الباحث القرآني

وقوله تعالى: ﴿واخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا﴾ أي اختار منهم، وبهذا يحصل جواب السؤال الذي تورده القدرية يقولون في الكفر والمعاصي هل هي واقعة باختيار الله أم بغير اختياره فإن قلتم باختياره فكل مختار مرضي مصطفى محبوب فتكون مرضية محبوبة له، وإن قلتم بغير اختياره لم يكن بمشيئته واختياره. وجوابه أن يقال ما تعنون بالاختيار العام في اصطلاح المتكلمين وهو المشيئة والإرادة. أم تعنون به الاختيار الخاص الواقع في القرآن والسنة وكلام العرب. وإن أردتم بالاختيار الأول فهي واقعة باختياره بهذا الاعتبار لكن لا يجوز أن يطلق ذلك عليها لما في لفظ الاختيار من معنى الاصطفاء والمحبة بل يقال واقعة بمشيئته وقدرته، وإن أردتم بالاختيار معناه في القرآن ولغة العرب فهي غير واقعة باختياره بهذا المعنى وإن كانت واقعة بمشيئته. فإن قيل فهل تقولون إنها واقعة بإرادته أم لا تطلقون ذلك؟ قيل لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان إرادة كونية شاملة لجميع المخلوقات كقوله: ﴿فَعّالٌ لِما يُرِيدُ﴾ وقوله: ﴿وَإذا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً﴾ وقوله: ﴿إنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ ونظائر ذلك وإرادة دينية أمرية لا يجب وقوع مرادها كقوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ﴾ وقوله: ﴿واللَّهُ يُرِيدُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ فهي مرادة بالمعنى الأول غير مرادة بالمعنى الثاني. وكذلك إن قيل هل هي واقعة بإذنه أم لا؟ والإذن أيضا نوعان كوني كقوله: ﴿وَما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ وديني أمري كقوله: ﴿آللَّهُ أذِنَ لَكُم﴾ وقوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأنَّهم ظُلِمُوا﴾ ولفظ الاختيار مشتق من الخير المخالف للشر، ولما كان الأصل في الحي أنه يريد ما ينفعه وما هو خير سميت الإرادة اختيارا وهذا يتضمن أن الإرادة اختيارا لا ترجح نوعا على نوع إلا لمرجح رجح ذلك النوع عند الفاعل. والمقصود أنه يذكر العلم عند التخصيصات كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْناهم عَلى عِلْمٍ عَلى العالَمِينَ﴾ لا خلاف بين الناس أن المعنى على علم منا بأنهم أهل الاختيار فالجملة في موضع نصب على الحال أي اخترناهم عالمين بهم وبأحوالهم وما يقتضي اختيارهم من قبل خلقهم. ذكر سبحانه اختيارهم وحكمته في اختياره إياهم وذكر علمه الدال على مواضع حكمته واختياره. * (فائدة) "اخترت" أصله أن يتعدى بحرف الجر لأنه يتضمن إخراج شيء من شيء وجاء محذوفا في قوله تعالى: ﴿واخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ﴾ لتضمن الفعل معنى فعل غير متعد كأنه نخل قومه وميزهم وسبرهم ونحو ذلك فمن هاهنا والله أعلم أسقط حرف الجر كما سقط من "أمرتك الخير" أي ألزمتك وكلفتك لأن الأمر إلزام وتكليف ومنه تمرون الديار أي تعدونها وتجاوزونها ومنه رحبتك الديار أي وسعتك. (فائدة أخرى) الاختيار تقديم المجرور في باب اخترت وتأخير المفعول المجرد عن حرف الجر فتقول اخترت من الرجال زيدا ويجوز فيه التأخير فإذا أسقطت الحرف لم يحسن تأخير ما كان مجرورا به في الأصل فيقبح أن تقول اخترت زيدا الرجال واخترت عشرة الرجال أي من الرجال لما يوهم من كون المجرور في موضع النعت للعشرة وأنه ليس في موضع المفعول الثاني وأيضا فإن الرجال معرفة فهو أحق بالتقديم للاهتمام به كما لزم في تقديم المجرور الذي هو خبر عن النكرة من قولك في الدار رجل لكون المجرور معرفة وكأنه المخبر عنه فإذا حذفت حرف الجر لم يكن بد من التقديم للاسم الذي كان مجرورا نحو اخترت الرجال عشرة والحكمة في ذلك أن المعنى الداعي الذي من أجله حذف حرف الجر هو معنى غير لفظ فلم يقو على حذف حرف الجر إلا مع اتصاله به وقربه منه ووجه ثان وهو أن القليل الذي اختير من الكثير إذا كان مما يتبعض ثم ولي الفعل الذي هو اخترت توهم أنه مختار منه أيضا لأن كل ما يتبعض يجوز فيه أن يختار وأن يختار منه فألزموه التأخير وقدموا الاسم المختار منه وكان أولى بذلك لما سبق من القول فإن كان مما لا يتبعض نحو زيد وعمرو فربما جاز على قلة في الكلام نحو قول الشاعر: ومنا الذي اختير الرجال سماحة. وليس هذا كقولك اخترت فرسا الخيل لأن الفرس اسم جنس فقد يتبعض مثله ويختار منه وزيد من حيث كان جسما يتبعض ومن حيث كان علما على شيء بعينه لا يتبعض فتأمل هذا الموضع. فإن قيل: فما مقصود موسى بقوله: ﴿لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهم مِن قَبلُ﴾ [الأعراف: ١٥٥]. فقد ذكر فيه وجوه: فقال السدي: لما ماتوا قام موسى يبكي، ويقول: يا رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ وقال محمد بن إسحاق: اخترت منهم سبعين رجلا، الخير فالخير، أرجع إليهم وليس معى منهم رجل واحد؟ فما الذي يصدقونى به، أو يأمنوني عليه بعد هذا؟ وعلى هذا، فالمعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا. فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك، ولا يتهمونني. وقال الزجاج: المعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة. قلت: وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود. والذي يظهر - والله أعلم بمراده ومراد نبيه: أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل، حين عبد قومهم العجل، ولم ينكروا عليهم. يقول موسى: إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم. ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك، ولم تهلكهم، فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل. وهذا كما يقول من وأخذه سيده بجرم: لو شئت وأخذتني من قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم، ولكن وسعني عفوك أولا، فليسعني اليوم. ثم قال نبي الله ﴿أتهْلِكُنا بما فَعَلَ السُّفَهاء مِنّا﴾ فقال ابن الأنباري وغيره: هذا استفهام على معنى الجحد، أي لست تفعل ذلك. والسفهاء هنا: عبدة العجل. قال الفراء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال: ﴿أتُهْلِكُنا بما فَعَلَ السُّفَهاء مِنّا﴾ [الأعراف: ١٥٥]. وإنما كان إهلاكهم بقولهم: ﴿أرِنا اللهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] ثم قال ﴿إنّ هِى إلا فِتْنَتُكَ﴾. وهذا من تمام الاستعطاف، أي ما هي إلا ابتلاؤك واختبارك لعبادك. فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كله لك وبيدك، لا يكشفه إلا أنت، كما لم يمتحن به ويختبر به إلا أنت. فنحن عائذون بك منك. ولاجئون منك إليك.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب