهُ حَدِيثٌ لَيْسَ إسْنادُهُ بِالقائِمِ؛ لِأنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسارٍ ونُعَيْمَ بْنَ رَبِيعَةَ جَمِيعًا غَيْرُ مَعْرُوفَيْنِ بِحَمْلِ العِلْمِ.
وَلَكِنْ مَعْنى هَذا الحَدِيثِ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن وُجُوهٍ ثابِتَةٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ ذِكْرُها مِن حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وغَيْرِهِ. " انْتَهى.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَ تِلْكَ الأحادِيثِ.
قالَ إسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ: أخْبَرَنا بَقِيَّةُ بْنُ الوَلِيدِ قالَ: أخْبَرَنِي الزُّبَيْدِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ الوَلِيدِ، عَنْ راشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَتادَةَ النَّصْرِيِّ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ هِشامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزامٍ: «أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أتُبْتَدَأُ الأعْمالُ، أمْ قَدْ قُضِيَ القَضاءُ؟ فَقالَ: " إنَّ اللَّهَ لَمّا أخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِن ظَهْرِهِ أشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أفاضَ بِهِمْ في كَفَّيْهِ فَقالَ: هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ، وهَؤُلاءِ لِلنّارِ، فَأهْلُ الجَنَّةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ، وأهْلُ النّارِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أهْلِ النّارِ».
أخْبَرَنا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنا حَمّادٌ، ثَنا الجُرَيْرِيُّ، عَنْ أبِي نَضْرَةَ «أنَّ رَجُلًا مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ يُقالُ لَهُ: أبُو عَبْدِ اللَّهِ دَخَلَ عَلَيْهِ أصْحابُهُ يَعُودُونَهُ، وهو يَبْكِي، فَقالُوا: ما يُبْكِيكَ؟ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: " إنَّ اللَّهَ قَبَضَ قَبْضَةً بِيَمِينِهِ، وأُخْرى بِيَدِهِ الأُخْرى، فَقالَ: هَذِهِ لِهَذِهِ، وهَذِهِ لِهَذِهِ، ولا أُبالِي " فَلا أدْرِي في أيِّ القَبْضَتَيْنِ أنا».
أخْبَرَنا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنا إسْماعِيلُ بْنُ رافِعٍ، عَنِ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: " «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِن تُرابٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ طِينًا، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتّى إذا كانَ حَمَأً مَسْنُونًا، ثُمَّ خَلَقَهُ، وصَوَّرَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتّى إذا كانَ صَلْصالًا كالفَخّارِ كانَ إبْلِيسُ يَمُرُّ بِهِ فَيَقُولُ: خُلِقْتَ لِأمْرٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ مِن رُوحِهِ. قالَ: يا رَبِّ ما ذُرِّيَّتِي؟ قالَ: اخْتَرْ يا آدَمُ. قالَ: أخْتارُ يَمِينَ رَبِّي - وكِلْتا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ - ثُمَّ بَسَطَ اللَّهُ كَفَّهُ فَإذا كُلُّ مَن هو كائِنٌ مِن ذُرِّيَّتِهِ في كَفِّ الرَّحْمَنِ» ".
أخْبَرَنا النَّضْرُ، أخْبَرَنا أبُو مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، ونافِعٍ مَوْلى الزُّبَيْرِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: " «لَمّا أرادَ اللَّهُ أنْ يَخْلُقَ آدَمَ - فَذَكَرَ خَلْقَ آدَمَ - فَقالَ لَهُ: يا آدَمُ، أيُّ يَدَيَّ أحَبُّ إلَيْكَ أنْ أُرِيَكَ ذُرِّيَّتَكَ فِيها؟ فَقالَ: يَمِينُ رَبِّي - وكِلْتا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ - فَبَسَطَ يَمِينَهُ، فَإذا فِيها ذُرِّيَّتُهُ كُلُّهُمْ: ما هو خالِقٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، الصَّحِيحُ عَلى هَيْئَتِهِ، والمُبْتَلى عَلى هَيْئَتِهِ، والأنْبِياءُ عَلى هَيْئاتِهِمْ، فَقالَ: ألا أغْنَيْتَهم كُلَّهُمْ؟ فَقالَ: إنِّي أحْبَبْتُ أنْ أُشْكَرَ». . . . " وذَكَرَ الحَدِيثَ.
وَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: ثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، ثَنا سَعِيدُ بْنُ أبِي مَرْيَمَ، أخْبَرَنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَجْلانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ قالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، ثُمَّ قالَ: بِيَدَيْهِ، فَقَبَضَهُما، فَقالَ: اخْتَرْ يا آدَمُ، فَقالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وكِلْتا يَدَيْكَ يَمِينٌ، فَبَسَطَها، فَإذا فِيها ذُرِّيَّتُهُ، فَقالَ مَن هَؤُلاءِ يا رَبِّ؟ قالَ: مَن قَضَيْتُ أنْ أخْلُقَ مِن ذُرِّيَّتِكَ مِن أهْلِ الجَنَّةِ إلى أنْ تَقُومَ السّاعَةُ.
حَدَّثَنا إسْحاقُ، ثَنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ الخُزاعِيُّ، أخْبَرَنا هِشامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: " «لَمّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِن ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هو خالِقُها مِن ذُرِّيَّتِهِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ». . . " وذَكَرَ الحَدِيثَ.
ثَنا إسْحاقُ، وعَمْرُو بْنُ زُرارَةَ قالَ: أنا إسْماعِيلُ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ الآيَةَ، قالَ: مَسَحَ رَبُّكَ ظَهْرَ آدَمَ فَخَرَجَتْ مِنهُ كُلُّ نَسَمَةٍ هو خالِقُها إلى يَوْمِ القِيامَةِ، بِ " نُعْمانَ " هَذا الَّذِي وراءَ عَرَفَةَ فَأخَذَ مِيثاقَهم ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى شَهِدْنا.
ثَنا إسْحاقُ، ثَنا وكِيعٌ، ثَنا رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ الآيَةَ، قالَ: مَسَحَ اللَّهُ ظَهْرَ آدَمَ وهو بِبَطْنِ نُعْمانَ - وادٍ - إلى جَنْبِ عَرَفَةَ فَأخْرَجَ مِن ظَهْرِ آدَمَ ذُرِّيَّتَهُ فَأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى شَهِدْنا.
ثُمَّ ساقَهُ إسْحاقُ مِن طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - ثُمَّ قالَ:
أخْبَرَنا المَخْزُومِيُّ - وهو المُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ - ثَنا أبُو هِلالٍ، عَنْ أبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ: مَسَحَ اللَّهُ ظَهْرَ آدَمَ، فَأخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ في آذِيٍّ مِنَ الماءِ.
أخْبَرَنا جَرِيرٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ البَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ: مَسَحَ اللَّهُ ظَهْرَ آدَمَ، فَخَرَجَتْ مِنهُ كُلُّ ذُرِّيَّةٍ بَدَدًا إلى يَوْمِ القِيامَةِ فَعُرِضُوا عَلَيْهِ.
حَدَّثَنا المُلائِيُّ، ثَنا المَسْعُودِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ الآيَةَ، قالَ: إنَّ اللَّهَ أخَذَ عَلى آدَمَ مِيثاقَهُ أنَّهُ رَبُّهُ، وكَتَبَ أجَلَهُ ورِزْقَهُ ومُصِيباتِهِ، ثُمَّ أخْرَجَ مِن ظَهْرِهِ ولَدَهُ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، فَأخَذَ عَلَيْهِمُ المِيثاقَ أنَّهُ رَبُّهُمْ، فَكَتَبَ أجَلَهم ورِزْقَهم ومُصِيباتِهِمْ.
حَدَّثَنا وكِيعٌ، ثَنا الأعْمَشُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أبِي ثابِتٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ: مَسَحَ اللَّهُ ظَهْرَ آدَمَ، فَأخْرَجَ كُلَّ طَيِّبٍ في يَمِينِهِ، وفي يَدِهِ الأُخْرى كُلُّ خَبِيثٍ.
ثَنا يَحْيى، ثَنا المَسْعُودِيُّ، أخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ بَذِيمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - في هَذِهِ الآيَةِ قالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، فَأخَذَ مِيثاقَهُ أنَّهُ رَبُّهُ، وكَتَبَ أجَلَهُ ورِزْقَهُ ومُصِيبَتَهُ، ثُمَّ أخْرَجَ ولَدَهُ مِن ظَهْرِهِ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، فَأخَذَ مَواثِيقَهم أنَّهُ رَبُّهُمْ، فَكَتَبَ آجالَهُمْ، وأرْزاقَهُمْ، ومُصِيباتِهِمْ.
وَقالَ عَبْدُ الرَّزّاقِ: حَدَّثَنا مَعْمَرٌ، عَنْ أبِي صالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - في هَذِهِ الآيَةِ قالَ: مَسَحَ اللَّهُ عَلى صُلْبِ آدَمَ، فَأخْرَجَ مِن صُلْبِهِ ما يَكُونُ مِن ذُرِّيَّتِهِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وأخَذَ مِيثاقَهم أنَّهُ رَبُّهم فَأعْطَوْهُ ذَلِكَ، فَلا يَسْألُ أحَدًا - كافِرًا أوْ غَيْرَهُ - مَن رَبُّكَ؟ إلّا قالَ: اللَّهُ.
قالَ مَعْمَرٌ: وكانَ الحَسَنُ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ.
قالَ إسْحاقُ: وأخْبَرَنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنصُورٍ، عَنْ مُجاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ الآيَةَ، قالَ: أخَذَهم كَما يُؤْخَذُ بِالمُشْطِ مِنَ الرَّأْسِ.
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وحَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرانِيُّ، ثَنا حَجّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ مُوسى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى ضَرَبَ مَنكِبَ آدَمَ الأيْمَنَ، فَخَرَجَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ لِلْجَنَّةِ بَيْضاءَ نَقِيَّةً، فَقالَ: هَؤُلاءِ أهْلُ الجَنَّةِ، ثُمَّ ضَرَبَ مَنكِبَهُ الأيْسَرَ، فَخَرَجَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ لِلنّارِ سَوْداءَ، فَقالَ: هَؤُلاءِ أهْلُ النّارِ، ثُمَّ أخَذَ عَهْدَهم عَلى الإيمانِ بِهِ، والمَعْرِفَةِ لَهُ، وبِأمْرِهِ، والتَّصْدِيقِ لَهُ وبِأمْرِهِ مِن بَنِي آدَمَ كُلِّهِمْ، وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ، فَآمَنُوا، وصَدَّقُوا، وعَرَفُوا، وأقَرُّوا.
قالَ إسْحاقُ: وحَدَّثَنا رَوْحُ بْنُ عُبادَةَ، ثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ أبِيهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ مُوسى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - بِهَذا الحَدِيثِ، وزادَ: قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وبَلَغَنِي أنَّهُ أخْرَجَهم عَلى كَفِّهِ أمْثالَ الخَرْدَلِ.
قالَ إسْحاقُ: وحَدَّثَنا حَكّامُ بْنُ سَلْمٍ الرّازِيُّ، حَدَّثَنا أبُو جَعْفَرٍ الرّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ، عَنْ أبِي العالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ الآيَةَ، قالَ: جَمَعَهم يَوْمَئِذٍ جَمْعًا، ما هو كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، فَجَعَلَهم أرْواحًا، ثُمَّ صَوَّرَهُمْ، ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ، وتَكَلَّمُوا، وأخَذَ عَلَيْهِمُ العَهْدَ والمِيثاقَ، وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ. قالَ: فَإنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ السَّماواتِ والأرَضِينَ السَّبْعَ، وأُشْهِدُ عَلَيْكم أباكم آدَمَ، أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ لَمْ نَعْلَمْ هَذا. اعْلَمُوا أنَّهُ لا إلَهَ غَيْرِي، ولا رَبَّ غَيْرِي، ولا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا، فَإنِّي سَأُرْسِلُ إلَيْكم رُسُلًا يُذَكِّرُونَكم عَهْدِي، ومِيثاقِي، وأُنْزِلُ عَلَيْكم كُتُبِي. قالُوا: نَشْهَدُ أنَّكَ رَبُّنا وإلَهُنا، ولا رَبَّ غَيْرُكَ، ولا إلَهَ لَنا غَيْرُكَ. فَأقَرُّوا يَوْمَئِذٍ بِالطّاعَةِ، ورُفِعَ لَهم أبُوهم آدَمُ، فَنَظَرَ، فَرَأى فِيهِمُ الغَنِيَّ والفَقِيرَ، وحَسَنَ الصُّورَةِ ودُونَ ذَلِكَ، فَقالَ: يا رَبِّ، لَوْ سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبادِكَ! فَقالَ: إنِّي أحْبَبْتُ أنْ أُشْكَرَ، ورَأى فِيهِمُ الأنْبِياءَ مِثْلَ السُّرُجِ عَلَيْهِمُ النُّورُ، وخُصُّوا بِمِيثاقٍ آخَرَ في الرِّسالَةِ والنُّبُوَّةِ، فَهو الَّذِي يَقُولُ: ﴿وَإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ﴾ [الأحزاب: ٧]. . .
إلى قَوْلِهِ:. . . ﴿غَلِيظًا﴾، وهو الَّذِي يَقُولُ: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠]، فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿هَذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولى﴾ [النجم: ٥٦]، وفي ذَلِكَ قالَ: ﴿وَما وجَدْنا لِأكْثَرِهِمْ مِن عَهْدٍ﴾ [الأعراف: ١٠٢]، وفي ذَلِكَ قالَ: ﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إلى قَوْمِهِمْ فَجاءُوهم بِالبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ﴾ [يونس: ٧٤]، كانَ في عِلْمِهِ يَوْمَ أقَرُّوا بِما أقَرُّوا بِهِ، ومَن يُكَذِّبُ بِهِ ومَن يُصَدِّقُ.
قالَ: وكانَ رُوحُ عِيسى مِن تِلْكَ الأرْواحِ الَّتِي أخَذَ عَلَيْها العَهْدَ والمِيثاقَ في زَمَنِ آدَمَ، فَأرْسَلَ ذَلِكَ إلى مَرْيَمَ حَتّى ﴿انْتَبَذَتْ مِن أهْلِها﴾ [مريم: ١٦]. . .، إلى قَوْلِهِ:. . . (حَمَلَتْهُ). . .، حَمَلَتِ الَّذِي خاطَبَها، وهو رُوحُ عِيسى.
وَفِي تَفْسِيرِ أسْباطِ بْنِ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أبِي مالِكٍ، وعَنْ أبِي صالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، «وَعَنْ مُرَّةَ الهَمْدانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وعَنْ أُناسٍ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ في قَوْلِهِ: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ﴾. . . الآيَةَ، قالَ: لَمّا أخْرَجَ اللَّهُ آدَمَ مِنَ الجَنَّةِ قَبْلَ أنْ يَهْبِطَ مِنَ السَّماءِ مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِ آدَمَ اليُمْنى، فَأخْرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّةً بَيْضاءَ مِثْلَ اللُّؤْلُؤِ، وكَهَيْئَةِ الذَّرِّ، فَقالَ لَهُمْ: ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، ومَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِهِ اليُسْرى، فَأخْرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّةً سَوْداءَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، فَقالَ: ادْخُلُوا النّارَ، ولا أُبالِي، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿وَأصْحابُ اليَمِينِ﴾ [الواقعة: ٢٧]،: ﴿وَأصْحابُ الشِّمالِ﴾ [الواقعة: ٤١]، ثُمَّ أخَذَ مِنهُمُ المِيثاقَ فَقالَ: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾، فَأعْطاهُ طائِفَةٌ طائِعِينَ، وطائِفَةٌ كارِهِينَ، فَقالَتِ المَلائِكَةُ: ﴿شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ - أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٢-١٧٣] فَلِذَلِكَ لَيْسَ أحَدٌ مِن ولَدِ آدَمَ إلّا وهو يَعْرِفُ أنَّ رَبَّهُ اللَّهُ، ولا مُشْرِكٌ إلّا وهو يَقُولُ: ﴿إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: ٢٢]، فَلِذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ﴾ الآيَةَ، وذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿وَلَهُ أسْلَمَ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا﴾ [آل عمران: ٨٣]، وذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: ١٤٩] قالَ: يَعْنِي يَوْمَ أخَذَ عَلَيْهِمُ المِيثاقَ».
قالَ إسْحاقُ: وأخْبَرَنا رُوحُ بْنُ عُبادَةَ، ثَنا مُوسى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ قالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ القُرَظِيَّ يَقُولُ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾، فَأقَرُّوا لَهُ بِالإيمانِ، والمَعْرِفَةِ: الأرْواحُ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ أجْسادَها.
قالَ إسْحاقُ: وحَدَّثَنا الفَضْلُ بْنُ مُوسى، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ عَطاءٍ قالَ:
أُخْرِجُوا مِن صُلْبِ آدَمَ حِينَ أخَذَ مِنهُمُ المِيثاقَ، ثُمَّ رُدُّوا في صُلْبِهِ.
قالَ إسْحاقُ: وأخْبَرَنا عَلِيُّ بْنُ الأجْلَحِ، عَنِ الضَّحّاكِ قالَ: إنَّ اللَّهَ أخْرَجَ مِن ظَهْرِ آدَمَ يَوْمَ خَلَقَهُ ما يَكُونُ إلى أنْ تَقُومَ السّاعَةُ، فَأخْرَجَهم مِثْلَ الذَّرِّ، فَقالَ: ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى، قالَتِ المَلائِكَةُ: شَهِدْنا أنْ يَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً بِيَمِينِهِ، فَقالَ: هَؤُلاءِ في الجَنَّةِ، وقَبَضَ أُخْرى، فَقالَ: هَؤُلاءِ في النّارِ.
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وحَدَّثَنا بُنْدارٌ، ثَنا أبُو أحْمَدَ، ثَنا سُفْيانُ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ، عَنْ أبِي العالِيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿وَلَهُ أسْلَمَ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا﴾ [آل عمران: ٨٣]
قالَ: أخْذُهُ المِيثاقَ.
قالَ مُحَمَّدٌ: فَقَدْ ذَكَرْنا ما حَضَرَنا مِنَ الأخْبارِ المَرْوِيَّةِ عَنِ السَّلَفِ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ الآيَةَ، ولَيْسَ في شَيْءٍ مِنها أنَّ الطِّفْلَ يَسْقُطُ مِن بَطْنِ أُمِّهِ وهو عارِفٌ بِاللَّهِ، ولا في شَيْءٍ مِنها دَلِيلٌ عَلى ذَلِكَ.
قُلْتُ: أبُو مُحَمَّدٍ لَمْ يَرُدَّ أنَّهم وُلِدُوا عارِفِينَ بِاللَّهِ مَعْرِفَةً حاصِلَةً مَعَهم بِالفِعْلِ، وإنَّما أرادَ أنَّهم وُلِدُوا عَلى حُكْمِ تِلْكَ الفِطْرَةِ والمِيثاقِ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ لَوْ خُلُّوا وفِطَرَهم لَما عَدَلُوا عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ.
قالَ مُحَمَّدٌ: فَيُقالُ لَهُ: هَلْ عِنْدَكَ مِن دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلى أنَّ الفِطْرَةَ الَّتِي أخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ: " «أنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَيْها» " هي المَعْرِفَةُ بِاللَّهِ؟ أوْ هَلْ يُحْكى عَنْ أحَدٍ مِنَ السَّلَفِ أنَّهُ قالَ ذَلِكَ؟ أوْ هَلْ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ بِقِياسٍ؟ فَإنْ أتى بِشَيْءٍ مِن هَذِهِ الدَّلائِلِ، وإلّا بانَ باطِلُ دَعْواهُ.
فَإنْ هو رَجَعَ إلى قَوْلِهِ: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ﴾ الآيَةَ، فَقالَ: اسْتِشْهادُ اللَّهِ ذُرِّيَّةَ آدَمَ عَلى أنَّهُ رَبُّهم دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ مُتَقَدِّمَةٌ عِنْدَهم كَما اسْتَشْهَدَهم عَلَيْهِ، فَهَذِهِ غايَةُ حُجَّتِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ.
قالَ: لِأنَّ كُلَّ مُسْتَشْهَدٍ عَلى شَيْءٍ لَمْ تَتَقَدَّمِ المَعْرِفَةُ عِنْدَهُ بِما اسْتُشْهِدَ عَلَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِشْهادِ، فَإنَّ المُسْتَشْهِدَ دَعاهُ إلى أنْ شَهِدَ بِقَوْلِ الزُّورِ، واللَّهُ لا يَأْمُرُ أحَدًا بِذَلِكَ.
فَيُقالُ لَهُ: إنَّ إجابَتَكَ عَنْ غَيْرِ ما تَسْألُ عَنْهُ، واحْتِجاجَكَ لَهُ هو الدَّلِيلُ عَلى عَجْزِكَ، وعَلى أنَّهُ لا حُجَّةَ لَكَ، إنّا لَمْ نَسْألْكَ عَنِ الوَقْتِ الَّذِي اسْتَشْهَدَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، وقالَ لَهُمْ: ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ فَأجابُوهُ بِأنْ قالُوا: بَلى - هَلْ كانُوا عارِفِينَ في ذَلِكَ الوَقْتِ أمْ لا - إنَّما سَألْناكَ عَنْ وقْتِ سُقُوطِهِمْ مِن بُطُونِ أُمَّهاتِهِمْ: هَلْ عِنْدَكَ حُجَّةٌ تُثْبِتُ أنَّهم في ذَلِكَ الوَقْتِ عارِفُونَ؟
فَإنْ قالَ: إنَّ ثُبُوتَ المَعْرِفَةِ لَهم في ذَلِكَ الوَقْتِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهم وُلِدُوا عَلى ذَلِكَ، فَهم في وقْتِ الوِلادَةِ عَلى ما كانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ.
قِيلَ لَهُ: فَقَدْ كانُوا في ذَلِكَ الوَقْتِ مُقِرِّينَ أيْضًا، وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أخْبَرَ أنَّهُ قالَ: ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى، واللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لا يُخاطِبُ إلّا مَن يَفْهَمُ عِنْدَ المُخاطَبَةِ، ولا يُجِيبُ إلّا مَن فَهِمَ السُّؤالَ، فَإجابَتُهم إيّاهُ بِقَوْلِهِمْ دَلِيلٌ عَلى أنَّهم قَدْ فَهِمُوا عَنِ اللَّهِ، وعَقَلُوا عَنْهُ اسْتِشْهادَهُ إيّاهُمْ: ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ، فَأجابُوهُ مِن بَعْدِ عَقْلِهِمْ لِلْمُخاطَبَةِ وفَهْمِهِمْ لَها بِأنْ قالُوا: بَلى، فَأقَرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ.
فَيُقالُ لَهُ: فَهَكَذا تَقُولُ: إنَّ الطِّفْلَ إذا سَقَطَ مِن بَطْنِ أُمِّهِ فَهو مِن ساعَتِهِ يَفْهَمُ المُخاطَبَةَ إنْ خُوطِبَ، ويُجِيبُ عَنْها، ويُقِرُّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، كَإقْرارِ الَّذِينَ أقَرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ في الوَقْتِ الَّذِي أخَذَ عَلَيْهِمُ المِيثاقَ، فَإنْ قالَ: " نَعَمْ " كابَرَ عَقْلُهُ وأكْذَبَهُ العِيانُ، وإنْ قالَ: " لا " أقُولُ: ذَلِكَ فَرْقٌ بَيْنَ الوَقْتَيْنِ، فَجُعِلَ حالُهم في وقْتِ الوِلادَةِ خِلافَ حالِهِمْ في الوَقْتِ الأوَّلِ عِنْدَ أخْذِ المِيثاقِ مِنهُمْ، فَيُقالُ لَهُ: فَكَذَلِكَ جائِزٌ أنْ يَكُونُوا في الوَقْتِ الأوَّلِ عارِفِينَ، وهم في وقْتِ الوِلادَةِ غَيْرُ عارِفِينَ كَما كانُوا في الوَقْتِ الأوَّلِ، فَقَدْ فَهِمُوا المُخاطَبَةَ، وعَقَلُوها، وأجابُوا مُقِرِّينَ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وهم في وقْتِ الوِلادَةِ عَلى خِلافِ ذَلِكَ.
قُلْتُ: كُلُّ مَن قالَ بِأنَّ العَهْدَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ هو أنَّهم أُخْرِجُوا مِن صُلْبِ آدَمَ وخُوطِبُوا، وأقَرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ رُدُّوا في صُلْبِهِ، فَإنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ حالِهِمْ ذَلِكَ الوَقْتَ وحالِهِمْ وقْتَ الوِلادَةِ قَطْعًا، ولا يَقُولُ ابْنُ قُتَيْبَةَ ولا غَيْرُهُ: إنَّهم وُلِدُوا عارِفِينَ فاهِمِينَ يَفْهَمُونَ السُّؤالَ، ويَرُدُّونَ الجَوابَ، فالأقْسامُ أرْبَعَةٌ: أحَدُها: اسْتِواءُ حالَتِهِمْ وقْتَ أخْذِ العَهْدِ، ووَقْتَ سُقُوطِهِمْ - في العِلْمِ والمَعْرِفَةِ.
الثّانِي: اسْتِواءُ الوَقْتَيْنِ في عَدَمِ ذَلِكَ.
الثّالِثُ: حُصُولُ المَعْرِفَةِ عِنْدَ السُّقُوطِ، وعَدَمُها عِنْدَ أخْذِ العَهْدِ، وهَذِهِ الأقْسامُ الثَّلاثَةُ باطِلَةٌ لا يَقُولُ بِواحِدٍ مِنها.
الرّابِعُ: مَعْرِفَتُهم وفَهْمُهم وقْتَ أخْذِ العَهْدِ دُونَ وقْتِ السُّقُوطِ، وهَذا يَقُولُهُ كُلُّ مَن يَقُولُ: إنَّهُ أخْرَجَهم مِن صُلْبِ أبِيهِمْ آدَمَ، وكَلَّمَهُمْ، وخاطَبَهُمْ، وأشْهَدَ عَلَيْهِمْ مَلائِكَتَهُ، وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ، ثُمَّ رَدَّهم في صُلْبِهِ.
وَهَذا قَوْلُ جَماهِيرٍ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ، واعْتَمَدُوا عَلى ما ذَكَرْنا مِن هَذِهِ الآثارِ مَرْفُوعِها ومَوْقُوفِها.
وَأحْسَنُ شَيْءٍ فِيها حَدِيثُ مُسْلِمِ بْنِ يَسارٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقَدْ ذَكَرْنا كَلامَ الأئِمَّةِ فِيهِ، عَلى أنَّ إسْحاقَ قَدْ رَواهُ عَنْ حَكّامِ بْنِ سَلْمٍ، عَنْ عُمارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أبِي مُحَمَّدٍ رَجُلٍ مِن أهْلِ المَدِينَةِ قالَ: «سَألْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ هَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ: سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْها، فَقالَ: " خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ بِيَدِهِ ونَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ، ثُمَّ أجْلَسَهُ فَمَسَحَ ظَهْرَهُ، فَأخْرَجَ ذَرًّا، فَقالَ: ذَرٌّ ذَرّاتُهم لِلْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ بِما شِئْتُ مِن عَمَلٍ، ثُمَّ أخْتِمُ لَهم بِأحْسَنِ أعْمالِهِمْ فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَأخْرَجَ ذَرًّا، فَقالَ: ذَرٌّ ذَرّاتُهم لِلنّارِ يَعْمَلُونَ بِما شِئْتُ مِن عَمَلٍ، ثُمَّ أخْتِمُ لَهم بِأسْوَأِ أعْمالِهِمْ، فَأُدْخِلُهُمُ النّارَ» "، فَهَذا لا ذِكْرَ فِيهِ لِمُخاطَبَتِهِمْ، وسُؤالِهِمْ واسْتِنْطاقِهِمْ، وهو مُوافِقٌ لِسائِرِ الأحادِيثِ، ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هو المَحْفُوظُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَأمّا سائِرُ الأحادِيثِ فالمَرْفُوعُ الصَّحِيحُ مِنها إنَّما فِيهِ إثْباتُ القَبْضَتَيْنِ، وتَمْيِيزُ أهْلِ السَّعادَةِ مِن أهْلِ الشَّقاوَةِ قَبْلَ إخْراجِهِمْ إلى دارِ التَّكْلِيفِ: مِثْلُ الحَدِيثِ الَّذِي رَواهُ أحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ، ثَنا حَمّادٌ، ثَنا الجُرَيْرِيُّ، «عَنْ أبِي نَضْرَةَ أنَّ رَجُلًا مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ يُقالُ لَهُ: أبُو عَبْدِ اللَّهِ دَخَلَ عَلَيْهِ أصْحابُهُ يَعُودُونَهُ، وهو يَبْكِي، فَقالُوا لَهُ: ما يُبْكِيكَ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: " إنَّ اللَّهَ قَبَضَ قَبْضَةً بِيَمِينِهِ، وأُخْرى بِيَدِهِ الأُخْرى، فَقالَ: هَذِهِ لِهَذِهِ، وهَذِهِ لِهَذِهِ، ولا أُبالِي " فَلا أدْرِي في أيِّ القَبْضَتَيْنِ أنا»!
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْفَعُهُ - الَّذِي تَقَدَّمَ هو وغَيْرُهُ مِنَ الأحادِيثِ الَّتِي فِيها: " «إنَّ اللَّهَ أخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِن ظَهْرِهِ، وأراهُ إيّاهُمْ، وجَعَلَ أهْلَ السَّعادَةِ في قَبْضَتِهِ اليُمْنى، وأهْلَ الشَّقاوَةِ في القَبْضَةِ الأُخْرى» ".
وَأمّا الآثارُ الَّتِي فِيها أنَّهُ اسْتَنْطَقَهُمْ، وأشْهَدَهُمْ، وخاطَبَهم فَهي بَيْنَ مَوْقُوفَةٍ، ومَرْفُوعَةٍ لا يَصِحُّ إسْنادُها كَحَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ يَسارٍ، وحَدِيثِ هِشامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزامٍ: فَإنَّ في إسْنادِهِ بَقِيَّةُ بْنُ الوَلِيدِ، وراشِدُ بْنُ سَعْدٍ، وفِيهِما مَقالٌ، وقَتادَةُ النَّصْرِيُّ، وهو مَجْهُولٌ.
وَبِالجُمْلَةِ، فالآثارُ في إخْراجِ الذُّرِّيَّةِ مِن ظَهْرِ آدَمَ، وحُصُولِهِمْ في القَبْضَتَيْنِ كَثِيرَةٌ لا سَبِيلَ إلى رَدِّها، وإنْكارِها، ويَكْفِي وُصُولُها إلى التّابِعِينَ، فَكَيْفَ بِالصَّحابَةِ؟ ومِثْلُها لا يُقالُ بِالرَّأْيِ والتَّخْمِينِ، ولَكِنْ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الصَّحِيحُ مِن هَذِهِ الآثارِ إثْباتُ القَدَرِ، وأنَّ اللَّهَ عَلِمَ ما سَيَكُونُ قَبْلَ أنْ يَكُونَ، وعَلِمَ الشَّقِيَّ والسَّعِيدَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وسَواءٌ كانَ ما اسْتَخْرَجَهُ فَرَآهُ آدَمُ هو أمْثالُهُمْ، أوْ أعْيانُهُمْ، فَأمّا نُطْقُهم فَلَيْسَ في شَيْءٍ مِنَ الأحادِيثِ الَّتِي تَقُومُ بِها الحُجَّةُ، ولا يَدُلُّ عَلَيْهِ القُرْآنُ: فَإنَّ القُرْآنَ يَقُولُ فِيهِ: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ فَذَكَرَ الأخْذَ مِن ظُهُورِ بَنِي آدَمَ لا مِن نَفْسِ ظَهْرِ آدَمَ، " وذُرِّيَّتَهم " يَتَناوَلُ كُلَّ مَن ولَدُوهُ إنْ كانَ كَثِيرًا، كَما قالَ في تَمامِ الآيَةِ: ﴿أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧٣]، وقالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحًا وآلَ إبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلى العالَمِينَ - ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِن بَعْضٍ﴾ [آل عمران: ٣٣-٣٤]، وقالَ: ﴿ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ﴾ [الإسراء: ٣]، وقالَ: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وسُلَيْمانَ وأيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسى وهارُونَ﴾ [الأنعام: ٨٤]، فاسْمُ " الذُّرِّيَّةِ " يَتَناوَلُ الكِبارَ، وقَوْلُهُ: ﴿وَأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾، فَشَهادَةُ المَرْءِ عَلى نَفْسِهِ في القُرْآنِ يُرادُ بِها إقْرارُهُ، فَمَن أقَرَّ بِحَقٍّ عَلَيْهِ فَقَدْ شَهِدَ بِهِ عَلى نَفْسِهِ.
قالَ تَعالى: ﴿كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكم أوِ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ﴾ [النساء: ١٣٥]، كَما احْتَجَّ الفُقَهاءُ بِذَلِكَ عَلى صِحَّةِ الإقْرارِ.
وَفِي حَدِيثِ ماعِزِ بْنِ مالِكٍ: " فَلَمّا «شَهِدَ عَلى نَفْسِهِ أرْبَعَ مَرّاتٍ» "
أيْ أقَرَّ أرْبَعَ مَرّاتٍ، وقالَ تَعالى: ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٧]، فَإنَّهم كانُوا مُقِرِّينَ بِما هو كُفْرٌ، فَكانَ ذَلِكَ شَهادَتَهم عَلى أنْفُسِهِمْ.
وَمِنهُ قَوْلُهُ: ﴿ألَمْ يَأْتِكم رُسُلٌ مِنكم يَقُصُّونَ عَلَيْكم آياتِي ويُنْذِرُونَكم لِقاءَ يَوْمِكم هَذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أنْفُسِنا وغَرَّتْهُمُ الحَياةُ الدُّنْيا وشَهِدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ أنَّهم كانُوا كافِرِينَ﴾ [الأنعام: ١٣٠]، فَشَهادَتُهم عَلى أنْفُسِهِمْ هي إقْرارُهم وهي أداءُ الشَّهادَةِ عَلى أنْفُسِهِمْ، ولَفْظُ " شَهِدَ فُلانٌ "، و" أشْهَدَ بِهِ " يُرادُ بِهِ تَحَمَّلَ الشَّهادَةَ، ويُرادُ بِهِ أداؤُها.
فالأوَّلُ كَقَوْلِهِ: ﴿وَأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ [الطلاق: ٢].
والثّانِي: كَقَوْلِهِ: ﴿كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ [النساء: ١٣٥].
وَقَوْلِهِ: ﴿وَأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ﴾، مِن هَذا الثّانِي لَيْسَ المُرادُ: أنَّهُ جَعَلَهم يَتَحَمَّلُونَ الشَّهادَةَ عَلى أنْفُسِهِمْ، ويُؤَدُّونَها في وقْتٍ آخَرَ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ في مِثْلِ ذَلِكَ إنَّما يُشْهِدُ عَلى الرَّجُلِ غَيْرَهُ، كَما في قِصَّةِ آدَمَ، لِما أشْهَدَ عَلَيْهِ المَلائِكَةَ، وكَما في شَهادَةِ المَلائِكَةِ، وشَهادَةِ الجَوارِحِ عَلى أصْحابِها، ولِهَذا قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: المَعْنى (أشْهَدَ بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ)، لَكِنْ هَذا اللَّفْظُ حَيْثُ جاءَ في القُرْآنِ إنَّما يُرادُ بِهِ شَهادَةُ الرَّجُلِ عَلى نَفْسِهِ، بِمَعْنى أداءِ الشَّهادَةِ عَلى نَفْسِهِ، وقَوْلُهم " ﴿بَلى شَهِدْنا﴾ ": هو إقْرارُهم بِأنَّهُ رَبُّهُمْ، ومَن أخْبَرَ بِأمْرٍ عَنْ نَفْسِهِ فَقَدْ شَهِدَ بِهِ عَلى نَفْسِهِ، فَإنَّ قَوْلَهُمْ: " ﴿بَلى شَهِدْنا﴾ " مَعْناهُ: أنْتَ رَبُّنا، وهَذا إقْرارٌ مِنهم بِرُبُوبِيَّتِهِ لَهُمْ، وجَعْلِهِمْ شُهَداءَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِما أقَرُّوا بِهِ، وقَوْلُهُ: " أشْهَدَهم " يَقْتَضِي أنَّهُ هو الَّذِي جَعَلَهم شاهِدِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِأنَّهُ رَبُّهُمْ، وهَذا الإشْهادُ مُقِرُّونَ بِأخْذِهِمْ مِن ظُهُورِ آبائِهِمْ، وهَذا الأخْذُ المَعْلُومُ المَشْهُودُ الَّذِي لا رَيْبَ فِيهِ هو أخْذُ المَنِيِّ مِن أصْلابِ الآباءِ، ونُزُولُهُ في أرْحامِ الأُمَّهاتِ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ هُنا الأُمَّهاتِ، كَقَوْلِهِ: ﴿أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧٣]، وهم كانُوا مُتَّبِعِينَ لِدِينِ آبائِهِمْ لا لِدِينِ الأُمَّهاتِ، كَما قالُوا: ﴿إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: ٢٢]، ولِهَذا قالَ: ﴿أوَلَوْ جِئْتُكم بِأهْدى مِمّا وجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ﴾ [الزخرف: ٢٤]، فَهو سُبْحانَهُ يَقُولُ: اذْكُرْ حِينَ أُخِذُوا مِن أصْلابِ الآباءِ فَخُلِقُوا حِينَ وُلِدُوا عَلى الفِطْرَةِ مُقِرِّينَ بِالخالِقِ، شاهِدِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِأنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ، فَهَذا الإقْرارُ حُجَّةٌ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ، فَهو يَذْكُرُ أخْذَهُ لَهُمْ، وإشْهادَهُ إيّاهم عَلى أنْفُسِهِمْ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ خَلَقَ فَسَوّى، وقَدَّرَ فَهَدى، فَأخْذُهم يَتَضَمَّنُ خَلْقَهُمْ، والإشْهادُ يَتَضَمَّنُ هُداهُ لَهم إلى هَذا الإقْرارِ، فَإنَّهُ قالَ: " أشْهَدَهم " أيْ جَعَلَهم شاهِدِينَ، فَهَذا الإشْهادُ مِن لَوازِمِ الإنْسانِ، وكُلُّ إنْسانٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مُقِرًّا بِرُبُوبِيَّتِهِ شاهِدًا عَلى نَفْسِهِ بِأنَّهُ مَخْلُوقٌ، واللَّهَ خالِقُهُ، وهَذا أمْرٌ ضَرُورِيٌّ لِبَنِي آدَمَ لا يَنْفِكُّ مِنهُ مَخْلُوقٌ، وهو مِمّا جُبِلُوا عَلَيْهِ، فَهو عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ لَهم لا يُمْكِنُ أحَدًا جَحْدُهُ، ثُمَّ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ: (أنْ تَقُولُوا)، أيْ كَراهِيَةَ أنْ تَقُولُوا، أوْ لِئَلّا تَقُولُوا: ﴿إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ﴾، أيْ عَنْ هَذا الإقْرارِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وعَلى نُفُوسِنا بِالعُبُودِيَّةِ، فَإنَّهم ما كانُوا غافِلِينَ عَنْ هَذا، بَلْ كانَ هَذا مِنَ العُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ اللّازِمَةِ لَهُمُ الَّتِي لَمْ يَخْلُ مِنها بَشَرٌ قَطُّ، بِخِلافِ كَثِيرٍ مِنَ العُلُومِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ ضَرُورِيَّةً، ولَكِنْ قَدْ يَغْفُلُ عَنْها كَثِيرٌ مِن بَنِي آدَمَ مِن عُلُومِ العَدَدِ والحِسابِ وغَيْرِ ذَلِكَ، فَإنَّها إذا تَصَوَّرَتْ كانَتْ عُلُومًا ضَرُورِيَّةً، لَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ غافِلٌ عَنْها.
وَأمّا الِاعْتِرافُ بِالخالِقِ فَإنَّهُ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ لازِمٌ لِلْإنْسانِ لا يَغْفُلُ عَنْهُ أحَدٌ بِحَيْثُ لا يَعْرِفُهُ، بَلْ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهُ، وإنْ قُدِّرَ أنَّهُ نَسِيَهُ. ولِهَذا يُسَمّى التَّعْرِيفُ بِذَلِكَ تَذْكِيرًا، فَإنَّهُ تَذْكِيرٌ بِعُلُومٍ فِطْرِيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ، وقَدْ يَنْساها العَبْدُ كَما قالَ تَعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأنْساهم أنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: ١٩]، وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «يَقُولُ اللَّهُ لِلْكافِرِ: فاليَوْمَ أنْساكَ كَما نَسِيتَنِي» ".
ثُمَّ قالَ: ﴿أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٣]، فَذَكَرَ سُبْحانَهُ لَهم حُجَّتَيْنِ يَدْفَعُهُما هَذا الإشْهادُ: إحْداهُما: أنْ يَقُولُوا: ﴿إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ﴾، فَبَيَّنَ أنَّ هَذا عِلْمٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ لا بُدَّ لِكُلِّ بَشَرٍ مِن مَعْرِفَتِهِ، وذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حُجَّةَ اللَّهِ في إبْطالِ التَّعْطِيلِ، وأنَّ القَوْلَ بِإثْباتِ الصّانِعِ عِلْمٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ، وهو حُجَّةٌ عَلى نَفْيِ التَّعْطِيلِ.
والثّانِي: أنْ يَقُولُوا: ﴿إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٣]، وهم آباؤُنا المُشْرِكُونَ: أيْ أفَتُعاقِبُنا بِذُنُوبِ غَيْرِنا؟ فَإنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أنَّهم لَمْ يَكُونُوا عارِفِينَ بِأنَّ اللَّهَ رَبُّهم ووَجَدُوا آباءَهم مُشْرِكِينَ، وهم ذَرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ، ومُقْتَضى الطَّبِيعَةِ العادِيَّةِ أنْ يَحْتَذِيَ الرَّجُلُ حَذْوَ أبِيهِ حَتّى في الصِّناعاتِ، والمَساكِنِ، والمَلابِسِ، والمَطاعِمِ إذْ كانَ هو الَّذِي رَبّاهُ، ولِهَذا كانَ أبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، ويُنَصِّرانِهِ، ويُمَجِّسانِهِ، فَإذا كانَ هَذا مُقْتَضى العادَةِ والطَّبِيعَةِ، ولَمْ يَكُنْ في فِطَرِهِمْ وعُقُولِهِمْ ما يُناقِضُ ذَلِكَ، قالُوا: نَحْنُ مَعْذُورُونَ، وآباؤُنا هُمُ الَّذِينَ أشْرَكُوا، ونَحْنُ كُنّا ذُرِّيَّةً لَهم بَعْدَهُمْ، ولَمْ يَكُنْ عِنْدَنا ما يُبَيِّنُ خَطَأهُمْ: فَإذا كانَ في فِطَرِهِمْ ما شَهِدُوا بِهِ مِن أنَّ اللَّهَ وحْدَهُ هو رَبُّهُمْ، كانَ مَعَهم ما يُبَيِّنُ بُطْلانَ هَذا الشِّرْكِ، وهو التَّوْحِيدُ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ عَلى أنْفُسِهِمْ.
فَإذا احْتَجُّوا بِالعادَةِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنِ اتِّباعِ الآباءِ كانَتِ الحُجَّةُ عَلَيْهِمُ الفِطْرَةَ الطَّبِيعِيَّةَ الفِعْلِيَّةَ السّابِقَةَ لِهَذِهِ العادَةِ الطّارِئَةِ، وكانَتِ الفِطْرَةُ المُوجِبَةُ لِلْإسْلامِ سابِقَةً لِلتَّرْبِيَةِ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِها، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ نَفْسَ العَقْلِ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُونَ التَّوْحِيدَ حُجَّةٌ في بُطْلانِ الشِّرْكِ لا يَحْتاجُ ذَلِكَ إلى رَسُولٍ، فَإنَّهُ جَعَلَ ما تَقَدَّمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ بِدُونِ هَذا. وهَذا لا يُناقِضُ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] فَإنَّ الرَّسُولَ يَدْعُو إلى التَّوْحِيدِ، ولَكِنَّ الفِطْرَةَ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ يُعْلَمُ بِهِ إثْباتُ الصّانِعِ، لَمْ يَكُنْ في مُجَرَّدِ الرِّسالَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَهَذِهِ الشَّهادَةُ عَلى أنْفُسِهِمُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ إقْرارَهم بِأنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ، ومَعْرِفَتُهم بِذَلِكَ أمْرٌ لازِمٌ لِكُلِّ بَنِي آدَمَ، بِهِ تَقُومُ حُجَّةُ اللَّهِ تَعالى في تَصْدِيقِ رُسُلِهِ، فَلا يُمْكِنُ أحَدًا أنْ يَقُولَ يَوْمَ القِيامَةِ إنِّي كُنْتُ عَنْ هَذا غافِلًا، ولا أنَّ الذَّنْبَ كانَ لِأبِي المُشْرِكِ دُونِي لِأنَّهُ عارِفٌ بِأنَّ اللَّهَ رَبُّهُ لا شَرِيكَ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا في التَّعْطِيلِ، والإشْراكِ بَلْ قامَ بِهِ ما يَسْتَحِقُّ بِهِ العَذابَ.
ثُمَّ إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ - لِكَمالِ رَحْمَتِهِ وإحْسانِهِ - لا يُعَذِّبُ أحَدًا إلّا بَعْدَ إرْسالِ الرَّسُولِ إلَيْهِ، وإنْ كانَ فاعِلًا لِما يَسْتَحِقُّ بِهِ الذَّمَّ والعِقابَ: فَلِلَّهِ عَلى عَبْدِهِ حُجَّتانِ قَدْ أعَدَّهُما عَلَيْهِ لا يُعَذِّبُهُ إلّا بَعْدَ قِيامِهِما:
إحْداهُما: ما فَطَرَهُ عَلَيْهِ، وخَلَقَهُ عَلَيْهِ مِنَ الإقْرارِ بِأنَّهُ رَبُّهُ، ومَلِيكُهُ وفاطِرُهُ، وحَقُّهُ عَلَيْهِ لازِمٌ.
والثّانِيَةُ: إرْسالُ رُسُلِهِ إلَيْهِ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ، وتَقْرِيرِهِ وتَكْمِيلِهِ، فَيَقُومُ عَلَيْهِ شاهِدُ الفِطْرَةِ، والشِّرْعَةِ، ويُقِرُّ عَلى نَفْسِهِ بِأنَّهُ كانَ كافِرًا كَما قالَ تَعالى: ﴿وَشَهِدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ أنَّهم كانُوا كافِرِينَ﴾ [الأنعام: ١٣٠]، فَلَمْ يُنَفِّذْ عَلَيْهِمُ الحُكْمَ إلّا بَعْدَ إقْرارٍ وشاهِدَيْنِ وهَذا غايَةُ العَدْلِ.
{"ayah":"وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِیۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ شَهِدۡنَاۤۚ أَن تَقُولُوا۟ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَـٰذَا غَـٰفِلِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق