الباحث القرآني

أحْسَنُ النّاسِ أجْسامًا، وأخْلَبُهم لِسانًا، وألْطَفُهم بَيانًا، وأخْبَثُهم قُلُوبًا، وأضْعَفُهم جَنانًا، فَهم كالخُشُبِ المُسَنَّدَةِ الَّتِي لا ثَمَرَ لَها، قَدْ قُلِعَتْ مِن مَغارِسِها فَتَسانَدَتْ إلى حائِطٍ يُقِيمُها، لِئَلّا يَطَأها السّالِكُونَ ﴿وَإذا رَأيْتَهم تُعْجِبُكَ أجْسامُهم وإنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأنَّهم خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فاحْذَرْهم قاتَلَهُمُ اللَّهُ أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون: ٤]. يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ وقْتِها الأوَّلِ إلى شَرَقِ المَوْتى فالصُّبْحُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ والعَصْرُ عِنْدَ الغُرُوبِ، ويَنْقُرُونَها نَقْرَ الغُرابِ، إذْ هي صَلاةُ الأبْدانِ، لا صَلاةُ القُلُوبِ، ويَلْتَفِتُونَ فِيها التِفاتَ الثَّعْلَبِ، إذْ يَتَيَقَّنُ أنَّهُ مَطْرُودٌ مَطْلُوبٌ، ولا يَشْهَدُونَ الجَماعَةَ، بَلْ إنْ صَلّى أحَدُهم فَفي البَيْتِ أوِ الدُّكّانِ، وإذا خاصَمَ فَجَرَ، وإذا عاهَدَ غَدَرَ، وإذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا ائْتُمِنَ خانَ، هَذِهِ مُعامَلَتُهم لِلْخَلْقِ، وتِلْكَ مُعامَلَتُهم لِلْخالِقِ، فَخُذْ وصْفَهم مِن أوَّلِ المُطَفِّفِينَ، وآخِرِ والسَّماءِ والطّارِقِ فَلا يُنْبِئُكُ عَنْ أوْصافِهِمْ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ جاهِدِ الكُفّارَ والمُنافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ ومَأْواهم جَهَنَّمُ وبِئْسَ المَصِيرُ﴾ [التحريم: ٩] فَما أكْثَرَهُمْ! وهُمُ الأقَلُّونَ، وما أجْبَرَهُمْ! وهُمُ الأذَلُّونَ، وما أجْهَلَهُمْ! وهُمُ المُتَعالِمُونَ، وما أغَرَّهم بِاللَّهِ! إذْ هم بِعَظَمَتِهِ جاهِلُونَ ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهم لَمِنكم وما هم مِنكم ولَكِنَّهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ [التوبة: ٥٦]. * (فائدة) قيل: في قوله ﴿وَإذا رَأيْتَهم تُعْجِبُكَ أجْسامُهم وإنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأنَّهم خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ إن المراد به عبد الله بن أبي وكان من أحسن الناس جسما والصواب أن اللفظ عام في من اتصف بهذه الصفات وهي صحة الجسم وتمامه وحسن الكلام وخلوه من روح الإيمان ومحبة الهدى وإيثاره كـ خُلُوِّ الخشب المقطوعة التي قد تساند بعضها إلى بعض من روح الحياة التي يعطيها النمو أو الزيادة والثمرة واتصافهم بالجبن والخور الذي يحسب صاحبه أن كل صيحة عليه. فمن التقصير الزائد أن يقال إن المراد بهذا اللفظ هو عبد الله بن أبي. * (فصل: في طبقة الزنادقة) وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسوله. وهؤلاء المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار، قال تعالى: ﴿إنَّ المُنافِقِينَ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ، ولَن تَجِدَ لَهم نَصِيرًا﴾ [النساء: ١٤٥] فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف، وهم فوقهم في دركات النار. لأن الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله وزاد المنافقون عليهم بالكذب والنفاق، وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالى في حقهم: ﴿هُمُ العَدُوُّ فاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون: ٤] ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي لا عدو إلا هم، ولكن لم يرد هاهنا حصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو للمسلمين سواهم بل هذا] من إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا يتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهرًا وموالاتهم لهم] ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعدواة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها. فإن ضرر هؤلاءِ المخالطين لهم المعاشرين لهم - وهم في الباطن على خلاف دينهم - أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم، لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أيامًا ثم ينقضى ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحًا ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم ويتربصون بهم الدوائر ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر، فلهذا قيل: ﴿هُمُ العَدُوُّ فاحْذَرْوهُمْ﴾ لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوًا من الكفار المجاهرين. ونظير ذلك قول النبي ﷺ: "ليس المسكين الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس، ولا يفطن له فيتصدق عليه" فليس هذا نفيًا لاسم المسكين عن الطواف، بل إخبار بأن هذا القانع الذي لا يسمونه مسكينًا أحق بهذا الاسم من الطواف الذي يسمونه مسكينًا. والمقصود أن هذه الطبقة أشقى الأشقياءِ، ولهذا يستهزأُ بهم في الآخرة، وتعطى نورًا يتوسطون به على الصراط ثم يطفيء الله نورهم ويقال لهم: ﴿ارْجَعُوا وراءَكم فالتَمِسُوا نُورًا﴾ [الحديد: ١٣]، ويضرب بينهم وبين المؤمنين: ﴿بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وظاهِرُهُ مِن قَبْلِهِ العَذابُ يُنادُونَهم ألَمْ نَكُن مَعَكم قالُوا بَلى ولَكِنَّكم فَتَنْتُمْ أنْفُسَكم وتَرَبَّصْتُمْ وارْتَبْتُم وغَرَّتْكُمُ الأمانِي حَتّى جاءَ أمْرُ اللهِ وغرَّكم بِاللهِ الغرُورِ﴾ وهذا أشد ما يكون من الحسرة والبلاءِ أن يفتح للعبد طريق النجاة والفلاح، حتى إذا ظن أنه ناج ورأى منازل السعداءِ اقتطع عنهم وضربت عليه الشقوة ونعوذ بالله من غضبه وعقابه. وإنما كانت هذه الطبقة في الدرك الأسفل لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، وباشروا من أعلام الرسالة وشواهد الإيمان ما لم يباشره البعداءُ، ووصل إليهم من معرفته وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفرًا وأخبث قلوبًا، وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البعداءِ عنهم، وإن كان البعداء متصدين لحرب المسلمين. ولهذا قال تعالى [فى المنافقين]: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُم لا يَفْقَهُونَ﴾ وقال تعالى فيهم: ﴿صُم بُكْمُّ عُمِى فَهم لا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٨]، وقال تعالى في الكفار: ﴿صُم بُكْم عُمْى فَهم لا يرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ١٧١]، فالكافر لم يعقل، والمنافق أبصر ثم عمي وعرف ثم تجاهل وأقر ثم أنكر وآمن، ثم كفر، ومن كان هكذا كان أشد كفرًا وأخبث قلبًا وأعتى على الله ورسله، فاستحق الدرك الأسفل. * [فَصْلٌ: المَعاصِي تُلْقِي الرُّعْبَ والخَوْفَ في القُلُوبِ] وَمِن عُقُوباتِها ما يُلْقِيهِ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مِنَ الرُّعْبِ والخَوْفِ في قَلْبِ العاصِي، فَلا تَراهُ إلّا خائِفًا مَرْعُوبًا. فَإنَّ الطّاعَةَ حِصْنُ اللَّهِ الأعْظَمُ، مَن دَخَلَهُ كانَ مِنَ الآمِنِينَ مِن عُقُوباتِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ومَن خَرَجَ عَنْهُ أحاطَتْ بِهِ المَخاوِفُ مِن كُلِّ جانِبٍ، فَمَن أطاعَ اللَّهَ انْقَلَبَتِ المَخاوِفُ في حَقِّهِ أمانًا، ومَن عَصاهُ انْقَلَبَتْ مَآمِنُهُ مَخاوِفَ، فَلا تَجِدُ العاصِيَ إلّا وقَلْبُهُ كَأنَّهُ بَيْنَ جَناحَيْ طائِرٍ، إنْ حَرَّكَتِ الرِّيحُ البابَ قالَ: جاءَ الطَّلَبُ، وإنْ سَمِعَ وقْعَ قَدَمٍ خافَ أنْ يَكُونَ نَذِيرًا بِالعَطَبِ، يَحْسَبُ أنَّ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِ، وكُلَّ مَكْرُوهٍ قاصِدٌ إلَيْهِ، فَمَن خافَ اللَّهَ آمَنَهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ، ومَن لَمْ يَخَفِ اللَّهَ أخافَهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ: ؎بِذا قَضى اللَّهُ بَيْنَ الخَلْقِ مُذْ خُلِقُوا ∗∗∗ أنَّ المَخاوِفَ والأجْرامَ في قَرَنِ المَعاصِي تُوقِعُ في الوَحْشَةِ وَمِن عُقُوباتِها أنَّها تُوقِعُ الوَحْشَةَ العَظِيمَةَ في القَلْبِ فَيَجِدُ المُذْنِبُ نَفْسَهُ مُسْتَوْحِشًا، قَدْ وقَعَتِ الوَحْشَةُ بَيْنَهُ وبَيْنَ رَبِّهِ، وبَيْنَ الخَلْقِ وبَيْنَ نَفْسِهِ، وكُلَّما كَثُرَتِ الذُّنُوبُ اشْتَدَّتِ الوَحْشَةُ، وأمَرُّ العَيْشِ عَيْشُ المُسْتَوْحِشِينَ الخائِفِينَ، وأطْيَبُ العَيْشِ عَيْشُ المُسْتَأْنِسِينَ، فَلَوْ نَظَرَ العاقِلُ ووازَنَ لَذَّةَ المَعْصِيَةِ وما تُوقِعُهُ مِنَ الخَوْفِ والوَحْشَةِ، لَعَلِمَ سُوءَ حالِهِ، وعَظِيمَ غَبْنِهِ، إذْ باعَ أُنْسَ الطّاعَةِ وأمْنَها وحَلاوَتَها بِوَحْشَةِ المَعْصِيَةِ وما تُوجِبُهُ مِنَ الخَوْفِ والضَّرَرِ الدّاعِي لَهُ. كَما قِيلَ: ؎فَإنْ كُنْتَ قَدْ أوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ ∗∗∗ فَدَعْها إذا شِئْتَ واسْتَأْنِسِ وَسِرُّ المَسْألَةِ: أنَّ الطّاعَةَ تُوجِبُ القُرْبَ مِنَ الرَّبِّ سُبْحانَهُ، فَكُلَّما اشْتَدَّ القُرْبُ قَوِيَ الأُنْسُ، والمَعْصِيَةُ تُوجِبُ البُعْدَ مِنَ الرَّبِّ، وكُلَّما زادَ البُعْدُ قَوِيَتِ الوَحْشَةُ. وَلِهَذا يَجِدُ العَبْدُ وحْشَةً بَيْنَهُ وبَيْنَ عَدُوِّهِ لِلْبُعْدِ الَّذِي بَيْنَهُما، وإنْ كانَ مُلابِسًا لَهُ، قَرِيبًا مِنهُ، ويَجِدُ أُنْسًا قَوِيًّا بَيْنَهُ وبَيْنَ مَن يُحِبُّ، وإنْ كانَ بَعِيدًا عَنْهُ. والوَحْشَةُ سَبَبُها الحِجابُ، وكُلَّما غَلُظَ الحِجابُ زادَتِ الوَحْشَةُ، فالغَفْلَةُ تُوجِبُ الوَحْشَةَ، وأشَدُّ مِنها وحْشَةُ المَعْصِيَةِ، وأشَدُّ مِنها وحْشَةُ الشِّرْكِ والكُفْرِ، ولا تَجِدُ أحَدًا مُلابِسًا شَيْئًا مِن ذَلِكَ إلّا ويَعْلُوهُ مِنَ الوَحْشَةِ بِحَسْبِ ما لابَسَهُ مِنهُ، فَتَعْلُو الوَحْشَةُ وجْهَهُ وقَلْبَهُ فَيَسْتَوْحِشُ ويُسْتَوْحَشُ مِنهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب