الباحث القرآني

وقوله: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهم مِن بَيْنِ أيْديهِمْ﴾. قال ابن عباس، في رواية عطية عنه: "مِن قِبَل الدنيا" وفي رواية علي عنه "أشككهم في آخرتهم". وكذلك قال الحسن: "من قبل الآخرة، تكذيبا بالبعث والجنة والنار". وقال مجاهد: "من بين أيديهم من حيث يبصرون" ومن خلفهم. قال ابن عباس: "أرغبهم في دنياهم" وقال الحسن: "من قبل دنياهم أزينها لهم وأشَهيها لهم". وعن ابن عباس رواية أخرى: "من قبل الآخرة". وقال أبو صالح: "أشككهم في الآخرة وأباعدها عليهم" وقال مجاهد أيضًا: "من حيث لا يبصرون". ﴿وعن أيمانهم﴾ قال ابن عباس: "أشبه عليهم أمر دينهم" وقال أبو صالح: "الحق أشككهم فيه" وعن ابن عباس أيضًا: "من قبل حسناتهم". قال الحسن: "من قبل الحسنات أثبطهم عنها". وقال أبو صالح أيضًا: " ﴿من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم﴾: أُنفِّقُه عليهم وأُرَغِّبُهم فيه". وقال الحسن " ﴿وعن شمائلهم﴾ السيئات يأمرهم بها ويحثهم عليها ويرغبهم فيها ويزينها في أعينهم". وصح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "ولم يقل من فوقهم؛ لأنه علم أن الله من فوقهم". قال الشعبي: "فالله عز وجل أنزل الرحمة عليهم من فوقهم". وقال قتادة: "أتاك الشيطان يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك. لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله". قال الواحدي: "وقول من قال: الأيمان كناية عن الحسنات، والشمائل كناية عن السيئات، حسن؛ لأن العرب تقول: اجعلني في يمينك، ولا تجعلني في شمالك، تريد: اجعلني من المقدمين عندك، ولا تجعلني، من المؤخرين" وأنشد لابن الدمينة: ؎ألُبْنى أفِي يُمْنى يَديْكِ جَعَلْتِنِي ∗∗∗ فَأفْرَحُ أمْ صَيَّرْتِنِي في شِمالِكِ؟ وروى أبو عبيد عن الأصمعي: "هو عندنا باليمين: أي بمنزلة حسنة، وبضد ذلك هو عندنا بالشمال"، وأنشد: ؎رَأيْتُ بَنِي العَلاتِ لَمّا تَظافَرُوا ∗∗∗ يَحُوزُونَ سَهْمي بَيْنَهم في الشَّمائِلِ أى ينزلوني بالمنزلة السيئة. وحكى الأزهري عن بعضهم في هذه الآية ﴿لَآتِيَنَّهم مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ﴾ "أى لأغوينهم حتى يكذبوا بما تقدم من أمور الأمم السالفة ﴿ومن خلفهم﴾ بأمر البعث ﴿وَعَنْ أيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾ أي لأضلنهم فيما يعملون؛ لأن الكسب يقال فيه: ذلك بما كسبت يداك، وإن كانت اليدان لم تجنيا شيئا؛ لأنهما الأصل في التصرف، فجعلتا مثلا لجميع ما يعمل بغيرهما". وقال آخرون منهم أبو إسحاق والزمخشري، واللفظ لأبي إسحاق: ذكر هذه الوجوه للمبالغة في التوكيد، أي: لآتينهم من جميع الجهات، والله أعلم، أتصرف لهم في الإضلال من جميع جهاتهم. وقال الزمخشري: ثم لآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الغالب، وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه، كقوله: ﴿واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنهم بِسَوْطِكَ وأجْلِبْ عَلَيهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ﴾ [الإسراء: ٦٤]. وهذا يوافق ما حكيناه عن قتادة: "أتاك من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك". وهذا القول أعم فائدة ولا يناقض ما قاله السلف، فإن ذلك على جهة التمثيل لا التعيين. قال شقيق: "ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد: من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، فيقول: لا تخف فإن الله غفور رحيم، فأقرأ: ﴿وَإنِّي لَغَفّارٌ لِمنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى﴾ [طه: ٨٢]. وأما من خلفي فيخوفني الضيعة على من أخلفه، فأقرأ: ﴿وَما مِن دابّةٍ في الأرْضِ إلا عَلى اللهِ رِزْقُها﴾ [هود: ٦]. ومن قبل يميني يأتيني من قبل النساء، فأقرأ: ﴿والعاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٨]. ومن قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات، فأقرأ: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ﴾ [سبأ: ٥٤]. قلت: السبل التي يسلكها الإنسان أربعة لا غير، فإنه تارة يأخذ على جهة يمينه، وتارة على شماله، وتارة أمامه، وتارة يرجع خلفه، فأي سبيل سلكها من هذه وجد الشيطان عليها رصدا له، فإن سلكها في طاعة وجده عليها يُثبِّطه عنها ويقطعه، أو يعوقه ويبطئه، وإن سلكها لمعصية وجده عليها حاملا له وخادما ومعينا وممنيا، ولو اتفق له الهبوط إلى أسفل لأتاه من هناك. ومما يشهد لصحة أقوال السلف قوله تعالى: ﴿وَقَيَّضْنا لَهم قُرَناء فَزَيَّنُوا لَهم ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ﴾ [فصلت: ٢٥]. قال الكلبي: "ألزمناهم قرناء من الشياطين". وقال مقاتل: "هيأنا لهم قرناء من الشياطين". وقال ابن عباس: "ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة". والمعنى: زينوا لهم الدنيا حتى آثروها، ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة والإعراض عنها. وقال الكلبى: "زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة: أنه لا جنة، ولا نار، ولا بعث، وما خلفهم من أمر الدنيا: ما هم عليه من الضلالة". وهذا اختيار الفراء. وقال ابن زيد: "زينوا لهم ما مضى من خبث أعمالهم، وما يستقبلون منها". والمعنى: على هذا زينوا لهم ما عملوه فلم يتوبوا منه وما يعزمون عليه فلا ينوون تركه. فقول عدو الله تعالى: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهم مِن بَيْنِ أيْديِهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ﴾ يتناول الدنيا والآخرة، وقوله: ﴿وَعَنْ أيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾ فإن ملك الحسنات عن اليمين يستحث صاحبه على فعل الخير، فيأتيه الشيطان من هذه الجهة يثبطه عنه، وإن ملك السيئات عن الشمال ينهاه عنها فيأتيه الشيطان من تلك الجهة يحرضه عليها، وهذا يفصل ما أجمله في قوله: ﴿فَبِعزَّتِكَ لأغْوِينَّهم أجْمَعينَ﴾ [ص: ٨٢]. * (فائدة) في جمع لفظ الشمائل في قوله تعالى حكاية عن إبليس: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهم مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ وعَنْ أيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾ فإن الجمع هنا في مقابلة كثرة من يريد إغواءهم، فكأنه أقسم أن يأتي كل واحد من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ولا يحسن هنا عن يمينهم وعن شمالهم بل الجمع هاهنا من مقابلة الجملة بالجملة المقتضى توزيع الأفراد ونظيره: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكم وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب