الباحث القرآني
وقد سمى الله التكاليف الشاقة أغلالا في قوله: ﴿وَيَضَعُ عَنْهم إصْرَهم والأغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِم﴾
فشبهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها قال الحسن: "هي الشدائد التي كانت في العبادة كقطع أثر البول وقتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وتتبع العروق من اللحم"
وقال ابن قتيبة: "هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرا مما أطلقه لأمة محمد ﷺ وجعلها أغلالا لأن التحريم يمنع كما يقبض الغل اليد".
* (فصل)
إذا كان لا معنى عند نفاة الحكمة عن الرب، والحسن والقبح الفطريين - للمعروف: إلا ما أمر به، فصار معروفا بالأمر فقط، ولا للمنكر: إلا ما نهى عنه. فصار منكرا بنهيه فقط فأي معنى لقوله تعالى: {يَأْمُرُهم بِالمَعْرُوفِ ويَنْهاهم عَنِ المُنْكَرِ.
وهل حاصل ذلك زائد على أن يقال: يأمرهم بما يأمرهم به، وينهاهم عما ينهاهم عنه؟
وهذا كلام ينزه عنه كلام آحاد العقلاء، فضلا عن كلام رب العالمين.
وهل دلت الآية إلا على أنه أمرهم بالمعروف الذي تعرفه العقول، وتقر بحسنه الفطر، فأمرهم بما هو معروف في نفسه عند كل عقل سليم. ونهاهم عما هو منكر في الطباع والعقول بحيث إذا عرض أمره ونهيه على العقل السليم قبله أعظم قبول، وشهد بحسنه كما قال بعض الأعراب، وقد سئل:
بم عرفت أنه رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل: ليته ينهي عنه.
ولا نهى عن شيء، فقال: ليته أمر به.
فهذا الأعرابي أعرف بالله ودينه ورسوله من هؤلاء، وقد أقر عقله وفطرته بحسن ما أمر به وقبح ما نهى عنه، حتى كان في حقه من أعلام نبوته وشواهد رسالته.
ولو كان جهة كونه معروفا ومنكرا هو الأمر المجرد لم يكن فيه دليل.
بل كان يطلب له الدليل من غيره.
ومن سلك ذلك المسلك الباطل لم يمكنه أن يستدل على صحة نبوته بنفس دعوته ودينه.
ومعلوم أن نفس الدين الذي جاء به، والملة التي دعا إليها من أعظم براهين صدقه، وشواهد نبوته. ومن يثبت لذلك صفات وجودية أوجبت حسنه وقبول العقول ولضده صفات أوجبت قبحه ونفور العقل عنه، فقد سد على نفسه باب الاستدلال بنفس الدعوة، وجعلها مستدلا عليه فقط.
ومما يدل على صحة ذلك قوله تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ فهذا صريح في أن الحلال كان طيبا قبل حله. وأن الخبيث كان خبيثا قبل تحريمه.
ولم يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس التحليل والتحريم لوجهين اثنين.
أحدهما: أن هذا علم من أعلام نبوته التي احتج الله بها على أهل الكتاب فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ، الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ يَأْمُرُهم بِالمَعْرُوفِ ويَنْهاهم عَنِ المُنْكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ ويَضَعُ عَنْهم إصْرَهُمْ﴾ فلو كان الطيب والخبيث إنما استفيد من التحريم والتحليل لم يكن في ذلك دليل. فإنه بمنزلة أن يقال: يحل لهم ما يحل، ويحرم عليهم ما يحرم.
وهذا أيضا باطل. فإنه لا فائدة فيه وهو الوجه الثاني.
فثبت أنه أحل ما هو طيب في نفسه قبل الحل، فكساه بإحلاله طيبا آخر، فصار منشأ طيبه من الوجهين معا.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار الشريعة، ويشرفك على محاسنها وكمالها وبهجتها وجلالها. وأنه من الممتنع في حكمة أحكم الحاكمين: أن تكون بخلاف ما وردت به. وأن الله تعالى منزه عن ذلك، كما يتنزه عن سائر ما يليق به.
* (فَصْلٌ)
قالَ السّائِلُ: مَشْهُورٌ عِنْدَكم في الكِتابِ والسُّنَّةِ أنَّ نَبِيَّكم كانَ مَكْتُوبًا عِنْدَهم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ لَكِنَّهم مَحَوْهُ عَنْهُما لِسَبَبِ الرِّئاسَةِ والمَأْكَلَةِ، فالعَقْلُ يَسْتَشْكِلُ ذَلِكَ، أفَكُلُّهُمُ اتَّفَقُوا عَلى مَحْوِ اسْمِهِ مِنَ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِن رَبِّهِمْ شَرْقًا وغَرْبًا جَنُوبًا وشَمالًا؟! هَذا أمْرٌ يَسْتَشْكِلُهُ العَقْلُ أعْظَمُ مِن نَفْيِهِمْ بِألْسِنَتِهِمْ، لِأنَّهُ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَمّا قالُوا بِألْسِنَتِهِمْ والرُّجُوعُ عَمّا مَحَوْا أبْعَدُ.
والجَوابُ: أنَّ هَذا السُّؤالَ مَبْنِيٌّ عَلى فَهْمٍ فاسِدٍ، وهو أنَّ المُسْلِمِينَ يَعْتَقِدُونَ أنَّ اسْمَ النَّبِيِّ ﷺ الصَّرِيحَ وهو مُحَمَّدٌ بِالعَرَبِيَّةِ مَذْكُورٌ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ - وهُما الكِتابانِ المُتَضَمِّنانِ الشَّرِيعَتَيْنِ - وأنَّ المُسْلِمِينَ يَعْتَقِدُونَ: أنَّ اليَهُودَ والنَّصارى في جَمِيعِ أقْطارِ الأرْضِ مَحَوْا ذَلِكَ الِاسْمَ وأسْقَطُوهُ جُمْلَةً واحِدَةً مِنَ الكَنائِسِ، وتَواصَوْا بِذَلِكَ بُعْدًا وقُرْبًا، وشَرْقًا وغَرْبًا. وهَذا لَمْ يَقُلْهُ عالِمٌ مِن عُلَماءِ المُسْلِمِينَ، ولا أخْبَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِهِ في كِتابِهِ عَنْهُمْ، ولا رَسُولُهُ، ولا بَكَّتَهم بِهِ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، ولا قالَهُ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ، ولا الأئِمَّةُ بَعْدَهُمْ، ولا عُلَماءُ التَّفْسِيرِ، ولا المُعْتَنُونَ بِأخْبارِ الأُمَمِ وتَوارِيخِهِمْ. وإنْ قُدِّرَ أنَّهُ قالَهُ بَعْضُ عَوامِ المُسْلِمِينَ يَقْصِدُ بِهِ نَصْرَ الرَّسُولِ، فَقَدْ قِيلَ: يَضُرُّ الصَّدِيقُ الجاهِلُ أكْثَرَ مِمّا يَضُرُّ العَدُوُّ العاقِلُ. وإنَّما أُتِيَ هَؤُلاءِ مِن قِلَّةِ فَهْمِ القُرْآنِ، وظَنُّوا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ يَأْمُرُهم بِالمَعْرُوفِ ويَنْهاهم عَنِ المُنْكَرِ﴾ دَلَّ عَلى الِاسْمِ الخاصِّ بِالعَرَبِيَّةِ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ المَخْصُوصَيْنِ، وإنَّ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ ألْبَتَّةَ. فَهَذِهِ ثَلاثُ مَقاماتٍ:
الأوَّلُ: أنَّ الرَّبَّ سُبْحانَهُ إنَّما أخْبَرَ عَنْ كَوْنِ رَسُولِهِ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، أيِ الإخْبارُ عَنْهُ وصِفَتُهُ ومَخْرَجُهُ ونَعْتُهُ، ولَمْ يُخْبِرْ بِأنَّ صَرِيحَ الِاسْمِ العَرَبِيِّ مَذْكُورٌ عِنْدَهم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، وهَذا واقِعٌ في الكِتابَيْنِ كَما سَنَذْكُرُ ألْفاظَهُما إنْ شاءَ اللَّهُ، وهَذا أبْلَغُ مِن ذِكْرِهِ بِمُجَرَّدِ اسْمِهِ، فَإنَّ الِاشْتِراكَ قَدْ يَقَعُ في الِاسْمِ فَلا يَحْصُلُ التَّعْرِيفُ والتَّمْيِيزُ، ولا يَشاءُ أحَدٌ يُسَمّى بِهَذا الِاسْمِ أنْ يَدَّعِيَ أنَّهُ هو إلّا فَعَلَ، إذا الحِوالَةُ إنَّما وقَعَتْ عَلى مُجَرَّدِ الِاسْمِ، وهَذا لا يَحْصُلُ بِهِ بَيانٌ ولا تَعْرِيفٌ ولا هُدًى، بِخِلافِ ذِكْرِهِ بِنَعْتِهِ وصِفَتِهِ وعَلاماتِهِ ودَعْوَتِهِ وصِفَةِ أُمَّتِهِ، ووَقْتِ مَخْرَجِهِ ونَحْوِ ذَلِكَ، فَإنَّ هَذا يُعَيِّنُهُ ويُمَيِّزُهُ ويَحْصُرُ نَوْعَهُ في شَخْصِهِ. وهَذا القَدْرُ مَذْكُورٌ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ وغَيْرِها مِنَ النُّبُوّاتِ، الَّتِي بِأيْدِي أهْلِ الكِتابِ كَما سَنَذْكُرُها، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ أحْرَصَ النّاسِ عَلى تَصْدِيقِهِ واتِّباعِهِ وإقامَةِ الحُجَّةِ عَلى مَن خالَفَهُ وجَحَدَ نُبُوَّتَهُ، ولا سِيَّما أهْلُ العِلْمِ والكِتابِ، فَإنَّ الِاسْتِدْلالَ عَلَيْهِمْ بِما يَعْلَمُونَ بُطْلانَهُ قَطْعًا لا يَفْعَلُهُ عاقِلٌ، وهو بِمَنزِلَةِ مَن يَقُولُ لِرَجُلٍ: عَلامَةُ صِدْقِي أنَّكَ فُلانُ بْنُ فُلانٍ، وصِفَتُكَ كَيْتَ وكَيْتَ، وتَعْرِفُ كَيْتَ وكَيْتَ، ولَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ بَلْ بِضِدِّهِ، فَهَذا لا يَصْدُرُ مِمَّنْ لَهُ مُسْكَةُ عَقْلٍ، ولا يُصَدِّقُهُ أحَدٌ عَلى ذَلِكَ، ولا يَتْبَعُهُ أحَدٌ، بَلْ يَنْفِرُ العُقَلاءُ كُلُّهم عَنْ تَصْدِيقِهِ واتِّباعِهِ، والعادَةُ تُحِيلُ سُكُوتَهم عَنِ الطَّعْنِ عَلَيْهِ والرَّدِّ والتَّهْجِينِ لِقَوْلِهِ.
وَمِنَ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ﷺ، وزادَهُ شَرَفًا وصَلاةً وسَلامًا، نادى مُعْلِنًا في هاتَيْنِ الأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُما أعْلَمُ الأُمَمِ في الأرْضِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ بِأنَّ ذِكْرَهُ ونَعْتَهُ وصِفَتَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَهم في كُتُبِهِمْ، وهو يَتْلُو عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لَيْلًا ونَهارًا، سِرًّا وجَهارًا في كُلِّ مَجْمَعٍ، وكُلِّ نادٍ، يَدْعُوهم لِذَلِكَ - يَعْنِي إلى تَصْدِيقِهِ والإيمانِ بِهِ - فَمِنهم مَن يُصَدِّقُهُ ويُؤْمِنُ بِهِ، ويُخْبِرُ بِما في كُتُبِهِمْ مَن نَعْتِهِ وصِفَتِهِ وذِكْرِهِ، كَما سَيَمُرُّ بِكَ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
وَغايَةُ المُكَذِّبِ الجاحِدِ أنْ يَقُولَ: هَذا الوَصْفُ حَقٌّ، ولَكِنْ لَسْتَ أنْتَ المُرادَ بِهِ بَلْ نَبِيٌّ آخَرُ، وهَذا غايَةُ ما يُمْكِنُهُ مِنَ المُكابَرَةِ، ولَمْ تُجْزِ عَنْهُ هَذِهِ المُكابَرَةُ إلّا كَشْفَ عَوْرَتِهِ وإبْداءَ الفَضِيحَةِ بِالكَذِبِ والبُهْتانِ، فَإنَّ الصِّفاتِ والنُّعُوتَ والعَلاماتِ المَذْكُورَةَ عِنْدَهم مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْهِ حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، بِحَيْثُ لا يَشُكُّ مَن عَرَفَها ورَآهُ أنَّهُ هو كَما عَرَفَهُ سَلْمانُ، وكَما عَرَفَهُ هِرَقْلُ بِتِلْكَ العَلاماتِ المَذْكُورَةِ الَّتِي سَألَ عَنْها أبا سُفْيانَ، وطابَقَتْ ما عِنْدَهُ، فَقالَ: إنْ يَكُنْ ما تَقُولُ حَقًّا فَإنَّهُ نَبِيٌّ، وسَيَمْلِكُ ما تَحْتَ قَدَمَيَّ هاتَيْنِ.
وَكَذَلِكَ مَن قَدَّمْنا ذِكْرَهم مِنَ الأحْبارِ والرُّهْبانِ الَّذِينَ عَرَفُوهُ بِنَعْتِهِ وصِفَتِهِ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهم. قالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهم وإنَّ فَرِيقًا مِنهم لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وهم يَعْلَمُونَ﴾
وَقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم فَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾.
وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذِهِ المَعْرِفَةَ إنَّما هي بِالنَّعْتِ والصِّفَةِ المَكْتُوبَةِ عِنْدَهُمُ الَّتِي هي مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْهِ، كَما قالَ بَعْضُ المُؤْمِنِينَ مِنهُمْ: واللَّهِ لَأحَدُنا أعْرَفُ بِهِ مِنَ ابْنِهِ، إنَّ أحَدَنا لَيَخْرُجُ مِن عِنْدِ امْرَأتِهِ وما يَدْرِي ما يَحْدُثُ بَعْدَهُ.
وَلِهَذا أثْنى اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى مَن عَرَفَ الحَقَّ مِنهُمْ، ولَمْ يَسْتَكْبِرْ عَنِ اتِّباعِهِ فَقالَ: ﴿لَتَجِدَنَّ أشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أشْرَكُوا ولَتَجِدَنَّ أقْرَبَهم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إنّا نَصارى ذَلِكَ بِأنَّ مِنهم قِسِّيسِينَ ورُهْبانًا وأنَّهم لا يَسْتَكْبِرُونَ وإذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرى أعْيُنَهم تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ وما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وما جاءَنا مِنَ الحَقِّ ونَطْمَعُ أنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ القَوْمِ الصّالِحِينَ فَأثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها وذَلِكَ جَزاءُ المُحْسِنِينَ والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولَئِكَ أصْحابُ الجَحِيمِ﴾.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمّا حَضَرَ أصْحابُ النَّبِيِّ ﷺ بَيْنَ يَدَيِ النَّجاشِيِّ وقَرَءُوا القُرْآنَ، سَمِعَ ذَلِكَ القِسِّيسُونَ والرُّهْبانُ، فانْحَدَرَتْ دُمُوعُهم مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ مِنهم قِسِّيسِينَ ورُهْبانًا وأنَّهم لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾.
وَقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بَعَثَ النَّجاشِيُّ مِن خِيارِ أصْحابِهِ ثَمانِينَ رَجُلًا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَرَأ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ فَبَكَوْا ورَقُّوا، وقالُوا: نَعْرِفُ واللَّهِ، أنَّهُ الحَقُّ، فَأسْلَمُوا وذَهَبُوا إلى النَّجاشِيِّ فَأخْبَرُوهُ فَأسْلَمَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى فِيهِمْ: وإذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ الآياتِ. وقالَ السُّدِّيُّ: كانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، سَبْعَةً مِنَ القِسِّيسِينَ وخَمْسَةً مِنَ الرُّهْبانِ، فَلَمّا قَرَأ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ القُرْآنَ بَكَوْا وقالُوا: رَبَّنا آمَنّا بِما أنْزَلْتَ واتَّبَعْنا الرَّسُولَ فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هم مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ، وهُمُ القَوْمُ الصّالِحُونَ الَّذِينَ طَمِعُوا أنْ يُدْخِلَهُمُ اللَّهُ فِيهِمْ، والمَقْصُودُ أنَّ هَؤُلاءِ عَرَفُوا أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ بِالنَّعْتِ الَّذِي عِنْدَهُمْ، فَلَمْ يَمْلِكُوا أعْيُنَهم مِنَ البُكاءِ، وقُلُوبَهم مِنَ المُبادَرَةِ إلى الإيمانِ، ونَظِيرُ هَذا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأذْقانِ سُجَّدًا ويَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إنْ كانَ وعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا ويَخِرُّونَ لِلْأذْقانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهم خُشُوعًا﴾.
قالَ إمامُ أهْلَ التَّفْسِيرِ مُجاهِدٌ: هم قَوْمٌ مِن أهْلِ الكِتابِ لَمّا سَمِعُوا القُرْآنَ خَرُّوا سُجَّدًا، وقالُوا: ﴿سُبْحانَ رَبِّنا إنْ كانَ وعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا﴾.
كانَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ قَدْ وعَدَ عَلى ألْسِنَةِ أنْبِيائِهِ ورُسُلِهِ أنْ يَبْعَثَ في آخِرِ الزَّمانِ نَبِيًّا عَظِيمَ الشَّأْنِ، يَظْهَرُ دِينُهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ، وتَنْتَشِرُ دَعْوَتُهُ في أقْطارِ الأرْضِ، وعَلى رَأْسِ أُمَّتِهِ تَقُومُ السّاعَةُ.
وَأهْلُ الكِتابِ مُجْمِعُونَ عَلى أنَّ اللَّهَ وعَدَهم بِهَذا النَّبِيِّ، فالسُّعَداءُ مِنهم عَرَفُوا الحَقَّ فَآمَنُوا بِهِ واتَّبَعُوهُ، والأشْقِياءُ قالُوا: نَحْنُ نَنْتَظِرُهُ، ولَمْ يُبْعَثْ بَعْدُ رَسُولًا، وأُولَئِكَ لَمّا سَمِعُوا القُرْآنَ مِنَ الرَّسُولِ عَرَفُوهُ أنَّهُ الرَّسُولُ المَوْعُودُ، فَخَرُّوا سُجَّدًا لِلَّهِ إيمانًا بِهِ وبِرَسُولِهِ، وتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ الَّذِي أنْجَزَهُ فَرَأوْهُ عِيانًا فَقالُوا: سُبْحانَ رَبِّنا إنْ كانَ وعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا.
وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ يَسُوعَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قالَ يُونُسُ - وكانَ نَصْرانِيًّا فَأسْلَمَ -: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَتَبَ إلى أهْلِ نَجْرانَ: بِسْمِ إلَهِ إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ، مِن مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ إلى أُسْقُفِّ نَجْرانَ وأهْلِ نَجْرانَ (سَلَمٌ أنْتُمْ) إنِّي أحْمَدُ إلَيْكم إلَهَ إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ، أمّا بَعْدُ فَإنِّي أدْعُوكم إلى عِبادَةِ اللَّهِ مِن عِبادَةِ العِبادِ، وأدْعُوكم إلى وِلايَةِ اللَّهِ مِن وِلايَةِ العِبادِ، فَإنْ أبَيْتُمْ فالجِزْيَةَ، فَإنْ أبَيْتُمْ فَقَدَ آذَنْتُكم بِحَرْبٍ، والسَّلامُ.
فَلَمّا أتى الأُسْقُفَّ الكِتابُ وقَرَأهُ قَطَعَ بِهِ، وذُعِرَ مِنهُ ذُعْرًا شَدِيدًا، فَبَعَثَ إلى رَجُلٍ مِن أهْلِ عُمانَ، يُقالُ لَهُ: شُرَحْبِيلُ بْنُ وداعَةَ، وكانَ مِن هَمَذانَ ولَمْ يَكُنْ أحَدٌ يُدْعى إلى مُعْضِلَةٍ قَبْلَهُ، فَدَفَعَ الأُسْقُفُّ كِتابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى شُرَحْبِيلَ فَقَرَأهُ، فَقالَ الأُسْقُفُّ: ما رَأْيُكَ يا أبا مَرْيَمَ؟
فَقالَ شُرَحْبِيلُ: قَدْ عَلِمْتَ ما وعَدَ اللَّهُ إبْراهِيمَ في ذُرِّيَّةِ إسْماعِيلَ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَما نَأْمَنُ أنْ يَكُونَ هَذا هو ذاكَ الرَّجُلُ؟، لَيْسَ لِي في النُّبُوَّةِ رَأْيٌ، لَوْ كانَ أمْرًا مِنَ الدُّنْيا أشَرْتُ عَلَيْكَ فِيهِ بِرَأْيٍ وجَهِدْتُ لَكَ.
فَقالَ: تَنَحَّ فاجْلِسْ، فَتَنَحّى فَجَلَسَ ناحِيَةً. فَبَعَثَ الأُسْقُفُّ إلى رَجُلٍ مِن أهْلِ نَجْرانَ يُقالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُرَحْبِيلَ وهو فَتًى مِن ذِي أصْبَحَ مِن حِمْيَرَ، فَأقْرَأهُ الكِتابَ وسَألَهُ عَنِ الرَّأْيِ، فَقالَ مِثْلَ قَوْلِ شُرَحْبِيلَ، فَقالَ لَهُ الأُسْقُفُّ: نَحِّ فاجْلِسْ، فَجَلَسَ ناحِيَةً. فَبَعَثَ الأُسْقُفُّ إلى رَجُلٍ مِن أهْلِ نَجْرانَ، يُقالُ لَهُ: جَبّارُ بْنُ فَيْضٍ مِن بَنِي الحارِثِ بْنِ كَعْبٍ، فَأقْرَأهُ الكِتابَ وسَألَهُ عَنِ الرَّأْيِ فِيهِ، فَقالَ مِثْلَ قَوْلِ شُرَحْبِيلَ وعَبْدِ اللَّهِ، فَأمَرَهُ الأُسْقُفَّ فَتَنَحّى ناحِيَةً. فَلَمّا اجْتَمَعَ الرَّأْيُ مِنهم عَلى تِلْكَ المَقالَةِ جَمِيعًا أمَرَ الأُسْقُفُّ بِالنّاقُوسِ فَضُرِبَ بِهِ، ورُفِعَتِ المُسُوحُ بِالصَّوامِعِ، وكَذَلِكَ كانُوا يَفْعَلُونَ إذا فَزِعُوا بِالنَّهارِ، وإذا كانَ فَزَعُهم بِاللَّيْلِ ضُرِبَ بِالنّاقُوسِ، ورُفِعَتِ النِّيرانُ في الصَّوامِعِ، فاجْتَمَعَ أهْلُ الوادِي أعْلاهُ وأسْفَلُهُ، وطُولُهُ مَسِيرَةُ يَوْمٍ لِلرّاكِبِ السَّرِيعِ، وفِيهِ ثَلاثٌ وسَبْعُونَ قَرْيَةً وعِشْرُونَ ومِائَةُ ألْفِ مُقاتِلٍ، فَقَرَأ عَلَيْهِمْ كِتابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وسَألَهم عَنِ الرَّأْيِ فِيهِ، فاجْتَمَعَ رَأْيُ أهْلِ الرَّأْيِ أنْ يَبْعَثُوا شُرَحْبِيلَ بْنَ وداعَةَ الهَمَذانِيَّ، وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ شُرَحْبِيلَ، وجَبّارَ بْنَ فَيْضٍ، فَيَأْتُوا بِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
فانْطَلَقَ الوَفْدُ حَتّى إذا كانُوا بِالمَدِينَةِ، وضَعُوا ثِيابَ السَّفَرِ عَنْهُمْ، ولَبِسُوا حُلَلًا لَهم يَجُرُّونَها مِن حِبَرَةٍ وخَواتِيمِ الذَّهَبِ، ثُمَّ انْطَلَقُوا حَتّى أتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وتَصَدَّوْا لِكَلامِهِ نَهارًا طَوِيلًا، فَلَمْ يُكَلِّمْهم وعَلَيْهِمْ تِلْكَ الحُلَلُ والخَواتِيمُ الذَّهَبُ، فانْطَلَقُوا يَتَّبِعُونَ عُثْمانَ بْنَ عَفّانَ، وعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وكانا مَعْرِفَةً لَهُمْ، كانا يَبْعَثانِ العِيرَ إلى نَجْرانَ في الجاهِلِيَّةِ، فَيَشْتَرِي لَهُما مِن بُرِّها وثَمَرِها، فَوَجَدُوهُما في ناسٍ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ في مَجْلِسٍ، فَقالُوا: يا عُثْمانُ، ويا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، إنَّ نَبِيَّكم كَتَبَ إلَيْنا بِكِتابٍ، فَأقْبَلْنا مُجِيبِينَ لَهُ، فَأتَيْناهُ فَسَلَّمْنا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ سَلامَنا، فَتَصَدَّيْنا لِكَلامِهِ نَهارًا طَوِيلًا فَأعْيانا أنْ يُكَلِّمَنا، فَما الرَّأْيُ مِنكُما، أنَعُودُ أمْ نَرْجِعُ إلَيْهِ؟
فَقالا لِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - وهو في القَوْمِ -: ما تَرى يا أبا الحَسَنِ في هَؤُلاءِ القَوْمِ؟ فَقالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعُثْمانَ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أرى أنْ يَضَعُوا حُلَلَهم هَذِهِ وخَواتِيمَهم ويَلْبَسُوا ثِيابَ سَفَرِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ إلَيْهِ.
فَفَعَلَ وفَدُ نَجْرانَ ذَلِكَ، ووَضَعُوا حُلَلَهم وخَواتِيمَهُمْ، ثُمَّ عادُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَلَّمُوا فَرَدَّ سَلامَهُمْ، ثُمَّ قالَ: والَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ نَبِيًّا لَقَدْ أتَوْنِي في المَرَّةِ الأُولى وإنَّ إبْلِيسَ لَمَعَهُمْ، ثُمَّ سَألَهم وسَألُوهُ فَلَمْ تَزَلْ بِهِ وبِهِمُ المَسْألَةُ حَتّى قالُوا لَهُ: ما تَقُولُ في عِيسى؟ فَإنّا نُحِبُّ أنْ نَعْلَمَ ما تَقُولُ فِيهِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ فَمَن حاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أبْناءَنا وأبْناءَكم ونِساءَنا ونِساءَكم وأنْفُسَنا وأنْفُسَكم ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلى الكاذِبِينَ
فَأبَوْا أنْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ، فَلَمّا أصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَما أخْبَرَهُمُ الخَبَرَ أقْبَلُ مُشْتَمِلًا عَلى الحَسَنِ والحُسَيْنِ في خَمِيلٍ لَهُ، وفاطِمَةُ تَمْشِي عِنْدَ ظَهْرِهِ إلى المُلاعَنَةِ، ولَهُ يَوْمَئِذٍ عِدَّةُ نِسْوَةٍ، فَقالَ شُرَحْبِيلُ لِصاحِبَيْهِ: يا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شُرَحْبِيلَ، ويا جَبّارَ بْنَ فَيْضٍ، قَدْ عَلِمْتُما أنَّ الوادِيَ إذا اجْتَمَعَ أعْلاهُ وأسْفَلُهُ لَمْ يَرِدُوا ولَمْ يُصْدِرُوا إلّا عَنْ رَأْيِي، وإنِّي واللَّهِ أرى أمْرًا مُقْبِلًا، واللَّهِ لَئِنْ كانَ هَذا الرَّجُلُ مَلِكًا مَبْعُوثًا فَكُنّا أوَّلَ العَرَبِ طَعْنًا في عَيْنِهِ ورَدِّ عَلَيْهِ أمْرِهِ، لا يَذْهَبُ لَنا مِن صَدْرِهِ ولا مِن صُدُورِ قَوْمِهِ حَتّى يُصِيبَنا بِجائِحَةٍ، وإنّا لَأدْنى العَرَبِ مِنهم جِوارًا، ولَئِنْ كانَ هَذا الرَّجُلُ نَبِيًّا مُرْسَلًا فَلاعَنّاهُ لا يَبْقى عَلى وجْهِ الأرْضِ مِنّا شَعْرَةٌ ولا ظُفُرٌ إلّا هَلَكَ، فَقالَ لَهُ صاحِباهُ: فَما الرَّأْيُ يا أبا مَرْيَمَ؟ فَقَدْ وضَعَتْكَ الأُمُورُ عَلى ذِراعٍ فَهاتِ رَأْيَكَ، فَقالَ: رَأْيِي أنْ أُحَكِّمَهُ، فَإنِّي أرى الرَّجُلَ لا يَحْكُمُ شَطَطًا أبَدًا، فَقالا لَهُ: أنْتَ وذاكَ. فَلَقِيَ شُرَحْبِيلُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ: إنِّي رَأيْتُ خَيْرًا مِن مُلاعِنَتِكَ، فَقالَ: وما هُوَ؟ قالَ شُرَحْبِيلُ: حَكَّمْتُكَ اليَوْمَ إلى اللَّيْلِ ولَيْلَتَكَ إلى الصَّباحِ، فَمَهْما حَكَمْتَ فِينا فَهو جائِزٌ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَعَلَّ وراءَكَ أحَدًا يُثَرِّبُ عَلَيْكَ؟ فَقالَ لَهُ شُرَحْبِيلُ: سَلْ صاحِبَيَّ، فَسَألَهُما فَقالا: ما تَرِدُ المَوارِدُ ولا تَصْدُرُ إلّا عَنْ رَأْيِ شُرَحْبِيلَ. فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولَمْ يُلاعِنْهُمْ، حَتّى إذا كانَ الغَدُ أتَوْهُ فَكَتَبَ لَهم كِتابَ صُلْحٍ ومُوادَعَةٍ، فَقَبَضُوا كِتابَهم وانْصَرَفُوا إلى نَجْرانَ. فَتَلَقّاهُمُ الأُسْقُفُّ، ووُجُوهُ نَجْرانَ عَلى مَسِيرِ لَيْلَةٍ مِن نَجْرانَ، ومَعَ الأُسْقُفِّ أخٌ لَهُ مِن أُمِّهِ، وهو ابْنُ عَمِّهِ مِنَ النَّسَبِ يُقالُ لَهُ أبُو عَلْقَمَةَ، فَدَفَعَ الوَفْدُ كِتابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى الأُسْقُفِّ، فَبَيْنَما هو يَقْرَؤُهُ وأبُو عَلْقَمَةَ مَعَهُ وهُما يَسِيرانِ إذْ كُبَّتْ بِأبِي عَلْقَمَةَ ناقَتُهُ، فَتَعَّسَ، غَيْرَ أنَّهُ لا يُكَنِّي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ لَهُ الأُسْقُفُّ عِنْدَ ذَلِكَ: قَدْ واللَّهِ تَعَّسْتَ نَبِيًّا مُرْسَلًا، فَقالَ لَهُ أبُو عَلْقَمَةَ: لا جَرَمَ واللَّهِ لا أحِلُّ عَنْها عَقْدًا حَتّى آتِيَهُ، فَضَرَبَ وجْهَ ناقَتِهِ نَحْوَ المَدِينَةِ، وثَنى الأُسْقُفُّ ناقَتَهُ عَلَيْهِ، فَقالَ لَهُ: افْهَمْ عَنِّي، إنَّما قُلْتُ هَذا لِيَبْلُغَ عَنِّي العَرَبَ مَخافَةَ أنْ يَرَوْا أنّا أخَذَتْنا حُمْقَةٌ، أوْ نَجَعْنا لِهَذا الرَّجُلِ بِما لَمْ يَنْجَعْ بِهِ العَرَبُ، ونَحْنُ أعَزُّهم وأجْمَعُهم دارًا. فَقالَ لَهُ أبُو عَلْقَمَةَ: واللَّهِ لا أقْبَلُكَ بَعْدَ ما خَرَجَ مِن رَأْسِكَ أبَدًا، ثُمَّ ضَرَبَ ناقَتَهُ وهو يَقُولُ:
؎إلَيْكَ تَعْدُو قَلِقًا وضِينُها ∗∗∗ مُعْتَرِضًا في بَطْنِها جَنِينُها
مُخالِفًا دِينَ النَّصارى دِينُها
حَتّى أتى النَّبِيَّ ﷺ فَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ، ثُمَّ اسْتُشْهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَإذا عُرِفَ هَذا فالعِلْمُ بِأنَّهُ ﷺ مَذْكُورٌ في الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ يُعْرَفُ مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
أحَدُها: إخْبارُ مَن قَدْ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ قَطْعًا بِأنَّهُ مَذْكُورٌ عِنْدَهم في كُتُبِهِمْ، فَقَدْ أخْبَرَ بِهِ مَن قامَ الدَّلِيلُ القَطْعِيُّ عَلى صِدْقِهِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِيهِ، إذْ تَكْذِيبُهُ والحالَةُ هَذِهِ مُمْتَنِعٌ لِذاتِهِ، هَذا لَوْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ إلّا مِن مُجَرَّدِ خَبَرِهِ، فَكَيْفَ إذا تَطابَقَتِ الأدِلَّةُ عَلى صِحَّةِ ما أخْبَرَ بِهِ.
الثّانِي: أنَّهُ جَعَلَ الإخْبارَ بِهِ مِن أعْظَمِ أدِلَّةِ صِدْقِهِ وصِفَةِ نُبُوَّتِهِ، وهَذا يَسْتَحِيلُ أنْ يَصْدُرَ إلّا مِن واثِقٍ كُلَّ الوُثُوقِ بِذَلِكَ وأنَّهُ عَلى يَقِينٍ جازِمٍ بِهِ.
الثّالِثُ: أنَّ المُؤْمِنِينَ بِهِ مِنَ الأحْبارِ والرُّهْبانِ الَّذِي آثَرُوا الحَقَّ عَلى الباطِلِ صَدَّقُوهُ في ذَلِكَ وشَهِدُوا لَهُ بِما قالَ.
الرّابِعُ: أنَّ المُكَذِّبِينَ الجاحِدِينَ لِنُبُوَّتِهِ لَمْ يُمْكِنْهم إنْكارُ البِشارَةِ والإخْبارُ بِنُبُوَّتِهِ وأنَّهُ نَبِيٌّ عَظِيمُ الشَّأْنِ صِفَتُهُ كَذا وكَذا، ونَعْتُهُ كَذا وكَذا، وصِفَةُ أُمَّتِهِ ومَخْرَجُهُ، ومَنشَؤُهُ، وشَأْنُهُ، لَكِنَّهم جَحَدُوا أنَّهُ هو الَّذِي وقَعَتْ بِهِ البِشارَةُ، وأنَّهُ نَبِيٌّ آخَرُ غَيْرُهُ، وعَلِمُوا هم والمُؤْمِنُونَ بِهِ مِن قَوْمِهِمْ أنَّهم رَكِبُوا مَتْنَ المُكابَرَةِ وامْتَطَوْا غارِبَ البَهْتِ.
الخامِسُ: أنَّ كَثِيرًا مِنهم صَرَّحَ لِخاصَّتِهِ وبِطانَتِهِ بِأنَّهُ هو بِعَيْنِهِ، وأنَّهُ عازِمٌ عَلى عَداوَتِهِ ما بَقِيَ كَما تَقَدَّمَ.
السّادِسُ: أنَّ إخْبارَ النَّبِيِّ ﷺ بِأنَّهُ مَذْكُورٌ في كُتُبِهِمْ هو فَرْدٌ مِن أفْرادِ إخْباراتِهِ بِما عِنْدَهم في كُتُبِهِمْ مِن شَأْنِ أنْبِيائِهِمْ وقَوْمِهِمْ، وما جَرى لَهُمْ، وقَصَصِ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ وأُمَمِهِمْ، وشَأْنِ المَبْدَأِ والمَعادِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا أخْبَرَتْ بِهِ الأنْبِياءُ، وكُلُّ ذَلِكَ مِمّا يَعْلَمُونَ صِدْقَهُ فِيهِ، ومُطابَقَتَهُ لِما عِنْدَهُمْ، وتِلْكَ الأخْبارُ أكْثَرُ مِن أنْ تُحْصى، ولَمْ يُكَذِّبُوهُ يَوْمًا واحِدًا في شَيْءٍ مِنها، وكانُوا أحْرَصَ شَيْءٍ عَلى أنْ يَظْفَرُوا مِنهُ بِكَذِبَةٍ واحِدَةٍ أوْ غَلْطَةٍ أوْ سَهْوٍ فَيُنادُونَ بِها عَلَيْهِ، ويَجِدُونَ بِها السَّبِيلَ إلى تَنْفِيرِ النّاسِ عَنْهُ، فَلَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِنهم يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، ولَمْ يَظْفَرُوا بِقَوْلٍ أنَّهُ أخْبَرَ بِكَذا وكَذا في كُتُبِنا وهو كاذِبٌ فِيهِ، بَلْ كانُوا يُصَدِّقُونَهُ في ذَلِكَ، وهم مُصِرُّونَ عَلى عَدَمِ اتِّباعِهِ، وهَذا مِن أعْظَمِ الأدِلَّةِ عَلى صِدْقِهِ فِيما أخْبَرَ بِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُعَلَمُ إلّا بِمُجَرَّدِ خَبَرِهِ.
السّابِعُ: أنَّهُ أخْبَرَ بِهَذا لِأعْدائِهِ مِنَ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا كِتابَ لَهم وأخْبَرَ بِهِ لِأعْدائِهِ مِن أهْلِ الكِتابِ وأخْبَرَ بِهِ لِأتْباعِهِ، فَلَوْ كانَ هَذا باطِلًا لا صِحَّةَ لَهُ، لَكانَ ذَلِكَ تَسْلِيطًا لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَسْألُوا أهْلَ الكِتابِ، فَيُنْكِرُونَ ذَلِكَ، وتَسْلِيطًا لِأهْلِ الكِتابِ عَلى الإنْكارِ، وتَسْلِيطًا لِأتْباعِهِ عَلى الرُّجُوعِ عَنْهُ، والتَّكْذِيبِ لَهُ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ، وذَلِكَ يَنْقُضُ الغَرَضَ المَقْصُودَ بِإخْبارِهِ مِن كُلِّ وجْهٍ، وهو بِمَنزِلَةِ رَجُلٍ يُخْبِرُ بِما يَشْهَدُ بِكَذِبِهِ، ويَجْعَلُ إخْبارَهُ دَلِيلًا عَلى صِدْقِهِ ويَجْعَلُ إخْبارَهُ تَصْدِيقًا، وهَذا لا يَصْدُرُ مِن عاقِلٍ ولا مَجْنُونٍ.
فَهَذِهِ الوُجُوهُ يُعْلَمُ بِها صِدْقُ ما أخْبَرَ بِهِ، وإنْ لَمْ يُعْلَمْ وُجُودُهُ مِن غَيْرِ جِهَةِ إخْبارِهِ، فَكَيْفَ وقَدْ عُلِمَ وُجُودُ ما أخْبَرَ بِهِ.
الثّامِنُ: أنَّهُ إنْ قُدِّرَ أنَّهم لَمْ يَعْلَمُوا بِشارَةَ الأنْبِياءِ بِهِ، وإخْبارَهم بِنَعْتِهِ وصِفَتِهِ، لَمْ يَلْزَمْ أنْ لا يَكُونُوا ذَكَرُوهُ وأخْبَرُوا بِهِ وبَشَّرُوا بِنُبُوَّتِهِ، إذْ لَيْسَ كُلُّ ما قالَهُ الأنْبِياءُ المُتَقَدِّمُونَ وصَلَ إلى المُتَأخِّرِينَ وأحاطُوا بِهِ عِلْمًا، وهَذا مِمّا يُعْلَمُ بِالاضْطِرادِ، فَكَمْ مِن قَوْلٍ قَدْ قالَهُ مُوسى وعِيسى عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولا عِلْمَ لِلْيَهُودِ والنَّصارى بِهِ، فَإذا أخْبَرَ بِهِ مَن قامَ الدَّلِيلُ القَطْعِيُّ عَلى صِدْقِهِ لَمْ يَكُنْ جَهْلُهم بِهِ مُوجِبًا لِرَدِّهِ وتَكْذِيبِهِ.
التّاسِعُ: أنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ في نُسَخٍ غَيْرِ هَذِهِ النُّسَخِ الَّتِي بِأيْدِيهِمْ، فَأُزِيلَ مِن بَعْضِها، ونُسِخَتْ هَذِهِ مِمّا أُزِيلُ مِنهُ. وقَوْلُهم إنَّ نُسَخَ التَّوْراةِ مُتَّفِقَةٌ في شَرْقِ الأرْضِ وغَرْبِها - كَذِبٌ ظاهِرٌ، فَهَذِهِ التَّوْراةُ الَّتِي بِأيْدِي النَّصارى، تُخالِفُ التَّوْراةَ الَّتِي بِأيْدِي اليَهُودِ، والَّتِي بِأيْدِي السّامِرَةِ تُخالِفُ هَذِهِ وهَذِهِ، وهَذِهِ نُسَخُ الإنْجِيلِ يُخالِفُ بَعْضُها بَعْضًا، ويُناقِضُهُ، فَدَعْواهم أنَّ نُسَخَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ مُتَّفِقَةٌ شَرْقًا وغَرْبًا مِنَ البَهْتِ والكَذِبِ الَّذِي يُرَوِّجُونَهُ عَلى أشْباهِ الأنْعامِ، حَتّى أنَّ هَذِهِ التَّوْراةَ الَّتِي بِأيْدِي اليَهُودِ فِيها مِنَ الزِّيادَةِ والتَّحْرِيفِ والنُّقْصانِ مِمّا لا يَخْفى عَلى الرّاسِخِينَ في العِلْمِ، وهم يَعْلَمُونَ قَطْعًا أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ في التَّوْراةِ الَّتِي أنْزَلَها اللَّهُ عَلى مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ حِكايَةَ نُزُولِ الألْواحِ، وكَيْفَ رَمى بِها مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وقِصَّةِ وفاةِ مُوسى.
وَنَفْسُ الألْواحِ كانَتْ هي التَّوْراةُ، ووَفاةُ مُوسى إنَّما حَدَثَتْ بَعْدَ نُزُولِ التَّوْراةِ بِسِنِينَ عَدِيدَةٍ.
وَمِنها حِكايَةُ مُوسى أنَّهُ نَسَخَ ما في الألْواحِ بِخَطِّهِ، ولا في الإنْجِيلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلى عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وَكَيْفَ يَكُونُ في الإنْجِيلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلى المَسِيحِ قِصَّةُ صَلْبِهِ، وما جَرى لَهُ، وأنَّهُ كَذا وكَذا وصُلِبَ يَوْمَ كَذا وكَذا، وصُلِبَ ودُفِنَ وقامَ مِنَ القَبْرِ بَعْدَ ثَلاثٍ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِمّا هو مِن كَلامِ شُيُوخِ النَّصارى، وغايَتُهُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ الحَوارِيِّينَ خَلَطُوهُ بِالإنْجِيلِ وسَمَّوُا الجَمِيعَ إنْجِيلًا، ولِذَلِكَ كانَتِ الأناجِيلُ عِنْدَهم أرْبَعَةً يُخالِفُ بَعْضُها بَعْضًا.
وَمِن بُهْتِهِمْ وكَذِبِهِمْ قَوْلُهُمْ: إنَّ التَّوْراةَ الَّتِي بِأيْدِيهِمْ وأيْدِي اليَهُودِ والسّامِرَةِ سَواءٌ.
والنَّصارى لا يُقِرُّونَ أنَّ الإنْجِيلَ مُنَزَّلٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ عَلى المَسِيحِ، وأنَّهُ كَلامُ اللَّهِ، بَلْ كُلُّ فِرَقِهِمْ مُجْمِعُونَ عَلى أنَّها أرْبَعَةُ (أناجِيلَ) تَوارِيخَ ألَّفَها أرْبَعَةُ رِجالٍ مَعْرُوفُونَ في أزْمانٍ مُخْتَلِفَةٍ، ولا يَعْرِفُونَ الإنْجِيلَ عَلى غَيْرِ هَذا.
إنْجِيلٌ ألَّفَهُ (مَتّى) تِلْمِيذُ المَسِيحِ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ مِن رَفْعِ المَسِيحِ، وكُتِبَ بِالعِبْرانِيَّةِ في بَلَدِ يَهُودا بِالشّامِ.
وَإنْجِيلٌ ألَّفَهُ (مُرْقُسُ) الهارُونِيُّ تِلْمِيذُ شَمْعُونَ بَعْدَ ثَلاثٍ وعِشْرِينَ سَنَةً مِن رَفْعِ المَسِيحِ، وكَتَبَهُ بِاليُونانِيَّةِ في بَلَدِ أنْطاكِيَةَ مِن بِلادِ الرُّومِ، ويَقُولُونَ إنَّ شَمْعُونَ المَذْكُورَ هو ألَّفَهُ، ثُمَّ مُحِيَ اسْمُهُ مِن أوَّلِهِ ونُسِبَ إلى تِلْمِيذِهِ مُرْقُسَ.
وَإنْجِيلٌ ألَّفَهُ (لُوقا) الطَّبِيبُ الأنْطاكِيُّ تِلْمِيذُ شَمْعُونَ بَعْدَ تَأْلِيفِ مُرْقُسَ.
وَإنْجِيلٌ ألَّفَهُ (يُوحَنّا) تِلْمِيذُ المَسِيحِ (بَعْدَ رَفْعِهِ) بِبِضْعٍ وسِتِّينَ سَنَةً، كَتَبَهُ بِاليُونانِيَّةِ.
وَكُلُّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأرْبَعَةِ يُسَمُّونَهُ الإنْجِيلَ، وبَيْنَها مِنَ التَّفاوُتِ والزِّيادَةِ والنُّقْصانِ ما يَعْلَمُهُ الواقِفُ عَلَيْها، وبَيْنَ تَوْراةِ السّامِرَةِ واليَهُودِ والنَّصارى مِن ذَلِكَ ما يَعْلَمُهُ الواقِفُ عَلَيْها.
فَدَعْوى الكاذِبِ الباحِثِ أنَّ نُسَخَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ مُتَّفِقَةٌ شَرْقًا وغَرْبًا، بُعْدًا وقُرْبًا مِن أعْظَمِ الفِرْيَةِ والكَذِبِ، وقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ مِن عُلَماءِ الإسْلامِ ما بَيْنَها مِنَ التَّفاوُتِ والزِّيادَةِ والنُّقْصانِ والتَّناقُضِ، لِمَن أرادَ الوُقُوفَ عَلَيْها، ولَوْلا الإطالَةُ وقَصْدُ ما هو أهَمُّ مِنهُ لَذَكَرْنا مِنهُ طَرَفًا كَبِيرًا.
وَقَدْ وبَّخَهُمُ اللَّهُ تَعالى سُبْحانَهُ وجُلَّ شَأْنُهُ، وبَكَّتَهم عَلى لِسانِ رَسُولِهِ بِالتَّحْرِيفِ والكِتْمانِ والإخْفاءِ، فَقالَ تَعالى: ﴿ياأهْلَ الكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالباطِلِ وتَكْتُمُونَ الحَقَّ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
وَقالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنا مِنَ البَيِّناتِ والهُدى مِن بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ في الكِتابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ويَلْعَنُهُمُ اللّاعِنُونَ﴾
وَقالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ ويَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ ما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إلّا النّارَ ولا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ وقالَ تَعالى: ﴿ياأهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكم رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكم كَثِيرًا مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتابِ ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكم مِنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ويُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ بِإذْنِهِ ويَهْدِيهِمْ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
وَأمّا التَّحْرِيفُ: فَقَدْ أخْبَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْهُ في مَواضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، وكَذَلِكَ لَيُّ اللِّسانِ بِالكِتابِ لِيَحْسَبَهُ السّامِعُ مِنهُ وما هو مِنهُ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أُمُورٍ:
أحَدُها: لَبْسُ الحَقِّ بِالباطِلِ، وهو خَلْطُهُ بِهِ بِحَيْثُ لا يَتَمَيَّزُ الحَقُّ مِنَ الباطِلِ.
الثّانِي: كِتْمانُ الحَقِّ.
الثّالِثُ: إخْفاؤُهُ وهو قَرِيبٌ مِن كِتْمانِهِ.
الرّابِعُ: تَحْرِيفُ الكَلِمِ عَنْ مَواضِعِهِ، وهو نَوْعانِ: تَحْرِيفُ لَفْظِهِ، وتَحْرِيفُ مَعْناهُ.
الخامِسُ: لَيُّ اللِّسانِ بِهِ لِيَلْتَبِسَ عَلى السّامِعِ اللَّفْظُ المُنَزَّلُ بِغَيْرِهِ.
وَهَذِهِ الأُمُورُ إنَّما ارْتَكَبُوها لِأغْراضٍ لَهم دَعَتْهم إلى ذَلِكَ. فَإذا عادَوُا الرَّسُولَ وجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وكَذَّبُوهُ وقاتَلُوهُ، فَهم إلى أنْ يَجْحَدُوا نَعْتَهُ وصِفَتَهُ، ويَكْتُمُوا ذَلِكَ ويُزِيلُوهُ عَنْ مَواضِعِهِ ويَتَأوَّلُوهُ عَلى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ - أقْرَبُ بِكَثِيرٍ، وهَكَذا فَعَلُوا، ولَكِنْ لِكَثْرَةِ البِشاراتِ
وَتَنَوُّعِها غُلِبُوا عَلى كِتْمانِها وإفْضائِها فَصارُوا إلى تَحْرِيفِ التَّأْوِيلِ وإزالَةِ مَعْناها عَمّا لا تَصْلُحُ لِغَيْرِهِ، وجَعْلِها لِمَعْدُومٍ لَمْ يَخْلُقْهُ اللَّهُ تَعالى ولا وُجُودَ لَهُ ألْبَتَّةَ.
العاشِرُ: أنَّهُ اسْتَشْهَدَ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ بِعُلَماءِ أهْلِ الكِتابِ، وقَدْ شَهِدَ لَهُ عُدُولُهم فَلا يَقْدَحُ جَحْدُ الكَفَرَةِ الكاذِبِينَ المُعانِدِينَ بَعْدَ ذَلِكَ، قالَ تَعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾.
وَقالَ تَعالى: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ واسْتَكْبَرْتُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾.
وَقالَ تَعالى: ﴿وَإنَّ مِن أهْلِ الكِتابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وما أُنْزِلَ إلَيْكم وما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسابِ﴾.
وَقالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ مِنهم قِسِّيسِينَ ورُهْبانًا وأنَّهم لا يَسْتَكْبِرُونَ وإذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرى أعْيُنَهم تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ﴾.
وَقالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ هم بِهِ يُؤْمِنُونَ وإذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنّا بِهِ إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّنا إنّا كُنّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ويَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾.
وَإذا شَهِدَ واحِدٌ مِن هَؤُلاءِ لَمْ يُوزَنْ بِهِ مِلْءُ الأرْضِ مِنَ الكَفَرَةِ، ولا تُعارَضُ شَهادَتُهُ بِجُحُودِ مِلْءِ الأرْضِ مِنَ الكَفَرَةِ، كَيْفَ والشّاهِدُ لَهُ مِن عُلَماءِ أهْلِ الكِتابِ أضْعافُ أضْعافِ المُكَذِّبِينَ لَهُ مِنهُمْ؟
وَلَيْسَ كُلُّ مَن قالَ مِن أشْباهِ الحَمِيرِ مِن عُبّادِ الصَّلِيبِ وأُمَّةِ الغَضَبِ، أنَّهُ مِن عُلَمائِهِمْ فَهو كَذَلِكَ - يَعْنِي عالِمًا -، كَما قالُوا، وإذا كانَ أكْثَرُ عَوامِ المُسْلِمِينَ يَظُنُّونَ أنَّهُ مِن عُلَمائِهِمْ - يَعْنِي أهْلَ الكِتابِ - لَيْسَ كَذَلِكَ فِيما ظَنَّ بِغَيْرِهِمْ؟ يَعْنِي عُلَماءَ المُسْلِمِينَ - .
وَعُلَماءُ أهْلِ الكِتابِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ مَن لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ فَلَيْسَ عُلَماؤُهم إلّا مَن آمَنَ بِهِ وصَدَّقَهُ، وإنْ دَخَلَ فِيهِمْ مَن عَلِمَ ولَمْ يَعْمَلْ كَعُلَماءِ السُّوءِ لَمْ يَكُنْ إنْكارُهم نُبُوَّتَهُ قادِحًا في شَهادَةِ العُلَماءِ القائِلِينَ بِعِلْمِهِمْ.
الحادِي عَشَرَ: أنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أنَّهُ لا ذِكْرَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِنَعْتِهِ ولا صِفَتِهِ ولا عَلامَتِهِ في الكُتُبِ الَّتِي بِأيْدِي أهْلِ الكِتابِ اليَوْمَ، لَمْ يَلْزَمْ مِن ذَلِكَ أنْ لا يَكُونَ مَذْكُورًا في الكُتُبِ الَّتِي كانَتْ بِأيْدِي أسْلافِهِمْ وقْتَ مَبْعَثِهِ ولا تَكُونُ اتَّصَلَتْ عَلى وجْهِها إلى هَؤُلاءِ، بَلْ حَرَّفَها أُولَئِكَ وبَدَّلُوا وكَتَمُوا، تَواصَوْا وكَتَبُوا ما أرادُوا، وقالُوا: هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ اشْتُهِرَتْ تِلْكَ الكُتُبُ وتَناقَلَها خَلَفُهم عَنْ سَلَفِهِمْ، فَصارَتِ المُغَيَّرَةُ المُبْدَلَةُ هي المَشْهُورَةُ، والصَّحِيحَةُ بَيْنَهم خَفِيَّةٌ جِدًّا، ولا سَبِيلَ إلى العِلْمِ بِاسْتِحالَةِ ذَلِكَ، بَلْ هو في غايَةِ الإمْكانِ.
فَهَؤُلاءِ السّامِرَةُ غَيَّرُوا مَواضِعَ مِنَ التَّوْراةِ ثُمَّ اشْتُهِرَتِ النُّسَخُ المُغَيَّرَةُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ فَلا يَعْرِفُونَ سِواها، وهُجِرَتْ بَيْنَهُمُ النُّسْخَةُ الصَّحِيحَةُ بِالكُلِّيَّةِ، وكَذَلِكَ التَّوْراةُ الَّتِي بِأيْدِي النَّصارى.
وَهَكَذا تُبَدَّلُ الأدْيانُ والكُتُبُ، ولَوْلا أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى تَوَلّى حِفْظَ القُرْآنِ بِذاتِهِ وضَمَنَ لِلْأُمَّةِ أنْ لا تَجْتَمِعَ عَلى ضَلالَةٍ - لَأصابَهُ ما أصابَ الكُتُبَ قَبْلَهُ، قالَ تَعالى: ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾.
الثّانِي عَشَرَ: أنَّهُ مِنَ المُمْتَنِعِ أنْ تَخْلُوَ الكُتُبُ المُتَقَدِّمَةُ عَنِ الإخْبارِ بِهَذا الأمْرِ العَظِيمِ الَّذِي لَمْ يَطْرُقِ العالَمَ مِن حِينِ خُلِقَ إلى قِيامِ السّاعَةِ أمْرٌ أعْظَمُ مِنهُ، ولا شَأْنٌ أكْبَرُ مِنهُ، فَإنَّ العِلْمَ بِهِ طَبَقَ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها، واسْتَمَرَّ عَلى تَعاقُبِ القُرُونِ وإلى أنْ يَرِثَ اللَّهُ الأرْضَ ومَن عَلَيْها، ومِثْلُ هَذا النَّبَأِ العَظِيمِ لا بُدَّ أنْ تُطابِقَ الرُّسُلُ عَلى الإخْبارِ بِهِ. وإذا كانَ الدَّجّالُ - رَجُلٌ كاذِبٌ يَخْرُجُ في آخِرِ الزَّمانِ وبَقاؤُهُ في الأرْضِ أرْبَعُونَ يَوْمًا وقِيلَ سِتَّةُ أشْهُرٍ - قَدْ تَطابَقَتِ الرُّسُلُ عَلى الإخْبارِ بِهِ، وأنْذَرَ بِهِ كُلُّ نَبِيِّ قَوْمَهُ مِن نُوحٍ إلى خاتَمِ الأنْبِياءِ، وخاتَمِ الرُّسُلِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وسَلَّمَ أجْمَعِينَ، فَكَيْفَ تَتَطابَقُ الكُتُبُ الإلَهِيَّةُ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها عَلى السُّكُوتِ عَنِ الإخْبارِ بِهَذا النَّبَأِ العَظِيمِ، وبِهَذا الأمْرِ العَظِيمِ الَّذِي لَمْ يَطْرُقِ العالَمَ أمْرٌ أعْظَمُ مِنهُ، ولا تَطَرُقُهُ أبَدًا. هَذا مِمّا لا يَسُوغُهُ عَقْلُ عاقِلٍ، وتَأْباهُ حِكْمَةُ أحْكَمِ الحاكِمِينَ، بَلِ الأمْرُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وما بَعَثَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى نَبِيًّا إلّا أخَذَ عَلَيْهِ المِيثاقَ بِالإيمانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وتَصْدِيقِهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكم مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أأقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكم إصْرِي قالُوا أقْرَرْنا قالَ فاشْهَدُوا وأنا مَعَكم مِنَ الشّاهِدِينَ﴾.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: ما بَعَثَ اللَّهُ مِن نَبِيٍّ إلّا أخَذَ عَلَيْهِ المِيثاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ وهو حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ولَيَنْصُرَنَّهُ، وأمَرَهُ أنْ يَأْخُذَ المِيثاقَ عَلى أُمَّتِهِ، لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وهم أحْياءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَيُبايِعُنَّهُ.
* (فَصْلٌ)
فَهَذِهِ الوُجُوهُ عَلى تَقْدِيرِ عَدَمِ العِلْمِ بِوُجُودِ نَعْتِهِ وصِفَتِهِ والخَبَرِ عَنْهُ في الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ ... ونَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَ ما ورَدَ فِيها مِنَ البِشارَةِ بِهِ، ونَعْتِهِ وصِفَتِهِ وصِفَةِ أُمَّتِهِ، وذَلِكَ يَظْهَرُ لَكَ مِن وُجُوهٍ:
(١ - بِشاراتُ التَّوْراةِ)
الوَجْهُ الأوَّلُ:
قَوْلُهُ في التَّوْراةِ: (أُقِيمُ لِبَنِي إسْرائِيلَ نَبِيًّا مِن إخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ أجْعَلُ كَلامِي في فِيهِ، ويَقُولُ لَهم ما آمُرُهُ، والَّذِي لا يَقْبَلُ قَوْلَ ذَلِكَ النَّبِيِّ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِي أنا أنْتَقِمُ مِنهُ ومِن سِبْطِهِ).
تَأْوِيلُ أهْلِ الكِتابِ لِهَذا النَّصِّ: فَهَذا النَّصُّ مِمّا لا يُمْكِنُ لِأحَدٍ مِنهم جَحْدُهُ وإنْكارُهُ: ولَكِنْ لِأهْلِ الكِتابِ فِيهِ أرْبَعَةُ طُرُقٍ:
أحَدُها: حَمْلُهُ عَلى المَسِيحِ، وهَذِهِ طَرِيقُ النَّصارى، وهو دَلِيلٌ يُخالِفُ مُعْتَقَدَهم في المَسِيحِ.
وَأمّا اليَهُودُ فَلَهم فِيهِ ثَلاثَةُ طُرُقٍ:
أحَدُها: عَلى حَذْفِ أداةِ الِاسْتِفْهامِ، والتَّقْدِيرُ (أأُقِيمَ لِبَنِي إسْرائِيلَ نَبِيًّا مِن إخْوَتِهِمْ) أيْ لا أفْعَلُ هَذا.
فَهُوَ اسْتِفْهامُ إنْكارٍ حُذِفَتْ مِنهُ أداةُ الِاسْتِفْهامِ.
الثّانِي: أنَّهُ خَبَرٌ ووَعِيدٌ ولَكِنَّ المُرادَ بِهِ شَمْوَئِيلُ النَّبِيُّ فَإنَّهُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ.
والبِشارَةُ إنَّما وقَعَتْ بِنَبِيٍّ مِن إخْوَتِهِمْ، وإخْوَةُ القَوْمِ هم بَنُو أبِيهِمْ، وهم بَنُو إسْرائِيلَ.
الثّالِثُ: أنَّهُ نَبِيٌّ يَبْعَثُهُ اللَّهُ في آخِرِ الزَّمانِ يُقِيمُ بِهِ مُلْكَ اليَهُودِ ويَعْلُو بِهِ شَأْنُهم وهم يَنْتَظِرُونَهُ الآنَ ويُسَمُّونَهُ المُنْتَظَرَ.
قالَ المُسْلِمُونَ: البِشارَةُ صَرِيحَةٌ في النَّبِيِّ العَرَبِيِّ الأُمِّيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لا تُحْتَمَلُ عَلى غَيْرِهِ، لِأنَّها إنَّما وقَعَتْ بِنَبِيٍّ مِن إخْوَةِ بَنِي إسْرائِيلَ لا مِن بَنِي إسْرائِيلَ أنْفُسِهِمْ، والمَسِيحُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، فَلَوْ كانَ المُرادُ بِها هو المَسِيحُ لَقالَ: أُقِيمَ لَهم نَبِيًّا مِن أنْفُسِهِمْ.
كَما قالَ تَعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِن أنْفُسِهِمْ، وإخْوَةُ بَنِي إسْرائِيلَ هم بَنُو إسْماعِيلَ، ولا يُقالُ في لُغَةِ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ إنْ بَنِي إسْرائِيلَ هم إخْوَةُ بَنِي إسْرائِيلَ، كَما أنَّ إخْوَةَ زَيْدٍ لا يَدْخُلُ فِيهِمْ زَيْدٌ نَفْسَهُ.
وَأيْضًا فَإنَّهُ قالَ: نَبِيًّا مِثْلَكَ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ صاحِبُ شَرِيعَةٍ عامَّةٍ مِثْلَ مُوسى، وهَذا يُبْطِلُ حَمْلَهُ عَلى شَمْوَئِيلَ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ أيْضًا، ويُبْطِلُ حَمْلَهُ عَلى يُوشَعَ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
أحَدُها: أنَّهُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ لا مِن إخْوَتِهِمْ.
الثّانِي أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ مُوسى، في التَّوْراةِ الَّتِي بِأيْدِيهِمْ: لا يَقُومُ في بَنِي إسْرائِيلَ مِثْلُ مُوسى.
الثّالِثُ: أنَّ يُوشَعَ نَبِيٌّ في زَمَنِ مُوسى، وهو كالِبُ، وهَذا الوَعْدُ إنَّما هو بِنَبِيٍّ يُقِيمُهُ اللَّهُ تَعالى بَعْدَ مُوسى.
وَبِهَذِهِ الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ يَبْطُلُ حَمْلُهُ عَلى هارُونَ، مَعَ أنَّ هارُونَ تُوُفِّيَ قَبْلَ مُوسى، ونَبَّأهُ اللَّهُ تَعالى مَعَ مُوسى في حَياتِهِ، ويَبْطَلُ ذَلِكَ مِن وجْهٍ رابِعٍ أيْضًا وهُوَ: أنَّ في هَذِهِ البِشارَةِ أنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ كِتابًا يَظْهَرُ لِلنّاسِ مِن فِيهِ، وهَذا لَمْ يَكُنْ لِأحَدٍ بَعْدَ مُوسى غَيْرِ النَّبِيِّ ﷺ، وهَذا مِن عَلاماتِ نُبُوَّتِهِ الَّتِي أخْبَرَ بِها الأنْبِياءُ المُتَقَدِّمُونَ، قالَ تَعالى: ﴿وَإنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وإنَّهُ لَفي زُبُرِ الأوَّلِينَ أوَلَمْ يَكُنْ لَهم آيَةً أنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إسْرائِيلَ﴾.
فالقُرْآنُ نَزَلَ عَلى قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وظَهَرَ لِلْأُمَّةِ مِن فِيهِ، ولا تَصِحُّ هَذِهِ البِشارَةُ عَلى المَسِيحِ بِاتِّفاقِ النَّصارى، لِأنَّها إنَّما جاءَتْ بِواحِدٍ مِن إخْوَةِ بَنِي إسْرائِيلَ، وبَنُو إسْرائِيلَ وإخْوَتُهم كُلُّهم عَبِيدٌ لِلَّهِ، لَيْسَ فِيهِمْ إلَهٌ، والمَسِيحُ عِنْدَهم إلَهٌ مَعْبُودٌ، وهو أجَلُّ عِنْدِهِمْ مِن أنْ يَكُونَ مِن إخْوَةِ بَنِي إسْرائِيلَ العَبِيدِ، والبِشارَةُ وقَعَتْ بِعَبْدٍ مَخْلُوقٍ يُقِيمُهُ اللَّهُ مِن جُمْلَةِ عِبادِهِ وإخْوَتِهِمْ، وغايَتُهُ أنْ يَكُونَ نَبِيًّا لا غايَةَ لَهُ فَوْقَها، وهَذا لَيْسَ هو المَسِيحُ عِنْدَ النَّصارى. وأمّا مَقالَتُهم أنَّهُ عَلى حَذْفِ ألِفِ الِاسْتِفْهامِ، وهو اسْتِفْهامُ إنْكارٍ، والمَعْنى (أأُقِيمَ لِبَنِي إسْرائِيلَ نَبِيًّا مِثْلَكَ) - عادَةٌ لَهم مَعْرُوفَةٌ في تَحْرِيفِ كَلامِ اللَّهِ عَنْ مَواضِعِهِ والكَذِبِ عَلى اللَّهِ، وقَوْلُهم لِما يُبَدِّلُونَهُ ويُحَرِّفُونَهُ: هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ.
وَحَمْلُ هَذا الكَلامُ عَلى الِاسْتِفْهامِ والإنْكارِ غايَةُ ما يَكُونُ مِنَ التَّحْرِيفِ والتَّبْدِيلِ.
وَهَذا التَّحْرِيفُ والتَّبْدِيلُ مِن مُعْجِزاتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّتِي أخْبَرَ بِها عَنِ اللَّهِ مِن تَحْرِيفِهِمْ وتَبْدِيلِهِمْ، فَأظْهَرَ اللَّهُ صِدْقَهُ في ذَلِكَ كُلِّهِ إلى كُلِّ ذِي لُبٍّ وعَقْلٍ، فازْدادَ إيمانًا إلى إيمانِهِ، وازْدادَ الكافِرُونَ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ.
قالَ في التَّوْراةِ في السِّفْرِ الخامِسِ: أقْبَلَ اللَّهُ مِن سَيْناءَ، وتَجَلّى مِن ساعِيرَ، وظَهَرَ مِن جِبالِ فارانَ، ومَعَهُ رَبْواتُ الأطْهارُ عَنْ يَمِينِهِ، وهَذِهِ مُتَضَمِّنَةٌ لِلنُّبُوّاتِ الثَّلاثَةِ: نُبُوَّةِ مُوسى، ونُبُوَّةِ عِيسى، ونُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
فَمَجِيئُهُ مِن سَيْناءَ وهو الجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى ونَبَأهُ عَلَيْهِ إخْبارٌ عَنْ نُبُوَّتِهِ.
وَتَجَلِّيهِ مِن ساعِيرَ هو مَظْهَرُ عِيسى المَسِيحِ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ، وساعِيرُ: قَرْيَةٌ مَعْرُوفَةٌ هُناكَ إلى اليَوْمِ، وهَذِهِ بِشارَةٌ بِنُبُوَّةِ المَسِيحِ.
وَفارانُ: هي مَكَّةُ، وشَبَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى نُبُوَّةَ مُوسى بِمَجِيءِ الصُّبْحِ، وفَلْقِهِ، ونُبُوَّةَ المَسِيحِ بَعْدَها بِإشْراقِهِ وضِيائِهِ، ونُبُوَّةَ خاتَمِ النَّبِيِّينَ بَعْدَهُما ﷺ بِاسْتِعْلانِ الشَّمْسِ وظُهُورِها وظُهُورِ ضَوْئِها في الآفاقِ، ووَقَعَ الأمْرُ كَما أخْبَرَ بِهِ سَواءً، فَإنَّ اللَّهَ صَدَعَ بِنُبُوَّةِ مُوسى لَيْلَ الكُفْرِ فَأضاءَ فَجْرَهُ بِنُبُوَّتِهِ، وزادَ الضِّياءُ والإشْراقُ بِنُبُوَّةِ المَسِيحِ، وكَمُلَ الضِّياءُ واسْتَعْلَنَ وطَبَقَ الأرْضَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَذِكْرُ هَذِهِ النُّبُوّاتِ الثَّلاثَةِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْها هَذِهِ البِشارَةُ نَظِيرُ ذِكْرِها في أوَّلِ سُورَةِ التِّينِ والتِّينِ والزَّيْتُونِ وطُورِ سِينِينَ وهَذا البَلَدِ الأمِينِ
فَذَكَرَ أمْكِنَةَ هَؤُلاءِ الأنْبِياءِ وأرْضَهُمُ الَّتِي خَرَجُوا مِنها، والتِّينِ والزَّيْتُونِ: المُرادُ بِهِ مَنبَتُهُما وأرْضُهُما، وهي الأرْضُ المُقَدَّسَةُ الَّتِي هي مَظْهَرُ المَسِيحِ، وطُورِ سِينِينَ الجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسى فَهو مَظْهَرُ نُبُوَّتُهُ، ووَهَذا البَلَدِ الأمِينِ: مَكَّةُ، حَرَمُ اللَّهِ وأمْنُهُ الَّتِي هي مَظْهَرُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ.
فَهَذِهِ الثَّلاثَةُ نَظِيرُ تِلْكَ الثَّلاثَةِ سَواءٌ.
قالَتِ اليَهُودُ: فارانُ هي أرْضُ الشّامِ ولَيْسَتْ أرْضَ الحِجازِ، ولَيْسَ هَذا بِبِدْعٍ مَن بَهْتِهِمْ وتَحْرِيفِهِمْ، وعِنْدَهم في التَّوْراةِ: أنَّ إسْماعِيلَ لَمّا فارَقَ أباهُ سَكَنَ في بَرِّيَّةِ فارانَ، هَكَذا نَطَقَتِ التَّوْراةُ ولَفْظُها (وَأقامَ إسْماعِيلُ في بَرِّيَّةِ فارانَ وأنْكَحَتْهُ أُمُّهُ امْرَأةً مِن أرْضِ مِصْرَ).
وَلا يَشْكُ عُلَماءُ أهْلِ الكِتابِ أنَّ فارانَ مَسْكَنٌ لِآلِ إسْماعِيلَ، فَقَدْ تَضَمَّنَتِ التَّوْراةُ نُبُوَّةً تَنْزِلُ بِأرْضِ فارانَ، وتَضَمَّنَتْ نُبُوَّةً تَنْزِلُ عَلى عَظِيمٍ مِن ولَدِ إسْماعِيلَ، وتَضَمَّنَتِ انْتِشارَ أُمَّتِهِ وأتْباعِهِ حَتّى يَمْلَئُوا السَّهْلَ والجَبَلَ، كَما سَنَذْكُرُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ.
وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذا شُبْهَةٌ أصْلًا أنَّ هَذِهِ هي نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّتِي نَزَلَتْ بِفارانَ عَلى أشْرَفِ ولَدِ إسْماعِيلَ حَتّى مَلَأ الأرْضَ ضِياءً ونُورًا، ومَلَأ أتْباعُهُ السَّهْلَ والجَبَلَ، ولا يَكْثُرُ عَلى الشَّعْبِ الَّذِي نَطَقَتِ التَّوْراةُ بِأنَّهم عادِمُو الرَّأْيِ والفَطانَةِ أنْ يَنْقَسِمُوا إلى جاهِلٍ بِذَلِكَ وجاحِدٍ مُكابِرٍ مُعانِدٍ.
وَلَفْظُ التَّوْراةِ فِيهِمْ: أنَّهُمُ الشَّعْبُ عادِمُ الرَّأْيِ، ولَيْسَ فِيهِمْ فَطانَةٌ.
وَيُقالُ لِهَؤُلاءِ المُكابِرِينَ: أيُّ نُبُوَّةٍ خَرَجَتْ مِنَ الشّامِ فاسْتَعْلَنَتِ اسْتِعْلانَ ضِياءِ الشَّمْسِ، وظَهَرَتْ فَوْقَ ظُهُورِ النُّبُوَّتَيْنِ قَبْلَها؟! وهَلْ هَذا إلّا بِمَنزِلَةِ مُكابَرَةِ مَن يَرى الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ مِنَ المَشْرِقِ فَيُغالِطُ ويُكابِرُ ويَقُولُ بَلْ طَلَعَتْ مِنَ المَغْرِبِ؟
قالَ في التَّوْراةِ في السِّفْرِ الأوَّلِ: (إنَّ المَلَكَ ظَهَرَ لِهاجَرَ أُمِّ إسْماعِيلَ، فَقالَ: يا هاجَرُ، مِن أيْنَ أقْبَلْتِ؟ وإلى أيْنَ تُرِيدِينَ؟ فَلَمّا شَرَحَتْ لَهُ الحالَ، قالَ: ارْجِعِي فَإنِّي سَأُكَثِّرُ ذُرِّيَّتَكِ وزَرْعَكِ حَتّى لا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وها أنْتِ تَحْبَلِينَ وتَلِدِينَ ابْنًا اسْمُهُ إسْماعِيلَ لِأنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ تَذَلُّلَكِ وخُضُوعَكِ، ووَلَدُكِ يَكُونُ وحْشِيَّ النّاسِ، وتَكُونُ يَدُهُ عَلى الكُلِّ، ويَدُ الكُلِّ مَبْسُوطَةٌ إلَيْهِ بِالخُضُوعِ).
وَهَذِهِ بِشارَةٌ تضمنت أنَّ يَدَ ابْنِها عَلى يَدِ كُلِّ الخَلائِقِ، وأنَّ كَلِمَتَهُ العُلْيا، وأنَّ يَدَ ابْنِها عالِيَةٌ، ويَدَ الخَلْقِ تَحْتَ يَدِهِ، فَمَن هَذا الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ هَذا الوَصْفُ سِوى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ.
{"ayah":"ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِیَّ ٱلۡأُمِّیَّ ٱلَّذِی یَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِی ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِیلِ یَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَیُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰۤىِٕثَ وَیَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَـٰلَ ٱلَّتِی كَانَتۡ عَلَیۡهِمۡۚ فَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُوا۟ ٱلنُّورَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ مَعَهُۥۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











