الباحث القرآني

* (فصل) اعلمْ أنَّ اليَهُودَ مُبَدَّدُونَ في شَرْقِ الأرْضِ وغَرْبِها وجَنُوبِها وشَمالِها، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَقَطَّعْناهم في الأرْضِ أُمَمًا﴾ وَما مِن جَماعَةٍ مِنهم في بَلْدَةٍ إلّا إذا قَدِمَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِن أهْلِ دِينِهِمْ مِن بِلادٍ بَعِيدَةٍ يُظْهِرُ لَهُمُ الخُشُونَةَ في دِينِهِ والمُبالَغَةَ في الِاحْتِياطِ، فَإنْ كانَ مِن فُقَهائِهِمْ شَرَعَ في إنْكارِ أشْياءَ عَلَيْهِمْ يُوهِمُهم قِلَّةَ دِينِهِمْ وعَمَلِهِمْ، وكُلَّما شَدَّدَ عَلَيْهِمْ قالُوا: هَذا هو العالِمُ، فَأعْلَمُهم أعْظَمُهم تَشْدِيدًا عَلَيْهِمْ، فَتَراهُ أوَّلَ ما يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ لا يَأْكُلُ مِن أطْعِمَتِهِمْ وذَبائِحِهِمْ، ويَتَأمَّلُ سِكِّينَ الذّابِحِ ويَشْرَعُ في الإنْكارِ عَلَيْهِ بِبَعْضِ أمْرِهِ، ويَقُولُ: لا آكُلُ إلّا مِن ذَبِيحَةِ يَدِي. فَتَراهم مَعَهُ في عَذابٍ، ويَقُولُونَ: هَذا عالِمٌ غَرِيبٌ قَدِمَ عَلَيْنا فَلا يَزالُ يُنْكِرُ عَلَيْهِمُ الحَلالَ، ويُشَدِّدُ عَلَيْهِمُ الآصارَ والأغْلالَ، ويَفْتَحُ لَهم أبْوابَ المَكْرِ والِاحْتِيالِ، وكُلَّما فَعَلَ هَذا قالُوا: هَذا هو العالِمُ الرَّبّانِيُّ والحاخامُ الفاضِلُ، فَإذا رَآهُ رَئِيسُهم قَدْ مَشى حالُهُ وقِيلَ بَيْنِهِمْ مَقالَهُ، وزَنَ نَفْسَهُ مَعَهُ فَإذا رَأى أنَّهُ أزْرى بِهِ وطَعَنَ عَلَيْهِ، لَمْ يَقْبَلْ مِنهُ، فَإنَّ النّاسَ في الغالِبِ يَمِيلُونَ مَعَ الغَرِيبِ، ويَنْسُبُهُ أصْحابُهُ إلى الجَهْلِ وقِلَّةِ الدِّينِ، ولا يُصَدِّقُونَهُ لِأنَّهم يَرَوْنَ القادِمَ قَدْ شَدَّدَ عَلَيْهِمْ وضَيَّقَ، وكُلَّما كانَ الرَّجُلُ أعْظَمَ تَشْدِيدًا وتَضْيِيقًا كانَ أفْقَهَ عِنْدِهِمْ، فَيَنْصَرِفُ عَنْ هَذا الرَّأْيِ فَيَأْخُذُ في مَدْحِهِ وشُكْرِهِ، فَيَقُولُ: لَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ ثَوابَ فُلانٍ إذْ قَوّى نامُوسَ الدِّينِ في قُلُوبِ هَذِهِ الجَماعَةِ، شَيَّدَ أساسَهُ، وأحْكَمَ سِياجَ الشَّرْعِ، فَيَبْلُغُ القادِمُ قَوْلَهُ فَيَقُولُ: هَذا ما عِنْدَكم أفْقَهُ مِنهُ، ولا أعْلَمُ مِنهُ وإذا لَقِيَهُ يَقُولُ: لَقَدْ زَيَّنَ اللَّهُ بِكَ أهْلَ بَلَدِنا ونَعَّشَ بِكَ هَذِهِ الطّائِفَةَ. وَإنْ كانَ القادِمُ عَلَيْهِمْ حَبْرًا مِن أحْبارِهِمْ فَهُناكَ تَرى العَجَبَ العَجِيبَ مِنَ النّامُوسِ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ والسُّنَنِ الَّتِي يُحْدِثُها، ولا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ أحَدٌ، بَلْ تَراهم مُسَلِّمِينَ لَهُ، وهو يَجْتَلِبُ دَرَّهم ويَجْتَلِبُ دِرْهَمَهم. وإذا بَلَغَهُ عَنْ يَهُودِيٍّ طَعْنٌ عَلَيْهِ، صَبَرَ عَلَيْهِ حَتّى يَرى مِنهُ جُلُوسًا عَلى قارِعَةِ الطَّرِيقِ يَوْمَ السَّبْتِ، أوْ يَبْلُغَهُ أنَّهُ اشْتَرى مِن مُسْلِمٍ لَبَنًا أوْ خَمْرًا أوْ خَرَجَ عَنْ بَعْضِ أحْكامِ المِشْنا، والتَّلْمُودِ، حَرَّمَهُ بَيْنَ مَلَأِ اليَهُودِ، وأباحَهم عِرْضَهُ، ونَسَبَهُ إلى الخُرُوجِ عَنِ اليَهُودِيَّةِ، فَيَضِيقُ بِهِ البَلَدُ عَلى هَذا الحالِ، فَلا يَسَعُهُ إلّا أنْ يُصْلِحَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ الحَبْرِ بِما يَقْتَضِيهِ الحالُ، فَيَقُولُ لِلْيَهُودِ: إنَّ فُلانًا قَدْ أبْصَرَ رُشْدَهُ وراجَعَ الحَقَّ وأقْلَعَ عَمّا كانَ فِيهِ، وهو اليَوْمَ يَهُودِيٌّ عَلى الوَضْعِ، فَيَعُودُونَ بِالتَّعْظِيمِ والإكْرامِ. وَأذْكُرُ لَكَ مَسْألَةً مِن مَسائِلِ شَرْعِهِمُ المُبَدَّلِ أوِ المَنسُوخِ، تُعْرَفُ بِمَسْألَةِ البَياما والجالُوسِ وهِيَ: أنْ عِنْدَهم في التَّوْراةِ: إذا أقامَ أخَوانِ في مَوْضِعٍ واحِدٍ وماتَ أحَدُهُما ولَمْ يُعَقِّبْ فَلا تَصِيرُ امْرَأةُ المَيِّتِ إلى رَجُلٍ أجْنَبِيٍّ بَلْ حَمُوها يَنْكِحُها، وأوَّلُ ولَدٍ يُولَدُ لَها يُنْسَبُ إلى أخِيهِ الدّارِجِ، فَإنْ أبى أنْ يَنْكِحَها خَرَجَتْ مُتَشَكِّيَةً إلى مَشْيَخَةِ قَوْمِهِ قائِلَةً: قَدْ أبى حَمْوِي أنْ يَسْتَبْقِيَ اسْمًا لِأخِيهِ في بَنِي إسْرائِيلَ ولَمْ يُرِدْ نِكاحِي، فَيُحْضِرُهُ ويُكَلِّفُهُ أنْ يَقِفَ ويَقُولَ: ما أرَدْتُ نِكاحَها، فَتَتَناوَلَ المَرْأةُ نَعْلَهُ فَتُخْرِجُهُ مِن رِجْلِهِ وتُمْسِكُهُ بِيَدِها وتَبْصُقُ في وجْهِهِ، وتُنادِي عَلَيْهِ: كَذا فَلْيُصْنَعْ بِالَّذِي لا يَبْنِي بَيْتَ أخِيهِ، ويُدْعى فِيما بَعْدُ بِالمَخْلُوعِ النَّعْلِ، ويُنْبَذُ بَنُوهُ بِهَذا اللَّقَبِ. وَفِي هَذا كالتَّلْجِئَةِ لَهُ إلى نِكاحِها، لِأنَّهُ إذا عَلِمَ أنَّهُ قَدْ فُرِضَ عَلى المَرْأةِ وعَلَيْهِ ذَلِكَ، فَرُبَّما اسْتَحى وخَجِلَ مِن شَيْلِ نَعْلِهِ مِن رِجْلِهِ والبَصْقِ في وجْهِهِ، ونَبْذِهِ بِاللَّقَبِ المُسْتَكْرَهِ الَّذِي يَبْقى عَلَيْهِ وعَلى أوْلادِهِ عارُهُ، لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِن نِكاحِها، فَإنْ كانَ مِنَ الزُّهْدِ فِيها والكَراهَةِ لَها، بِحَيْثُ يَرى أنَّ هَذا كُلَّهُ أسْهَلُ عَلَيْهِ مِن أنْ يُبْتَلى بِها، وهانَ عَلَيْهِ هَذا كُلُّهُ في التَّخَلُّصِ مِنها لَمْ يُكْرَهْ عَلى نِكاحِها. هَذا عِنْدَهم في التَّوْراةِ، ونَشَأ لَهم مِن ذَلِكَ فَرْعٌ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ وهُوَ: أنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلْمَرْأةِ مُحِبًّا لَها، وهي في غايَةِ الكَراهَةِ لَهُ، فَأحْدَثُوا بِهَذا الفَرْعِ حُكْمًا في غايَةِ الظُّلْمِ والفَضِيحَةِ، فَإذا جاءَتْ إلى الحاكِمِ أحْضَرُوهُ مَعَها ولَقَّنُوها، أنْ تَقُولَ: إنَّ حَمْوِي لا يُقِيمُ لِأخِيهِ اسْمًا في بَنِي إسْرائِيلَ، ولَمْ يَرُدْ نِكاحِي، وهو عاشِقٌ لَها، فَيُلْزِمُونَها بِالكَذِبِ عَلَيْهِ، وأنَّها أرادَتْهُ فامْتَنَعَ - فَإذا قالَتْ ذَلِكَ ألْزَمَهُ الحاكِمُ أنْ يَقُومَ ويَقُولَ: ما أرَدْتُ نِكاحَها، ونِكاحُها غايَةُ سُؤْلِهِ وأُمْنِيَتِهِ، فَيَأْمُرُونَهُ بِالكَذِبِ فَيُخْرِجُ نَعْلَهُ مِن رِجْلِهِ إلّا أنَّهُ لا شَيْلَ هُنا ويُبْصَقُ في وجْهِهِ، ويُنادى عَلَيْهِ: هَذا جَزاءُ مَن لا يَبْنِي بَيْتَ أخِيهِ، فَلَمْ يَكْفِهِمْ أنْ كَذَبُوا عَلَيْهِ، وأقامُوهُ مَقامَ الخِزْيِ وألْزَمُوهُ بِالكَذِبِ والبُصاقِ في وجْهِهِ والعِتابِ عَلى ذَنْبٍ جَرَّهُ إلَيْهِ غَيْرُهُ، كَما قِيلَ: ؎وَجَرْمٍ جَرَّهُ سُفَهاءُ قَوْمٍ ∗∗∗ وحَلَّ بِغَيْرِ جارِمِهِ العَذابُ أفَلا يَسْتَحِي مِن تَعْيِيرِ المُسْلِمِينَ مَن هَذا شَرْعُهُ ودِينُهُ؟!
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب