الباحث القرآني
وهذه من أعظم آيات نبوته ورسالته لمن منحه الله فهمًا ولقد سئلت أم المؤمنين عن خلقه ﷺ، فأجابت بما شفى وكفى فقالت كان خلقه القرآن فهم سائلها أن يقوم لا يسألها شيئًا بعد ذلك ومن هذا قال ابن عباس وغيره أي على دين عظيم وسمى الدين خلقًا لأن الخلق هيئة مركبة من علوم صادقة وإرادات زاكية وأعمال ظاهرة وباطنة موافقة للعدل والحكمة والمصلحة وأقوال مطابقة للحق تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات فتكتسب النفس بها أخلاقًا هي أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها فهذه كانت أخلاق رسول الله المقتبسة من مشكاة القرآن فكان كلامه مطابقًا للقرآن تفصيلاله وتبيينا وعلومه علوم القرآن وإرادته وأعماله ما أوجبه وندب إليه القرآن وإعراضه وتركه لما منع منه القرآن ورغبته فيما رغب فيه وزهده فيما زهد فيه وكراهته لما كرهه ومحبته لما أحبه وسعيه في تنفيذ أوامره وتبليغه والجهاد في إقامته فترجمت أم المؤمنين لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول وحسن تعبيرها عن هذا كله بقولها كان خلقه القرآن وفهم هذا السائل لها عن هذا المعنى فاكتفى به واشتفى.
فإذا كانت أخلاق العباد وعلومهم وإراداتهم وأعمالهم مستفادة من القلم وما يسطرون وكان في خلق القلم والكتابة إنعام عليهم وإحسان إليهم إذ وصلوا به إلى ذلك فكيف ينكرون إنعامه وإحسانه على عبده ورسوله الذي أعطاه أعلى الأخلاق وأفضل العلوم والأعمال والإرادات التي لا تهتدي العقول إلى تفاصيلها من غير قلم ولا كتابة فهل هذا إلا من أعظم آيات نبوته وشواهد صدق رسالاته وسيعلم أعداؤه المكذبون له أيهم المفتون هو أم هم وقد علموا هم والعقلاء ذلك في الدنيا ويزداد علمهم في البرزخ وينكشف ويظهر كل الظهور في الآخرة بحيث تتساوى أقدام الخلائق في العلم به.
(فائِدَة جليلة)
جمع النبي بَين تقوى الله وحسن الخلق، لِأن تقوى الله يصلح ما بَين العَبْد وبَين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بَينه وبَين خلقه.
فتقوى الله توجب لَهُ محبَّة الله، وحسن الخلق يَدْعُو إلى محبته.
* [فَصْلٌ: المَحَبَّةُ أصْلُ كُلِّ دِينٍ]
وَكَما أنَّ المَحَبَّةَ والإرادَةَ أصْلُ كُلِّ فِعْلٍ كَما تَقَدَّمَ، فَهي أصْلُ كُلِّ دِينٍ سَواءٌ أكانَ حَقًّا أوْ باطِلًا، فَإنَّ الدِّينَ هو مِنَ الأعْمالِ الباطِنَةِ والظّاهِرَةِ، والمَحَبَّةُ والإرادَةُ أصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ، والدِّينُ هو الطّاعَةُ والعِبادَةُ والخُلُقُ، فَهو الطّاعَةُ اللّازِمَةُ الدّائِمَةُ الَّتِي صارَتْ خُلُقًا وعادَةً، ولِهَذا فُسِّرَ الخُلُقُ بِالدِّينِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤].
وَقالَ الإمامُ أحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَعَلى دِينٍ عَظِيمٍ.
«وَسُئِلَتْ عائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَتْ: " كانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ "».
والدِّينُ فِيهِ مَعْنى الإذْلالِ والقَهْرِ، وفِيهِ مَعْنى الذُّلِّ والخُضُوعِ والطّاعَةِ، فَلِذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الأعْلى إلى الأسْفَلِ، كَما يُقالُ: دِنْتُهُ فَدانَ، أيْ قَهَرَتْهُ فَذَلَّ.
قالَ الشّاعِرُ:
؎هُوَ دانَ الرَّبابَ إذْ كَرِهُوا الدِّ ∗∗∗ ينَ فَأضْحَوْا بِعِزَّةٍ وصِيالِ
وَيَكُونُ مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى، كَما يُقالُ: دِنْتُ اللَّهَ، ودِنْتُ لِلَّهِ، وفُلانٌ لا يَدِينُ اللَّهَ دِينًا، ولا يَدِينُ اللَّهَ بِدِينٍ، فَدانَ اللَّهَ: أيْ أطاعَ اللَّهَ وأحَبَّهُ وخافَهُ، ودانَ اللَّهَ: تَخَشَّعَ لَهُ وخَضَعَ وذَلَّ وانْقادَ.
والدِّينُ الباطِنُ لا بُدَّ فِيهِ مِنَ الحُبِّ والخُضُوعِ كالعِبادَةِ سَواءً، بِخِلافِ الدِّينِ الظّاهِرِ، فَإنَّهُ لا يَسْتَلْزِمُ الحُبَّ، وإنْ كانَ فِيهِ انْقِيادٌ وذُلٌّ في الظّاهِرِ.
* (فصل)
وَمِمّا يحمد عَلَيْهِ ﷺ ما جبله الله عَلَيْهِ من مَكارِم الأخْلاق وكرائم الشيم، فَإن من نظر في أخلاقه وشيمه ﷺ علم أنَّها خير أخْلاق الخلق وأكْرم شمائل الخلق فَإنَّهُ ﷺ كانَ أعلم الخلق وأعظمهم أمانَة وأصدقهم حَدِيثا وأحلمهم وأجودهم وأسخاهم وأشدهم احْتِمالا، وأعظمهم عفوا ومغفرة، وكانَ لا يزِيدهُ شدَّة الجَهْل عَلَيْهِ إلّا حلمًا
كَما روى البُخارِيّ في صَحِيحه عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُما أنه قالَ في صفة رَسُول الله ﷺ في التَّوْراة
"مُحَمَّد عَبدِي ورسولي سميته المتَوَكل لَيْسَ بِفَظٍّ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة ولَكِن يعْفُو ويصفح، ولنْ أقبضهُ حَتّى أقيم بِهِ الملَّة العوجاء بِأن يَقُولُوا لا إلَه إلّا الله، وأفتح بِهِ أعينًا عميا وآذانًا صمًّا وقُلُوبًا غلفًا"
وأرحم الخلق وأرأفهم بهم وأعظم الخلق نفعا لَهُم في دينهم ودنياهم وأفصح خلق الله، وأحْسَنهمْ تعبيرًا عَن المعانِي الكَثِيرَة بالألفاظ الوجيزة الدّالَّة على المُراد، وأصبرهم في مَواطِن الصَّبْر، وأصدقهم في مَواطِن اللِّقاء، وأوفاهم بالعهد والذمة وأعظمهم مُكافَأة على الجَمِيل بأضعافه وأشدهم تواضعًا وأعظمهم إيثارًا على نَفسه وأشد الخلق ذبًا عَن أصْحابه وحماية لَهُم ودفاعًا عَنْهُم وأقوم الخلق بِما يَأْمر بِهِ وأتركهم لما يُنْهِي عَنهُ وأوصل الخلق لرحمه فَهو أحَق بقول القائِل
؎(برد على الأدْنى ومرحمة ∗∗∗ وعَلى الأعادي مارن جلد)
قالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ "كانَ رَسُول الله ﷺ أجود النّاس صَدرا وأصدقهم لهجة وألينهم عَرِيكَة وأكْرمهمْ عشرَة
من رَآهُ بديهة هابه، ومن خالطه معرفَة أحبه، يَقُول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله ﷺ.
فَقَوله (كانَ أجود النّاس صَدرا)
أرادَ بِهِ بر الصَّدْر وكَثْرَة خَيره وأن الخَيْر يتفجر مِنهُ تفجيرًا وأنه منطو على كل خلق جميل وكل خير كَما قالَ بعض أهل العلم لَيْسَ في الدُّنْيا كلها مَحل كانَ أكثر خيرا من صدر رَسُول الله ﷺ قد جمع الخَيْر بحذافيره وأودع في صَدره ﷺ
وَقَوله (أصدق النّاس لهجة)
هَذا مِمّا أقرّ لَهُ بِهِ أعداؤه المحاربون لَهُ ولم يجرب عَلَيْهِ أحد من أعدائه كذبة واحِدَة قطّ دع شَهادَة أوليائه كلهم لَهُ بِهِ فقد حاربه أهل الأرْض بأنواع المحاربات مشركوهم وأهل الكتاب مِنهُم ولَيْسَ أحد مِنهُم يَوْمًا من الدَّهْر طعن فِيهِ بكذبة واحِدَة صَغِيرَة ولا كَبِيرَة
قالَ المسور بن مخرمَة قلت لأبي جهل وكانَ خالِي يا خال هَل كُنْتُم تتهمون مُحَمَّدًا بِالكَذِبِ قبل أن يَقُول مقالَته؟
فَقالَ والله يا ابْن أُخْتِي لقد كانَ مُحَمَّد وهو شاب يدعى فِينا الأمين، فَلَمّا وخطه الشيب لم يكن ليكذب.
قلت يا خال فَلم لا تتبعونه؟ فَقالَ يا ابْن أُخْتِي تنازعنا نَحن وبَنُو هاشم الشّرف فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا فَلَمّا تجاثينا على الركب وكُنّا كفرسي رهان قالُوا منا نَبِي فَمَتى نأتيهم بِهَذِهِ أو كَما قالَ.
وَقالَ تَعالى يسليه ويهون عَلَيْهِ قَول أعدائه ﴿قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإنَّهم لا يُكَذِّبُونَكَ ولَكِنَّ الظّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ولَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وأُوذُوا حَتّى أتاهم نَصْرُنا ولا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ولَقَدْ جاءَكَ مِن نَبَأِ المُرْسَلِينَ﴾
وَقَوله ألينهم عَرِيكَة يَعْنِي سهل لين قريب من النّاس مُجيب لدَعْوَة من دَعاهُ قاض لحاجَة من استقضاه جابر لقلب من قَصده لا يحرمه ولا يردهُ خائبًا إذا أرادَ أصْحابه مِنهُ أمرا وافقهم عَلَيْهِ وتابعهم فِيهِ وإن عزم على أمر لم يستبد دونهم بل يشاورهم ويؤامرهم وكانَ يقبل من محسنهم ويَعْفُو عَن مسيئهم
وَقَوله (أكْرمهم عشرَة)
يَعْنِي أنه لم يكن يعاشر جَلِيسا لَهُ إلّا أتم عشرَة وأحسنها وأكْرمها، فَكانَ لا يعبس في وجهه ولا يغلظ لَهُ في مقاله ولا يطوي عَنهُ بشره، ولا يمسك عَلَيْهِ فلتات لِسانه ولا يؤاخذه بِما يصدر مِنهُ من جفوة ونَحْوها بل يحسن إلى عشيره غايَة الإحْسان ويحْتَمل غايَة الِاحْتِمال فَكانَت عشرته لَهُم احْتِمال أذاهم وجفوتهم جملَة لا يُعاقب أحدا مِنهُم ولا يلومه ولا يباديه بِما يكره من خالطه يَقُول أنا أحب النّاس إلَيْهِ لما يرى من لطفه بِهِ وقربه مِنهُ وإقباله عَلَيْهِ واهتمامه بأمْره وتضحيته لَهُ وبذل إحسانه إلَيْهِ واحْتِمال جفوته فَأي عشرَة كانَت أو تكون أكْرم من هَذِه العشْرَة
قالَ الحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ سَألت أبي عَن سيرة النَّبِي ﷺ في جُلَسائِهِ، فَقالَ كانَ النَّبِي ﷺ دائِم البشر سهل الخلق لين الجانِب لَيْسَ بِفَظٍّ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح يتغافل عَمّا لا يَشْتَهِي ولا يؤيس مِنهُ راجيه ولا يخيب فِيهِ قد ترك نَفسه من ثَلاث المراء والإكثار وترك ما لا يعنيه كانَ لا يذم أحدا ولا يعِيبهُ ولا يطْلب عَوْرَته ولا يتَكَلَّم إلّا فِيما رجا ثَوابه وإذا تكلم أطرق جُلَساؤُهُ كَأنَّما على رؤوسهم الطير فَإذا سكت تكلمُوا لا يتنازعون عِنْده الحَدِيث ومن تكلم عِنْده أنْصتُوا لَهُ حَتّى يفرغ حَدِيثهمْ عند حَدِيث أوَّلهمْ يضْحك مِمّا يَضْحَكُونَ مِنهُ ويتعجب مِمّا يتعجبون مِنهُ ويصبر للغريب على الجفوة في مَنطِقه ومسألته حَتّى إن كانَ أصْحابه ليستجلبونهم ويَقُول إذا رَأيْتُمْ طالب حاجَة يطْلبها فأرفدوه ولا يقبل الثَّناء إلّا من مكافئ ولا يقطع على أحد حَدِيثه حَتّى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام.
وَقَوله (من رَآهُ بديهة هابه، ومن خالطه معرفَة أحبه)
وَصفه بصفتين خص الله بهما أهل الصدْق والإخْلاص وهما الإجلال والمحبة وكانَ قد ألْقى عَلَيْهِ هَيْبَة مِنهُ ومحبة فَكانَ كل من يراهُ يهابه ويجله ويملأ قلبه تَعْظِيمًا وإجلالًا وإن كانَ عدوا لَهُ فَإذا خالطه وعاشره كانَ أحب إلَيْهِ من كل مَخْلُوق فَهو المجل المُعظم المحبوب المكرم وهَذا كَمال المحبَّة أن تقرن بالتعظيم والهيبة، فالمحبة بِلا هَيْبَة ولا تَعْظِيم ناقِصَة والهيبة والتعظيم من غير محبَّة كَما تكون للغادر الظّالِم نقص أيْضا، والكمال أن تَجْتَمِع المحبَّة والود والتعظيم والإجلال وهَذا لا يُوجد إلّا إذا كانَ في المحبوب صِفات الكَمال الَّتِي يسْتَحق أن يعظم لأجلها ويُحب لأجلها ولما كانَ الله سُبْحانَهُ وتَعالى أحَق بِهَذا من كل أحد كانَ المُسْتَحق لِأن يعظم ويكبر ويهاب ويُحب ويَوَد بِكُل جُزْء من أجزاء القلب ولا يَجْعَل لَهُ شريك في ذَلِك وهَذا هو الشّرك الَّذِي لا يغفره الله سُبْحانَهُ أن يُسَوِّي بَينه وبَين غَيره في هَذا الحبّ قالَ تَعالى ﴿وَمن النّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أنْدادًا يُحِبُّونَهم كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أشد حبا لله﴾
فَأخْبر أن من أحب شَيْئا غير الله مثل حبه لله كانَ قد اتَّخذهُ ندا وقالَ أهل النّار في النّار لمعبودهم ﴿تاللَّهِ إنْ كُنّا لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ إذْ نُسَوِّيكم بِرَبِّ العالَمِينَ﴾.
* [فَصْلٌ مَنزِلَةُ الخُلُقِ]
[الخُلُقُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ]
وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ الخُلُقِ.
قالَ اللَّهُ تَعالى لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿وَإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤].
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ: لَعَلى دِينٍ عَظِيمٍ، لا دِينَ أحَبُّ إلَيَّ ولا أرْضى عِنْدِي مِنهُ. وهو دِينُ الإسْلامِ.
وَقالَ الحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هو آدابُ القُرْآنِ.
وَقالَ قَتادَةُ: هو ما كانَ يَأْمُرُ بِهِ مِن أمْرِ اللَّهِ. ويَنْهى عَنْهُ مِن نَهْيِ اللَّهِ.
والمَعْنى: إنَّكَ لَعَلى الخُلُقِ الَّذِي آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ في القُرْآنِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أنَّ هِشامَ بْنَ حَكِيمٍ سَألَ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ فَقالَتْ: كانَ خُلُقَهُ القُرْآنُ. فَقالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ أقُومَ ولا أسْألَ شَيْئًا.
وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ مَكارِمَ الأخْلاقِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩]
قالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِمَكارِمِ الأخْلاقِ. ولَيْسَ في القُرْآنِ آيَةٌ أجْمَعُ لِمَكارِمِ الأخْلاقِ مِن هَذِهِ الآيَةِ. وقَدْ ذُكِرَ: أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِجِبْرِيلَ:
«ما هَذا؟ قالَ: لا أدْرِي حَتّى أسْألَ، فَسَألَ. ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ. فَقالَ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أنْ تَصِلَ مَن قَطَعَكَ، وتُعْطِيَ مَن حَرَمَكَ، وتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ».
وَلا رَيْبَ أنَّ لِلْمُطاعِ مَعَ النّاسِ ثَلاثَةَ أحْوالٍ.
أحَدُها: أمْرُهم ونَهْيُهم بِما فِيهِ مَصْلَحَتُهم.
الثّانِي: أخْذُهُ مِنهم ما يَبْذُلُونَهُ مِمّا عَلَيْهِمْ مِنَ الطّاعَةِ.
الثّالِثُ: أنَّ النّاسَ مَعَهُ قِسْمانِ:
مُوافِقٌ لَهُ مُوالٍ، ومُعادٍ لَهُ مُعارِضٌ. وعَلَيْهِ في كُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ واجِبٌ.
فَواجِبُهُ في أمْرِهِمْ ونَهْيِهِمْ: أنْ يَأْمُرَ بِالمَعْرُوفِ. وهو المَعْرُوفُ الَّذِي بِهِ صَلاحُهم وصَلاحُ شَأْنِهِمْ. ويَنْهاهم عَنْ ضِدِّهِ.
وَواجِبُهُ فِيما يَبْذُلُونَهُ لَهُ مِنَ الطّاعَةِ: أنْ يَأْخُذَ مِنهم ما سَهُلَ عَلَيْهِمْ، وطُوِّعَتْ لَهُ بِهِ أنْفُسُهُمْ، سَماحَةً واخْتِيارًا. ولا يَحْمِلَهم عَلى العَنَتِ والمَشَقَّةِ فَيُفْسِدَهم.
وَواجِبُهُ عِنْدَ جَهْلِ الجاهِلِينَ عَلَيْهِ: الإعْراضُ عَنْهم. وعَدَمُ مُقابَلَتِهِمْ بِالمِثْلِ والِانْتِقامِ مِنهم لِنَفْسِهِ.
فَقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩]
قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أنْ يَأْخُذَ العَفْوَ مِن أخْلاقِ النّاسِ. وقالَ مُجاهِدٌ: يَعْنِي خُذِ العَفْوَ مِن أخْلاقِ النّاسِ وأعْمالِهِمْ مِن غَيْرِ تَخْسِيسٍ، مِثْلَ قَبُولِ الأعْذارِ، والعَفْوِ والمُساهَلَةِ، وتَرْكِ الِاسْتِقْصاءِ في البَحْثِ، والتَّفْتِيشِ عَنْ حَقائِقِ بَواطِنِهِمْ.
وَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: خُذْ ما عَفا لَكَ مِن أمْوالِهِمْ. وهو الفاضِلُ عَنِ العِيالِ، وذَلِكَ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩].
ثُمَّ قالَ تَعالى ﴿وَأْمُرْ بِالعُرْفِ﴾ [الأعراف: ١٩٩] وهو كُلُّ مَعْرُوفٍ. وأعْرَفُهُ: التَّوْحِيدُ. ثُمَّ حُقُوقُ العُبُودِيَّةِ وحُقُوقُ العَبِيدِ.
ثُمَّ قالَ تَعالى ﴿وَأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩]
يَعْنِي إذا سَفِهَ عَلَيْكَ الجاهِلُ فَلا تُقابِلْهُ بِالسَّفَهِ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان: ٦٣]
وَعَلى هَذا فَلَيْسَتْ بِمَنسُوخَةٍ. بَلْ يُعْرِضُ عَنْهُ مَعَ إقامَةِ حَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِ. ولا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ.
وَهَكَذا كانَ خُلُقُهُ ﷺ. قالَ أنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أحْسَنَ النّاسِ خُلُقًا».
وَقالَ: «ما مَسَسْتُ دِيباجًا ولا حَرِيرًا ألْيَنَ مِن كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. ولا شَمَمْتُ رائِحَةً قَطُّ أطْيَبَ مِن رائِحَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. ولَقَدْ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ. فَما قالَ لِي قَطُّ: أُفٍّ. ولا قالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ ولا لِشَيْءٍ لَمْ أفْعَلْهُ: ألا فَعَلْتَ كَذا؟» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِما.
وَأخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «أنَّ البِرَّ: هو حُسْنُ الخُلُقِ».
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّوّاسِ بْنِ سَمْعانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ
«سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ البِرِّ والإثْمِ؟ فَقالَ: البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ. والإثْمُ ما حاكَ في صَدْرِكَ. وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النّاسُ».
فَقابَلَ البِرَّ بِالإثْمِ.
وَأخْبَرَ: أنَّ البِرَّ حُسْنُ الخُلُقِ. والإثْمَ: حَوازُ الصُّدُورِ. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ حُسْنَ الخُلُقِ: هو الدِّينُ كُلُّهُ. وهو حَقائِقُ الإيمانِ، وشَرائِعُ الإسْلامِ. ولِهَذا قابَلَهُ بِالإثْمِ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «البِرُّ: ما اطْمَأنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ، والإثْمُ ما حاكَ في الصَّدْرِ»
وَقَدْ فُسِّرَ حُسْنُ الخُلُقِ بِأنَّهُ البِرُّ. فَدَلَّ عَلى أنَّ حُسْنَ الخُلُقِ: طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ والقَلْبِ. والإثْمُ حَوازُ الصُّدُورِ، وما حاكَ فِيها، واسْتَرابَتْ بِهِ.
وَهَذا غَيْرُ حُسْنِ الخُلُقِ وسُوئِهِ في عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ. كَما سَيَأْتِي في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «خِيارُكُمْ: أحاسِنُكم أخْلاقًا».
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «ما مِن شَيْءٍ أثْقَلَ في مِيزانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيامَةِ مِن حُسْنِ الخُلُقِ. وإنَّ اللَّهَ تَعالى لَيُبْغِضُ الفاحِشَ البَذِيءَ.»
قالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِيهِ أيْضًا - وصَحَّحَهُ - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ أكْثَرِ ما يُدْخِلُ النّاسَ الجَنَّةَ؟ فَقالَ: تَقْوى اللَّهِ، وحُسْنُ الخُلُقِ. وسُئِلَ عَنْ أكْثَرِ ما يُدْخِلُ النّاسَ النّارَ؟ فَقالَ: الفَمُ والفَرْجُ».
وَفِيهِ أيْضًا عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وصَحَّحَهُ - «إنَّ مِن أكْمَلِ المُؤْمِنِينَ إيمانًا: أحْسَنُهم خُلُقًا. وخِيارُكُمْ: خِيارُكم لِنِسائِهِمْ».
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عائِشَةَ عَنْهُ ﷺ
«إنَّ المُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصّائِمِ القائِمِ»
رَواهُ أبُو داوُدَ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عَنْهُ ﷺ
«أنا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ في رَبَضِ الجَنَّةِ: لِمَن تَرَكَ المِراءَ وإنْ كانَ مُحِقًّا. وبِبَيْتٍ في وسَطِ الجَنَّةِ: لِمَن تَرَكَ الكَذِبَ وإنْ كانَ مازِحًا، وبِبَيْتٍ في أعْلى الجَنَّةِ لِمَن حَسُنَ خُلُقُهُ»
رَواهُ الطَّبَرانِيُّ وإسْنادُهُ صَحِيحٌ.
فَجَعَلَ البَيْتَ العُلْوِيَّ جَزاءً لِأعْلى المَقاماتِ الثَّلاثَةِ.
وَهِيَ حُسْنُ الخُلُقِ. والأوْسَطَ لِأوْسَطِها. وهو تَرْكُ الكَذِبِ. والأدْنى لِأدْناها وهو تَرْكُ المُماراةِ، وإنْ كانَ مَعَهُ حَقٌّ. ولا رَيْبَ أنَّ حُسْنَ الخُلُقِ مُشْتَمِلٌ عَلى هَذا كُلِّهِ.
وَفِي التِّرْمِذِيَّ عَنْ جابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ ﷺ
«إنَّ مِن أحَبِّكم إلَيَّ، وأقْرَبِكم مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيامَةِ: أحاسِنُكم أخْلاقًا. وإنَّ مِن أبْغَضِكم إلَيَّ وأبْعَدِكم مِنِّي يَوْمَ القِيامَةِ: الثَّرْثارُونَ والمُتَشَدِّقُونَ والمُتَفَيْهِقُونَ.
قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ. قَدْ عَلِمْنا الثَّرْثارُونَ والمُتَشَدِّقُونَ. فَما المُتَفَيْهِقُونَ؟ قالَ: المُتَكَبِّرُونَ.»
الثَّرْثارُ: هو كَثِيرُ الكَلامِ بِغَيْرِ فائِدَةٍ دِينِيَّةٍ.
والمُتَشَدِّقُ: المُتَكَلِّمُ بِمِلْءِ فِيهِ تَفاصُحًا وتَعاظُمًا وتَطاوُلًا، وإظْهارًا لِفَضْلِهِ عَلى غَيْرِهِ. وأصْلُهُ مِنَ الفَهْقِ. وهو الِامْتِلاءُ.
* [فَصْلٌ: الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ]
الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ. فَمَن زادَ عَلَيْكَ في الخُلُقِ: زادَ عَلَيْكَ في الدِّينِ. وكَذَلِكَ التَّصَوُّفُ.
قالَ الكِنانِيُّ: التَّصَوُّفُ هو الخُلُقُ، فَمَن زادَ عَلَيْكَ في الخُلُقِ: فَقَدْ زادَ عَلَيْكَ في التَّصَوُّفِ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ حُسْنَ الخُلُقِ بَذْلُ النَّدى، وكَفُّ الأذى، واحْتِمالُ الأذى.
وَقِيلَ: حُسْنُ الخُلُقِ: بَذْلُ الجَمِيلِ، وكَفُّ القَبِيحِ.
وَقِيلَ: التَّخَلِّي مِنَ الرَّذائِلِ، والتَّحَلِّي بِالفَضائِلِ.
وَحُسْنُ الخُلُقِ يَقُومُ عَلى أرْبَعَةِ أرْكانٍ لا يُتَصَوَّرُ قِيامُ ساقِهِ إلّا عَلَيْها: الصَّبْرُ، والعِفَّةُ، والشَّجاعَةُ، والعَدْلُ.
فالصَّبْرُ: يَحْمِلُهُ عَلى الِاحْتِمالِ وكَظْمِ الغَيْظِ، وكَفِّ الأذى، والحِلْمِ والأناةِ والرِّفْقِ، وعَدَمِ الطَّيْشِ والعَجَلَةِ.
والعِفَّةُ: تَحْمِلُهُ عَلى اجْتِنابِ الرَّذائِلِ والقَبائِحِ مِنَ القَوْلِ والفِعْلِ، وتَحْمِلُهُ عَلى الحَياءِ. وهو رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ. وتَمْنَعُهُ مِنَ الفَحْشاءِ، والبُخْلِ والكَذِبِ، والغَيْبَةِ والنَّمِيمَةِ.
والشَّجاعَةُ: تَحْمِلُهُ عَلى عِزَّةِ النَّفْسِ، وإيثارِ مَعالِي الأخْلاقِ والشِّيَمِ، وعَلى البَذْلِ والنَّدى، الَّذِي هو شَجاعَةُ النَّفْسِ وقُوَّتُها عَلى إخْراجِ المَحْبُوبِ ومُفارَقَتِهِ. وتَحْمِلُهُ عَلى كَظْمِ الغَيْظِ والحِلْمِ.
فَإنَّهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وشَجاعَتِها يُمْسِكُ عِنانَها، ويَكْبَحُها بِلِجامِها عَنِ النَّزْغِ والبَطْشِ. كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، إنَّما الشَّدِيدُ: الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»
وَهُوَ حَقِيقَةُ الشَّجاعَةِ، وهي مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِها العَبْدُ عَلى قَهْرِ خَصْمِهِ.
والعَدْلُ: يَحْمِلُهُ عَلى اعْتِدالِ أخْلاقِهِ، وتَوَسُّطِهِ فِيها بَيْنَ طَرَفَيِ الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ. فَيَحْمِلُهُ عَلى خُلُقِ الجُودِ والسَّخاءِ الَّذِي هو تَوَسُّطٌ بَيْنَ الذُّلِّ والقِحَةِ. وعَلى خُلُقِ الشَّجاعَةِ، الَّذِي هو تَوَسُّطٌ بَيْنَ الجُبْنِ والتَّهَوُّرِ. وعَلى خُلُقِ الحِلْمِ، الَّذِي هو تَوَسُّطٌ بَيْنَ الغَضَبِ والمَهانَةِ وسُقُوطِ النَّفْسِ.
وَمَنشَأُ جَمِيعِ الأخْلاقِ الفاضِلَةِ مِن هَذِهِ الأرْبَعَةِ.
وَمَنشَأُ جَمِيعِ الأخْلاقِ السّافِلَةِ، وبِناؤُها عَلى أرْبَعَةِ أرْكانٍ:
الجَهْلُ. والظُّلْمُ. والشَّهْوَةُ. والغَضَبُ.
فالجَهْلُ: يُرِيهِ الحَسَنَ في صُورَةِ القَبِيحِ، والقَبِيحَ في صُورَةِ الحَسَنِ. والكَمالَ نَقْصًا والنَّقْصَ كَمالًا.
والظُّلْمُ: يَحْمِلُهُ عَلى وضْعِ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَيَغْضَبُ في مَوْضِعِ الرِّضا. ويَرْضى في مَوْضِعِ الغَضَبِ. ويَجْهَلُ في مَوْضِعِ الأناةِ. ويَبْخَلُ في مَوْضِعِ البَذْلِ. ويَبْذُلُ في مَوْضِعِ البُخْلِ. ويُحْجِمُ في مَوْضِعِ الإقْدامِ. ويُقْدِمُ في مَوْضِعِ الإحْجامِ. ويَلِينُ في مَوْضِعِ الشِّدَّةِ. ويَشْتَدُّ في مَوْضِعِ اللِّينِ. ويَتَواضَعُ في مَوْضِعِ العِزَّةِ. ويَتَكَبَّرُ في مَوْضِعِ التَّواضُعِ.
والشَّهْوَةُ: تَحْمِلُهُ عَلى الحِرْصِ والشُّحِّ والبُخْلِ، وعَدَمِ العِفَّةِ والنَّهْمَةِ والجَشَعِ، والذُّلِّ والدَّناءاتِ كُلِّها.
والغَضَبُ: يَحْمِلُهُ عَلى الكِبْرِ والحِقْدِ والحَسَدِ، والعُدْوانِ والسَّفَهِ.
وَيَتَرَكَّبُ مِن بَيْنِ كُلِّ خُلُقَيْنِ مِن هَذِهِ الأخْلاقِ: أخْلاقٌ مَذْمُومَةٌ.
وَمِلاكُ هَذِهِ الأرْبَعَةِ أصْلانِ:
إفْراطُ النَّفْسِ في الضَّعْفِ، وإفْراطُها في القُوَّةِ. فَيَتَوَلَّدُ مِن إفْراطِها في الضَّعْفِ: المَهانَةُ والبُخْلُ، والخِسَّةُ واللُّؤْمُ، والذُّلُّ والحِرْصُ، والشُّحُّ وسَفْسافُ الأُمُورِ والأخْلاقِ.
وَيَتَوَلَّدُ مِن إفْراطِها في القُوَّةِ: الظُّلْمُ والغَضَبُ والحِدَّةُ، والفُحْشُ والطَّيْشُ.
وَيَتَوَلَّدُ مِن تَزَوُّجِ أحَدِ الخُلُقَيْنِ بِالآخَرِ أوْلادُ غِيَّةٍ كَثِيرُونَ. فَإنَّ النَّفْسَ قَدْ تَجْمَعُ قُوَّةً وضَعْفًا. فَيَكُونُ صاحِبُها أجْبَرَ النّاسِ إذا قَدَرَ، وأذَلَّهم إذا قُهِرَ، ظالِمًا عَنُوفًا جَبّارًا. فَإذا قُهِرَ صارَ أذَلَّ مِنِ امْرَأةٍ: جَبانًا عَنِ القَوِيِّ، جَرِيئًا عَلى الضَّعِيفِ.
فالأخْلاقُ الذَّمِيمَةُ: يُوَلِّدُ بَعْضُها بَعْضًا، كَما أنَّ الأخْلاقَ الحَمِيدَةَ: يُوَلِّدُ بَعْضُها بَعْضًا.
وَكُلُّ خُلُقٍ مَحْمُودٍ مُكْتَنَفٌ بِخُلُقَيْنِ ذَمِيمَيْنِ. وهو وسَطٌ بَيْنَهُما. وطَرَفاهُ خُلُقانِ ذَمِيمانِ، كالجُودِ: الَّذِي يَكْتَنِفُهُ خُلُقا البُخْلِ والتَّبْذِيرِ. والتَّواضُعِ: الَّذِي يَكْتَنِفُهُ خُلُقا الذُّلِّ والمَهانَةِ. والكِبْرِ والعُلُوِّ.
فَإنَّ النَّفْسَ مَتى انْحَرَفَتْ عَنِ التَّوَسُّطِ انْحَرَفَتْ إلى أحَدِ الخُلُقَيْنِ الذَّمِيمَيْنِ ولا بُدَّ، فَإذا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ التَّواضُعِ انْحَرَفَتْ: إمّا إلى كِبْرٍ وعُلُوٍّ، وإمّا إلى ذُلٍّ ومَهانَةٍ وحَقارَةٍ. وإذا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الحَياءِ انْحَرَفَتْ: إمّا إلى قِحَةٍ وجُرْأةٍ، وإمّا إلى عَجْزٍ وخَوَرٍ ومَهانَةٍ، بِحَيْثُ يُطْمِعُ في نَفْسِهِ عَدُوَّهُ. ويَفُوتُهُ كَثِيرٌ مِن مَصالِحِهِ. ويَزْعُمُ أنَّ الحامِلَ لَهُ عَلى ذَلِكَ الحَياءُ. وإنَّما هو المَهانَةُ والعَجْزُ، ومَوْتُ النَّفْسِ.
وَكَذَلِكَ إذا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الصَّبْرِ المَحْمُودِ انْحَرَفَتْ: إمّا إلى جَزَعٍ وهَلَعٍ وجَشَعٍ وتَسَخُّطٍ، وإمّا إلى غِلْظَةِ كَبِدٍ، وقَسْوَةِ قَلْبٍ، وتَحَجُّرِ طَبْعٍ. كَما قالَ بَعْضُهُمْ:
تَبْكِي عَلَيْنا. ولا نَبْكِي عَلى أحَدٍ فَنَحْنُ أغْلَظُ أكْبادًا مِنَ الإبِلِ. وإذا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الحِلْمِ انْحَرَفَتْ: إمّا إلى الطَّيْشِ والتَّرَفِ والحِدَّةِ والخِفَّةِ، وإمّا إلى الذُّلِّ والمَهانَةِ والحَقارَةِ. فَفَرْقٌ بَيْنَ مَن حِلْمُهُ حِلْمُ ذُلٍّ ومَهانَةٍ وحَقارَةٍ وعَجْزٍ، وبَيْنَ مَن حِلْمُهُ حِلْمُ اقْتِدارٍ وعَزَّةٍ وشَرَفٍ. كَما قِيلَ:
؎كُلُّ حِلْمٍ أتى بِغَيْرِ اقْتِدارٍ ∗∗∗ حُجَّةٌ لاجِئٌ إلَيْها اللِّئامُ
وَإذا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الأناةِ والرِّفْقِ انْحَرَفَتْ: إمّا إلى عَجَلَةٍ وطَيْشٍ وعُنْفٍ، وإمّا إلى تَفْرِيطٍ وإضاعَةٍ. والرِّفْقُ والأناةُ بَيْنَهُما.
وَإذا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ العِزَّةِ الَّتِي وهَبَها اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، انْحَرَفَتْ: إمّا إلى كِبْرٍ، وإمّا إلى ذُلٍّ. والعِزَّةُ المَحْمُودَةُ بَيْنَهُما.
وَإذا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الشَّجاعَةِ انْحَرَفَتْ: إمّا إلى تَهَوُّرٍ وإقْدامٍ غَيْرِ مَحْمُودٍ، وإمّا إلى جُبْنٍ وتَأخُّرٍ مَذْمُومٍ.
وَإذا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ المُنافَسَةِ في المَراتِبِ العالِيَةِ والغِبْطَةِ انْحَرَفَتْ: إمّا إلى حَسَدٍ، وإمّا إلى مَهانَةٍ، وعَجْزٍ وذُلٍّ ورِضا بِالدُّونِ.
وَإذا انْحَرَفَتْ عَنِ القَناعَةِ انْحَرَفَتْ: إمّا إلى حِرْصٍ وكَلَبٍ، وإمّا إلى خِسَّةٍ ومَهانَةٍ وإضاعَةٍ.
وَإذا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الرَّحْمَةِ انْحَرَفَتْ: إمّا إلى قَسْوَةٍ، وإمّا إلى ضَعْفِ قَلْبٍ وجُبْنِ نَفْسٍ، كَمَن لا يَقْدَمُ عَلى ذَبْحِ شاةٍ، ولا إقامَةِ حَدٍّ، وتَأْدِيبِ ولَدٍ. ويَزْعُمُ أنَّ الرَّحْمَةَ تَحْمِلُهُ عَلى ذَلِكَ. وقَدْ ذَبَحَ أرْحَمُ الخَلْقِ ﷺ بِيَدِهِ في مَوْضِعٍ واحِدٍ ثَلاثًا وسِتِّينَ بَدَنَةً. وقَطَعَ الأيْدِيَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ. وضَرَبَ الأعْناقَ. وأقامَ الحُدُودَ ورَجَمَ بِالحِجارَةِ حَتّى ماتَ المَرْجُومُ. وكانَ أرْحَمَ خَلْقِ اللَّهِ عَلى الإطْلاقِ وأرْأفَهم.
وَكَذَلِكَ طَلاقَةُ الوَجْهِ، والبِشْرُ المَحْمُودُ. فَإنَّهُ وسَطٌ بَيْنَ التَّعْبِيسِ والتَّقْطِيبِ وتَصْعِيرِ الخَدِّ، وطَيِّ البِشْرِ عَنِ البَشَرِ، وبَيْنَ الِاسْتِرْسالِ بِذَلِكَ مَعَ كُلِّ أحَدٍ، بِحَيْثُ يُذْهِبُ الهَيْبَةَ، ويُزِيلُ الوَقارَ، ويُطْمِعُ في الجانِبِ، كَما أنَّ الِانْحِرافَ الأوَّلَ يُوقِعُ الوَحْشَةَ والبَغْضَةَ، والنُّفْرَةَ في قُلُوبِ الخَلْقِ.
وَصاحِبُ الخُلُقِ الوَسَطِ: مَهِيبٌ مَحْبُوبٌ، عَزِيزٌ جانِبُهُ، حَبِيبٌ لِقاؤُهُ. وفي صِفَةِ نَبِيِّنا ﷺ مَن رَآهُ بَدِيهَةً هابَهُ. ومَن خالَطَهُ عِشْرَةً أحَبَّهُ واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ: تَغْيِيرُ الأخْلاقِ الَّتِي طُبِعَتِ النُّفُوسُ عَلَيْها]
نافِعٌ جِدًّا عَظِيمُ النَّفْعِ لِلسّالِكِ. يُوصِلُهُ عَنْ قَرِيبٍ، ويُسَيِّرُهُ بِأخْلاقِهِ الَّتِي لا يُمْكِنُهُ إزالَتُها. فَإنَّ أصْعَبَ ما عَلى الطَّبِيعَةِ الإنْسانِيَّةِ: تَغْيِيرُ الأخْلاقِ الَّتِي طُبِعَتِ النُّفُوسُ عَلَيْها. وأصْحابُ الرِّياضاتِ الصَّعْبَةِ والمُجاهَداتِ الشّاقَّةِ إنَّما عَمِلُوا عَلَيْها، ولَمْ يَظْفَرْ أكْثَرُهم بِتَبْدِيلِها. لَكِنَّ النَّفْسَ اشْتَغَلَتْ بِتِلْكَ الرِّياضاتِ عَنْ ظُهُورِ سُلْطانِها. فَإذا جاءَ سُلْطانُ تِلْكَ الأخْلاقِ وبَرَزَ: كَسَرَ جُيُوشَ الرِّياضَةِ وشَتَّتَها. واسْتَوْلى عَلى مَمْلَكَةِ الطَّبْعِ.
وَهَذا فَصْلٌ يَصِلُ بِهِ السّالِكُ مَعَ تِلْكَ الأخْلاقِ. ولا يَحْتاجُ إلى عِلاجِها وإزالَتِها. ويَكُونُ سَيْرُهُ أقْوى وأجَلَّ وأسْرَعَ مِن سَيْرِ العامِلِ عَلى إزالَتِها.
وَنُقَدِّمُ قَبْلَ هَذا مَثَلًا نَضْرِبُهُ. مُطابِقًا لِما نُرِيدُهُ. وهُوَ: نَهْرٌ جارٍ في صَبَبِهِ ومُنْحَدَرِهِ، ومُنْتَهٍ إلى تَغْرِيقِ أرْضٍ وعُمْرانٍ ودُورٍ. وأصْحابُها يَعْلَمُونَ أنَّهُ لا يَنْتَهِي حَتّى يُخَرِّبَ دُورَهم. ويُتْلِفَ أراضِيَهم وأمْوالَهم. فانْقَسَمُوا ثَلاثَ فِرَقٍ.
فِرْقَةٌ صَرَفَتْ قُواها وقُوى أعْمالِها إلى سَكْرِهِ وحَبْسِهِ وإيقافِهِ. فَلا تَصْنَعُ هَذِهِ الفِرْقَةُ كَبِيرَ أمْرٍ. فَإنَّهُ يُوشِكُ أنْ يَجْتَمِعَ ثُمَّ يَحْمِلَ عَلى السَّكْرِ، فَيَكُونُ إفْسادُهُ وتَخْرِيبُهُ أعْظَمَ.
وَفِرْقَةٌ رَأتْ هَذِهِ الحالَةَ. وعَلِمَتْ أنَّهُ لا يُغْنِي عَنْها شَيْئًا. فَقالَتْ: لا خَلاصَ مِن مَحْذُورِهِ إلّا بِقَطْعِهِ مِن أصْلِ اليَنْبُوعِ. فَرامَتْ قَطْعَهُ مِن أصْلِهِ. فَتَعَذَّرَ عَلَيْها ذَلِكَ غايَةَ التَّعَذُّرِ، وأبَتِ الطَّبِيعَةُ النَّهْرِيَّةُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أشَدَّ الإباءِ، فَهم دائِمًا في قَطْعِ اليَنْبُوعِ، وكُلَّما سَدُّوهُ مِن مَوْضِعٍ نَبَعَ مِن مَوْضِعٍ، فاشْتَغَلَ هَؤُلاءِ بِشَأْنِ هَذا النَّهْرِ عَنِ الزِّراعاتِ والعِماراتِ وغَرْسِ الأشْجارِ.
فَجاءَتْ فِرْقَةٌ ثالِثَةٌ، خالَفَتْ رَأْيَ الفِرْقَتَيْنِ. وعَلِمُوا أنَّهم قَدْ ضاعَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِن مَصالِحِهِمْ. فَأخَذُوا في صَرْفِ ذَلِكَ النَّهْرِ عَنْ مَجْراهُ المُنْتَهِي إلى العُمْرانِ، فَصَرَفُوهُ إلى مَوْضِعٍ يَنْتَفِعُونَ بِوُصُولِهِ إلَيْهِ. ولا يَتَضَرَّرُونَ بِهِ. فَصَرَفُوهُ إلى أرْضٍ قابِلَةٍ لِلنَّباتِ. وسَقَوْها بِهِ. فَأنْبَتَتْ أنْواعَ العُشْبِ والكَلَأِ والثِّمارِ المُخْتَلِفَةِ الأصْنافِ، فَكانَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ هم أصْوَبَ الفِرَقِ في شَأْنِ هَذا النَّهْرِ.
فَإذا تَبَيَّنَ هَذا المَثَلُ، فاللَّهُ سُبْحانَهُ قَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ: أنْ رَكَّبَ الإنْسانَ - بَلْ وسائِرَ الحَيَوانِ - عَلى طَبِيعَةٍ مَحْمُولَةٍ عَلى قُوَّتَيْنِ: غَضَبِيَّةٍ. وشَهْوانِيَّةٍ. وهي الإرادِيَّةُ.
وَهاتانِ القُوَّتانِ هُما الحامِلَتانِ لِأخْلاقِ النَّفْسِ وصِفاتِها.
وَهُما مَرْكُوزَتانِ في جِبِلَّةِ كُلِّ حَيَوانٍ. فَبِقُوَّةِ الشَّهْوَةِ والإرادَةِ: يَجْذِبُ المَنافِعَ إلى نَفْسِهِ. وبِقُوَّةِ الغَضَبِ: يَدْفَعُ المَضارَّ عَنْها. فَإذا اسْتَعْمَلَ الشَّهْوَةَ في طَلَبِ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ: تَوَلَّدَ مِنها الحِرْصُ.
وَإذا اسْتَعْمَلَ الغَضَبَ في دَفْعِ المَضَرَّةِ عَنْ نَفْسِهِ: تَوَلَّدَ مِنهُ القُوَّةُ والغَيْرَةُ. فَإذا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ الضّارِّ: أوْرَثَهُ قُوَّةَ الحِقْدِ.
وَإنْ أعْجَزَهُ وُصُولُ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ، ورَأى غَيْرَهُ مُسْتَبِدًّا بِهِ: أوْرَثَهُ الحَسَدَ.
فَإنْ ظَفِرَ بِهِ: أوْرَثَتْهُ شِدَّةُ شَهْوَتِهِ وإرادَتُهُ: خُلُقَ البُخْلِ والشُّحِّ. وإنِ اشْتَدَّ حِرْصُهُ وشَهْوَتُهُ عَلى الشَّيْءِ، ولَمْ يُمْكِنْهُ تَحْصِيلُهُ إلّا بِالقُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ، فاسْتَعْمَلَها فِيهِ: أوْرَثَهُ ذَلِكَ العُدْوانَ، والبَغْيَ والظُّلْمَ.
وَمِنهُ يَتَوَلَّدُ: الكِبْرُ والفَخْرُ والخُيَلاءُ. فَإنَّها أخْلاقٌ مُتَوَلَّدَةٌ مِن بَيْنِ قُوَّتَيِ الشَّهْوَةِ والغَضَبِ، وتَزَوُّجِ أحَدِهِما بِصاحِبِهِ.
فَإذا تَبَيَّنَ هَذا: فالنَّهْرُ مِثالُ هاتَيْنِ القُوَّتَيْنِ. وهو مُنْصَبٌّ في جَدْوَلِ الطَّبِيعَةِ ومَجْراها إلى دُورِ القَلْبِ وعُمْرانِهِ وحَواصِلِهِ، يُخَرِّبُها ويُتْلِفُها ولا بُدَّ. فالنُّفُوسُ الجاهِلَةُ الظّالِمَةُ تَرَكَتْهُ ومَجْراهُ. فَخَرَّبَ دِيارَ الإيمانِ. وقَلَعَ آثارَهُ. وهَدَمَ عُمْرانَهُ. وأنْبَتَ مَوْضِعَها كُلَّ شَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ، مِن حَنْظَلٍ وضَرِيعٍ وشَوْكٍ وزَقُّومٍ. وهو الَّذِي يَأْكُلُهُ أهْلُ النّارِ يَوْمَ القِيامَةِ يَوْمَ المَعادِ.
وَأمّا النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ الفاضِلَةُ: فَإنَّها رَأتْ ما يَئُولُ إلَيْهِ أمْرُ هَذا النَّهَرِ. فافْتَرَقُوا ثَلاثَ فِرَقٍ.
فَأصْحابُ الرِّياضاتِ والمُجاهَداتِ، والخَلَواتِ والتَّمْرِيناتِ: رامُوا قَطْعَهُ مِن يَنْبُوعِهِ. فَأبَتْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعالى، وما طَبَعَ عَلَيْهِ الجِبِلَّةَ البَشَرِيَّةَ. ولَمْ تَنْقَدْ لَهُ الطَّبِيعَةُ. فاشْتَدَّ القِتالُ. ودامَ الحَرْبُ. وحَمِيَ الوَطِيسُ. وصارَتِ الحَرْبُ دُوَلًا وسِجالًا.
وَهَؤُلاءِ صَرَفُوا قُواهم إلى مُجاهَدَةِ النَّفْسِ عَلى إزالَةِ تِلْكَ الصِّفاتِ.
وَفِرْقَةٌ أعْرَضُوا عَنْها. وشَغَلُوا نُفُوسَهم بِالأعْمالِ. ولَمْ يُجِيبُوا دَواعِيَ تِلْكَ الصِّفاتِ مَعَ تَخْلِيَتِهِمْ إيّاها عَلى مَجْراها، لَكِنْ لَمْ يُمَكِّنُوا نَهْرَها مِن إفْسادِ عُمْرانِهِمْ. بَلِ اشْتَغَلُوا بِتَحْصِينِ العُمْرانِ، وإحْكامِ بِنائِهِ وأساسِهِ ورَأوْا أنَّ ذَلِكَ النَّهْرَ لا بُدَّ أنْ يَصِلَ إلَيْهِ. فَإذا وصَلَ وصَلَ إلى بِناءٍ مُحْكَمٍ فَلَمْ يَهْدِمْهُ. بَلْ أخَذَ عَنْهُ يَمِينًا وشِمالًا.
فَهَؤُلاءِ صَرَفُوا قُوَّةَ عَزِيمَتِهِمْ وإرادَتِهِمْ في العِمارَةِ، وإحْكامِ البِناءِ.
وَأُولَئِكَ صَرَفُوها في قَطْعِ المادَّةِ الفاسِدَةِ مِن أصْلِها، خَوْفًا مِن هَدْمِ البِناءِ.
وَسَألْتُ يَوْمًا شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذِهِ المَسْألَةِ، وقَطْعِ الآفاتِ، والِاشْتِغالِ بِتَنْقِيَةِ الطَّرِيقِ وتَنْظِيفِها؟
فَقالَ لِي جُمْلَةَ كَلامِهِ: النَّفْسُ مِثْلُ الباطُوسِ - وهو جُبُّ القَذَرِ - كُلَّما نَبَشْتَهُ ظَهَرَ وخَرَجَ. ولَكِنْ إنْ أمْكَنَكَ أنْ تَسْقَفَ عَلَيْهِ، وتَعْبُرَهُ وتَجُوزَهُ، فافْعَلْ، ولا تَشْتَغِلْ بِنَبْشِهِ. فَإنَّكَ لَنْ تَصِلَ إلى قَرارِهِ. وكُلَّما نَبَشْتَ شَيْئًا ظَهَرَ غَيْرُهُ.
فَقُلْتُ: سَألْتُ عَنْ هَذِهِ المَسْألَةِ بَعْضَ الشُّيُوخِ؟ فَقالَ لِي: مِثالُ آفاتِ النَّفْسِ مِثالُ الحَيّاتِ والعَقارِبِ الَّتِي في طَرِيقِ المُسافِرِ. فَإنْ أقْبَلَ عَلى تَفْتِيشِ الطَّرِيقِ عَنْها، والِاشْتِغالِ بِقَتْلِها: انْقَطَعَ. ولَمْ يُمْكِنْهُ السَّفَرُ قَطُّ. ولَكِنْ لِتَكُنْ هِمَّتُكَ المَسِيرَ، والإعْراضَ عَنْها، وعَدَمَ الِالتِفاتِ إلَيْها.
فَإذا عَرَضَ لَكَ فِيها ما يَعُوقُكَ عَنِ المَسِيرِ فاقْتُلْهُ. ثُمَّ امْضِ عَلى سَيْرِكَ.
فاسْتَحْسَنَ شَيْخُ الإسْلامِ ذَلِكَ جِدًّا. وأثْنى عَلى قائِلِهِ.
إذا تَبَيَّنَ هَذا. فَهَذِهِ الفِرْقَةُ الثّالِثَةُ:
رَأتْ أنَّ هَذِهِ الصِّفاتِ ما خُلِقَتْ سُدًى ولا عَبَثًا. وأنَّها بِمَنزِلَةِ ماءٍ يُسْقى بِهِ الوَرْدُ، والشَّوْكُ، والثِّمارُ، والحَطَبُ، وأنَّها صَوّانٌ وأصْدافٌ لِجَواهِرَ مُنْطَوِيَةٍ عَلَيْها. وأنَّ ما خافَ مِنها أُولَئِكَ هو نَفْسُ سَبَبِ الفَلاحِ والظَّفَرِ. فَرَأوْا أنَّ الكِبْرَ نَهْرٌ يُسْقى بِهِ العُلُوُّ والفَخْرُ، والبَطَرُ والظُّلْمُ والعُدْوانُ. ويُسْقى بِهِ عُلُوُّ الهِمَّةِ، والأنَفَةُ، والحَمِيَّةُ، والمُراغَمَةُ لِأعْداءِ اللَّهِ، وقَهْرُهم والعُلُوُّ عَلَيْهِمْ. وهَذِهِ دُرَّةٌ في صَدَفَتِهِ. فَصَرَفُوا مَجْراهُ إلى هَذا الغِراسِ. واسْتَخْرَجُوا هَذِهِ الدُّرَّةَ مِن صَدَفَتِهِ. وأبْقَوْهُ عَلى حالِهِ في نُفُوسِهِمْ. لَكِنِ اسْتَعْمَلُوهُ حَيْثُ يَكُونُ اسْتِعْمالُهُ أنْفَعَ.
«وَقَدْ رَأى النَّبِيُّ ﷺ أبا دُجانَةَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. فَقالَ: إنَّها لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُها اللَّهُ، إلّا في مِثْلِ هَذا المَوْضِعِ».
فانْظُرْ كَيْفَ خَلّى مَجْرى هَذِهِ الصِّفَةِ وهَذا الخُلُقِ يَجْرِي في أحْسَنِ مَواضِعِهِ.
وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ - وأظُنُّهُ في المُسْنَدِ -
«إنَّ مِنَ الخُيَلاءِ ما يُحِبُّها اللَّهُ. ومِنها ما يُبْغِضُها اللَّهُ. فالخُيَلاءُ الَّتِي يُحِبُّها اللَّهُ: اخْتِيالُ الرَّجُلِ في الحَرْبِ، وعِنْدَ الصَّدَقَةِ».
فانْظُرْ كَيْفَ صارَتِ الصِّفَةُ المَذْمُومَةُ عُبُودِيَّةً؟ وكَيْفَ اسْتَحالَ القاطِعُ مُوصِلًا؟
فَصاحِبُ الرِّياضاتِ، والعامِلُ بِطَرِيقِ الرِّياضاتِ والمُجاهِداتِ، والخَلَواتِ: هَيْهاتَ هَيْهاتَ، إنَّما يُوقِعُهُ ذَلِكَ في الآفاتِ، والشُّبُهاتِ، والضَّلالاتِ. فَإنَّ تَزْكِيَةَ النُّفُوسِ مُسَلَّمٌ إلى الرُّسُلِ. وإنَّما بَعَثَهُمُ اللَّهُ لِهَذِهِ التَّزْكِيَةِ ووَلّاهم إيّاها. وجَعَلَها عَلى أيْدِيهِمْ دَعْوَةً، وتَعْلِيمًا وبَيانًا، وإرْشادًا، لا خَلْقًا ولا إلْهامًا. فَهُمُ المَبْعُوثُونَ لِعِلاجِ نُفُوسِ الأُمَمِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ وإنْ كانُوا مِن قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: ٢]
وَقالَ تَعالى: ﴿كَما أرْسَلْنا فِيكم رَسُولًا مِنكم يَتْلُو عَلَيْكم آياتِنا ويُزَكِّيكم ويُعَلِّمُكُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ ويُعَلِّمُكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ - فاذْكُرُونِي أذْكُرْكم واشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: ١٥١-١٥٢].
وَتَزْكِيَةُ النُّفُوسِ: أصْعَبُ مِن عِلاجِ الأبْدانِ وأشَدُّ. فَمَن زَكّى نَفْسَهُ بِالرِّياضَةِ والمُجاهَدَةِ والخَلْوَةِ، الَّتِي لَمْ يَجِئْ بِها الرُّسُلُ: فَهو كالمَرِيضِ الَّذِي عالَجَ نَفْسَهُ بِرَأْيِهِ، وأيْنَ يَقَعُ رَأْيُهُ مِن مَعْرِفَةِ الطَّبِيبِ؟ فالرُّسُلُ أطِبّاءُ القُلُوبِ. فَلا سَبِيلَ إلى تَزْكِيَتِها وصَلاحِها إلّا مِن طَرِيقِهِمْ. وعَلى أيْدِيهِمْ، وبِمَحْضِ الِانْقِيادِ، والتَّسْلِيمِ لَهم. واللَّهُ المُسْتَعانُ.
فَإنْ قُلْتَ: هَلْ يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ الخُلُقُ كَسْبِيًّا، أوْ هو أمْرٌ خارِجٌ عَنِ الكَسْبِ؟
قُلْتُ: يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ كَسْبِيًّا بِالتَّخَلُّقِ والتَّكَلُّفِ. حَتّى يَصِيرَ لَهُ سَجِيَّةً ومَلَكَةً وقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأشَجِّ عَبْدِ القَيْسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «إنْ فِيكَ لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُما اللَّهُ: الحِلْمُ، والأناةُ. فَقالَ: أخُلُقَيْنَ تَخَلَّقْتُ بِهِما. أمْ جَبَلَنِي اللَّهُ عَلَيْهِما؟ فَقالَ: بَلْ جَبَلَكَ اللَّهُ عَلَيْهِما. فَقالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُما اللَّهُ ورَسُولُهُ».
فَدَلَّ عَلى أنَّ مِنَ الخُلُقِ: ما هو طَبِيعَةٌ وجِبِلَّةٌ، وما هو مُكْتَسَبٌ. وكانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ في دُعاءِ الِاسْتِفْتاحِ «اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأحْسَنِ الأخْلاقِ. لا يَهْدِي لِأحْسَنِها إلّا أنْتَ، واصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَها إلّا أنْتَ» فَذَكَرَ الكَسْبَ والقَدَرَ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ: مَعْنى الخُلُقِ]
قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ ":
الخُلُقُ: ما يَرْجِعُ إلَيْهِ المُتَكَلِّفُ مِن نِعْمَتِهِ.
أيْ خُلُقُ كُلِّ مُتَكَلِّفٍ: فَهو ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ نُعُوتُهُ. فَتَكَلُّفُهُ يَرُدُّهُ إلى خُلُقِهِ. كَما قِيلَ: إنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الخُلُقُ.
وَقالَ الآخَرُ:
؎يُرادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيانُكم ∗∗∗ وتَأْبى الطِّباعُ عَلى النّاقِلِ
فَمُتَكَلِّفُ ما لَيْسَ مِن نَعْتِهِ ولا شِيمَتِهِ: يَرْجِعُ إلى شِيمَتِهِ، ونَعْتِهِ، وسَجِيَّتِهِ. فَذاكَ الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ: هو الخُلُقُ.
قالَ واجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ النّاطِقِينَ في هَذا العِلْمِ: أنَّ التَّصَوُّفَ هو الخُلُقُ. وجَمِيعُ الكَلامِ فِيهِ يَدُورُ عَلى قُطْبٍ واحِدٍ. وهو بَذْلُ المَعْرُوفِ، وكَفُّ الأذى.
قُلْتُ: مِنَ النّاسِ مَن يَجْعَلُها ثَلاثَةً: كَفُّ الأذى، واحْتِمالُ الأذى، وإيجادُ الرّاحَةِ.
وَمِنهُمْ: مَن يَجْعَلُها اثْنَيْنِ - كَما قالَ الشَّيْخُ - بَذْلُ المَعْرُوفِ، وكَفُّ الأذى.
وَمِنهم مَن يَرُدُّها إلى واحِدٍ. وهو بَذْلُ المَعْرُوفِ. والكُلُّ صَحِيحٌ.
قالَ وإنَّما يُدْرَكُ إمْكانُ ذَلِكَ في ثَلاثَةِ أشْياءَ.
فِي العِلْمِ، والجُودِ، والصَّبْرِ.
فالعِلْمُ يُرْشِدُهُ إلى مَواقِعِ بَذْلِ المَعْرُوفِ، والفَرْقِ بَيْنَهُ وبَيْنَ المُنْكَرِ، وتَرْتِيبِهِ في وضْعِهِ مَواضِعَهُ. فَلا يَضَعُ الغَضَبَ مَوْضِعَ الحِلْمِ. ولا بِالعَكْسِ، ولا الإمْساكَ مَوْضِعَ البَذْلِ، ولا بِالعَكْسِ. بَلْ يَعْرِفُ مَواقِعَ الخَيْرِ والشَّرِّ ومَراتِبَها، ومَوْضِعَ كُلِّ خُلُقٍ: أيْنَ يَضَعُهُ، وأيْنَ يُحْسِنُ اسْتِعْمالَهُ.
والجُودُ يَبْعَثُهُ عَلى المُسامَحَةِ بِحُقُوقِ نَفْسِهِ، والِاسْتِقْصاءِ مِنها بِحُقُوقِ غَيْرِهِ. فالجُودُ هو قائِدُ جُيُوشِ الخَيْرِ.
والصَّبْرُ يَحْفَظُ عَلَيْهِ اسْتِدامَةَ ذَلِكَ. ويَحْمِلُهُ عَلى الِاحْتِمالِ، وكَظْمِ الغَيْظِ، وكَفِّ الأذى، وعَدَمِ المُقابَلَةِ. وعَلى كُلِّ خَيْرٍ، كَما تَقَدَّمَ. وهو أكْبَرُ العَوْنِ عَلى نَيْلِ كُلِّ مَطْلُوبٍ مِن خَيْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلّا عَلى الخاشِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٥].
فَهَذِهِ الثَّلاثَةُ أشْياءَ: بِها يُدْرَكُ التَّصَوُّفُ، والتَّصَوُّفُ: زاوِيَةٌ مِن زَوايا السُّلُوكِ الحَقِيقِيِّ، وتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وتَهْذِيبِها. لِتَسْتَعِدَّ لِسَيْرِها إلى صُحْبَةِ الرَّفِيقِ الأعْلى، ومَعِيَّةِ مَن تُحِبُّهُ. فَإنَّ المَرْءَ مَعَ مَن أحَبَّ. كَما قالَ سُمْنُونُ: ذَهَبَ المُحِبُّونَ بِشَرَفِ الدُّنْيا والآخِرَةِ. فَإنَّ المَرْءَ مَعَ مَن أحَبَّ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ دَرَجاتُ الخَلْقِ]
[الدَّرَجَةُ الأُولى أنْ تَعْرِفَ مَقامَ الخَلْقِ]
قالَ وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ. الدَّرَجَةُ الأُولى: أنْ تَعْرِفَ مَقامَ الخَلْقِ. وأنَّهم بِأقْدارِهِمْ مَرْبُوطُونَ. وفي طاقَتِهِمْ مَحْبُوسُونَ. وعَلى الحُكْمِ مَوْقُوفُونَ. فَتَسْتَفِيدَ بِهَذِهِ المَعْرِفَةِ ثَلاثَةَ أشْياءَ: أمْنَ الخَلْقِ مِنكَ، حَتّى الكَلَبِ. ومَحَبَّةُ الخَلْقِ إيّاكَ، ونَجاةُ الخَلْقِ بِكَ.
فَبِهَذِهِ الدَّرَجَةِ: يَكُونُ تَحْسِينُ الخُلُقِ مَعَ الخَلْقِ في مُعامَلَتِهِمْ، وكَيْفِيَّةِ مُصاحَبَتِهِمْ.
وَبِالثّانِيَةِ: تَحْسِينُ الخُلُقِ مَعَ اللَّهِ في مُعامَلَتِهِ.
وَبِالثّالِثَةِ: دَرَجَةُ الفَناءِ عَلى قاعِدَتِهِ وأصْلِهِ.
يَقُولُ: إذا عَرَفْتَ مَقامَ الخَلْقِ، ومَقادِيرَهُمْ، وجَرَيانَ الأحْكامِ القَدَرِيَّةِ عَلَيْهِمْ، وأنَّهم مُقَيَّدُونَ بِالقَدَرِ، لا خُرُوجَ لَهم عَنْهُ ألْبَتَّةَ، ومَحْبُوسُونَ في قُدْرَتِهِمْ وطاقَتِهِمْ. لا يُمْكِنُهم تَجاوُزُها إلى غَيْرِها، وأنَّهم مَوْقُوفُونَ عَلى الحُكْمِ الكَوْنِيِّ القَدَرِيِّ لا يَتَعَدَّوْنَهُ، اسْتَفَدْتَ بِهَذِهِ المَعْرِفَةِ ثَلاثَةَ أشْياءَ:
أمْنَ الخَلْقِ مِنكَ. وذَلِكَ: أنَّهُ إذا نَظَرَ إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الحَقِيقَةِ. لَمْ يُطالِبْهم بِما لا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. وامْتَثَلَ فِيهِمْ أمْرَ اللَّهِ تَعالى لِنَبِيِّهِ ﷺ بِأخْذِ العَفْوِ مِنهم. فَأمِنُوا مِن تَكْلِيفِهِ إيّاهم. وإلْزامِهِ لَهم ما لَيْسَ في قُواهم وقُدَرِهِمْ.
وَأيْضًا فَإنَّهم يَأْمَنُونَ لائِمَتَهُ. فَإنَّهُ في هَذِهِ الحالِ عاذِرٌ لَهم فِيما يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ الأحْكامِ فِيما لَمْ يَأْمُرِ الشَّرْعُ بِإقامَتِهِ فِيهِمْ. لِأنَّهم إذا كانُوا مَحْبُوسِينَ في طاقَتِهِمْ فَيَنْبَغِي مُطالَبَتُهم بِما يُطالَبُ بِهِ المَحْبُوسُ، وعُذْرُهم بِما يُعْذَرُ بِهِ المَحْبُوسُ. وإذا بَدا مِنهم في حَقِّكَ تَقْصِيرٌ أوْ إساءَةٌ، أوْ تَفْرِيطٌ. فَلا تُقابِلْهم بِهِ ولا تُخاصِمْهم. بَلِ اغْفِرْ لَهم ذَلِكَ واعْذُرْهم. نَظَرًا إلى جَرَيانِ الأحْكامِ عَلَيْهِمْ، وأنَّهم آلَةٌ.
وَهاهُنا يَنْفَعُكَ الفَناءُ بِشُهُودِ الحَقِيقَةِ عَنْ شُهُودِ جِنايَتِهِمْ عَلَيْكَ، كَما قالَ بَعْضُ العارِفِينَ لِرَجُلٍ تَعَدّى عَلَيْهِ وظَلَمَهُ: إنْ كُنْتَ ظالِمًا فالَّذِي سَلَّطَكَ عَلَيَّ لَيْسَ بِظالِمٍ.
[مَشاهِدُ العَبْدِ فِيما يُصِيبُهُ مِن أذى الخَلْقِ]
[المَشْهَدُ الأوَّلُ مَشْهَدُ القَدَرِ]
وَهاهُنا لِلْعَبْدِ أحَدَ عَشَرَ مَشْهَدًا فِيما يُصِيبُهُ مِن أذى الخَلْقِ وجِنايَتِهِمْ عَلَيْهِ.
أحَدُها: المَشْهَدُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وهو مَشْهَدُ القَدَرِ وأنَّ ما جَرى عَلَيْهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وقَضائِهِ وقَدَرِهِ. فَيَراهُ كالتَّأذِّي بِالحَرِّ والبَرْدِ، والمَرَضِ والألَمِ، وهُبُوبِ الرِّياحِ، وانْقِطاعِ الأمْطارِ. فَإنَّ الكُلَّ أوْجَبَتْهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ. فَما شاءَ اللَّهُ كانَ. ووَجَبَ وُجُودُهُ. وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وامْتَنَعَ وُجُودُهُ. وإذا شَهِدَ هَذا: اسْتَراحَ. وعَلِمَ أنَّهُ كائِنٌ لا مَحالَةَ. فَما لِلْجَزَعِ مِنهُ وجْهٌ. وهو كالجَزَعِ مِنَ الحَرِّ والبَرْدِ والمَرَضِ والمَوْتِ.
* [فَصْلٌ المَشْهَدُ الثّانِي مَشْهَدُ الصَّبْرِ]
المَشْهَدُ الثّانِي: مَشْهَدُ الصَّبْرِ فَيَشْهَدُهُ ويَشْهَدُ وُجُوبَهُ، وحُسْنَ عاقِبَتِهِ، وجَزاءَ أهْلِهِ، وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الغِبْطَةِ والسُّرُورِ. ويُخَلِّصُهُ مِن نَدامَةِ المُقابَلَةِ والِانْتِقامِ. فَما انْتَقَمَ أحَدٌ لِنَفْسِهِ قَطُّ إلّا أعْقَبَهُ ذَلِكَ نَدامَةٌ. وعَلِمَ أنَّهُ إنْ لَمْ يَصْبِرِ اخْتِيارًا عَلى هَذا - وهو مَحْمُودٌ - صَبَرَ اضْطَرارًا عَلى أكْبَرَ مِنهُ. وهو مَذْمُومٌ.
* [فَصْلٌ المَشْهَدُ الثّالِثُ مَشْهَدُ العَفْوِ والصَّفْحِ والحِلْمِ]
المَشْهَدُ الثّالِثُ: مَشْهَدُ العَفْوِ والصَّفْحِ والحِلْمِ فَإنَّهُ مَتى شَهِدَ ذَلِكَ وفَضْلَهُ وحَلاوَتَهُ وعِزَّتَهُ: لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ إلّا لِعَشًى في بَصِيرَتِهِ. فَإنَّهُ «ما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلّا عِزًّا» كَما صَحَّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. وعُلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ والوُجُودِ. وما انْتَقَمَ أحَدٌ لِنَفْسِهِ إلّا ذَلَّ.
هَذا، وفي الصَّفْحِ والعَفْوِ والحِلْمِ: مِنَ الحَلاوَةِ والطُّمَأْنِينَةِ والسَّكِينَةِ، وشَرَفِ النَّفْسِ، وعِزِّها ورِفْعَتِها عَنْ تَشَفِّيها بِالِانْتِقامِ: ما لَيْسَ شَيْءٌ مِنهُ في المُقابَلَةِ والِانْتِقامِ.
* [فَصْلٌ المَشْهَدُ الرّابِعُ مَشْهَدُ الرِّضا]
المَشْهَدُ الرّابِعُ: مَشْهَدُ الرِّضا وهو فَوْقَ مَشْهَدِ العَفْوِ والصَّفْحِ وهَذا لا يَكُونُ إلّا لِلنُّفُوسِ المُطْمَئِنَّةِ، سِيَّما إنْ كانَ ما أُصِيبَتْ بِهِ سَبَبُهُ القِيامُ لِلَّهِ. فَإذا كانَ ما أُصِيبَ بِهِ في اللَّهِ، وفي مَرْضاتِهِ ومَحَبَّتِهِ: رَضِيَتْ بِما نالَها في اللَّهِ. وهَذا شَأْنُ كُلِّ مُحِبٍّ صادِقٍ، يَرْضى بِما يَنالُهُ في رِضا مَحْبُوبِهِ مِنَ المَكارِهِ. ومَتى تَسَخَّطَ بِهِ وتَشَكّى مِنهُ، كانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى كَذِبِهِ في مَحَبَّتِهِ. والواقِعُ شاهِدٌ بِذَلِكَ، والمُحِبُّ الصّادِقُ كَما قِيلَ:
؎مِن أجْلِكَ جَعَلْتُ خَدِّيَ أرْضًا ∗∗∗ لِلشّامِتِ والحَسُودِ حَتّى تَرْضى
وَمَن لَمْ يَرْضَ بِما يُصِيبُهُ في سَبِيلِ مَحْبُوبِهِ، فَلْيَنْزِلْ عَنْ دَرَجَةِ المَحَبَّةِ. ولْيَتَأخَّرْ فَلَيْسَ مِن ذا الشَّأْنِ.
* [فَصْلٌ المَشْهَدُ الخامِسُ مَشْهَدُ الإحْسانِ]
المَشْهَدُ الخامِسُ: مَشْهَدُ الإحْسانِ وهو أرْفَعُ مِمّا قَبْلَهُ. وهو أنْ يُقابِلَ إساءَةَ المُسِيءِ إلَيْهِ بِالإحْسانِ. فَيُحْسِنَ إلَيْهِ كُلَّما أساءَ هو إلَيْهِ. ويُهَوِّنُ هَذا عَلَيْهِ عِلْمُهُ بِأنَّهُ قَدْ رَبِحَ عَلَيْهِ. وأنَّهُ قَدْ أهْدى إلَيْهِ حَسَناتِهِ، ومَحاها مِن صَحِيفَتِهِ. وأثْبَتَها في صَحِيفَةِ مَن أساءَ إلَيْهِ. فَيَنْبَغِي لَكَ أنْ تَشْكُرَهُ، وتُحْسِنَ إلَيْهِ بِما لا نِسْبَةَ لَهُ إلى ما أحْسَنَ بِهِ إلَيْكَ.
وَهاهُنا يَنْفَعُ اسْتِحْضارُ مَسْألَةِ اقْتِضاءِ الهِبَةِ الثَّوابِ. وهَذا المِسْكِينُ قَدْ وهَبَكَ حَسَناتِهِ. فَإنْ كُنْتَ مِن أهْلِ الكَرَمِ فَأثِبْهُ عَلَيْها، لِتُثْبِتَ الهِبَةَ. وتَأْمَنَ رُجُوعَ الواهِبِ فِيها.
وَفِي هَذا حِكاياتٌ مَعْرُوفَةٌ عَنْ أرْبابِ المَكارِمِ. وأهْلِ العَزائِمِ.
وَيُهَوِّنُهُ عَلَيْكَ أيْضًا: عِلْمُكَ بِأنَّ الجَزاءَ مِن جِنْسِ العَمَلِ. فَإنْ كانَ هَذا عَمَلَكَ في إساءَةِ المَخْلُوقِ إلَيْكَ عَفَوْتَ عَنْهُ. وأحْسَنْتَ إلَيْهِ، مَعَ حاجَتِكَ وضَعْفِكَ وفَقْرِكَ وذَلِكَ. فَهَكَذا يَفْعَلُ المُحْسِنُ القادِرُ العَزِيزُ الغَنِيُّ بِكَ في إساءَتِكَ. يُقابِلُها بِما قابَلْتَ بِهِ إساءَةَ عَبْدِهِ إلَيْكَ. فَهَذا لا بُدَّ مِنهُ. وشاهِدُهُ في السُّنَّةِ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لِمَن تَأمَّلَها.
* [فَصْلٌ المَشْهَدُ السّادِسُ مَشْهَدُ السَّلامَةِ وبَرْدِ القَلْبِ]
المَشْهَدُ السّادِسُ: مَشْهَدُ السَّلامَةِ وبَرْدِ القَلْبِ وهَذا مَشْهَدٌ شَرِيفٌ جِدًّا لِمَن عَرَفَهُ، وذاقَ حَلاوَتَهُ. وهو أنْ لا يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ وسِرُّهُ بِما نالَهُ مِنَ الأذى، وطَلَبِ الوُصُولِ إلى دَرْكِ ثَأْرِهِ، وشِفاءِ نَفْسِهِ. بَلْ يُفَرِّغُ قَلْبَهُ مِن ذَلِكَ. ويَرى أنَّ سَلامَتَهُ وبَرْدَهُ وخُلُوَّهُ مِنهُ أنْفَعُ لَهُ. وألَذُّ وأطْيَبُ. وأعْوَنُ عَلى مَصالِحِهِ. فَإنَّ القَلْبَ إذا اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ فاتَهُ ما هو أهَمُّ عِنْدَهُ، وخَيْرٌ لَهُ مِنهُ. فَيَكُونُ بِذَلِكَ مَغْبُونًا. والرَّشِيدُ لا يَرْضى بِذَلِكَ. ويَرى أنَّهُ مِن تَصَرُّفاتِ السَّفِيهِ. فَأيْنَ سَلامَةُ القَلْبِ مِنِ امْتِلائِهِ بِالغِلِّ والوَساوِسِ، وإعْمالِ الفِكْرِ في إدْراكِ الِانْتِقامِ؟
* [فَصْلٌ المَشْهَدُ السّابِعُ مَشْهَدُ الأمْنِ]
المَشْهَدُ السّابِعُ: مَشْهَدُ الأمْنِ فَإنَّهُ إذا تَرَكَ المُقابَلَةَ والِانْتِقامَ: أمِنَ ماهُّو شَرٌّ مِن ذَلِكَ. وإذا انْتَقَمَ: واقَعَهُ الخَوْفُ ولا بُدَّ. فَإنَّ ذَلِكَ يَزْرَعُ العَداوَةَ. والعاقِلُ لا يَأْمَنُ عَدُوَّهُ، ولَوْ كانَ حَقِيرًا. فَكَمْ مِن حَقِيرٍ أرْدى عَدُوَّهُ الكَبِيرَ؟ فَإذا غَفَرَ، ولَمْ يَنْتَقِمْ، ولَمْ يُقابِلْ: أمِنَ مِن تَوَلُّدِ العَداوَةِ، أوْ زِيادَتِها. ولا بُدَّ أنَّ عَفْوَهُ وحِلْمَهُ وصَفْحَهُ يَكْسِرُ عَنْهُ شَوْكَةَ عَدُوِّهِ. ويَكُفُّ مِن جَزَعِهِ، بِعَكْسِ الِانْتِقامِ. والواقِعُ شاهِدٌ بِذَلِكَ أيْضًا.
* [فَصْلٌ المَشْهَدُ الثّامِنُ مَشْهَدُ الجِهادِ]
المَشْهَدُ الثّامِنُ: مَشْهَدُ الجِهادِ وهو أنْ يَشْهَدَ تَوَلُّدَ أذى النّاسِ لَهُ مِن جِهادِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ. وأمْرِهِمْ بِالمَعْرُوفِ. ونَهْيِهِمْ عَنِ المُنْكَرِ. وإقامَةِ دِينِ اللَّهِ، وإعْلاءِ كَلِماتِهِ.
وَصاحِبُ هَذا المَقامِ: قَدِ اشْتَرى اللَّهُ مِنهُ نَفْسَهُ ومالَهُ وعِرْضَهُ بِأعْظَمِ الثَّمَنِ. فَإنْ أرادَ أنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الثَّمَنَ فَلْيُسَلِّمْ هو السِّلْعَةَ لِيَسْتَحِقَّ ثَمَنَها. فَلا حَقَّ لَهُ عَلى مَن آذاهُ. ولا شَيْءَ لَهُ قَبْلَهُ، إنْ كانَ قَدْ رَضِيَ بِعَقْدِ هَذا التَّبايُعِ. فَإنَّهُ قَدْ وجَبَ أجْرُهُ عَلى اللَّهِ.
وَهَذا ثابِتٌ بِالنَّصِّ وإجْماعِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. ولِهَذا «مَنَعَ النَّبِيُّ ﷺ المُهاجِرِينَ مِن سُكْنى مَكَّةَ - أعَزَّها اللَّهُ - ولَمْ يَرُدَّ عَلى أحَدٍ مِنهم دارَهُ ولا مالَهُ الَّذِي أخَذَهُ الكُفّارُ. ولَمْ يُضَمِّنْهم دِيَةَ مَن قَتَلُوهُ في سَبِيلِ اللَّهِ».
وَلَمّا عَزَمَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلى تَضْمِينِ أهْلِ الرِّدَّةِ ما أتْلَفُوهُ مِن نُفُوسِ المُسْلِمِينَ وأمْوالِهِمْ. قالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ - بِمَشْهَدٍ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - تِلْكَ دِماءٌ وأمْوالٌ ذَهَبَتْ في اللَّهِ. وأُجُورُها عَلى اللَّهِ، ولا دِيَةَ لِشَهِيدٍ فَأصْفَقَ الصَّحابَةُ عَلى قَوْلِ عُمَرَ. ووافَقَهُ عَلَيْهِ الصِّدِّيقُ.
فَمَن قامَ لِلَّهِ حَتّى أُوذِيَ في اللَّهِ: حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الِانْتِقامَ. كَما قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ ﴿وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ واصْبِرْ عَلى ما أصابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [لقمان: ١٧].
* [فَصْلٌ المَشْهَدُ التّاسِعُ مَشْهَدُ النِّعْمَةِ]
المَشْهَدُ التّاسِعُ: مَشْهَدُ النِّعْمَةِ وذَلِكَ مِن وُجُوهٍ.
أحَدُها: أنْ يَشْهَدَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ في أنْ جَعَلَهُ مَظْلُومًا يَتَرَقَّبُ النَّصْرَ. ولَمْ يَجْعَلْهُ ظالِمًا
يَتَرَقَّبُ المَقْتَ والأخْذَ. فَلَوْ خُيِّرَ العاقِلُ بَيْنَ الحالَتَيْنِ - ولا بُدَّ مِن إحْداهُما - لاخْتارَ أنْ يَكُونَ مَظْلُومًا.
وَمِنها: أنْ يَشْهَدَ نِعْمَةَ اللَّهِ في التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ مِن خَطاياهُ. فَإنَّهُ ما أصابَ المُؤْمِنَ هَمٌّ ولا غَمٌّ ولا أذًى إلّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِن خَطاياهُ. فَذَلِكَ في الحَقِيقَةِ دَواءٌ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنهُ داءُ الخَطايا والذُّنُوبِ. ومَن رَضِيَ أنْ يَلْقى اللَّهَ بِأدْوائِهِ كُلِّها وأسْقامِهِ، ولَمْ يُداوِهِ في الدُّنْيا بِدَواءٍ يُوجِبُ لَهُ الشِّفاءَ: فَهو مَغْبُونٌ سَفِيهٌ. فَأذى الخَلْقِ لَكَ كالدَّواءِ الكَرِيهِ مِنَ الطَّبِيبِ المُشْفِقِ عَلَيْكَ. فَلا تَنْظُرْ إلى مَرارَةِ الدَّواءِ وكَراهَتِهِ ومَن كانَ عَلى يَدَيْهِ. وانْظُرْ إلى شَفَقَةِ الطَّبِيبِ الَّذِي رَكَّبَهُ لَكَ، وبَعَثَهُ إلَيْكَ عَلى يَدَيْ مَن نَفْعَكَ بِمَضَرَّتِهِ.
وَمِنها: أنْ يَشْهَدَ كَوْنَ تِلْكَ البَلِيَّةِ أهْوَنَ وأسْهَلَ مِن غَيْرِها. فَإنَّهُ ما مِن مِحْنَةٍ إلّا وفَوْقَها ما هو أقْوى مِنها وأمَرُّ. فَإنْ لَمْ يَكُنْ فَوْقَها مِحْنَةٌ في البَدَنِ والمالِ فَلْيَنْظُرْ إلى سَلامَةِ دِينِهِ وإسْلامِهِ وتَوْحِيدِهِ. وأنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ دُونَ مُصِيبَةِ الدِّينِ فَهَيِّنَةٌ. وأنَّها في الحَقِيقَةِ نِعْمَةٌ. والمُصِيبَةُ الحَقِيقِيَّةُ مُصِيبَةُ الدِّينِ.
وَمِنها: تَوَفِيَةُ أجْرِها وثَوابِها يَوْمَ الفَقْرِ والفاقَةِ. وفي بَعْضِ الآثارِ: أنَّهُ يَتَمَنّى أُناسٌ يَوْمَ القِيامَةِ لَوْ أنَّ جُلُودَهم كانَتْ تُقْرَضُ بِالمَقارِيضِ، لِما يَرَوْنَ مِن ثَوابِ أهْلِ البَلاءِ.
هَذا. وإنَّ العَبْدَ لَيَشْتَدُّ فَرَحُهُ يَوْمَ القِيامَةِ بِما لَهُ قِبَلَ النّاسِ مِنَ الحُقُوقِ في المالِ والنَّفْسِ والعِرْضِ. فالعاقِلُ يَعُدُّ هَذا ذُخْرًا لِيَوْمِ الفَقْرِ والفاقَةِ. ولا يُبْطِلُهُ بِالِانْتِقامِ الَّذِي لا يُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا.
* [فَصْلٌ المَشْهَدُ العاشِرُ مَشْهَدُ الأُسْوَةِ]
المَشْهَدُ العاشِرُ: مَشْهَدُ الأُسْوَةِ وهو مَشْهَدٌ شَرِيفٌ لَطِيفٌ جِدًّا. فَإنَّ العاقِلَ اللَّبِيبَ يَرْضى أنْ يَكُونَ لَهُ أُسْوَةٌ بِرُسُلِ اللَّهِ، وأنْبِيائِهِ وأوْلِيائِهِ، وخاصَّتِهِ مِن خَلْقِهِ. فَإنَّهُمْ
أشَدُّ الخَلْقِ امْتِحانًا بِالنّاسِ، وأذى النّاسِ إلَيْهِمْ أسْرَعُ مِنَ السَّيْلِ في الحُدُورِ. ويَكْفِي تَدَبُّرُ قَصَصِ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - مَعَ أُمَمِهِمْ وشَأْنِ نَبِيِّنا ﷺ وأذى أعْدائِهِ لَهُ بِما لَمْ يُؤْذَهُ مَن قَبْلَهُ. «وَقَدْ قالَ لَهُ ورَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لَتُكَذَّبَنَّ ولَتُخْرَجَنَّ ولَتُؤْذَيَنَّ. وقالَ لَهُ: ما جاءَ أحَدٌ بِمِثْلِ ما جِئْتَ بِهِ إلّا عُودِيَ. وهَذا مُسْتَمِرٌّ في ورَثَتِهِ كَما كانَ في مُوَرِّثِهِمْ ﷺ.»
أفَلا يَرْضى العَبْدُ أنْ يَكُونَ لَهُ أُسْوَةٌ بِخِيارِ خَلْقِ اللَّهِ، وخَواصِّ عِبادِهِ: الأمْثَلِ فالأمْثَلِ؟
وَمَن أحَبَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَلْيَقِفْ عَلى مِحَنِ العُلَماءِ، وأذى الجُهّالِ لَهم. وقَدْ صَنَّفَ في ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ كِتابًا سَمّاهُ مِحَنَ العُلَماءِ.
* [فَصْلٌ المَشْهَدُ الحادِيَ عَشَرَ مَشْهَدُ التَّوْحِيدِ]
المَشْهَدُ الحادِيَ عَشَرَ: مَشْهَدُ التَّوْحِيدِ وهو أجَلُّ المَشاهِدِ وأرْفَعُها. فَإذا امْتَلَأ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ، والإخْلاصِ لَهُ ومُعامَلَتِهِ، وإيثارِ مَرْضاتِهِ، والتَّقَرُّبِ إلَيْهِ، وقُرَّةِ العَيْنِ بِهِ، والأُنْسِ بِهِ، واطْمَأنَّ إلَيْهِ. وسَكَنَ إلَيْهِ. واشْتاقَ إلى لِقائِهِ، واتَّخَذَهُ ولِيًّا دُونَ مَن سِواهُ، بِحَيْثُ فَوَّضَ إلَيْهِ أُمُورَهُ كُلَّها. ورَضِيَ بِهِ وبِأقْضِيَتِهِ. وفَنِيَ بِحُبِّهِ وخَوْفِهِ ورَجائِهِ وذِكْرِهِ والتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، عَنْ كُلِّ ما سِواهُ: فَإنَّهُ لا يَبْقى في قَلْبِهِ مُتَّسَعٌ لِشُهُودِ أذى النّاسِ لَهُ ألْبَتَّةَ. فَضْلًا عَنْ أنْ يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ وفِكْرُهُ وسِرُّهُ بِتَطَلُّبِ الِانْتِقامِ والمُقابَلَةِ. فَهَذا لا يَكُونُ إلّا مِن قَلْبٍ لَيْسَ فِيهِ ما يُغْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ ويُعَوِّضُهُ مِنهُ. فَهو قَلْبٌ جائِعٌ غَيْرُ شَبْعانَ. فَإذا رَأى أيَّ طَعامٍ رَآهُ هَفَّتْ إلَيْهِ نَوازِعُهُ. وانْبَعَثَتْ إلَيْهِ دَواعِيهِ. وأمّا مَنِ امْتَلَأ قَلْبُهُ بِأعْلى الأغْذِيَةِ وأشْرَفِها: فَإنَّهُ لا يَلْتَفِتُ إلى ما دُونَها. وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ. واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.
* (فَصْلٌ)
وَأمّا قَوْلُهُ: أنْ يَسْتَفِيدَ بِمَعْرِفَةِ أقْدارِ النّاسِ، وجَرَيانِ الأحْكامِ عَلَيْهِمْ: مَحَبَّتَهم لَهُ، ونَجاتَهم بِهِ.
فَلِأنَّهُ إذا عامَلَهم بِهَذِهِ المُعامَلَةِ: مِن إقامَةِ أعْذارِهِمْ، والعَفْوِ عَنْهُمْ، وتَرْكِ مُقابَلَتِهِمُ: اسْتَوَتْ كَراهَتُهم ومَحَبَّتُهم لَهُ. وكانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنَجاتِهِمُ الأُخْرَوِيَّةِ أيْضًا.
إذْ يُرْشِدُهم ذَلِكَ إلى القَبُولِ مِنهُ. وتَلَقِّي ما يَأْمُرُهم بِهِ ويَنْهاهم عَنْهُ أحْسَنَ التَّلَقِّي. هَذِهِ طِباعُ النّاسِ.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ تَحْسِينُ خُلُقِكَ مَعَ الحَقِّ]
قالَ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: تَحْسِينُ خُلُقِكَ مَعَ الحَقِّ. وتَحْسِينُهُ مِنكَ: أنْ تَعْلَمَ أنَّ كُلَّ ما يَأْتِي مِنكَ يُوجِبُ عُذْرًا، وأنَّ كُلَّ ما يَأْتِي مِنَ الحَقِّ يُوجِبُ شُكْرًا، وأنْ لا تَرى لَهُ مِنَ الوَفاءِ بُدًّا.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلى قاعِدَتَيْنِ.
إحْداهُما: أنْ تَعْلَمَ أنَّكَ ناقِصٌ. وكُلُّ ما يَأْتِي مِنَ النّاقِصِ ناقِصٌ. فَهو يُوجِبُ اعْتِذارَهُ مِنهُ لا مَحالَةَ. فَعَلى العَبْدِ أنْ يَتَعَذَّرَ إلى رَبِّهِ مِن كُلِّ ما يَأْتِي بِهِ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ. أمّا الشَّرُّ: فَظاهِرٌ. وأمّا الخَيْرُ: فَيَعْتَذِرُ مِن نُقْصانِهِ. ولا يَراهُ صالِحًا لِرَبِّهِ.
فَهُوَ - مَعَ إحْسانِهِ - مُعْتَذِرٌ في إحْسانِهِ. ولِذَلِكَ مَدَحَ اللَّهُ أوْلِياءَهُ بِالوَجَلِ مِنهُ مَعَ إحْسانِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: ٦٠]
وَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ، ويَتَصَدَّقُ. ويَخافُ أنْ لا يُقْبَلَ مِنهُ»
فَإذا خافَ فَهو بِالِاعْتِذارِ أوْلى.
والحامِلُ لَهُ عَلى هَذا الِاعْتِذارِ أمْرانِ:
أحَدُهُما: شُهُودُ تَقْصِيرِهِ ونُقْصانِهِ.
والثّانِي: صِدْقُ مَحَبَّتِهِ. فَإنَّ المُحِبَّ الصّادِقَ يَتَقَرَّبُ إلى مَحْبُوبِهِ بِغايَةِ إمْكانِهِ. وهو مُعْتَذِرٌ إلَيْهِ، مُسْتَحْيٍ مِنهُ: أنْ يُواجِهَهُ بِما واجَهَهُ بِهِ. وهو يَرى أنَّ قَدْرَهُ فَوْقَهُ وأجَلُّ مِنهُ. وهَذا مُشاهَدٌ في مَحَبَّةِ المَخْلُوقِينَ.
القاعِدَةُ الثّانِيَةُ: اسْتِعْظامُ كُلِّ ما يَصْدُرُ مِنهُ سُبْحانَهُ إلَيْكَ، والِاعْتِرافُ بِأنَّهُ يُوجِبُ الشُّكْرَ عَلَيْكَ، وأنَّكَ عاجِزٌ عَنْ شُكْرِهِ. ولا يَتَبَيَّنُ هَذا إلّا في المَحَبَّةِ الصّادِقَةِ. فَإنَّ المُحِبَّ يَسْتَكْثِرُ مِن مَحْبُوبِهِ كُلَّ ما يَنالُهُ. فَإذا ذَكَرَهُ بِشَيْءٍ وأعْطاهُ إيّاهُ: كانَ سُرُورُهُ بِذِكْرِهِ لَهُ، وتَأْهِيلِهِ لِعَطائِهِ: أعْظَمَ عِنْدَهُ مِن سُرُورِهِ بِذَلِكَ العَطاءِ بَلْ يَغِيبُ بِسُرُورِهِ بِذِكْرِهِ لَهُ عَنْ سُرُورِهِ بِالعَطِيَّةِ. وإنْ كانَ المُحِبُّ يَسُرُّهُ ذِكْرُ مَحْبُوبِهِ لَهُ، وإنْ نالَهُ بِمَساءَةٍ.
كَما قالَ القائِلُ:
؎لَئِنْ ساءَنِي أنْ نِلْتَنِي بِمُساءَةٍ ∗∗∗ لَقَدْ سَرَّنِي أنِّي خَطَرْتُ بِبالِكا
فَكَيْفَ إذا نالَهُ مَحْبُوبُهُ بِمَسَرَّةٍ - وإنْ دَقَّتْ - فَإنَّهُ لا يَراها إلّا جَلِيلَةً خَطِيرَةً. فَكَيْفَ هَذا مَعَ الرَّبِّ تَعالى الَّذِي لا يَأْتِي أبَدًا إلّا بِالخَيْرِ؟ ويَسْتَحِيلُ خِلافُ ذَلِكَ في حَقِّهِ. كَما يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلافُ كَمالِهِ. وقَدْ أفْصَحَ أعْرَفُ الخَلْقِ بِرَبِّهِ عَنْ هَذا بِقَوْلِهِ: «والشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ» أيْ لا يُضافُ إلَيْكَ. ولا يُنْسَبُ إلَيْكَ. ولا يَصْدُرُ مِنكَ. فَإنَّ أسْماءَهُ كُلَّها حُسْنى، وصِفاتِهِ كُلَّها كَمالٌ، وأفْعالَهُ كُلَّها فَضْلٌ وعَدْلٌ، وحِكْمَةٌ ورَحْمَةٌ ومَصْلَحَةٌ. فَبِأيِّ وجْهٍ يُنْسَبُ الشَّرُّ إلَيْهِ سُبْحانَهُ وتَعالى؟ فَكُلُّ ما يَأْتِي مِنهُ فَلَهُ عَلَيْهِ الحَمْدُ والشُّكْرُ. ولَهُ فِيهِ النِّعْمَةُ والفَضْلُ.
قَوْلُهُ: وأنْ لا يَرى مِنَ الوَفاءِ بُدًّا.
يَعْنِي: أنَّ مُعامَلَتَكَ لِلْحَقِّ سُبْحانَهُ بِمُقْتَضى الِاعْتِذارِ مِن كُلِّ ما مِنكَ، والشُّكْرِ عَلى ما مِنهُ - عَقْدٌ مَعَ اللَّهِ تَعالى لازِمٌ لَكَ أبَدًا، لا تَرى مِنَ الوَفاءِ بِهِ بُدًّا. فَلَيْسَ ذَلِكَ بِأمْرٍ عارِضٍ، وحالٍ يُحَوَّلُ. بَلْ عَقْدٌ لازِمٌ عَلَيْكَ الوَفاءُ بِهِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ التَّخَلُّقُ بِتَصْفِيَةِ الخُلُقِ]
قالَ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: التَّخَلُّقُ بِتَصْفِيَةِ الخُلُقِ. ثُمَّ الصُّعُودُ عَنْ تَفْرِقَةِ التَّخَلُّقِ. ثُمَّ التَّخَلُّقُ بِمُجاوَزَةِ الأخْلاقِ.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ ثَلاثَةُ أشْياءَ.
أحَدُها: تَصْفِيَةُ الخُلُقِ بِتَكْمِيلِ ما ذُكِرَ في الدَّرَجَتَيْنِ قَبْلَهُ. فَيُصَفِّيهِ مِن كُلِّ شائِبَةٍ وقَذًى ومُشَوِّشٍ. فَإذا فَعَلْتَ ذَلِكَ صَعِدْتَ مِن تَفْرِقَتِهِ إلى جَمْعِيَّتِكَ عَلى اللَّهِ. فَإنَّ التَّخَلُّقَ والتَّصَوُّفَ تَهْذِيبٌ واسْتِعْدادٌ لِلْجَمْعِيَّةِ. وإنَّما سَمّاهُ تَفْرِقَةً: لِأنَّهُ اشْتِغالٌ بِالغَيْرِ. والسُّلُوكُ يَقْتَضِي الإقْبالَ بِالكُلِّيَّةِ، والِاشْتِغالَ بِالرَّبِّ وحْدَهُ عَمّا سِواهُ.
ثُمَّ يَصْعَدُ إلى ما فَوْقَ ذَلِكَ. وهو مُجاوَزَةُ الأخْلاقِ كُلِّها بِأنْ يَغِيبَ عَنِ الخَلْقِ والتَّخَلُّقِ. وهَذِهِ الغَيْبَةُ لَها مَرْتَبَتانِ عِنْدَهم.
إحْداهُما: الِاشْتِغالُ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَنْ كُلِّ ما سِواهُ.
والثّانِيَةُ: الفَناءُ في الفَرْدانِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَها حَضْرَةَ الجَمْعِ وهي أعْلى الغاياتِ
عِنْدَهم. وهي مَوْهِبِيَّةٌ لا كَسَبِيَّةٌ. لَكِنَّ العَبْدَ إذا تَعَرَّضَ وصَدَقَ في الطَّلَبِ: رُجِيَ لَهُ الظَّفَرُ بِمَطْلُوبِهِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ مَدارُ حُسْنِ الخُلُقِ مَعَ الحَقِّ]
وَمَدارُ حُسْنِ الخُلُقِ مَعَ الحَقِّ، ومَعَ الخَلْقِ: عَلى حَرْفَيْنِ. ذَكَرَهُما عَبْدُ القادِرِ الكِيلانِيُّ فَقالَ:
كُنْ مَعَ الحَقِّ بِلا خَلْقٍ. ومَعَ الخَلْقِ بِلا نَفْسٍ.
فَتَأمَّلْ. ما أجَلَّ هاتَيْنِ الكَلِمَتَيْنِ، مَعَ اخْتِصارِهِما، وما أجْمَعَهُما لِقَواعِدِ السُّلُوكِ ولِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ؟ وفَسادُ الخُلُقِ إنَّما يَنْشَأُ مِن تَوَسُّطِ الخَلْقِ بَيْنَكَ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى. وتَوَسُّطِ النَّفْسِ بَيْنَكَ وبَيْنَ خَلْقِهِ. فَمَتى عَزَلْتَ الخَلْقَ - حالَ كَوْنِكَ مَعَ اللَّهِ تَعالى - وعَزَلْتَ النَّفْسَ - حالَ كَوْنِكَ مَعَ الخَلْقِ - فَقَدْ فُزْتَ بِكُلِّ ما أشارَ إلَيْهِ القَوْمُ. وشَمَّرُوا إلَيْهِ. وحامُوا حَوْلَهُ. واللَّهُ المُسْتَعانُ.
{"ayah":"وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِیمࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق