الباحث القرآني
* [فصل: في استدلال مَن فَسَّرَ الأقْراءَ بِالأطْهارِ بهذه الآية]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِهِ: أنَّ اللّامَ هي لامُ الوَقْتِ، أيْ: فَطَلِّقُوهُنَّ في وقْتِ عِدَّتِهِنَّ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَنَضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيامَةِ﴾ [الأنبياء: ٤٧]
أيْ: في يَوْمِ القِيامَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء: ٧٨] أيْ: وقْتَ الدُّلُوكِ.
وَتَقُولُ العَرَبُ: جِئْتُكَ لِثَلاثٍ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ، أيْ: في ثَلاثٍ بَقِينَ مِنهُ، وقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ ﷺ هَذِهِ الآيَةَ بِهَذا التَّفْسِيرِ، فَفي " الصَّحِيحَيْنِ ": «عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّهُ لَمّا طَلَّقَ امْرَأتَهُ وهي حائِضٌ، أمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ أنْ يُراجِعَها، ثُمَّ يُطَلِّقَها، وهي طاهِرٌ، قَبْلَ أنْ يَمَسَّها، ثُمَّ قالَ: فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ أنْ تُطَلَّقَ لَها النِّساءُ»
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّ العِدَّةَ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ أنْ تُطَلَّقَ لَها النِّساءُ هي الطُّهْرُ الَّذِي بَعْدَ الحَيْضَةِ، ولَوْ كانَ القُرْءُ هو الحَيْضَ كانَ قَدْ طَلَّقَها قَبْلَ العِدَّةِ لا في العِدَّةِ، وكانَ ذَلِكَ تَطْوِيلًا عَلَيْها، وهو غَيْرُ جائِزٍ، كَما لَوْ طَلَّقَها في الحَيْضِ.
* [فصل في حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ المُوافِقِ لِكِتابِ اللَّهِ أنَّهُ لا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ ولا سُكْنى]
رَوى مسلم في " صَحِيحِهِ " «عَنْ فاطمة بنت قيس: أنَّ أبا عمرو بن حفص طَلَّقَها ألْبَتَّةَ وهو غائِبٌ، فَأرْسَلَ إلَيْها وكِيلَهُ بِشَعِيرٍ، فَسَخِطَتْهُ، فَقالَ: واللَّهِ ما لَكِ عَلَيْنا مِن شَيْءٍ، فَجاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ وما قالَ، فَقالَ: " لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ " فَأمَرَها أنْ تَعْتَدَّ في بَيْتِ أم شريك، ثُمَّ قالَ " تِلْكَ امْرَأةٌ يَغْشاها أصْحابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإنَّهُ رَجُلٌ أعْمى تَضَعِينَ ثِيابَكِ، فَإذا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي ".
قالَتْ: فَلَمّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أنَّ مُعاوِيَةَ بْنَ أبِي سُفْيانَ وأبا جهم خَطَبانِي، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أمّا أبو جهم فَلا يَضَعُ عَصاهُ عَنْ عاتِقِهِ، وأمّا معاوية فَصُعْلُوكٌ لا مالَ لَهُ، انْكِحِي أُسامَةَ بْنَ زَيْدٍ " فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قالَ: " انْكِحِي أُسامَةَ بْنَ زَيْدٍ " فَنَكَحْتُهُ فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا واغْتَبَطْتُ»
وَفِي " صَحِيحِهِ " أيْضًا: عَنْها «أنَّها طَلَّقَها زَوْجُها في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وكانَ أنْفَقَ عَلَيْها نَفَقَةً دُونًا فَلَمّا رَأتْ ذَلِكَ قالَتْ: واللَّهِ لَأُعْلِمَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَإنْ كانَتْ لِي نَفَقَةٌ أخَذْتُ الَّذِي يُصْلِحُنِي، وإنْ لَمْ تَكُنْ لِي نَفَقَةٌ لَمْ آخُذْ مِنهُ شَيْئًا، قالَتْ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ (لا نَفَقَةَ لَكِ ولا سُكْنى)».
[ذِكْرُ مُوافَقَةِ هَذا الحُكْمِ لِكِتابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ]
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأحْصُوا العِدَّةَ واتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكم لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلّا أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا - فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكم وأقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ﴾ [الطلاق: ١-٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: ١-٣]
فَأمَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ الأزْواجَ الَّذِينَ لَهم عِنْدَ بُلُوغِ الأجَلِ الإمْساكُ والتَّسْرِيحُ بِأنْ لا يُخْرِجُوا أزْواجَهم مِن بُيُوتِهِمْ، وأمَرَ أزْواجَهُنَّ أنْ لا يَخْرُجْنَ، فَدَلَّ عَلى جَوازِ إخْراجِ مَن لَيْسَ لِزَوْجِها إمْساكُها بَعْدَ الطَّلاقِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ ذَكَرَ لِهَؤُلاءِ المُطَلَّقاتِ أحْكامًا مُتَلازِمَةً لا يَنْفَكُّ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ.
أحَدُها: أنَّ الأزْواجَ لا يُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ.
والثّانِي: أنَّهُنَّ لا يَخْرُجْنَ مِن بُيُوتِ أزْواجِهِنَّ.
والثّالِثُ: أنَّ لِأزْواجِهِنَّ إمْساكَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ قَبْلَ انْقِضاءِ الأجَلِ، وتَرْكَ الإمْساكِ، فَيُسَرِّحُوهُنَّ بِإحْسانٍ.
والرّابِعُ: إشْهادُ ذَوَيْ عَدْلٍ، وهو إشْهادٌ عَلى الرَّجْعَةِ إمّا وُجُوبًا وإمّا اسْتِحْبابًا، وأشارَ سُبْحانَهُ إلى حِكْمَةِ ذَلِكَ، وأنَّهُ في الرَّجْعِيّاتِ خاصَّةً بِقَوْلِهِ: ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾
والأمْرُ الَّذِي يُرْجى إحْداثُهُ هاهُنا: هو المُراجَعَةُ.
هَكَذا قالَ السَّلَفُ ومَن بَعْدَهُمْ، قالَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنا أبو معاوية عَنْ داود الأودي عَنِ الشَّعْبِيِّ: ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾
قالَ: لَعَلَّكَ تَنْدَمُ فَيَكُونَ لَكَ سَبِيلٌ إلى الرَّجْعَةِ.
وَقالَ الضحاك: ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾ قالَ: لَعَلَّهُ أنْ يُراجِعَها في العِدَّةِ، وقالَهُ عطاء وقتادة والحسن، وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ فاطمة بنت قيس: أيُّ أمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلاثِ؟
فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الطَّلاقَ المَذْكُورَ هو الرَّجْعِيُّ الَّذِي ثَبَتَتْ فِيهِ هَذِهِ الأحْكامُ، وأنَّ حِكْمَةَ أحْكَمِ الحاكِمِينَ وأرْحَمِ الرّاحِمِينَ اقْتَضَتْهُ؛ لَعَلَّ الزَّوْجَ أنْ يَنْدَمَ ويَزُولَ الشَّرُّ الَّذِي نَزَغَهُ الشَّيْطانُ بَيْنَهُما فَتَتْبَعَها نَفْسُهُ فَيُراجِعَها كَما قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " لَوْ أنَّ النّاسَ أخَذُوا بِأمْرِ اللَّهِ في الطَّلاقِ ما تَتَبَّعَ رَجُلٌ نَفْسَهُ امْرَأةً يُطَلِّقُها أبَدًا.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ الأمْرَ بِإسْكانِ هَؤُلاءِ المُطَلَّقاتِ فَقالَ: ﴿أسْكِنُوهُنَّ مِن حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِن وُجْدِكُمْ﴾ [الطلاق: ٦]
فالضَّمائِرُ كُلُّها يَتَّحِدُ مُفَسِّرُها وأحْكامُها كُلُّها مُتَلازِمَةٌ، وكانَ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «إنَّما النَّفَقَةُ والسُّكْنى لِلْمَرْأةِ إذا كانَ لِزَوْجِها عَلَيْها رَجْعَةٌ» مُشْتَقًّا مِن كِتابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ومُفَسِّرًا لَهُ وبَيانًا لِمُرادِ المُتَكَلِّمِ بِهِ مِنهُ، فَقَدْ تَبَيَّنَ اتِّحادُ قَضاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وكِتابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، والمِيزانُ العادِلُ مَعَهُما أيْضًا لا يُخالِفُهُما، فَإنَّ النَّفَقَةَ إنَّما تَكُونُ لِلزَّوْجَةِ، فَإذا بانَتْ مِنهُ صارَتْ أجْنَبِيَّةً، حُكْمُها حُكْمُ سائِرِ الأجْنَبِيّاتِ، ولَمْ يَبْقَ إلّا مُجَرَّدُ اعْتِدادِها مِنهُ، وذَلِكَ لا يُوجِبُ لَها نَفَقَةً كالمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ أوْ زِنًى، ولِأنَّ النَّفَقَةَ إنَّما تَجِبُ في مُقابَلَةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِاسْتِمْتاعِ، وهَذا لا يُمْكِنُ اسْتِمْتاعُهُ بِها بَعْدَ بَيْنُونَتِها، ولِأنَّ النَّفَقَةَ لَوْ وجَبَتْ لَها عَلَيْهِ لِأجْلِ عِدَّتِها لَوَجَبَتْ لِلْمُتَوَفّى عَنْها مِن مالِهِ ولا فَرْقَ بَيْنَهُما ألْبَتَّةَ، فَإنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما قَدْ بانَتْ عَنْهُ وهي مُعْتَدَّةٌ مِنهُ قَدْ تَعَذَّرَ مِنهُما الِاسْتِمْتاعُ، ولِأنَّها لَوْ وجَبَتْ لَها السُّكْنى لَوَجَبَتْ لَها النَّفَقَةُ كَما يَقُولُهُ مَن يُوجِبُها.
فَأمّا أنْ تَجِبَ لَها السُّكْنى دُونَ النَّفَقَةِ فالنَّصُّ والقِياسُ يَدْفَعُهُ، وهَذا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ وأصْحابِهِ وجابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وفاطمة بنت قيس إحْدى فُقَهاءِ نِساءِ الصَّحابَةِ، وكانَتْ فاطمة تُناظِرُ عَلَيْهِ، وبِهِ يَقُولُ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وأصْحابُهُ وإسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ وأصْحابُهُ وداود بن علي وأصْحابُهُ وسائِرُ أهْلِ الحَدِيثِ.
وَلِلْفُقَهاءِ في هَذِهِ المَسْألَةِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ وهي ثَلاثُ رِواياتٍ عَنْ أحمد: أحَدُها: هَذا.
والثّانِي: أنَّ لَها النَّفَقَةَ والسُّكْنى، وهو قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وابْنِ مَسْعُودٍ وفُقَهاءِ الكُوفَةِ.
والثّالِثُ: أنَّ لَها السُّكْنى دُونَ النَّفَقَةِ، وهَذا مَذْهَبُ أهْلِ المَدِينَةِ وبِهِ يَقُولُ مالك والشّافِعِيُّ.
* (لطيفة)
وقعت حادثة في أيام ابن جرير وهي أن رجلا تزوج امرأة فأحبها حبا شديدا وأبغضته بغضا شديدا فكانت تواجهه بالشتم والدعاء عليه فقال لها يوما: أنت طالق ثلاثا لا تخاطبيني بشيء إلا خاطبتك بمثله فقالت له في الحال: أنت طالق ثلاثا بتاتا، فأبلس الرجل ولم يدر ما يصنع فاستفتى جماعة من الفقهاء فكلهم قال: لا بد أن تطلق فإنه إن أجابها بمثل كلامها طلقت وإن لم يجبها حنث وطلقت فإن بر طلقت وإن حنث طلقت. فأرشد به إلى ابن جرير فقال لها: "امض ولا تعاود الأيمان وأقم على زوجتك بعد أن تقول لها: أنت طالق ثلاثا إن أنا طلقتك فتكون قد خاطبتها بمثل خطابها لك فوفيت بيمينك ولم تطلق منك لما وصلت به الطلاق من الشرط" فذكر ذلك لابن عقيل فاستحسنه
وقال: "وفيه وجه آخر لم يذكره ابن جرير وهو أنها قالت له: أنتَ طالق ثلاثا بفتح التاء وهو خطاب تذكير.
فإذا قال لها أنتَ بفتح التاء لم يقع به طلاق".
قلت: وفيه وجه آخر أحسن من الوجهين، وهو جار على أصول المذهب وهو تخصيص اللفظ العام بالنية كما إذا حلف لا يتغدى ونيته غذاء يومه قصر عليه، وإذا حلف لا يكلمه ونيته تخصيص الكلام بما يكرهه لم يحنث إذا كلمه بما يحبه ونظائره كثيرة وعلى هذا فنياط الكلام صريح أو كالصريح في أنه إنما أراد لا تكلم بشتم أو سب أو دعاء أو ما كان من هذا الباب إلا كلمها بمثله، ولم يرد أنها قالت له اشتر لي مقنعة أو ثوبا أن يقول لها اشتري لي ثوبا أو مقنعة.
وإذا قالت له لا تشتر لي كذا فإني لا أحبه أن يقول لها مثله هذا مما يقطع أن الحالف لم يرده فإذا لم يخاطبها بمثله لم يحنث وهكذا يقطع بأن هذه الصورة المسؤول عنها لم يردها ولا كان بساط الكلام يقتضيها ولا خطرت بباله وإنما أراد ما كان من الكلام الذي هيج يمينه وبعثه على الحلف ومثل هذا يعتبر عندنا في الأيمان.
* (فائدة)
سئل ابن عقيل عن رجل قالت له زوجته: طلقني فقال: إن الله قد طلقك؟
فقال: "يقع الطلاق، لأنه كناية استندت إلى دلالة الحال وهي ذكر الطلاق وسؤالها إياه"
وأجاب بعض الشافعية بأنه إن نوى وقع الطلاق وإلا لم يقع"
قلت: وهذا هو الصواب إن قوله "إن الله قد طلقك" إن أراد به شرع طلاقك وأباحه لم يقع.
وإن أراد أن الله قد أوقع عليك الطلاق وأراده وشاءه، فهذا يكون
طلاقا لأن ضرورة صدقة أن يكون الطلاق واقعا، وإذا احتمل الأمرين فلا يقع إلا بالنية.
* (فائدة)
قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾
قالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا مِن كُلِّ ما ضاقَ عَلى النّاسِ، وقالَ أبُو العالِيَةِ: مَخْرَجًا مِن كُلِّ شِدَّةٍ، وهَذا جامِعٌ لِشَدائِدِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ومَضايِقِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَإنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لِلْمُتَّقِي مِن كُلِّ ما ضاقَ عَلى النّاسِ واشْتَدَّ عَلَيْهِمْ في الدُّنْيا والآخِرَةِ مَخْرَجًا، وقالَ الحَسَنُ: مَخْرَجًا مِمّا نَهاهُ عَنْهُ.
* (فائدة)
وقد روى ابن ماجه وابن أبي الدنيا عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:
"لَوْ عَمِلَ النّاسُ كُلُّهمْ بِهذِهِ الآية لَوَسِعَتْهُمْ"
* (فصل)
اعلم أن من اتقى الله في طلاقه، فطلق كما أمره الله ورسوله، وشرعه له. أغناه عن ذلك كله، ولهذا قال تعالى، بعد أن ذكر حكم الطلاق المشروع: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾.
فلو اتقى الله عامة المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال، والمكر والاحتيال، فإن الطلاق الذي شرعه الله سبحانه: أن يطلقها طاهرًا من غير جماع، ويطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضى عدتها. فإن بدا له أن يمسكها في العدة أمسكها، وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها أمكنه أن تستقبل عليها من غير زوج آخر، وإن لم يكن له فيها غرض لم يضره أن تتزوج بزوج غيره، فمن فعل هذا لم يندم، ولم يحتج إلى حيلة بزوج ولا تحليل.
ولهذا سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة؟
فقال: "عصيت ربك، وفارقت امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجًا".
وقال سعيد بن جبير: "جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، فقال: أما ثلاث فتحرم عليك امرأتك، وبقيتهن وزر، اتخذت آيات الله هزوا".
وقال مجاهد: "كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا. فسكت، حتى ظننت أنه رادّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله تعالى قال: ﴿وَمَن يَتَّق اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾
وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، ذكره أبو داود.
وقد روى النسائي عن محمود بن لبيد قال: " أُخْبِرَ رسُولُ الله ﷺ عَنْ رَجُلٍ طَلّقَ امْرأتَهُ ثَلاثَ تَطْلِيقاتٍ جَمِيعًا، فقامَ غَضْبانَ، ثُمَّ قالَ: أيُلْعَبُ بِكِتاب اللهِ وأنَآ بَيْنَ أظْهُرِكُمْ؟ حَتّى قامَ رَجُلٌ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، ألا أقْتُلهُ؟ ".
قَوْله تَعالى ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بالِغُ أمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾
أيْ كافِي مَن يَثِقُ بِهِ في نَوائِبِهِ ومُهِمّاتِهِ، يَكْفِيهِ كُلَّ ما أهَمَّهُ، والحَسْبُ الكافِي ﴿حَسْبُنا اللَّهُ﴾ كافِينا اللَّهُ.
وَكُلَّما كانَ العَبْدُ حَسَنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ، حَسَنَ الرَّجاءِ لَهُ، صادِقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَإنَّ اللَّهَ لا يُخَيِّبُ أمَلَهُ فِيهِ ألْبَتَّةَ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لا يُخَيِّبُ أمَلَ آمِلٍ، ولا يُضَيِّعُ عَمَلَ عامِلٍ.
* (فائدة)
قَوْله تَعالى ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بالِغُ أمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾
لَمّا ذَكَرَ كِفايَتَهُ لِلْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ فَرُبَّما أوْهَمَ ذَلِكَ تَعْجِيلَ الكِفايَةِ وقْتَ التَّوَكُّلِ فَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾
أيْ وقْتًا لا يَتَعَدّاهُ فَهو يَسُوقُهُ إلى وقْتِهِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ.
فَلا يَسْتَعْجِلُ المُتَوَكِّلُ ويَقُولُ: قَدْ تَوَكَّلْت، ودَعَوْت فَلَمْ أرَ شَيْئًا ولَمْ تَحْصُلْ لِي الكِفايَةُ، فاللَّهُ بالِغُ أمْرِهِ في وقْتِهِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ، وهَذا كَثِيرٌ جِدًّا في القُرْآنِ والسُّنَّةِ، وهو بابٌ لَطِيفٌ مِن أبْوابِ فَهْمِ النُّصُوصِ.
* (فصل)
قالَ في التَّوَكُّلِ: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ﴾.
فانْظُرْ إلى هَذا الجَزاءِ الَّذِي حَصَلَ لِلْمُتَوَكِّلِ، ولَمْ يَجْعَلْهُ لِغَيْرِهِ.
وَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ التَّوَكُّلَ أقْوى السُّبُلَ عِنْدَهُ وأحَبُّها إلَيْهِ. ولَيْسَ كَوْنُهُ وكَلَ الأُمُورَ إلى نَفْسِهِ بِمُنافٍ لِتَوَكُّلِ العَبْدِ عَلَيْهِ، بَلْ هَذا تَحْقِيقُ كَوْنِ الأُمُورِ كُلِّها مَوْكُولَةً إلى نَفْسِهِ؛ لِأنَّ العَبْدَ إذا عَلِمَ ذَلِكَ وتَحَقَّقَهُ مَعْرِفَةً صارَتْ حالُهُ التَّوَكُّلَ - قَطْعًا - عَلى مَن هَذا شَأْنُهُ، لِعِلْمِهِ بِأنَّ الأُمُورَ كُلَّها مَوْكُولَةٌ إلَيْهِ، وأنَّ العَبْدَ لا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنها. فَهو لا يَجِدُ بُدًّا مِنَ اعْتِمادِهِ عَلَيْهِ. وتَفْوِيضِهِ إلَيْهِ. وثِقَتِهِ بِهِ مِنَ الوَجْهَيْنِ:
مِن جِهَةِ فَقْرِهِ، وعَدَمِ مِلْكِهِ شَيْئًا ألْبَتَّةَ.
وَمِن جِهَةِ كَوْنِ الأمْرِ كُلِّهِ بِيَدِهِ وإلَيْهِ.
والتَّوَكُّلُ يَنْشَأُ مِن هَذَيْنِ العِلْمَيْنِ.
* (فائدة)
من اشْتغل بِالله عَن نَفسه كفاه الله مؤونة نَفسه.
وَمن اشْتغل بِالله عَن النّاس كَفاهُ الله مؤونة النّاس.
وَمن اشْتغل بِنَفسِهِ عَن الله وكله الله إلى نَفسه.
وَمن اشْتغل بِالنّاسِ عَن الله وكله الله إلَيْهِم.
* (فائدة)
قوله تعالى: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾
فما من مخلوق إلا وقد جعل الله له قدرا يخصه، والقدر يكون علميا ويكون عينيا.
فالأول هو التقدير العلمي وهو تقدير الشيء في العلم واللفظ والكتاب، كما يقدر العبد في نفسه ما يريد أن يقوله ويكتبه ويفعله فيجعل له قدرا.
ومن هذا تقدير الله سبحانه لمقادير الخلائق في علمه وكتابه قبل تكوينها، ثم كونها على ذلك القدر الذي علمه وكتبه.
فالقدر الإلهي نوعان:
أحدهما: في العلم والكتابة.
والثاني: خلقها وبرأها وتصويرها بقدرته التي بها يخلق الأشياء.
والخلق يتضمن الإبداع والتقدير جميعا.
والمقصود أن كل موجد فله قدر، والعباد لا يقدرون الخالق قدره، والكفار منهم لا يقدرونه حق قدره، ولهذا لم يذكر ذلك سبحانه إلا في حقهم قال تعالى: ﴿وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قالُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١].
* [فصل: التَّوَكُّلُ]
وَكَذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وأصْحابُهُ، يَوْمَ أُحُدٍ، لَمّا قِيلَ لَهم بَعْدَ انْصِرافِهِمْ مِن أُحُدٍ: ﴿إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكم فاخْشَوْهُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٣]
فَتَجَهَّزُوا وخَرَجُوا لِلِقاءِ عَدُوِّهِمْ، وأعْطَوْهُمُ الكَيْسَ مِن نُفُوسِهِمْ، ثُمَّ قالُوا: ﴿حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ﴾ [آل عمران: ١٧٣] فَأثَّرَتِ الكَلِمَةُ أثَرَها، واقْتَضَتْ مُوجَبَها، ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: ٢]
فَجَعَلَ التَّوَكُّلَ بَعْدَ التَّقْوى الَّذِي هو قِيامُ الأسْبابِ المَأْمُورِ بِها، فَحِينَئِذٍ إنْ تَوَكَّلَ عَلى اللَّهِ، فَهو حَسْبُهُ، وكَما قالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾ [المائدة: ١١]
فالتَّوَكُّلُ والحَسْبُ بِدُونِ قِيامِ الأسْبابِ المَأْمُورِ بِها عَجْزٌ مَحْضٌ، فَإنْ كانَ مَشُوبًا بِنَوْعٍ مِنَ التَّوَكُّلِ، فَهو تَوَكُّلُ عَجْزٍ، فَلا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أنْ يَجْعَلَ تَوَكُّلَهُ عَجْزًا، ولا يَجْعَلَ عَجْزَهُ تَوَكُّلًا، بَلْ يَجْعَلُ تَوَكُّلَهُ مِن جُمْلَةِ الأسْبابِ المَأْمُورِ بِها الَّتِي لا يَتِمُّ المَقْصُودُ إلّا بِها كُلِّها.
وَمِن هاهُنا غَلِطَ طائِفَتانِ مِنَ النّاسِ: إحْداهُما: زَعَمَتْ أنَّ التَّوَكُّلَ وحْدَهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ كافٍ في حُصُولِ المُرادِ، فَعُطِّلَتْ لَهُ الأسْبابُ الَّتِي اقْتَضَتْها حِكْمَةُ اللَّهِ المُوصِلَةُ إلى مُسَبِّباتِها، فَوَقَعُوا في نَوْعِ تَفْرِيطٍ وعَجْزٍ، بِحَسَبِ ما عَطَّلُوا مِنَ الأسْبابِ، وضَعُفَ تَوَكُّلُهم مِن حَيْثُ ظَنُّوا قُوَّتَهُ بِانْفِرادِهِ عَنِ الأسْبابِ، فَجَمَعُوا الهَمَّ كُلَّهُ، وصَيَّرُوهُ هَمًّا واحِدًا، وهَذا وإنْ كانَ فِيهِ قُوَّةٌ مِن هَذا الوَجْهِ، فَفِيهِ ضَعْفٌ مِن جِهَةٍ أُخْرى، فَكُلَّما قَوِيَ جانِبُ التَّوَكُّلِ بِإفْرادِهِ أضْعَفَهُ التَّفْرِيطُ في السَّبَبِ الَّذِي هو مَحَلُّ التَّوَكُّلِ، فَإنَّ التَّوَكُّلَ مَحَلُّهُ الأسْبابُ، وكَمالُهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ فِيها، وهَذا كَتَوَكُّلِ الحَرّاثِ الَّذِي شَقَّ الأرْضَ، وألْقى فِيها البِذْرَ، فَتَوَكَّلَ عَلى اللَّهِ في زَرْعِهِ وإنْباتِهِ، فَهَذا قَدْ أعْطى التَّوَكُّلَ حَقَّهُ، ولَمْ يَضْعُفْ تَوَكُّلُهُ بِتَعْطِيلِ الأرْضِ، وتَخْلِيَتِها بُورًا، وكَذَلِكَ تَوَكُّلُ المُسافِرِ في قَطْعِ المَسافَةِ مَعَ جِدِّهِ في السَّيْرِ، وتَوَكُّلُ الأكْياسِ مِنَ النَّجاةِ مِن عَذابِ اللَّهِ، والفَوْزِ بِثَوابِهِ، مَعَ اجْتِهادِهِمْ في طاعَتِهِ، فَهَذا هو التَّوَكُّلُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أثَرُهُ، ويَكُونُ اللَّهُ حَسْبَ مَن قامَ بِهِ.
وَأمّا تَوَكُّلُ العَجْزِ والتَّفْرِيطِ، فَلا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أثَرُهُ، ولَيْسَ اللَّهُ حَسْبَ صاحِبِهِ، فَإنَّ اللَّهَ إنَّما يَكُونُ حَسْبَ المُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ إذا اتَّقاهُ، وتَقْواهُ فِعْلُ الأسْبابِ المَأْمُورِ بِها، لا إضاعَتُها.
والطّائِفَةُ الثّانِيَةُ: الَّتِي قامَتْ بِالأسْبابِ، ورَأتِ ارْتِباطَ المُسَبِّباتِ بِها شَرْعًا وقَدَرًا، وأعْرَضَتْ عَنْ جانِبِ التَّوَكُّلِ، وهَذِهِ الطّائِفَةُ وإنْ نالَتْ بِما فَعَلَتْهُ مِنَ الأسْبابِ ما نالَتْهُ، فَلَيْسَ لَها قُوَّةُ أصْحابِ التَّوَكُّلِ، ولا عَوْنُ اللَّهِ لَهم وكِفايَتُهُ إيّاهم ودِفاعُهُ عَنْهُمْ، بَلْ هي مَخْذُولَةٌ عاجِزَةٌ، بِحَسَبِ ما فاتَها مِنَ التَّوَكُّلِ.
فالقُوَّةُ كُلُّ القُوَّةِ في التَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ، كَما قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَن سَرَّهُ أنْ يَكُونَ أقْوى النّاسِ، فَلْيَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ، فالقُوَّةُ مَضْمُونَةٌ لِلْمُتَوَكِّلِ، والكِفايَةُ والحَسْبُ والدَّفْعُ عَنْهُ، وإنَّما يَنْقُصُ عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ بِقَدْرِ ما يَنْقُصُ مِنَ التَّقْوى والتَّوَكُّلِ، وإلّا فَمَعَ تَحَقُّقِهِ بِهِما، لا بُدَّ أنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا مِن كُلِّ ما ضاقَ عَلى النّاسِ، ويَكُونُ اللَّهُ حَسْبَهُ وكافِيَهُ.
والمَقْصُودُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أرْشَدَ العَبْدَ إلى ما فِيهِ غايَةُ كَمالِهِ، ونَيْلُ مَطْلُوبِهِ، أنْ يَحْرِصَ عَلى ما يَنْفَعُهُ، ويَبْذُلَ فِيهِ جَهْدَهُ، وحِينَئِذٍ يَنْفَعُهُ التَّحَسُّبُ، وقَوْلُ «حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ» بِخِلافِ مَن عَجَزَ وفَرَّطَ، حَتّى فاتَتْهُ مَصْلَحَتُهُ، ثُمَّ قالَ «حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ» فَإنَّ اللَّهَ يَلُومُهُ، ولا يَكُونُ في هَذا الحالِ حَسْبَهُ، فَإنَّما هو حَسْبُ مَنِ اتَّقاهُ وتَوَكَّلَ عَلَيْهِ.
[أقْسامِ الحِيَلِ ومَراتِبِها]
[القِسْمُ الأوَّلُ مِن الحِيَلِ]
* فَصْلٌ قالَ أرْبابُ الحِيَلِ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾
والحِيَلُ مَخارِجٌ مِن المَضائِقِ.
والجَوابُ إنّما يَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ قاعِدَةٍ في أقْسامِ الحِيَلِ ومَراتِبِها، فَنَقُولُ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ هي أقْسامٌ.
[القِسْمُ الأوَّلُ مِن الحِيَلِ طُرُقٌ يُتَوَصَّلُ بِها إلى ما هو حَرامٌ]
القِسْمُ الأوَّلُ: الطُّرُقُ الخَفِيَّةُ الَّتِي يُتَوَصَّل بِها إلى ما هو مُحَرَّمٌ في نَفْسِهِ، بِحَيْثُ لا يَحِلُّ بِمِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ بِحالٍ، فَمَتى كانَ المَقْصُودُ بِها مُحَرَّمٌ في نَفْسِهِ فَهي حَرامٌ بِاتِّفاقِ المُسْلِمِينَ، وذَلِكَ كالحِيَلِ عَلى أخْذِ أمْوالِ النّاسِ وظُلْمِهِمْ في نُفُوسِهِمْ وسَفْكِ دِمائِهِمْ وإبْطالِ حُقُوقِهِمْ وإفْسادِ ذاتِ بَيْنِهِمْ، وهي مِن جِنْسِ حِيَلِ الشَّياطِينِ عَلى إغْواءِ بَنِي آدَمَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وهم يَتَحَيَّلُونَ عَلَيْهِمْ لِيُوقِعُوهم في واحِدَةٍ مِن سِتَّةٍ ولا بُدَّ؛ فَيَتَحَيَّلُونَ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ أنْ يُوقِعُوهم في الكُفْرِ والنِّفاقِ عَلى اخْتِلافِ أنْواعِهِ، فَإذا عَمِلَتْ حِيَلُهم في ذَلِكَ قَرَّتْ عُيُونُهُمْ، فَإنْ عَجَزَتْ حِيَلُهم عَنْ مَن صَحَّتْ فِطْرَتُهُ وتَلاها شاهِدُ الإيمانِ مِن رَبِّهِ بِالوَحْيِ الَّذِي أنْزَلَهُ عَلى رَسُولِهِ أعْمَلُوا الحِيلَةَ في إلْقائِهِ في البِدْعَةِ عَلى اخْتِلافِ أنْواعِها وقَبُولِ القَلْبِ لَها وتَهْيِئَتِهِ واسْتِعْدادِهِ.
فَإنْ تَمَّتْ حِيَلُهم كانَ ذَلِكَ أحَبَّ إلَيْهِمْ مِن المَعْصِيَةِ، وإنْ كانَتْ كَبِيرَةً، ثُمَّ يَنْظُرُونَ في حالِ مَن اسْتَجابَ لَهم إلى البِدْعَةِ؛ فَإنْ كانَ مُطاعًا مَتْبُوعًا في النّاسِ أمَرُوهُ بِالزُّهْدِ والتَّعَبُّدِ ومَحاسِنِ الأخْلاقِ والشِّيَمِ، ثُمَّ أطارُوا لَهُ الثَّناءَ بَيْنَ النّاسِ لِيَصْطادُوا عَلَيْهِ الجُهّالَ ومَن لا عِلْمَ عِنْدَهُ بِالسُّنَّةِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ جَعَلُوا بِدْعَتَهُ عَوْنًا لَهُ عَلى ظُلْمِهِ أهْلَ السُّنَّةِ وأذاهم والنِّيلِ مِنهُمْ، وزَيَّنُوا لَهُ أنَّ هَذا انْتِصارٌ لِما هم عَلَيْهِ مِن الحَقِّ، فَإنْ أعْجَزَتْهم هَذِهِ الحِيلَةُ ومَنَّ اللَّهُ عَلى العَبْدِ بِتَحْكِيمِ السُّنَّةِ ومَعْرِفَتِها والتَّمْيِيزِ بَيْنَها وبَيْنَ البِدْعَةِ ألْقَوْهُ في الكَبائِرِ، وزَيَّنُوا لَهُ فِعْلَها بِكُلِّ طَرِيقٍ، وقالُوا لَهُ: أنْتَ عَلى السُّنَّةِ، وفُسّاقُ أهْلِ السُّنَّةِ أوْلِياءُ اللَّهِ، وعُبّادُ أهْلِ البِدْعَةِ أعْداءُ اللَّهِ، وقُبُورُ فُسّاقِ أهْلِ السُّنَّةِ رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الجَنَّةِ، وقُبُورُ عُبّادِ أهْلِ البِدَعِ حُفْرَةٌ مِن حُفَرِ النّارِ، والتَّمَسُّكُ بِالسُّنَّةِ يُكَفِّرُ الكَبائِرَ، كَما أنَّ مُخالَفَةَ السُّنَّةِ تُحْبِطُ الحَسَناتِ، وأهْلُ السُّنَّةِ إنْ قَعَدَتْ بِهِمْ أعْمالُهم قامَتْ بِهِمْ عَقائِدُهُمْ، وأهْلُ البِدَعِ إذا قامَتْ بِهِمْ أعْمالُهم قَعَدَتْ بِهِمْ عَقائِدُهُمْ، وأهْلُ السُّنَّةِ هم الَّذِينَ أحْسَنُوا الظَّنَّ بِرَبِّهِمْ إذْ وصَفُوهُ بِما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ووَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ووَصَفُوهُ بِكُلِّ كَمالٍ وجَلالٍ ونَزَّهُوهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، واللَّهُ تَعالى عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ بِهِ، وأهْلُ البِدَعِ هم الَّذِينَ يَظُنُّونَ بِرَبِّهِمْ ظَنَّ السُّوءِ؛ إذْ يُعَطِّلُونَهُ عَنْ صِفاتِ كَمالِهِ ويُنَزِّهُونَهُ عَنْها، وإذا عَطَّلُوهُ عَنْها لَزِمَ اتِّصافُهُ بِأضْدادِها ضَرُورَةً؛ ولِهَذا قالَ اللَّهُ تَعالى في حَقِّ مَن أنْكَرَ صِفَةً واحِدَةً مِن صِفاتِهِ وهي صِفَةُ العِلْمِ بِبَعْضِ الجُزْئِيّاتِ: ﴿وَذَلِكم ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكم أرْداكم فَأصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [فصلت: ٢٣] وأخْبَرَهم عَنْ الظّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ أنَّ عَلَيْهِمْ دائِرَةَ السَّوْءِ، وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ولَعَنَهُمْ، وأعَدَّ لَهم جَهَنَّم وساءَتْ مَصِيرًا، فَلَمْ يَتَوَعَّدْ بِالعِقابِ أحَدًا أعْظَمَ مِمَّنْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السُّوءَ، وأنْتَ لا تَظُنُّ بِهِ ظَنَّ السُّوءِ، فَما لَك ولِلْعِقابِ؟ وأمْثالُ هَذا مِن الحَقِّ الَّذِي يَجْعَلُونَهُ وصْلَةً لَهُمْ، وحِيلَةً إلى الِاسْتِهانَةِ بِالكَبائِرِ، وأخْذِهِ الأمْنَ لِنَفْسِهِ.
وَهَذِهِ حِيلَةٌ لا يَنْجُو مِنها إلّا الرّاسِخُ في العِلْمِ، العارِفُ بِأسْماءِ اللَّهِ وصِفاتِهِ، فَإنَّهُ كُلَّما كانَ بِاللَّهِ أعْرَفَ كانَ لَهُ أشَدَّ خَشْيَةً، وكُلَّما كانَ بِهِ أجْهَلَ كانَ أشَدَّ غُرُورًا بِهِ وأقَلَّ خَشْيَةً.
فَإنْ أعْجَزَتْهم هَذِهِ الحِيلَةُ وعَظُمَ وقارُ اللَّهِ في قَلْبِ العَبْدِ هَوَّنُوا عَلَيْهِ الصَّغائِرَ، وقالُوا لَهُ: إنّها تَقَعُ مُكَفِّرَةً بِاجْتِنابِ الكَبائِرِ حَتّى كَأنَّها لَمْ تَكُنْ، ورُبَّما مَنَّوْهُ أنَّهُ إذا تابَ مِنها - كَبائِرَ كانَتْ أوْ صَغائِرَ - كُتِبَ لَهُ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ، فَيَقُولُونَ لَهُ: كَثِّرْ مِنها ما اسْتَطَعْت، ثُمَّ ارْبَحْ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً بِالتَّوْبَةِ، ولَوْ قَبْلَ المَوْتِ بِساعَةٍ؛ فَإنْ أعْجَزَتْهم هَذِهِ الحِيلَةُ وخَلَّصَ اللَّهُ عَبْدَهُ مِنها نَقَلُوهُ إلى الفُضُولِ مِن أنْواعِ المُباحاتِ والتَّوَسُّعِ فِيها، وقالُوا لَهُ: قَدْ كانَ لِداوُدَ مِائَةُ امْرَأةٍ إلّا واحِدَةً ثُمَّ أرادَ تَكْمِيلَها بِالمِائَةِ، وكانَ لِسُلَيْمانَ ابْنِهِ مِائَةُ امْرَأةٍ، وكانَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ العَوّامِ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ مِن الأمْوالِ ما هو مَعْرُوفٌ، وكانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُبارَكِ واللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مِن الدُّنْيا وسَعَةِ المالِ ما لا يُجْهَلُ، ويُنْسُوهُ ما كانَ لِهَؤُلاءِ مِن الفَضْلِ، وأنَّهم لَمْ يَنْقَطِعُوا عَنْ اللَّهِ بِدُنْياهُمْ، بَلْ سارُوا بِها إلَيْهِ، فَكانَتْ طَرِيقًا لَهم إلى اللَّهِ.
فَإنْ أعْجَزَتْهم هَذِهِ الحِيلَةُ - بِأنْ تَفْتَحَ بَصِيرَةَ قَلْبِ العَبْدِ حَتّى كَأنَّهُ يُشاهِدُ بِها الآخِرَةَ وما أعَدَّ اللَّهُ فِيها لِأهْلِ طاعَتِهِ وأهْلِ مَعْصِيَتِهِ، فَأخَذَ حَذَرَهُ، وتَأهَّبَ لِلِّقاءِ رَبِّهِ، واسْتَقْصَرَ مُدَّةَ هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا في جَنْبِ الحَياةَ الباقِيَةَ الدّائِمَةَ - نَقَلُوهُ إلى الطّاعاتِ المَفْضُولَةِ الصَّغِيرَةِ الثَّوابِ لِيَشْغَلُوهُ بِها عَنْ الطّاعاتِ الفاضِلَةِ الكَثِيرَةِ الثَّوابِ، فَيُعْمِلُ حِيلَتَهُ في تَرْكِهِ كُلَّ طاعَةٍ كَبِيرَةٍ إلى ما هو دُونَها، فَيُعْمِلُ حِيلَتَهُ في تَفْوِيتِ الفَضِيلَةِ عَلَيْهِ؛ فَإنْ أعْجَزَتْهم هَذِهِ الحِيلَةُ - وهَيْهاتَ - لَمْ يَبْقَ لَهم إلّا حِيلَةٌ واحِدَةٌ، وهي تَسْلِيطُ أهْلِ الباطِلِ والبِدَعِ والظَّلَمَةِ عَلَيْهِ يُؤْذُونَهُ، ويُنَفِّرُونَ النّاسَ عَنْهُ، ويَمْنَعُونَهم مِن الِاقْتِداءِ بِهِ؛ لِيُفَوِّتُوا عَلَيْهِ مَصْلَحَةَ الدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ وعَلَيْهِمْ مَصْلَحَةَ الإجابَةِ.
فَهَذِهِ مَجامِعُ أنْواعِ حِيَلِ الشَّيْطانِ، ولا يُحْصِي أفْرادَها إلّا اللَّهُ، ومَن لَهُ مُسْكَةٌ مِن العَقْلِ يَعْرِفُ الحِيلَةَ الَّتِي تَمَّتْ عَلَيْهِ مِن هَذِهِ الحِيَلِ، فَإنْ كانَتْ لَهُ هِمَّةٌ إلى التَّخَلُّصِ مِنها، وإلّا فَيَسْألُ مَن تَمَّتْ عَلَيْهِ، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
[مِن حِيَلِ شَياطِينِ الإنْسِ]
وَهَذِهِ الحِيَلُ مِن شَياطِينِ الجِنِّ نَظِيرُ حِيَلِ شَياطِينِ الإنْسِ المُجادِلِينَ بِالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ ويَتَوَصَّلُوا بِهِ إلى أغْراضِهِمْ الفاسِدَةِ في الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ وذَلِكَ كَحِيَلِ القَرامِطَةِ الباطِنِيَّةِ عَلى إفْسادِ الشَّرائِعِ، وحِيَلِ الرُّهْبانِ عَلى أشْباهِ الحَمِيرِ مِن عابِدِ الصَّلِيبِ بِما يُمَوِّهُونَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِن المَخارِيقِ والحِيَلِ كالنُّورِ المَصْنُوعِ وغَيْرِهِ مِمّا هو مَعْرُوفٌ عِنْدَ النّاسِ، وكَحِيَلِ أرْبابِ الإشاراتِ مِن الإذْنَ والتَّسْيِيرِ والتَّغْيِيرِ وإمْساكِ الحَيّاتِ ودُخُولِ النّارِ في الدُّنْيا قَبْلَ الآخِرَةِ، وأمْثالِ ذَلِكَ مِن حِيَلِ أشْباهِ النَّصارى الَّتِي تَرُوجُ عَلى أشْباهِ الأنْعامِ، وكَحِيَلِ أرْبابِ الدَّكِّ وخِفَّةِ اليَدِ الَّتِي تَخْفى عَلى النّاظِرِينَ أسْبابُها ولا يَتَفَطَّنُونَ لَها، وكَحِيَلِ السَّحَرَةِ عَلى اخْتِلافِ أنْواعِ السِّحْرِ؛ فَإنَّ سِحْرَ البَيانِ هو مِن أنْواعِ التَّحَيُّلِ: إمّا لِكَوْنِهِ بَلَغَ مِن اللُّطْفِ والحُسْنِ إلى حَدِّ اسْتِمالَةِ القُلُوبِ فَأشْبَهَ السِّحْرَ مِن هَذا الوَجْهِ، وإمّا لِكَوْنِ القادِرِ عَلى البَيانِ يَكُونُ قادِرًا عَلى تَحْسِينِ القَبِيحِ وتَقْبِيحِ الحَسَنِ فَهو أيْضًا يُشْبِهُ السِّحْرَ مِن هَذا الوَجْهِ أيْضًا.
وَكَذَلِكَ سِحْرُ الوَهْمِ أيْضًا هو حِيلَةٌ وهْمِيَّةٌ، والواقِعُ شاهِدٌ بِتَأْثِيرِ الوَهْمِ والإيهامِ، ألا تَرى أنَّ الخَشَبَةَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ الإنْسانُ مِن المَشْيِ عَلَيْها إذا كانَتْ قَرِيبَةً مِن الأرْضِ لا يُمْكِنُ المَشْيُ عَلَيْها إذا كانَتْ عَلى مَهْواةٍ بَعِيدَةِ القَعْرِ؟ والأطِبّاءُ تَنْهى صاحِبَ الرُّعافِ عَنْ النَّظَرِ إلى الشَّيْءِ الأحْمَرِ، وتَنْهى المَصْرُوعَ عَنْ النَّظَرِ إلى الأشْياءِ القَوِيَّةِ اللَّمَعانِ أوْ الدَّوْرانِ، فَإنَّ النُّفُوسَ خُلِقَتْ مَطِيَّةَ الأوْهامِ، والطَّبِيعَةُ فَعّالَةٌ، والأحْوالُ الجُسْمانِيَّةُ تابِعَةٌ لِلْأحْوالِ النَّفْسانِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ السِّحْرُ بِالِاسْتِعانَةِ بِالأرْواحِ الخَبِيثَةِ إنّما هو بِالتَّحَيُّلِ عَلى اسْتِخْدامِها بِالإشْراكِ بِها والِاتِّصافِ بِهَيْئاتِها الخَبِيثَةِ؛ ولِهَذا لا يَعْمَلُ السِّحْرُ إلّا مَعَ الأنْفُسِ الخَبِيثَةِ المُناسِبَةِ لِتِلْكَ الأرْواحِ، وكُلَّما كانَتْ النَّفْسُ أخْبَثَ كانَ سِحْرُها أقْوى، وكَذَلِكَ سِحْرُ التَّمْزِيجاتِ - وهو أقْوى ما يَكُونُ مِن السِّحْرِ - أنْ يُمْزَجَ بَيْنَ القُوى النَّفْسانِيَّةِ الخَبِيثَةِ الفَعّالَةِ والقُوى الطَّبِيعِيَّةِ المُنْفَعِلَةِ، والمَقْصُودُ أنَّ السِّحْرَ مِن أعْظَمِ أنْواعِ الحِيَلِ الَّتِي يَنالُ بِها السّاحِرُ غَرَضَهُ، وحِيَلُ السّاحِرِ مِن أضْعَفِ الحِيَلِ وأقْواها، ولَكِنْ لا تُؤَثِّرُ تَأْثِيرًا مُسْتَقِرًّا إلّا في الأنْفُسِ الباطِلَةِ المُنْفَعِلَةِ لِلشَّهَواتِ الضَّعِيفَةِ تَعَلُّقِها بِفاطِرِ الأرْضِ والسَّمَواتِ المُنْقَطِعَةِ عَنْ التَّوَجُّهِ إلَيْهِ والإقْبالِ عَلَيْهِ؛ فَهَذِهِ النُّفُوسُ مَحَلُّ تَأْثِيرِ السِّحْرِ، وكَحِيَلِ أرْبابِ المَلاهِي والطَّرِبِ عَلى اسْتِمالَةِ النُّفُوسِ إلى مَحَبَّةِ الصُّوَرِ والوُصُولِ إلى الِالتِذاذِ بِها؛ فَحِيلَةُ السَّماعِ الشَّيْطانِيِّ عَلى ذَلِكَ مِن أدْنى الحِيَلِ عَلَيْهِ، حَتّى قِيلَ: أوَّلُ ما وقَعَ الزِّنا في العالَمِ فَإنَّما كانَ بِحِيلَةِ اليَراعِ والغِناءِ، لَمّا أرادَ الشَّيْطانُ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِ حِيلَةً أدْنى مِن المَلاهِي.
وَكَحِيَلِ اللُّصُوصِ والسُّرّاقِ عَلى أخْذِ أمْوالِ النّاسِ، وهم أنْواعٌ لا تُحْصى؛ فَمِنهم السُّرّاقُ بِأيْدِيهِمْ، ومِنهم السُّرّاقُ بِأقْلامِهِمْ، ومِنهم السُّرّاقُ بِأمانَتِهِمْ، ومِنهم السُّرّاقُ بِما يُظْهِرُونَهُ مِن الدِّينِ والفَقْرِ والصَّلاحِ والزُّهْدِ وهم في الباطِنِ بِخِلافِهِ، ومِنهم السُّرّاقُ بِمَكْرِهِمْ وخِداعِهِمْ وغِشِّهِمْ، وبِالجُمْلَةِ فَحِيَلُ هَذا الضَّرْبِ مِن النّاسِ مِن أكْثَرِ الحِيَلِ، وتَلِيها حِيَلُ عُشّاقِ الصُّوَرِ عَلى الوُصُولِ إلى أغْراضِهِمْ فَإنَّها تَقَعُ في الغالِبِ خَفِيَّةً، وإنَّما تَتِمُّ غالِبًا عَلى النُّفُوسِ القابِلَةِ المُنْفَعِلَةِ الشَّهْوانِيَّةِ، وكَحِيَلِ التَّتارِ الَّتِي مَلَكُوا بِها البِلادَ وقَهَرُوا بِها العِبادَ وسَفَكُوا بِها الدِّماءَ واسْتَباحُوا بِها الأمْوالَ، وكَحِيَلِ اليَهُودِ وإخْوانِهِمْ مِن الرّافِضَةِ فَإنَّهم بَيْتُ المَكْرِ والِاحْتِيالِ، ولِهَذا ضُرِبَتْ عَلى الطّائِفَتَيْنِ الذِّلَّةُ، وهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ في كُلِّ مُخادِعٍ مُحْتالٍ بِالباطِلِ.
[أرْبابُ الحِيَلِ نَوْعانِ]
ثُمَّ أرْبابُ هَذِهِ الحِيَلِ نَوْعانِ: نَوْعُ يُقْصَدُ بِهِ حُصُولُ مَقْصُودِهِ، ولا يَظْهَرُ أنَّهُ حَلالٌ، كَحِيَلِ اللُّصُوصِ وعُشّاقِ الصُّوَرِ المُحَرَّمَةِ ونَحْوِهِما، ونَوْعٌ يُظْهِرُ صاحِبُهُ أنَّ مَقْصُودَهُ خَيْرٌ وصَلاحٌ ويُبْطِنُ خِلافَهُ.
وَأرْبابُ النَّوْعِ الأوَّلِ أسْلَمُ عاقِبَةً مِن هَؤُلاءِ؛ فَإنَّهم أتَوْا البُيُوتَ مِن أبْوابِها والأمْرَ مِن طَرِيقِهِ ووَجْهِهِ، وأمّا هَؤُلاءِ فَقَلَبُوا مَوْضُوعَ الشَّرْعِ والدِّينِ، ولَمّا كانَ أرْبابُ هَذا النَّوْعِ إنّما يُباشِرُونَ الأسْبابَ الجائِزَةَ ولا يُظْهِرُونَ مَقاصِدَهم أعْضَلَ أمْرُهُمْ، وعَظُمَ الخَطْبُ بِهِمْ، وصَعُبَ الِاحْتِرازُ مِنهُمْ، وعَزَّ عَلى العالَمِ اسْتِنْقاذُ قَتْلاهُمْ، فاسْتُبِيحَتْ بِحِيَلِهِمْ الفُرُوجُ، وأُخِذَتْ بِها الأمْوالُ مِن أرْبابِها فَأُعْطِيَتْ لِغَيْرِ أهْلِها، وعُطِّلَتْ بِها الواجِباتُ، وضُيِّعَتْ بِها الحُقُوقُ، وعَجَّتْ الفُرُوجُ والأمْوالُ والحُقُوقُ إلى رَبِّها عَجِيجًا، وضَجَّتْ مِمّا حَلَّ بِها إلَيْهِ ضَجِيجًا، ولا يَخْتَلِفُ المُسْلِمُونَ أنَّ تَعْلِيمَ هَذِهِ الحِيَلِ حَرامٌ، والإفْتاءُ بِها حَرامٌ، والشَّهادَةُ عَلى مَضْمُونِها حَرامٌ، والحُكْمُ بِها مَعَ العِلْمِ بِحالِها حَرامٌ، واَلَّذِي جَوَّزُوا مِنها ما جَوَّزُوا مِن الأئِمَّةِ لا يَجُوزُ أنْ يُظَنَّ بِهِمْ أنَّهم جَوَّزُوهُ عَلى وجْهِ الحِيلَةِ إلى المُحَرَّمِ، وإنَّما جَوَّزُوا صُورَةَ ذَلِكَ الفِعْلِ.
ثُمَّ إنّ المُتَحَيِّلَ المُخادِعَ المَكّارَ أخَذَ صُورَةَ ما أفْتَوْا بِهِ فَتَوَسَّلَ بِهِ إلى ما مَنَعُوا مِنهُ، ورَكَّبَ ذَلِكَ عَلى أقْوالِهِمْ وفَتاواهُمْ، وهَذا فِيهِ الكَذِبُ عَلَيْهِمْ وعَلى الشّارِعِ، مِثالُهُ أنَّ الشّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - يُجَوِّزُ إقْرارَ المَرِيضِ لِوارِثِهِ؛ فَيَتَّخِذُهُ مَن يُرِيدُ أنْ يُوصِيَ لِوارِثِهِ وسِيلَةً إلى الوَصِيَّةِ لَهُ بِصُورَةِ الإقْرارِ.
وَيَقُولُ: هَذا جائِزٌ عِنْدَ الشّافِعِيِّ، وهَذا كَذِبٌ عَلى الشّافِعِيِّ؛ فَإنَّهُ لا يُجَوِّزُ الوَصِيَّةَ لِلْوارِثِ بِالتَّحَيُّلِ عَلَيْها بِالإقْرارِ؛ فَكَذَلِكَ الشّافِعِيُّ يُجَوِّزُ لِلرَّجُلِ إذا اشْتَرى مِن غَيْرِهِ سِلْعَةً بِثَمَنٍ أنْ يَبِيعَهُ إيّاها بِأقَلَّ مِمّا اشْتَراها مِنهُ بِناءً عَلى ظاهِرِ السَّلامَةِ. ولا يَجُوزُ ذَلِكَ حِيلَةً عَلى بَيْعِ مِائَةٍ بِمِائَةٍ وخَمْسِينَ إلى سَنَةٍ؛ فاَلَّذِي يَسُدُّ الذَّرائِعَ يَمْنَعُ ذَلِكَ ويَقُولُ: هو يُتَّخَذُ حِيلَةً إلى ما حَرَّمَهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ، فَلا يَقْبَلُ إقْرارَ المَرِيضِ لِوارِثِهِ، ولا يَصِحُّ هَذا البَيْعَ. ولا سِيَّما فَإنَّ إقْرارَ المَرْءِ شَهادَةٌ عَلى نَفْسِهِ، فَإذا تَطَرَّقَ إلَيْها التُّهْمَةُ بَطَلَتْ كالشَّهادَةِ عَلى غَيْرِهِ. والشّافِعِيُّ يَقُولُ: أقْبَلُ إقْرارَهُ إحْسانًا لِلظَّنِّ بِالمُقِرِّ، وحَمْلًا لِإقْرارِهِ عَلى السَّلامَةِ، ولا سِيَّما عِنْدَ الخاتِمَةِ.
وَمِن هَذا البابِ احْتِيالُ المَرْأةِ عَلى فَسْخِ نِكاحِ الزَّوْجِ بِما يُعْلِمُهُ إيّاها أرْبابُ المَكْرِ والِاحْتِيالِ، بِأنْ تُنْكِرَ أنْ تَكُونَ أذِنَتْ لِلْوَلِيِّ، أوْ بِأنَّ النِّكاحَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأنَّ الوَلِيَّ أوْ الشُّهُودَ جَلَسُوا وقْتُ العَقْدِ عَلى فِراشِ حَرِيرٍ، أوْ اسْتَنَدُوا إلى وِسادَةِ حَرِيرٍ.
وَقَدْ رَأيْت مَن يَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الحِيلَةَ إذا طَلَّقَ الزَّوْجُ امْرَأتَهُ ثَلاثًا، وأرادَ تَخْلِيصَهُ مِن عارِ التَّحْلِيلِ وشَنارِهِ أرْشَدَهُ إلى القَدْحِ في صِحَّةِ النِّكاحِ بِفِسْقِ الوَلِيِّ أوْ الشُّهُودِ، فَلا يَصِحُّ الطَّلاقُ في النِّكاحِ الفاسِدِ. وقَدْ كانَ النِّكاحُ صَحِيحًا لَمّا كانَ مُقِيمًا مَعَها عِدَّةَ سِنِينَ، فَلَمّا أوْقَعَ الطَّلاقَ الثَّلاثَ فَسَدَ النِّكاحُ.
وَمِن هَذا احْتِيالُ البائِعِ عَلى فَسْخِ البَيْعِ بِدَعْواهُ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ بالِغًا وقْتَ العَقْدِ، أوْ لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا، أوْ كانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، أوْ لَمْ يَكُنْ المَبِيعُ مِلْكًا لَهُ ولا مَأْذُونًا لَهُ في بَيْعِهِ
فَهَذِهِ الحِيَلُ وأمْثالُها لا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ في أنَّها مِن كَبائِرِ الإثْمِ وأقْبَحِ المُحَرَّماتِ، وهي مِن التَّلاعُبِ بِدِينِ اللَّهِ، واتِّخاذِ آياتِهِ هُزُوًا، وهي حَرامٌ مِن جِهَتِها في نَفْسِها لِكَوْنِها كَذِبًا وزُورًا، وحَرامٌ مِن جِهَةِ المَقْصُودِ بِها، وهو إبْطالُ حَقٍّ وإثْباتُ باطِلٍ؛ فَهَذِهِ ثَلاثَةُ أقْسامٍ:
[الحِيَلُ المُحَرَّمَةُ عَلى ثَلاثَةِ أنْواعٍ]
أحَدُها: أنْ تَكُونَ الحِيلَةُ مُحَرَّمَةً ويُقْصَدُ بِها المُحَرَّمُ.
الثّانِي: أنْ تَكُونَ مُباحَةً في نَفْسِها ويُقْصَدُ بِها المُحَرَّمُ؛ فَيَصِيرُ حَرامًا تَحْرِيمَ الوَسائِلِ كالسَّفَرِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وقَتْلِ النَّفْسِ المَعْصُومَةِ.
وَهَذانِ القِسْمانِ تَكُونُ الحِيلَةُ فِيهِما مَوْضُوعَةً لِلْمَقْصُودِ الباطِلِ المُحَرَّمِ، ومُفْضِيَةً إلَيْهِ، كَما هي مَوْضُوعَةٌ لِلْمَقْصُودِ الصَّحِيحِ الجائِزِ ومُفْضِيَةٌ إلَيْهِ؛ فَإنَّ السَّفَرَ طَرِيقٌ صالِحٌ لِهَذا وهَذا.
الثّالِثُ: أنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ لَمْ تُوضَعْ لِلْإفْضاءِ إلى المُحَرَّمِ، وإنَّما وُضِعَتْ مُفْضِيَةً إلى المَشْرُوعِ كالإقْرارِ والبَيْعِ والنِّكاحِ والهِبَةِ ونَحْوِ ذَلِكَ، فَيَتَّخِذُها المُتَحَيِّلُ سُلَّمًا وطَرِيقًا إلى الحَرامِ، وهَذا مُعْتَرَكُ الكَلامِ في هَذا البابِ، وهو الَّذِي قَصَدْنا الكَلامَ فِيهِ بِالقَصْدِ الأوَّلِ.
[نَوْعٌ رابِعٌ مِن الحِيَلِ يَنْقَسِمُ إلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ يُقْصَدُ بِها أخْذُ حَقٍّ]
القِسْمُ الرّابِعُ: أنْ يُقْصَدَ بِالحِيلَةِ أخْذِ حَقٍّ أوْ دَفْعُ باطِلٍ، وهَذا القِسْمُ يَنْقَسِمُ إلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ أيْضًا:
أحَدُها: أنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ مُحَرَّمًا في نَفْسِهِ، وإنْ كانَ المَقْصُودُ بِهِ حَقًّا، مِثْلُ أنْ يَكُونَ لَهُ عَلى رَجُلٍ حَقٌّ فَيَجْحَدَهُ، ولا يُبَيِّنُهُ لَهُ، فَيُقِيمَ صاحِبُهُ شاهِدَيْ زُورٍ يَشْهَدانِ بِهِ، ولا يَعْلَمانِ ثُبُوتَ ذَلِكَ الحَقِّ، ومِثْلُ أنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ ثَلاثًا، ويَجْحَدَ الطَّلاقَ، ولا يُبَيِّنُهُ لَها، فَتُقِيمَ شاهِدَيْنِ يَشْهَدانِ أنَّهُ طَلَّقَها، ولَمْ يَسْمَعا الطَّلاقَ مِنهُ، ومِثْلُ أنْ يَكُونَ لَهُ عَلى رَجُلٍ دَيْنٌ، ولَهُ عِنْدَهُ ودِيعَةٌ، فَيَجْحَدَ الوَدِيعَةَ، فَيَجْحَدَ هو الدَّيْنَ، أوْ بِالعَكْسِ، ويَحْلِفَ ما لَهُ عِنْدِي حَقٌّ، أوْ ما أوْدَعَنِي شَيْئًا، وإنْ كانَ يُجِيزُ هَذا مَن يُجِيزُ مَسْألَةَ الظَّفَرِ.
وَمِثْلُ أنْ تَدَّعِيَ عَلَيْهِ المَرْأةُ كِسْوَةً أوْ نَفَقَةً ماضِيَةً كَذِبًا وباطِلًا، فَيُنْكِرَ أنْ تَكُونَ مَكَّنَتْهُ مِن نَفْسِها أوْ سَلَّمَتْ نَفْسَها إلَيْهِ، أوْ يُقِيمَ شاهِدَيْ زُورٍ أنَّها كانَتْ ناشِزًا؛ فَلا نَفَقَةَ لَها ولا كِسْوَةَ، ومِثْلُ أنْ يَقْتُلَ رَجُلٌ ولِيَّهُ فَيُقِيمَ شاهِدَيْ زُورٍ ولَمْ يَشْهَدا القَتْلَ فَيَشْهَدا أنَّهُ قَتَلَهُ، ومِثْلُ أنْ يَمُوتَ مَوْرُوثُهُ فَيُقِيمَ شاهِدَيْ زُورٍ أنَّهُ ماتَ وأنَّهُ وارِثُهُ، وهُما لا يَعْلَمانِ ذَلِكَ، ونَظائِرُهُ مِمَّنْ لَهُ حَقٌّ لا شاهِدَ لَهُ بِهِ فَيُقِيمُ شاهِدَيْ زُورٍ يَشْهَدانِ لَهُ بِهِ؛ فَهَذا يَأْثَمُ عَلى الوَسِيلَةِ دُونَ المَقْصُودِ، وفي مِثْلِ هَذا جاءَ الحَدِيثُ: «أدِّ الأمانَةَ إلى مَن ائْتَمَنَك، ولا تَخُنْ مَن خانَك».
* [فَصْلٌ: القِسْمُ الثّانِي مِن أنْواعِ الحِيَلِ]
* فَصْلٌ القِسْمُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ مَشْرُوعَةً، وما يُفْضِي إلَيْهِ مَشْرُوعٌ، وهَذِهِ هي الأسْبابُ الَّتِي نَصَبَها الشّارِعُ مُفْضِيَةً إلى مُسَبَّباتِها كالبَيْعِ والإجارَةِ والمُساقاةِ والمُزارِعَةِ والوَكالَةِ، بَلْ الأسْبابُ مَحَلُّ حُكْمِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، وهي في اقْتِضائِها لِمُسَبَّباتِها شَرْعًا عَلى وِزانِ الأسْبابِ الحِسِّيَّةِ في اقْتِضائِها لِمُسَبَّباتِها قَدَرًا؛ فَهَذا شَرْعُ الرَّبِّ تَعالى وذَلِكَ قَدَرُهُ، وهُما خَلْقُهُ وأمْرُهُ، واللَّهُ لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ، ولا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ولا تَغْيِيرَ لِحُكْمِهِ، فَكَما لا يُخالِفُ سُبْحانَهُ بِالأسْبابِ القَدَرِيَّةِ أحْكامَها بَلْ يُجْرِيها عَلى أسْبابِها وما خُلِقَتْ لَهُ؛ فَهَكَذا الأسْبابُ الشَّرْعِيَّةُ لا يُخْرِجُها عَنْ سَبَبِها وما شُرِعَتْ لَهُ، بَلْ هَذِهِ سُنَّتُهُ شَرْعًا وأمْرًا، وتِلْكَ سُنَّتُهُ قَضاءً وقَدَرًا، وسُنَّتُهُ الأمْرِيَّةُ قَدْ تُبَدَّلُ وتَتَغَيَّرُ كَما يُعْصى أمْرُهُ ويُخالَفُ، وأمّا سُنَّتُهُ القَدَرِيَّةُ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا، كَما لا يُعْصى أمْرُهُ الكَوْنِيُّ القَدَرِيُّ.
وَيَدْخُلُ في هَذا القِسْمِ التَّحَيُّلُ عَلى جَلْبِ المَنافِعِ وعَلى دَفْعِ المَضارِّ، وقَدْ ألْهَمَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ لِكُلِّ حَيَوانٍ؛ فَلِأنْواعِ الحَيَواناتِ مِن أنْواعِ الحِيَلِ والمَكْرِ ما لا يَهْتَدِي إلَيْهِ بَنُو آدَمَ.
وَلَيْسَ كَلامُنا ولا كَلامُ السَّلَفِ في ذَمِّ الحِيَلِ مُتَناوِلًا لِهَذا القِسْمِ. بَلْ العاجِزُ مَن عَجَزَ عَنْهُ، والكَيِّسُ مَن كانَ بِهِ أفْطَنَ وعَلَيْهِ أقْدَرَ، ولا سِيَّما في الحَرْبِ فَإنَّها خَدْعَةٌ. والعَجْزُ كُلُّ العَجْزِ تَرْكُ هَذِهِ الحِيلَةِ. والإنْسانُ مَندُوبٌ إلى اسْتِعاذَتِهِ بِاللَّهِ تَعالى مِن العَجْزِ والكَسَلِ؛ فالعَجْزُ عَدَمُ القُدْرَةِ عَلى الحِيلَةِ النّافِعَةِ. والكَسَلُ عَدَمُ الإرادَةِ لِفِعْلِها؛ فالعاجِزُ لا يَسْتَطِيعُ الحِيلَةَ، والكَسْلانُ لا يُرِيدُها. ومَن لَمْ يَحْتَلْ وقَدْ أمْكَنَتْهُ هَذِهِ الحِيلَةُ أضاعَ فُرْصَتَهُ وفَرَّطَ في مَصالِحِهِ، كَما قالَ:
؎إذا المَرْءُ لَمْ يَحْتَلْ وقَدْ جَدَّ جِدُّهُ ∗∗∗ أضاعَ وقاسى أمْرَهُ وهو مُدْبِرُ
وَفِي هَذا قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الأمْرُ أمْرانِ: أمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ فَلا يُعْجَزُ عَنْهُ، وأمْرٌ لا حِيلَةَ فِيهِ فَلا يُجْزَعُ مِنهُ.
* [فَصْلٌ: القِسْمُ الثّالِثُ مِن أنْواعِ الحِيَلِ]
[المِثالُ الأوَّلُ اسْتَأْجَرَ مِنهُ دارًا مُدَّةَ سِنِينَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ فَخافَ أنْ يَغْدِرَ بِهِ المُكْرِي في آخِرِ المُدَّةِ]
* فَصْلٌ [الِاحْتِيالُ عَلى الوُصُولِ إلى الحَقِّ بِطَرِيقٍ مُباحَةٍ لَكِنَّها لَمْ تُشْرَعْ لَهُ].
القِسْمُ الثّالِثُ: أنْ يَحْتالَ عَلى التَّوَصُّلِ إلى حَقٍّ أوْ عَلى دَفْعِ الظُّلْمِ بِطَرِيقٍ مُباحَةٍ لَمْ تُوضَعْ مُوَصِّلَةً إلى ذَلِكَ، بَلْ وُضِعَتْ لِغَيْرِهِ، فَيَتَّخِذُها هو طَرِيقًا إلى هَذا المَقْصُودِ الصَّحِيحِ، أوْ قَدْ يَكُونُ قَدْ وُضِعَتْ لَهُ لَكِنْ تَكُونُ خَفِيَّةً ولا يَفْطِنُ لَها، والفَرْقُ بَيْنَ هَذا القِسْمِ واَلَّذِي قَبْلَهُ أنَّ الطَّرِيقَ في الَّذِي قَبْلَهُ نُصِبَتْ مُفْضِيَةً إلى مَقْصُودِها ظاهِرًا، فَسالِكُها سالِكٌ لِلطَّرِيقِ المَعْهُودِ، والطَّرِيقُ في هَذا القِسْمِ نُصِبَتْ مُفْضِيَةً إلى غَيْرِهِ فَيَتَوَصَّلُ بِها إلى ما لَمْ تُوضَعْ لَهُ؛ فَهي في الفِعالِ كالتَّعْرِيضِ الجائِزِ في المَقالِ، أوْ تَكُونُ مُفْضِيَةً إلَيْهِ لَكِنْ بِخَفاءٍ، ونَذْكُرُ لِذَلِكَ أمْثِلَةً يُنْتَفَعُ بِها في هَذا البابِ.
المِثالُ الأوَّلُ: إذا اسْتَأْجَرَ مِنهُ دارًا مُدَّةَ سِنِينَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَخافَ أنْ يَغْدِرَ بِهِ المُكْرِي في آخِرِ المُدَّةِ ويَتَسَبَّبَ إلى فَسْخِ الإجارَة بِأنْ يَظْهَرَ أنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلايَةُ الإيجارِ أوْ أنَّ المُؤَجَّرَ مِلْكٌ لِابْنِهِ أوْ امْرَأتِهِ أوْ أنَّهُ كانَ مُؤَجَّرًا قَبْلَ إيجارِهِ، ويَتَبَيَّنُ أنَّ المَقْبُوضَ أُجْرَةُ المِثْلِ لِما اسْتَوْفاهُ مِن المُدَّةِ ويَنْتَزِعُ المُؤَجَّرَ لَهُ مِنهُ؛ فالحِيلَةُ في التَّخَلُّصِ مِن هَذِهِ الحِيلَةِ أنْ يُضَمِّنَهُ المُسْتَأْجِرُ دَرَكَ العَيْنِ المُؤَجَّرَةِ لَهُ أوْ لِغَيْرِهِ، فَإذا اسْتُحِقَّتْ أوْ ظَهَرَتْ الإجارَةُ فاسِدَةً رَجَعَ عَلَيْهِ بِما قَبَضَهُ مِنهُ، أوْ يَأْخُذُ إقْرارَ مَن يَخافُ مِنهُ بِأنَّهُ لا حَقَّ لَهُ في العَيْنِ وأنَّ كُلَّ دَعْوى يَدَّعِيها بِسَبَبِها فَهي باطِلَةٌ، أوْ يَسْتَأْجِرُها مِنهُ بِمِائَةِ دِينارٍ مَثَلًا ثُمَّ يُصارِفَهُ كُلَّ دِينارٍ بِعَشَرَةِ دَراهِمَ، فَإذا طالَبَهُ بِأُجْرَةِ المِثْلِ طالَبَهُ هو بِالدَّنانِيرِ الَّتِي وقَعَ عَلَيْها العَقْدُ، فَإنَّهُ لَمْ يَخَفْ مِن ذَلِكَ، ولَكِنْ يَخافُ أنْ يَغْدِرَ بِهِ في آخِرِ المُدَّةِ، فَلْيُقَسِّطْ مَبْلَغَ الأُجْرَةِ عَلى عَدَدِ السِّنِينَ، ويَجْعَلْ مُعْظَمَها لِلسَّنَةِ الَّتِي يَخْشى غَدْرَهُ فِيها.
وَكَذَلِكَ إذا خافَ المُؤَجِّرُ أنْ يَغْدِرَ المُسْتَأْجِرُ ويَرْحَلَ في آخِرِ المُدَّةِ، فَلْيَجْعَلْ مُعْظَمَ الأُجْرَةِ عَلى المُدَّةِ الَّتِي يَأْمَنُ فِيها مِن رَحِيلِهِ، والقَدْرَ اليَسِيرَ مِنها لِآخِرِ المُدَّةِ.
[المِثالُ السّابِعُ تَزَوُّجُ المَرْأةِ بِشَرْطِ ألّا يَتَزَوَّجَ عَلَيْها]
تَزَوُّجُ المَرْأةِ بِشَرْطِ ألّا يَتَزَوَّجَ عَلَيْها] المِثالُ السّابِعُ: إذا خاصَمَتْهُ امْرَأتُهُ وقالَتْ: قُلْ " كُلُّ جارِيَةٍ أشْتَرِيها فَهي حُرَّةٌ، وكُلُّ امْرَأةٍ أتَزَوَّجُها فَهي طالِقٌ " فالحِيلَةُ في خَلاصِهِ أنْ يَقُولَ ذَلِكَ ويَعْنِي بِالجارِيَةِ السَّفِينَةَ لِقَوْلِهِ: ﴿إنّا لَمّا طَغى الماءُ حَمَلْناكم في الجارِيَةِ﴾ [الحاقة: ١١] ويُمْسِكُ بِيَدِهِ حَصاةً أوْ خِرْقَةً ويَقُولُ: " فَهي طالِقٌ " فَيَرُدُّ الكِنايَةَ إلَيْها، فَإنْ تَفَقَّهَتْ عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ وقالَتْ: قُلْ: " كُلُّ رَقِيقَةٍ أوْ أمَةٍ " فَلِيَقُلْ ذَلِكَ ولْيَعْنِ فَهي حُرَّةُ الخِصالِ غَيْرُ فاجِرَةٍ، فَإنَّهُ لَوْ قالَ ذَلِكَ لَمْ تُعْتَقْ كَما لَوْ قالَ لَهُ رَجُلٌ: " غُلامُك فاجِرٌ زانٍ " فَقالَ: ما أعْرِفُهُ إلّا حُرًّا عَفِيفًا، ولَمْ يُرِدْ العِتْقَ، لَمْ يُعْتَقْ.
وَإنْ تَفَقَّهَتْ عَلَيْهِ وقالَتْ: قُلْ: " فَهي عَتِيقَةٌ " فَلِيَقُلْ ذَلِكَ ولِيَنْوِ ضِدَّ الجَدِيدَةِ، أيْ عَتِيقَةٌ في الرِّقِّ، فَإنْ تَفَقَّهَتْ وقالَتْ: قُلْ: " فَهي مَعْتُوقَةٌ " و: " قَدْ أعْتَقْتها إنْ مَلَكْتها " فَلْيَرُدَّ الكِنايَةَ إلى حَصاةٍ في يَدِهِ أوْ خِرْقَةٍ، فَإنْ لَمْ تَدَعْهُ أنْ يَمْسِكَ شَيْئًا فَلْيَرُدَّها إلى نَفْسِهِ، ويَعْنِي أنْ قَدْ أعْتَقَها مِن النّارِ بِالإسْلامِ، أوْ فَهي حُرَّةٌ لَيْسَتْ رَقِيقَةً لِأحَدٍ، ويَجْعَلُ الكَلامَ جُمْلَتَيْنِ، فَإنْ حَضَرَتْهُ وقالَتْ: قُلْ: " فالجارِيَةُ الَّتِي أشْتَرِيها مَعْتُوقَةٌ " فَلْيُقَيِّدْ ذَلِكَ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، أوْ مَكان مُعَيَّنٍ في نِيَّتِهِ، ولا يَحْنَثْ بِغَيْرِهِ، فَإنْ حَضَرَتْهُ وقالَتْ: مِن غَيْرِ تَوْرِيَةٍ ولا كِنايَةٍ ولا نِيَّةٍ تُخالِفُ قَوْلِي، وهَذا آخِرُ التَّشْدِيدِ، فَلا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِن التَّوْرِيَةِ والكِنايَةِ.
وَإنْ قالَ بِلِسانِهِ: " لا أُوَرِّي ولا أُكَنِّي " والتَّوْرِيَةُ والكِنايَةُ في قَلْبِهِ، كَما لَوْ قالَ: " لا أسْتَثْنِي " بِلِسانِهِ ومِن نِيَّتِهِ الِاسْتِثْناءُ، ثُمَّ اسْتَثْنى فَإنَّهُ يَنْفَعُهُ، حَتّى لَوْ لَمْ يَنْوِ الِاسْتِثْناءَ ثُمَّ عَزَمَ عَلَيْهِ واسْتَثْنى نَفَعَهُ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لا مُعارِضَ لَها بِوَجْهٍ في غَيْرِ حَدِيثٍ، كَقَوْلِ المَلَكِ لِسُلَيْمانَ: قُلْ إنْ شاءَ اللَّهُ، وقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «إلّا الإذْخِرَ» بَعْدَ أنْ ذَكَّرَهُ بِهِ العَبّاسُ، وقَوْلِهِ: «إنْ شاءَ اللَّهُ» بَعْدَ أنْ قالَ: «لَأغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، ثَلاثَ مَرّاتٍ» ثُمَّ قالَ بَعْدَ الثّالِثَةِ وسُكُوتِهِ: «إنْ شاءَ اللَّهُ».
والقُرْآنُ صَرِيحٌ في نَفْعِ الِاسْتِثْناءِ إذا نَسِيَهُ ولَمْ يَنْوِهِ في أوَّلِ كَلامِهِ ولا أثْناءَهُ في قَوْله تَعالى: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيتَ﴾ [الكهف: ٢٣-٢٤]، وهَذا إمّا أنْ يَخْتَصَّ بِالِاسْتِثْناءِ إذا نَسِيَهُ كَما فَسَّرَهُ بِهِ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ، أوْ يَعُمَّهُ ويَعُمَّ غَيْرَهُ وهو الصَّوابُ؛ فَأمّا أنْ يُخْرِجَ مِنهُ الِاسْتِثْناءَ الَّذِي سِيقَ الكَلامُ لِأجْلِهِ ويَرُدَّ إلى غَيْرِهِ فَلا يَجُوزُ، ولِأنَّ الكَلامَ الواحِدَ لا يُعْتَبَرُ في صِحَّتِهِ نِيَّةُ كُلِّ جُمْلَةٍ مِن جُمَلِهِ وبَعْضٍ مِن أبْعاضِهِ؛ فالنَّصُّ والقِياسُ يَقْتَضِي نَفْعَ الِاسْتِثْناءِ، وإنْ خَطَر لَهُ بَعْدَ انْقِضاءِ الكَلامِ، وهَذا هو الصَّوابُ المَقْطُوعُ بِهِ.
[المِثالُ الثّالِثَ عَشَرَ الحِيلَةُ في التَّخَلُّصِ مِن طَلاقِ امْرَأتِهِ]
حِيلَةٌ في التَّخَلُّصِ مِن طَلاقِ امْرَأتِهِ]
المِثالُ الثّالِثَ عَشَرَ: إذا قالَ الرَّجُلُ لِامْرَأتِهِ: " الطَّلاقُ يَلْزَمُنِي لا تَقُولِينَ لِي شَيْئًا إلّا قُلْت لَك مِثْلَهُ " فَقالَتْ لَهُ: أنْتَ طالِقٌ ثَلاثًا.
فالحِيلَةُ في التَّخَلُّصِ مِن أنْ يَقُولَ لَها مِثْلَ ذَلِكَ أنْ يَقُولَ لَها: قُلْت لِي: أنْتَ طالِقٌ ثَلاثًا.
قالَ أصْحابُ الشّافِعِيِّ: وفي هَذِهِ الحِيلَةِ نَظَرٌ لا يَخْفى؛ لِأنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَها مِثْلَ ما قالَتْ لَهُ، وإنَّما حَكى كَلامَها مِن غَيْرِ أنْ يَقُولَ لَها نَظِيرَهُ. ولَوْ أنَّ رَجُلًا سَبَّ رَجُلًا فَقالَ لَهُ المَسْبُوبُ: " أنْتِ قُلْت لِي كَذا وكَذا " لَمْ يَكُنْ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أحَدٍ، لا لُغَةً ولا عُرْفًا؛ فَهَذِهِ الحِيلَةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ.
وَقالَتْ طائِفَةٌ أُخْرى: الحِيلَةُ أنْ يَقُولَ لَها: " أنْتَ طالِقٌ ثَلاثًا " - بِفَتْحِ التّاءِ - فَلا تَطْلُقُ، وهَذا نَظِيرُ ما قالَتْ لَهُ سَواءٌ، وهَذِهِ وإنْ كانَتْ أقْرَبَ مِن الأُولى؛ فَإنَّ المَفْهُومَ المُتَعارَفَ لُغَةً وعَقْلًا وعُرْفًا مِن الرَّدِّ عَلى المَرْأةِ أنْ يُخاطِبَها خِطابَ المُؤَنَّثِ، فَإذا خاطَبَها خِطابَ المُذَكَّرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَدًّا ولا جَوابًا، ولَوْ فُرِضَ أنَّهُ رَدٌّ لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعَ الطَّلاقِ بِالمُواجَهَةِ وإنْ فَتَحَ التّاءَ، كَأنَّهُ قالَ: أيُّها الشَّخْصُ أوْ الإنْسانُ.
وَقالَتْ طائِفَةٌ أُخْرى: الحِيلَةُ في ذَلِكَ أنْ يَقُولَ: أنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا إنْ شاءَ اللَّهُ، أوْ إنْ كَلَّمْت السُّلْطانَ، أوْ إنْ سافَرْت، ونَحْوَ ذَلِكَ؛ فَيَكُونَ قَدْ قالَ لَها نَظِيرَ ما قالَتْ، ولا يَضُرُّهُ زِيادَةُ الشَّرْطِ، وهَذِهِ الحِيلَةُ أقْرَبُ مِن الَّتِي قَبْلَها، ولَكِنْ في كَوْنِ المُتَكَلِّمِ بِها رادًّا أوْ مُجِيبًا نَظَرٌ لا يَخْفى؛ لِأنَّ الشَّرْطَ وإنْ تَضَمَّنَ زِيادَةً في الكَلامِ لَكِنَّهُ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ نَظِيرًا لِكَلامِها، ومِثْلًا لَهُ، وهو إنّما حَلَفَ أنْ يَقُولَ لَها مِثْلَ ما قالَتْ لَهُ، والجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ لَيْسَتْ مِثْلَ الجُمْلَةِ الخَبَرِيَّةِ، بَلْ الشَّرْطُ يَدْخُلُ عَلى الكَلامِ التّامِّ فَيُصَيِّرُهُ ناقِصًا يَحْتاجُ إلى الجَوابِ، ويَدْخُلُ عَلى الخَبَرِ فَيَقْلِبُهُ إنْشاءً، ويُغَيِّرُ صُورَةَ الجُمْلَةِ الخَبَرِيَّةِ ومَعْناها، ولَوْ قالَ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ: " لَعَنَك اللَّهُ "، فَقالَ لَهُ: " لَعَنَك اللَّهُ إنْ بَدَّلْت دِينَك أوْ ارْتَدَدْت عَنْ الإسْلامِ " لَمْ يَكُنْ سابًّا لَهُ.
وَلَوْ قالَ لَهُ: " يا زانٍ " فَقالَ: " بَلْ أنْتَ زانٍ إنْ وطِئْت فَرْجًا حَرامًا " لَمْ يَكُنْ الثّانِي قاذِفًا لَهُ. ولَوْ بَذَلَتْ لَهُ مالًا عَلى أنْ يُطَلِّقَها، فَقالَ: أنْتِ طالِقٌ إنْ كَلَّمْت السُّلْطانَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ المالَ، ولَمْ يَكُنْ مُطَلِّقًا.
وَقالَتْ طائِفَةٌ أُخْرى: لا حاجَةَ إلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، والحالِفُ لَمْ تَدْخُلْ هَذِهِ الصُّورَةُ في عُمُومِ كَلامِهِ، وإنْ دَخَلَتْ فَهي مِن المَخْصُوصِ بِالعُرْفِ والعادَةِ والعَقْلِ؛ فَإنَّهُ لَمْ يُرِدْ هَذِهِ الصُّورَةَ قَطْعًا، ولا خَطَرَتْ بِبالِهِ، ولا تَناوَلَها لَفْظُهُ؛ فَإنَّهُ إنّما تَناوَلَ لَفْظُهُ القَوْلَ الَّذِي يَصِحُّ " أنْتِ امْرَأتِي " وبِمَنزِلَةِ قَوْلِ الأمَةِ لِسَيِّدِها: " أنْتِ أمَتِي وجارِيَتِي " ونَحْوِ هَذا مِن الكَلامِ اللَّغْوِ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ لَفْظِ الحالِفِ ولا إرادَتِهِ، أمّا عَدَمُ دُخُولِهِ تَحْتَ إرادَتِهِ فَلا إشْكالَ فِيهِ، وأمّا عَدَمُ تَناوُلِ لَفْظِهِ لَهُ؛ فَإنَّ اللَّفْظَ العامَّ إنّما يَكُونُ عامًّا فِيما يَصْلُحُ لَهُ وفِيما سِيقَ لِأجْلِهِ.
وَهَذا أقْوى مِن جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ، وغايَتُهُ تَخْصِيصُ العامِّ بِالعُرْفِ والعادَةِ، وهَذا أقْرَبُ لُغَةً وعُرْفًا وعَقْلًا وشَرْعًا مِن جَعْلِ ما تَقَدَّمَ مُطابِقًا ومُماثِلًا لِكَلامِها مِثْلَهُ، فَتَأمَّلْهُ، واللَّهُ المُوَفِّقُ.
[المِثالُ الرّابِعَ عَشَرَ الإحْرامُ وقَدْ ضاقَ الوَقْتُ]
[الإحْرامُ وقَدْ ضاقَ الوَقْتُ]
المِثالُ الرّابِعَ عَشَرَ: إذا خافَ الرَّجُلُ لِضِيقِ الوَقْتِ أنْ يُحْرِمَ بِالحَجِّ فَيَفُوتَهُ فَيَلْزَمَهُ القَضاءُ ودَمُ الفَواتِ؛ فالحِيلَةُ أنْ يُحْرِمَ إحْرامًا مُطْلَقًا ولا يُعَيِّنَهُ؛ فَإنْ اتَّسَعَ لَهُ الوَقْتُ جَعَلَهُ حَجًّا أوْ قِرانًا أوْ تَمَتُّعًا، وإنْ ضاقَ عَلَيْهِ الوَقْتُ جَعَلَهُ عُمْرَةً، ولا يَلْزَمُهُ غَيْرُها.
[المِثالُ الخامِسَ عَشَرَ مَن جاوَزَ المِيقاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ]
[مَن جاوَزَ المِيقاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ]
المِثالُ الخامِسَ عَشَرَ: إذا جاوَزَ المِيقاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ لَزِمَهُ الإحْرامُ ودَمٌ لِمُجاوَزَتِهِ لِلْمِيقاتِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، فالحِيلَةُ في سُقُوطِ الدَّمِ عَنْهُ أنْ لا يُحْرِمَ مِن مَوْضِعِهِ، بَلْ يَرْجِعَ إلى المِيقاتِ فَيُحْرِمَ مِنهُ؛ فَإنْ أحْرَمَ مِن مَوْضِعِهِ لَزِمَهُ الدَّمُ، ولا يَسْقُطُ بِرُجُوعِهِ إلى المِيقاتِ.
[المِثال السّادِسَ عَشْر الحِيلَة لِلْبِرِّ في يَمِينٍ]
[حِيلَةٌ لِلْبِرِّ في يَمِينٍ]
المِثالُ السّادِسَ عَشَرَ: إذا سُرِقَ لَهُ مَتاعٌ، فَقالَ لِامْرَأتِهِ: إنْ لَمْ تُخْبِرِينِي مَن أخَذَهُ فَأنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا، والمَرْأةُ لا تَعْلَمُ مَن أخَذَهُ.
فالحِيلَةُ في التَّخَلُّصِ مِن هَذِهِ اليَمِينِ أنْ تَذْكُرَ الأشْخاصَ الَّتِي لا يَخْرُجُ المَأْخُوذُ عَنْهُمْ، ثُمَّ تُفْرِدَ كُلَّ واحِدٍ واحِدٍ، وتَقُولَ: هو أخَذَهُ؛ فَإنَّها تَكُونُ مُخْبِرَةً عَنْ الآخِذِ وعَنْ غَيْرِهِ فَيَبَرُّ في يَمِينِهِ ولا تَطْلُقُ.
[المِثالُ الثّانِي والأرْبَعُونَ الحِيلَةُ في عَدَمِ حِنْثِ الحالِفِ]
[حِيلَةٌ في عَدَمِ حِنْثِ الحالِفِ]
المِثالُ الثّانِي والأرْبَعُونَ: إذا اسْتُحْلِفَ عَلى شَيْءٍ، فَأحَبَّ أنْ يَحْلِفَ ولا يَحْنَثَ؛ فالحِيلَةُ أنْ يُحَرِّكَ لِسانَهُ بِقَوْلِ: " إنْ شاءَ اللَّهُ " وهَلْ يُشْتَرَطُ أنْ يُسْمِعَها نَفْسَهُ؟ فَقِيلَ: لا بُدَّ أنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، وقالَ شَيْخُنا: هَذا لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ مَتى حَرَّكَ لِسانَهُ بِذَلِكَ كانَ مُتَكَلِّمًا، وإنْ لَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ، وهَكَذا حُكْمُ الأقْوالِ الواجِبَةِ والقِراءَةِ الواجِبَةِ، قُلْت: وكانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُطْبِقُ شَفَتَيْهِ ويُحَرِّكُ لِسانَهُ بِلا إلَهَ إلّا اللَّهُ ذاكِرًا، وإنْ لَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ؛ فَإنَّهُ لا حَظَّ لِلشَّفَتَيْنِ في حُرُوفِ هَذِهِ الكَلِمَةِ، بَلْ كُلُّها حَلْقِيَّةٌ لِسانِيَّةٌ؛ فَيُمْكِنُ الذّاكِرُ أنْ يُحَرِّكَ لِسانَهُ بِها ولا يُسْمِعَ نَفْسَهُ ولا أحَدًا مِن النّاسِ، ولا تَراهُ العَيْنُ يَتَكَلَّمُ، وهَكَذا التَّكَلُّمُ يَقُولُ: " إنْ شاءَ اللَّهُ " يُمْكِنُ مَعَ إطْباقِ الفَمِ؛ فَلا يَسْمَعُهُ أحَدٌ ولا يَراهُ، وإنْ أطْبَقَ أسْنانَهُ وفَتَحَ شَفَتَيْهِ أدْنى شَيْءٍ سَمِعَتْهُ أُذُناهُ بِجُمْلَتِهِ.
[حِيلَةٌ في إبْطالِ الشَّهادَةِ عَلى الزِّنى]
المِثالُ الخامِسُ والخَمْسُونَ: إذا رَفَعَ إلى الإمامِ وادَّعى عَلَيْهِ أنَّهُ زَنى، فَخافَ إنْ أنْكَرَ أنْ تَقُومَ عَلَيْهِ البَيِّنَةُ فَيُحَدَّ؛ فالحِيلَةُ في إبْطالِ شَهادَتِهِمْ أنْ يُقِرَّ إذا سُئِلَ مَرَّةً واحِدَةً، ولا يَزِيدَ عَلَيْها؛ فَلا تُسْمَعُ البَيِّنَةُ مَعَ الإقْرارِ، ولَيْسَ لِلْحاكِمِ ولا لِلْإمامِ أنْ يُقَرِّرَهُ تَمامَ النِّصابِ، بَلْ إذا سَكَتَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ؛ فَإنْ كانَ الإمامُ مِمَّنْ يَرى وُجُوبَ الحَدِّ بِالمَرَّةِ الواحِدَةِ؛ فالحِيلَةُ أنْ يَرْجِعَ عَنْ إقْرارِهِ فَيَسْقُطَ عَنْهُ الحَدُّ؛ فَإذا خافَ مِن إقامَةِ البَيِّنَةِ عَلَيْهِ أقَرَّ أيْضًا ثُمَّ رَجَعَ، وهَكَذا أبَدًا، وهَذِهِ الحِيلَةُ جائِزَةٌ؛ فَإنَّهُ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ الحَدِّ عَنْ نَفْسِهِ، وأنْ يُخْلِدَ إلى التَّوْبَةِ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلصَّحابَةِ لَمّا فَرَّ ماعِزٌ مِن الحَدِّ: «هَلّا تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» فَإذا فَرَّ مِن الحَدِّ إلى التَّوْبَةِ فَقَدْ أحْسَنَ.
[المِثالُ السّادِسُ والخَمْسُونَ الحِيلَةُ في الخَلاصِ مِن الحِنْثِ]
[حِيلَةٌ في الخَلاصِ مِن الحِنْثِ]
المِثالُ السّادِسُ والخَمْسُونَ: إذا حَلَفَ لِغادِرٍ أوْ جاسُوسٍ أوْ سارِقٍ أنْ لا يُخْبِرَ بِهِ أحَدًا، ولا يَدُلَّ عَلَيْهِ؛ فَأرادَ التَّخَلُّصَ مِن هَذِهِ اليَمِينِ وأنْ لا يُخْفِيَهُ؛ فالحِيلَةُ أنْ يَسْألَ عَنْ أقْوامٍ هو مِن جُمْلَتِهِمْ؛ فَإذا سُئِلَ عَنْ غَيْرِهِ قالَ: لا، فَإذا انْتَهَتْ النَّوْبَةُ إلَيْهِ سَكَتَ؛ فَإنَّهُ لا يَحْنَثُ ولا يَأْثَمُ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ وإيوائِهِ، وسُئِلَ أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذِهِ المَسْألَةِ بِعَيْنِها، قالَ لَهُ السّائِلُ: نَزَلَ بِي اللُّصُوصُ؛ فَأخَذُوا مالِي واسْتَحْلَفُونِي بِالطَّلاقِ ألّا أُخْبِرَ أحَدًا بِهِمْ؛ فَخَرَجْت فَرَأيْتُهم يَبِيعُونَ مَتاعِي في السُّوقِ جَهْرَةً، فَقالَ لَهُ: اذْهَبْ إلى الوالِي فَقُلْ لَهُ يَجْمَعُ أهْلَ المَحَلَّةِ أوْ السِّكَّةِ الَّذِينَ هم فِيهِ ثُمَّ يُحْضِرُهم ثُمَّ يَسْألُك عَنْهم واحِدًا واحِدًا؛ فَإذا سَألَك عَمَّنْ لَيْسَ مِنهُمْ، فَقُلْ: لَيْسَ مِنهُمْ، وإذا سَألَك عَمَّنْ هو مِنهم فاسْكُتْ؛ فَفَعَلَ الرَّجُلُ؛ فَأخَذَ الوالِي مَتاعَهُ مِنهُمْ، وسَلَّمَهُ إلَيْهِ؛ فَلَوْ عُمِلَتْ هَذِهِ الحِيلَةُ مَعَ مَظْلُومٍ لَمْ تَنْفَعْ، وحَنِثَ الحالِفُ؛ فَإنَّ المَقْصُودَ الدَّفْعُ عَنْهُ، وبِالسُّكُوتِ قَدْ أعانَ عَلَيْهِ، ولَمْ يَدْفَعْ عَنْهُ.
[المِثالُ السّابِعُ والخَمْسُونَ الحِيلَةُ في بِرِّ زَوْجٍ وزَوْجَتِهِ حَلَفَ كُلٌّ مِنهُما]
[حِيلَةٌ في بِرِّ زَوْجٍ وزَوْجَتِهِ حَلَفَ كُلٌّ مِنهُما]
المِثالُ السّابِعُ والخَمْسُونَ: ما سُئِلَ عَنْهُ أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ امْرَأةٍ قالَ لَها زَوْجُها: أنْتِ طالِقٌ إذا سَألْتَينِي الخُلْعَ إنْ لَمْ أخْلَعْك، وقالَتْ المَرْأةُ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ إنْ لَمْ أسْألْك الخَلْع اليَوْمَ؛ فَجاءَ الزَّوْجُ إلى أبِي حَنِيفَةَ فَقالَ: أحْضِرْ المَرْأةَ؛ فَأحْضَرَها، فَقالَ لَها أبُو حَنِيفَةَ: سَلِيهِ الخُلْعَ، فَقالَتْ: سَألَتْك أنْ تَخْلَعَنِي، فَقالَ لَهُ أبُو حَنِيفَةَ: قُلْ لَها قَدْ خَلَعْتُك عَلى ألْفِ دِرْهَمٍ تُعْطِينِيها، فَقالَ لَها ذَلِكَ، فَقالَ لَها قَوْلِي: لا أقْبَلُ، فَقالَتْ: لا أقْبَلُ، فَقالَ: قَوْمِي مَعَ زَوْجِك فَقَدْ بَرَّ كُلُّ واحِدٍ مِنكُما ولَمْ يَحْنَثْ في شَيْءٍ، ذَكَرَها مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ في كِتابِ الحِيَلِ لَهُ.
وَإنَّما تَتِمُّ هَذِهِ الحِيلَةُ عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ؛ فَلَوْ قالَتْ لَهُ: " أسْألُك الخُلْعَ عَلى ألْفٌ دِرْهَمٍ حالَّةً، أوْ إلى شَهْرٍ " فَقالَ: " قَدْ خَلَعْتُك عَلى ذَلِكَ " وقَعَ الخُلْعُ؛ بِخِلافِ ما إذا قالَتْ لَهُ: " اخْلَعْنِي " قالَ: " خَلَعْتُك عَلى ألْفٍ " فَإنَّ هَذا لا يَكُونُ خُلْعًا حَتّى تَقْبَلَ وتَرْضى، وهي لَمْ تَرْضَ بِالألْفِ؛ فَلا يَقَعُ الخُلْعُ.
[فَإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ إذًا لَمْ يَقَعْ الخُلْعُ؟]
قِيلَ: هو إنّما حَلَفَ عَلى فِعْلِهِ لا عَلى قَبُولِها؛ فَإذا قالَ: " قَدْ خَلَعْتُك عَلى ألْفٍ " فَقَدْ وُجِدَ الخُلْعُ مِن جِهَتِهِ؛ فانْحَلَّتْ يَمِينُهُ، ولَمْ يَقِفْ حَلُّ اليَمِينِ عَلى قَبُولِها، كَما إذا حَلَفَ لا يَبِيعُ، فَباعَ، ولَمْ يَقْبَلْ المُشْتَرِي، ولا بَيِّنَةَ لَهُ؛ فَإنَّهُ يَحْنَثُ.
[المِثالُ الثّامِنُ والخَمْسُونَ أخَوانِ زُفَّتْ لِكُلٍّ مِنهُما زَوْجَةُ الآخَرِ]
[أخَوانِ زُفَّتْ لِكُلٍّ مِنهُما زَوْجَةُ الآخَرِ]
المِثالُ الثّامِنُ والخَمْسُونَ: ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في كِتابِهِ أيْضًا عَنْهُ أتاهُ أخَوانِ قَدْ تَزَوَّجا بِأُخْتَيْنِ؛ فَزُفَّتْ كُلُّ امْرَأةٍ مِنهُما إلى زَوْجِ أُخْتِها؛ فَدَخَلَ بِها ولَمْ يَعْلَمْ، ثُمَّ عَلِمَ الحالَ لَمّا أصْبَحا؛ فَذَكَرا لَهُ ذَلِكَ، وسَألاهُ المَخْرَجَ، فَقالَ لَهُما: كُلٌّ مِنكُما راضٍ بِاَلَّتِي دَخَلَ بِها؟ فَقالا: نَعَمْ، فَقالَ: لِيُطَلِّقْ كُلٌّ مِنكُما امْرَأتَهُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْها تَطْلِيقَةً؛ فَفَعَلا، فَقالَ: لِيَعْقِدْ كُلٌّ مِنكُما عَلى المَرْأةِ الَّتِي دَخَلَ بِها، فَفَعَلا، فَقالَ: لِيَمْضِ كُلٌّ مِنكُما إلى أهْلِهِ، وهَذِهِ الحِيلَةُ في غايَةِ اللُّطْفِ؛ فَإنَّ المَرْأةَ الَّتِي دَخَلَ بِها كُلٌّ مِنهُما قَدْ وطِئَها بِشُبْهَةٍ؛ فَلَهُ أنْ يَنْكِحَها في عِدَّتِها؛ فَإنَّهُ لا يُصانُ ماؤُهُ عَنْ مائِهِ، وأمَرَهُ أنْ يُطَلِّقَ واحِدَةً فَإنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِاَلَّتِي طَلَّقَها فالواحِدَةُ تُبِينُها، ولا عِدَّةَ عَلَيْها مِنهُ، فَلِلْآخَرِ أنْ يَتَزَوَّجَها.
[المِثالُ التّاسِعُ والخَمْسُونَ الحِيلَةُ في تَخَلُّصِ المَرْأة مِن الزَّوْجِ الَّذِي لا تَرْضى بِهِ]
حِيلَةٌ في تَخَلُّصِ المَرْأةِ مِن الزَّوْجِ الَّذِي لا تَرْضى بِهِ]
المِثالُ التّاسِعُ والخَمْسُونَ: إذا تَزَوَّجَتْ المَرْأةُ وخافَتْ أنْ يُسافِرَ عَنْها الزَّوْجُ ويَدَعَها أوْ يُسافِرَ بِها ولا تُرِيدُ الخُرُوجَ مِن دارِها أوْ أنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْها أوْ يَتَسَرّى أوْ يَشْرَبَ المُسْكِرَ أوْ يَضْرِبَها مِن غَيْرِ جُرْمٍ أوْ يَتَبَيَّنَ فَقِيرًا وقَدْ ظَنَّتْهُ غَنِيًّا أوْ مَعِيبًا وقَدْ ظَنَّتْهُ سَلِيمًا أوْ أُمِّيًّا وقَدْ ظَنَّتْهُ قارِئًا أوْ جاهِلًا وقَدْ ظَنَّتْهُ عالِمًا أوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَلا يُمْكِنُها التَّخَلُّصُ، فالحِيلَةُ لَها في ذَلِكَ كُلِّهِ أنْ تَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أنَّهُ مَتى وُجِدَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ فَأمْرُها بِيَدِها، إنْ شاءَتْ أقامَتْ مَعَهُ وإنْ شاءَتْ فارَقَتْهُ، وتُشْهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَإنْ خافَتْ أنْ لا تَشْتَرِطَ ذَلِكَ بَعْدَ لُزُومِ العَقْدِ فَلا يُمْكِنُها إلْزامُهُ بِالشَّرْطِ فَلا تَأْذَنُ لِوَلِيِّها أنْ يُزَوِّجَها مِنهُ إلّا عَلى هَذا الشَّرْطِ، فَيَقُولَ: زَوَّجْتُكُما عَلى أنَّ أمْرَها بِيَدِها إنْ كانَ الأمْرُ كَيْتَ وكَيْتَ؛ فَمَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ مَلَكَتْ تَطْلِيقَ نَفْسِها، ولا بَأْسَ بِهَذِهِ الحِيلَةِ، فَإنَّ المَرْأةَ تَتَخَلَّصُ بِها مِن نِكاحِ مَن لَمْ تَرْضَ بِنِكاحِهِ، وتَسْتَغْنِي بِها عَنْ رَفْعِ أمْرِها إلى الحاكِمِ لِيَفْسَخَ نِكاحَها بِالغَيْبَةِ والإعْسارِ ونَحْوِهِما.
[المِثالُ الحادِي والسِّتُّونَ الحِيلَةُ في الخَلاصِ مِمّا سَبَقَ بِهِ اللِّسانُ]
[حِيلَةٌ في الخَلاصِ مِمّا سَبَقَ بِهِ اللِّسانُ]
المِثالُ الحادِي والسِّتُّونَ: إذا سَبَقَ لِسانُهُ بِما يُؤاخَذُ بِهِ في الظّاهِرِ ولَمْ يُرِدْ مَعْناهُ، أوْ أرادَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وتابَ مِنهُ، أوْ خافَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهِ شُهُودُ زُورٍ ولَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ، فَرُفِعَ إلى الحاكِمِ وادُّعِيَ عَلَيْهِ بِهِ، فَإنْ أنْكَرَ شَهِدُوا عَلَيْهِ، وإنْ أقَرَّ حَكَمَ عَلَيْهِ، ولا سِيَّما إنْ كانَ لا يَرى قَبُولَ التَّوْبَةِ مِن ذَلِكَ، فالحِيلَةُ في الخَلاصِ أنْ لا يُقِرَّ بِهِ ولا يُنْكِرَ، فَيَشْهَدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ، بَلْ يَكْفِيه في الجَوابِ أنْ يَقُولَ: " إنْ كُنْت قُلْته فَقَدْ رَجَعْت عَنْهُ، وأنا تائِبٌ إلى اللَّهِ مِنهُ " ولَيْسَ لِلْحاكِمِ بَعْدَ ذَلِكَ أنْ يَقُولَ: لا أكْتَفِي مِنك بِهَذا الجَوابِ، بَلْ لا بُدَّ مِن الإقْرارِ أوْ الإنْكارِ، فَإنَّ هَذا جَوابٌ كافٍ في مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوى، وتَكْلِيفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ خُطَّةَ الخَسْفِ بِالإقْرارِ - وقَدْ يَكُونُ كاذِبًا فِيهِ، أوْ الإنْكارِ وقَدْ تابَ مِنهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ الشُّهُودُ - ظُلْمٌ وباطِلٌ؛ فَلا يَحِلُّ لِلْحاكِمِ أنْ يَسْألَهُ بَعْدَ هَذا هَلْ وقَعَ مِنك ذَلِكَ أوْ لَمْ يَقَعْ؟ بَلْ أبْلَغُ مِن هَذا لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ فَقالَ: " لَمْ أزَلْ أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ لا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مُنْذُ عَقَلْت وإلى الآنَ " لَمْ يُسْتَكْشَفْ عَنْ شَيْءٍ، ولَمْ يُسْألْ لا هو ولا الشُّهُودُ عَنْ سَبَبِ رِدَّتِهِ، كَما ذَكَرَهُ الخِرَقِيِّ في مُخْتَصَرِهِ وغَيْرُهُ مِن أصْحابِ الشّافِعِيِّ، فَإذا ادَّعى عَلَيْهِ بِأنَّهُ قالَ كَذا وكَذا فَقالَ: " إنْ كُنْت قُلْته فَأنا تائِبٌ إلى اللَّهِ مِنهُ " أوْ " قَدْ تُبْت مِنهُ " فَقَدْ اكْتُفِيَ مِنهُ بِهَذا الجَوابِ، ولَمْ يُكْشَفْ عَنْ شَيْءٍ مِنهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
[المِثالُ الثّانِي والثَّمانُونَ حِيلَةٌ في عَدَمِ الحِنْثِ في يَمِينٍ]
[حِيلَةٌ في عَدَمِ الحِنْثِ في يَمِينٍ]
المِثالُ الثّانِي والثَّمانُونَ: لَوْ حَلَفَ رَجُلٌ بِالطَّلاقِ أنَّهُ لا يَضْمَنُ عَنْ أحَدٍ شَيْئًا فَحَلَفَ آخَرُ بِالطَّلاقِ أنْ لا بُدَّ أنْ تَضْمَنَ عَنِّي؛ فالحِيلَةُ في أنْ يَضْمَنَ عَنْهُ، ولا يَحْنَثُ، أنْ يُشارِكَهُ ويَشْتَرِيَ مَتاعًا بَيْنَهُ وبَيْنَ شَرِيكِهِ.
قالَ القاضِي: فَإنَّهُ يَضْمَنُ عَنْ شَرِيكِهِ نِصْفَ الثَّمَنِ، ولا يَحْنَثُ الحالِفُ في يَمِينِهِ؛ لِأنَّ المَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَقْدُ الضَّمانِ، وما يَلْزَمُهُ في مَسْألَتِنا لا يَلْزَمُهُ بِعَقْدِ الضَّمانِ، وإنَّما يَلْزَمُهُ بِالوَكالَةِ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن الشَّرِيكَيْنِ وكِيلُ صاحِبِهِ فِيما يَشْتَرِيهِ، فَلِهَذا لَمْ يَحْنَثْ في يَمِينِهِ، فَإنْ كانَتْ بِحالِها، ولَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَحْلُوفِ عَلَيْهِ شَرِكَةٌ، لَكِنَّهُ وكَّلَهُ المَحْلُوفُ عَلَيْهِ فاشْتَراها لَمْ يَحْنَثْ أيْضًا لِما بَيَّنّا.
[المِثالُ الرّابِعُ والثَّمانُونَ تَحَيُّلُ المَظْلُومِ عَلى مَسَبَّةِ النّاسِ لِلظّالِمِ]
[تَحَيُّلُ المَظْلُومِ عَلى مَسَبَّةِ النّاسِ لِلظّالِمِ]
المِثالُ الرّابِعُ والثَّمانُونَ: لا بَأْسَ لِلْمَظْلُومِ أنْ يَتَحَيَّلَ عَلى مَسَبَّةِ النّاسِ لِظالِمِهِ، والدُّعاءِ عَلَيْهِ والأخْذِ مِن عِرْضِهِ، وإنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ؛ إذْ لَعَلَّ ذَلِكَ يَرْدَعُهُ، ويَمْنَعُهُ مِن الإقامَةِ عَلى ظُلْمِهِ، وهَذا كَما لَوْ أخَذَ مالَهُ فَلَبِسَ أرَثَّ الثِّيابِ بَعْدَ أحْسَنِها، وأظْهَرَ البُكاءَ والنَّحِيبَ والتَّأوُّهَ، أوْ آذاهُ في جِوارِهِ فَخَرَجَ مِن دارِهِ، وطَرَحَ مَتاعَهُ عَلى الطَّرِيقِ، أوْ أخَذَ دابَّتَهُ فَطَرَحَ حِمْلَهُ عَلى الطَّرِيقِ وجَلَسَ يَبْكِي، ونَحْوِ ذَلِكَ، فَكُلُّ هَذا مِمّا يَدْعُو النّاسَ إلى لَعْنِ الظّالِمِ لَهُ وسَبِّهِ والدُّعاءِ عَلَيْهِ، وقَدْ أرْشَدَ النَّبِيُّ ﷺ المَظْلُومَ بِأذى جارِهِ لَهُ إلى نَحْوِ ذَلِكَ، فَفي السُّنَنِ ومُسْنَدِ الإمامِ أحْمَدَ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ: «أنَّ رَجُلًا شَكا إلى النَّبِيِّ ﷺ مِن جارِهِ، فَقالَ: اذْهَبْ فاصْبِرْ، فَأتاهُ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثًا، فَقالَ: اذْهَبْ فاطْرَحْ مَتاعَك في الطَّرِيقِ، فَطَرَحَ مَتاعَهُ في الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النّاسُ يَسْألُونَهُ فَيُخْبِرُهم خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وفَعَلَ، فَجاءَ إلَيْهِ جارُهُ فَقالَ لَهُ: ارْجِعْ لا تَرى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ» هَذا لَفْظُ أبِي داوُد.
[المِثالُ الخامِسُ والثَّمانُونَ مِن لَطائِفِ حِيَلِ أبِي حَنِيفَةَ]
[مِن لَطائِفِ حِيَلِ أبِي حَنِيفَةَ]
المِثالُ الخامِسُ والثَّمانُونَ: ما ذُكِرَ في مَناقِبِ أبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - أنَّ رَجُلًا أتاهُ بِاللَّيْلِ فَقالَ: أدْرِكْنِي قَبْلَ الفَجْرِ، وإلّا طَلَّقْت امْرَأتِي، فَقالَ: وما ذاكَ؟ قالَ: تَرَكَتْ اللَّيْلَةَ كَلامِي، فَقُلْت لَها: إنْ طَلَعَ الفَجْرُ، ولَمْ تُكَلِّمِينِي فَأنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا، وقَدْ تَوَسَّلْت إلَيْها بِكُلِّ أمْرٍ أنْ تُكَلِّمَنِي فَلَمْ تَفْعَلْ، فَقالَ لَهُ: اذْهَبْ فَمُرْ مُؤَذِّنَ المَسْجِدِ أنْ يَنْزِلَ فَيُؤَذِّنَ قَبْلَ الفَجْرِ، فَلَعَلَّها إذا سَمِعَتْهُ أنْ تُكَلِّمَك، واذْهَبْ إلَيْها وناشِدْها أنْ تُكَلِّمَك قَبْلَ أنْ يُؤَذِّنَ المُؤَذِّنُ، فَفَعَلَ الرَّجُلُ، وجَلَسَ يُناشِدُها، وأذَّنَ المُؤَذِّنُ، فَقالَتْ: قَدْ طَلَعَ الفَجْرُ وتَخَلَّصْت مِنك، فَقالَ: قَدْ كَلَّمْتِنِي قَبْلَ الفَجْرِ وتَخَلَّصْت مِن اليَمِينِ، وهَذا مِن أحْسَنِ الحِيَلِ.
[حِيلَةٌ أُخْرى لَهُ]
المِثالُ السّادِسُ والثَّمانُونَ: قالَ بِشْرُ بْنُ الوَلِيدِ: كانَ في جِوارِ أبِي حَنِيفَةَ فَتًى يَغْشى مَجْلِسَهُ، فَقالَ لَهُ يَوْمًا: إنِّي أُرِيدُ التَّزَوُّجَ بِامْرَأةٍ، وقَدْ طَلَبُوا مِنِّي مِن المَهْرِ فَوْقَ طاقَتِي، وقَدْ تَعَلَّقْت بِالمَرْأةِ، فَقالَ لَهُ: أعْطِهِمْ ما طَلَبُوا مِنك، فَفَعَلَ، فَلَمّا عَقَدَ العَقْدَ جاءَ إلَيْهِ فَقالَ: قَدْ طَلَبُوا مِنِّي المَهْرَ، فَقالَ: احْتَلْ واقْتَرِضْ وأعْطِهِمْ فَفَعَلَ، فَلَمّا دَخَلَ بِأهْلِهِ قالَ: إنِّي أخافُ المُطالَبِينَ بِالدَّيْنِ، ولَيْسَ عِنْدِي ما أُوَفِّيهِمْ، فَقالَ: أظْهِرْ أنَّك تُرِيدُ سَفَرًا بَعِيدًا، وأنَّك تُرِيدُ الخُرُوجَ بِأهْلِك، فَفَعَلَ، واكْتَرى جِمالًا، فاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلى المَرْأةِ، وأوْلِيائِها، فَجاءُوا إلى أبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَسَألُوهُ، فَقالَ: لَهُ أنْ يَذْهَبَ بِأهْلِهِ حَيْثُ شاءَ، فَقالُوا: نَحْنُ نُرْضِيهِ ونَرُدُّ إلَيْهِ ما أخَذْناهُ مِنهُ، ولا يُسافِرُ، فَلَمّا سَمِعَ الزَّوْجُ طَمِعَ فَقالَ: لا واللَّهِ حَتّى يَزِيدُونِي، فَقالَ لَهُ: إنْ رَضِيت بِهَذا، وإلّا أقَرَّتْ المَرْأةُ أنَّ عَلَيْها دَيْنًا لِرَجُلٍ، فَلا يُمْكِنُك أنْ تُخْرِجَها حَتّى تُوَفِّيَهُ فَقالَ: بِاللَّهِ لا يَسْمَعُ أهْلُ المَرْأةِ ذَلِكَ مِنك، أنا أرْضى بِاَلَّذِي أعْطَيْتهمْ.
* [فصل: الحِيَلُ عَلى ثَلاثَةِ أنْواعٍ]
وَحِيَلُ هَذا البابِ ثَلاثَةُ أنْواعٍ: حِيلَةٌ عَلى دَفْعِ الظُّلْمِ والمَكْرِ حَتّى لا يَقَعَ، وحِيلَةٌ عَلى رَفْعِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وحِيلَةٌ عَلى مُقابَلَتِهِ بِمِثْلِهِ حَيْثُ لا يُمْكِنُ رَفْعُهُ؛ فالنَّوْعانِ الأوَّلانِ جائِزانِ، وفي الثّالِثِ تَفْصِيلٌ، فَلا يُمْكِنُ القَوْلُ بِجَوازِهِ عَلى الإطْلاقِ، ولا بِالمَنعِ مِنهُ عَلى الإطْلاقِ، بَلْ إنْ كانَ المُتَحَيَّلُ بِهِ حَرامًا لِحَقِّ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ مُقابَلَتُهُ بِمِثْلِهِ، كَما لَوْ جَرَّعَهُ الخَمْرَ أوْ زَنى بِحُرْمَتِهِ، وإنْ كانَ حَرامًا؛ لِكَوْنِهِ ظُلْمًا لَهُ في مالِهِ، وقَدَرَ عَلى ظُلْمِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَهي مَسْألَةُ الظَّفَرِ، وقَدْ تَوَسَّعَ فِيها قَوْمٌ حَتّى أفْرَطُوا وجَوَّزُوا قَلْعَ البابِ، ونَقْبَ الحائِطِ وخَرْقَ السَّقْفِ، ونَحْوَ ذَلِكَ؛ لِمُقابَلَتِهِ بِأخْذِ نَظِيرِ مالِهِ، ومَنَعَها قَوْمٌ بِالكُلِّيَّةِ، وقالُوا: لَوْ كانَ عِنْدَهُ ودِيعَةٌ أوْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أنْ يَسْتَوْفِيَ مِنهُ قَدْرَ حَقِّهِ إلّا بِإعْلامِهِ بِهِ، وتَوَسَّطَ آخَرُونَ وقالُوا: إنْ كانَ سَبَبُ الحَقِّ ظاهِرًا كالزَّوْجِيَّةِ والأُبُوَّةِ والبُنُوَّةِ ومِلْكِ اليَمِينِ المُوجِبِ لِلْإنْفاقِ فَلَهُ أنْ يَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّهِ مِن غَيْرِ إعْلامِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ ظاهِرًا كالقَرْضِ وثَمَنِ المَبِيعِ، ونَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الأخْذُ إلّا بِإعْلامِهِ، وهَذا أعْدَلُ الأقْوالِ في المَسْألَةِ، وعَلَيْهِ تَدُلُّ السُّنَّةُ دَلالَةً صَرِيحَةً؛ والقائِلُونَ بِهِ أسْعَدُ بِها، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَإنْ كانَ بَهْتًا لَهُ وكَذِبًا عَلَيْهِ أوْ قَذْفًا لَهُ أوْ شَهادَةً عَلَيْهِ بِالزُّورِ لَمْ يَجُزْ لَهُ مُقابَلَتُهُ بِمِثْلِهِ، وإنْ كانَ دُعاءً عَلَيْهِ أوْ لَعْنًا أوْ مَسَبَّةً فَلَهُ مُقابَلَتُهُ بِمِثْلِهِ عَلى أصَحِّ القَوْلَيْنِ، وإنْ مَنَعَهُ كَثِيرٌ مِن النّاسِ، وإنْ كانَ إتْلافُ مالٍ لَهُ فَإنْ كانَ مُحْتَرَمًا كالعَبْدِ والحَيَوانِ لَمْ يَجُزْ لَهُ مُقابَلَتُهُ بِمِثْلِهِ، وإنْ كانَ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ فَإنْ خافَ تَعَدِّيَهُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ مُقابَلَتُهُ بِمِثْلِهِ كَما لَوْ حَرَقَ دارِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أنْ يَحْرِقَ دارِهِ، وإنْ لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ - بَلْ كانَ يَفْعَلُ بِهِ نَظِيرَ ما فَعَلَ بِهِ سَواءٌ كَما لَوْ قَطَعَ شَجَرَتَهُ أوْ كَسَرَ إناءَهُ أوْ فَتَحَ قَفَصًا عَنْ طائِرِهِ أوْ حَلَّ وِكاءَ مائِعٍ لَهُ أوْ أرْسَلَ الماءَ عَلى مِسْطاحِهِ فَذَهَبَ بِما فِيهِ ونَحْوِ ذَلِكَ، وأمْكَنَهُ مُقابَلَتُهُ بِمِثْلِ ما فَعَلَ سَواءٌ - فَهَذا مَحَلُّ اجْتِهادٍ لَمْ يَدُلَّ عَلى المَنعِ مِنهُ كِتابٌ، ولا سُنَّةٌ، ولا إجْماعٌ، ولا قِياسٌ صَحِيحٌ، بَلْ الأدِلَّةُ المَذْكُورَةُ تَقْتَضِي جَوازَهُ كَما تَقَدَّمَ بَيانُهُ في أوَّلِ الكِتابِ.
وَكانَ شَيْخُنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُرَجِّحُ هَذا ويَقُولُ: هو أوْلى بِالجَوازِ مِن إتْلافِ طَرَفِهِ بِطَرَفِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُوا۟ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُیُوتِهِنَّ وَلَا یَخۡرُجۡنَ إِلَّاۤ أَن یَأۡتِینَ بِفَـٰحِشَةࣲ مُّبَیِّنَةࣲۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِی لَعَلَّ ٱللَّهَ یُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ أَمۡرࣰا","فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفࣲ وَأَشۡهِدُوا۟ ذَوَیۡ عَدۡلࣲ مِّنكُمۡ وَأَقِیمُوا۟ ٱلشَّهَـٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَ ٰلِكُمۡ یُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجࣰا","وَیَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَیۡثُ لَا یَحۡتَسِبُۚ وَمَن یَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَـٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَیۡءࣲ قَدۡرࣰا"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُوا۟ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُیُوتِهِنَّ وَلَا یَخۡرُجۡنَ إِلَّاۤ أَن یَأۡتِینَ بِفَـٰحِشَةࣲ مُّبَیِّنَةࣲۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِی لَعَلَّ ٱللَّهَ یُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ أَمۡرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق