الباحث القرآني
* (فصل)
وَقد ظن طائِفَة مِنهُم أبُو القاسِم السُّهيْلي وغَيره أن تَسْمِيَته ﷺ بـ أحْمد كانَت قبل تَسْمِيَته بِـ مُحَمد فَقالُوا ولِهَذا بشر بِهِ المَسِيح باسمه أحْمد وفي حَدِيث طَوِيل في حَدِيث مُوسى لما قالَ لرَبه جلّ وعلا إنِّي أجد أمة من شَأْنها كَذا وكَذا فاجعلهم أمتِي قالَ تِلْكَ أمة أحْمد يا مُوسى فَقالَ اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من أمة أحْمد قالُوا وإنَّما جاءَ تَسْمِيَته بِمُحَمد في القُرْآن خاصَّة لقَوْله تَعالى ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّد﴾ [محمد: ٨] وقَوله ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله﴾ [الفتح: ٢٩]
وبنوا على ذَلِك أن اسْمه أحْمد تَفْضِيل من فعل الفاعِل أي أحْمد الحامدين لرَبه ومُحَمّد هو المَحْمُود الَّذِي تحمده الخَلائق وإنَّما يَتَرَتَّب على هَذا الِاسْم بعد وجوده وظهوره فَإنَّهُ حِينَئِذٍ حَمده أهل السَّماء والأرْض ويَوْم القِيامَة يحمده أهل الموقف فَلَمّا ظهر إلى الوُجُود وترتب على ظُهُوره من الخيرات ما ترَتّب حَمده الخَلائق حمدًا مكررًا فتأخرت تَسْمِيَته بِمُحَمد على تَسْمِيَته بِأحْمَد.
وَفِي هَذا الكَلام مناقشة من وُجُوه:
أحدها أنه قد سمي بِمُحَمد قبل الإنْجِيل كَذَلِك اسْمه في التَّوْراة وهَذا يقر بِهِ كل عالم من مؤمني أهل الكتاب ونحن نذْكر النَّص الَّذِي عِنْدهم في التَّوْراة، وما هو الصَّحِيح في تَفْسِيره.
قالَ في التَّوْراة في إسْماعِيل قولا هَذِه حكايته وعَن إسْماعِيل سَمِعتك ها أنا باركته وأيمنته مِمّا باد وذكر هَذا بعد أن ذكر إسْماعِيل وأنه سيلد اثْنَي عشر عَظِيما مِنهُم عَظِيم يكون اسْمه مماد باد وهَذا عند العلماء المُؤمنِينَ من أهل الكتاب صَرِيح في اسْم النَّبِي ﷺ مُحَمَّد
وَرَأيْت في بعض شُرُوح التَّوْراة ما حكايته بعد هَذا المَتْن قالَ الشّارِح هَذانِ الحرفان في موضِعين يتضمنان اسْم السَّيِّد الرَّسُول مُحَمَّد ﷺ لِأنَّك إذا اعْتبرت حُرُوف اسْم مُحَمَّد وجدتها في الحرفين المَذْكُورين لِأن ميمي مُحَمَّد ودالة بِإزاءِ الميمين من الحرفين وإحْدى الدالين وبَقِيَّة اسْم مُحَمَّد وهِي الحاء فبإزاء بَقِيَّة الحرفين وهِي الباء والألفان والدّال الثّانِيَة
قلت يُرِيد بالحرفين الكَلِمَتَيْنِ قالَ لِأن للحاء من الحساب ثَمانِيَة من العدَد والباء لَها اثْنان وكل ألف لَها واحِد والدّال بأرْبعَة فَيصير المَجْمُوع ثَمانِيَة وهِي قسط الحاء من العدَد الجملِي فَيكون الحرفان معنى الكَلِمَتَيْنِ وهما مماد باد قد تضمنا بالتصريح ثَلاثَة أرباع اسْم مُحَمَّد ﷺ وربعه الآخر قد دلّ عَلَيْهِ بَقِيَّة الحرفين بِالكِتابَةِ بِالطَّرِيقِ الَّتِي أشرت إلَيْها قالَ الشّارِح فَإن قيل فَما مستندكم في هَذا التَّأْوِيل؟
قُلْنا مستندنا فِيهِ مُسْتَند عُلَماء اليَهُود في تَأْوِيل أمْثاله من الحُرُوف المشكلة الَّتِي جاءَت في التَّوْراة كَقَوْلِه تَعالى يا مُوسى قل لبني إسْرائِيل أن يَجْعَل كل واحِد مِنهُم في طرف ثَوْبه خيطًا أزْرَق لَهُ ثَمانِيَة أرؤس ويعقد فِيهِ خمس عقد ويسميه صيصيت قالَ عُلَماء اليَهُود تَأْوِيل هَذا وحكمته أن كل من رأى ذَلِك الخَيط الأزْرَق وعدد أطْرافه الثَّمانِية وعقده الخمس وذكر اسْمه ذكر ما يجب عَلَيْهِ من فَرائض الله سُبْحانَهُ وتَعالى لِأن الله تَعالى افْترض على بني إسْرائِيل سِتّمائَة وثَلاث عشرَة شَرِيعَة لِأن الصادين والياءين بمائتين والتّاء بأربعمائة فَيصير مَجْمُوع الِاسْم سِتّمائَة والأطراف والعقد ثَلاثَة عشر كَأنَّهُ يَقُول بصورته واسْمه اذكر فَرائض الله عز وجل.
قالَ هَذا الشّارِح وأما قَول كثير من المُفَسّرين إن المُراد بِهَذَيْنِ الحرفين جدا جدا لكَون لفظ ماد قد جاءَت مُفْردَة في التَّوْراة بِمَعْنى جدا قالَ فَهَذا لا يَصح لأجل الباء المُتَّصِلَة بِهَذا الحَرْف فَإنَّهُ لَيْسَ من الكَلام المُسْتَقيم قَول القائِل أنا أكرمك بجدًا فَلَمّا نقل هَذا الحَرْف من التَّوْراة الأزلية الَّتِي نزلت في ألْواح الجَوْهَر على الكليم بالخط الكينوني وهَذا الحَرْف فِيها مَوْصُولا بِالباء علم أن المُراد غير ما ذهب إلَيْهِ من قالَ هي بِمَعْنى جدا إذْ لا تَأْوِيل يَلِيق بها غير هَذا التَّفْسِير بِدَلِيل قَوْله تَعالى في غير هَذا الموضع لإبْراهِيم عَن ولَده إسْماعِيل إنَّه يلد اثْنَي عشر شريفًا ومن شرِيف مِنهُم يكون شخص اسْمه مِمّا باد فقد صرحت التَّوْراة أن هذَيْن الحرفين اسْم علم لشخص شرِيف معِين من ولد إسْماعِيل فَبَطل قَول من قالَ إنَّه بِمَعْنى المصدر للتوكيد فَإن التَّصْرِيح بِكَوْنِهِ
اسْم عين يُناقض من يَدعِي أنه اسْم معنى والله أعلم. تمّ كَلامه.
وَقالَ غَيره لا حاجَة إلى هَذا التعسف في بَيان اسْمه ﷺ في التَّوْراة بل اسْمه فِيها أظهر من هَذا كُله وذَلِكَ أن التَّوْراة هي باللغة العبرية وهِي قريبَة من العَرَبيَّة بل هي أقرب لُغات الأُمَم إلى اللُّغَة العَرَبيَّة وكَثِيرًا ما يكون الِاخْتِلاف بَينهما في كَيْفيَّة أداء الحُرُوف والنطق بها من التفخيم والترقيق والضَّم والفَتْح وغير ذَلِك واعْتبر هَذا بتقارب ما بَين مُفْرَدات اللغتين فَإن العَرَب يَقُولُونَ لا والعبرانيين تَقول لَو فيضمون اللّام ويأتون بِالألف بَين الواو والألف وتقول العَرَب قدس ويَقُول العبرانيون قدش وتقول العَرَب أنْت ويَقُول العبرانيون أنا وتقول العَرَب يَأْتِي كَذا ويَقُول العبرانيون يوتى فيضمون الياء ويأتون بِالألف بعْدها بَين الواو والألف وتقول العَرَب قدسك ويَقُول العبرانيون قد شحا وتقول العَرَب مِنهُ ويَقُول العبرانيون ممنو وتقول العَرَب من يهوذا ويَقُول العبرانيون مهوذا وتقول العَرَب سَمِعتك ويَقُول العبرانيون شمعيخا وتقول العَرَب من ويَقُول العبرانيون مي وتقول العَرَب يَمِينه ويَقُول العبرانيون مينو وتقول العَرَب لَهُ ويَقُول العبرانيون لَو بَين الواو والألف وكَذَلِكَ تَقول العَرَب أمة ويَقُول العبرانيون أموا وتقول العَرَب أرض ويَقُول العبرانيون إيرص وتقول العَرَب واحِد ويَقُول العبرانيون إيحاد وتقول العَرَب عالم ويَقُول العبرانيون عولام وتقول العَرَب كيس ويَقُول العبرانيون كييس وتقول العَرَب يَأْكُل ويَقُول العبرانيون يوخل وتقول العَرَب تين ويَقُول العبرانيون تيين وتقول العَرَب إلَه ويَقُول العبرانيون أولوه وتقول العَرَب إلهنا ويَقُول العبرانيون ألوهينو وتقول العَرَب أبانا ويَقُول العبرانيون أبوتينا ويَقُولُونَ باصباع إلوهيم يعنون أصْبع الإلَه ويَقُولُونَ مابنم يعنون الابْن ويَقُولُونَ حاليب بِمَعْنى حَلُوب فَإذا أرادوا يَقُولُونَ لا تَأْكُل الجدي في حليب أمه قالُوا
"لَو توخل لذِي ما حالوب أمو"
وَيَقُولُونَ لَو [توكلوا] أي لا تَأْكُلُوا ويَقُولُونَ للكتب "المشنا" ومَعْناها بلغَة العَرَب المُثَنّاة الَّتِي تثنى أي تقْرَأ مرّة بعد مرّة.
وَلا نطيل بِأكْثَرَ من هَذا في تقارب اللغتين.
وَتَحْت هَذا سر يفهمهُ من فهم تقارب ما بَين الأمتين والشريعتين.
واقتران التَّوْراة بِالقُرْآنِ في غير مَوضِع من الكتاب كَقَوْلِه تَعالى ﴿أولم يكفروا بِما أُوتِيَ مُوسى من قبل قالُوا سحران تظاهرا وقالُوا إنّا بِكُل كافرون قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ من عند الله هو أهْدى مِنهُما أتَّبِعْهُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [القصص: ٤٨-٤٩]
وَقَوله في سُورَة الأنْعام ردا على من قالَ ﴿ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ قُلْ مَن أنْزَلَ الكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُورًا وهدى للنّاس﴾ [الأنعام: ٩١]
ثمَّ قالَ تَعالى ﴿وَهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأنعام: ٩٢] وقالَ في آخر السُّورَة ﴿ثُمَّ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وهُدىً ورَحْمَةً لَعَلَّهم بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فاتَّبِعُوهُ واتَّقُوا لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٤-١٥٥]
وَقالَ تَعالى في أول سُورَة آل عمران ﴿المَ اللَّهُ لا إلَه إلّا هو الحَيّ القيوم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وأنْزَلَ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ مِن قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ﴾
وَقالَ تَعالى ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وهارُونَ الفُرْقانَ وضِياءً وذكرا لِلْمُتقين الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالغَيْبِ وهم من السّاعَة مشفقون وهَذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أنْزَلْناهُ أفَأنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٨-٥٠]
وَلِهَذا يذكر سُبْحانَهُ وتَعالى قصَّة مُوسى ويُعِيدها ويبديها ويسلي رَسُوله ﷺ ويَقُول رَسُول الله ﷺ عِنْدَما يَنالهُ من أذى النّاس لقد أوذي مُوسى بِأكْثَرَ من هَذا فَصَبر
وَلِهَذا قالَ النَّبِي ﷺ إنَّه كائِن في أمتِي ما كانَ في بني إسْرائِيل حَتّى لَو كانَ فيهم من أتى أمه عَلانيَة لَكانَ في هَذِه الأمة من يَفْعَله فَتَأمل هَذا التناسب بَين الرسولين والكتابين والشريعتين أعنِي الشَّرِيعَة الصَّحِيحَة الَّتِي لم تبدل والأمتين واللغتين فَإذا نظرت في حُرُوف مُحَمَّد وحروف مماد باد وجدت الكَلِمَتَيْنِ كلمة واحِدَة فَإن الميمين فيهما والهمزة والحاء من مخرج واحِد والدّال كثيرا ما تَجِد موضعها ذالًا في لغتهم يَقُولُونَ إيحاذ للْواحِد ويَقُولُونَ قوذش في القُدس والدّال والذال متقاربتان فَمن تَأمل اللغتين وتَأمل هذَيْن الاسمين لم يشك أنَّهُما واحِد ولِهَذا نَظائِر في اللغتين مثل مُوسى فَإنَّهُ في اللُّغَة العبرانية موشى بالشين وأصله الماء والشَّجر فَإنَّهُم يَقُولُونَ للْماء مو وشا هو الشّجر ومُوسى التقطه آل فِرْعَوْن من بَين الماء والشَّجر فالتفاوت الَّذِي بَين مُوسى وموشى كالتفاوت بَين مُحَمَّد ومماد باد.
وَكَذا إسْماعِيل هو في لغتهم يشماعيل بياء بدل الألف وبشين بدل السِّين فالتفاوت بَينهما كالتفاوت بَين مُحَمَّد ومماد باد وكَذَلِكَ العيص وهو أخُو يَعْقُوب يَقُولُونَ لَهُ عِيسى وهو عيص ونَظِير هَذا في غير الأعْلام مِمّا تقدم قَوْله يشماعون يعنون يسمعُونَ ويَقُولُونَ آقيم بِمد الهمزَة مَعَ ضمها أي أقيم ويَقُولُونَ مي قارب أي من قارب ووسط أخيهيم أي إخْوَتهم وهَذا مِمّا يعْتَرف بِهِ كل مُؤمن عالم من عُلَماء أهل الكتاب
والمَقْصُود أن اسْم النَّبِي ﷺ في التَّوْراة مُحَمَّد كَما هو في القُرْآن وأما المَسِيح فَإنَّما سَمّاهُ أحْمد كَما حَكاهُ الله عَنهُ في القُرْآن فَإذن تَسْمِيَته بِأحْمَد وقعت مُتَأخِّرَة عَن تَسْمِيَته مُحَمَّدًا في التَّوْراة ومتقدمة على تَسْمِيَته مُحَمَّدًا في القُرْآن فَوَقَعت بَين التسميتين محفوفة بهما وقد تقدم أن هذَيْن الاسمين صفتان في الحَقِيقَة والوصفية فيهما لا تنافِي العلمية وأن مَعْناهُما مَقْصُود فَعرف عند كل أمة بأعرف الوصفين عِنْدها فمحمد مفعل من الحَمد وهو الكثير الخِصال الَّتِي يحمد عَلَيْها حمدًا متكررًا حمدًا بعد حمد وهَذا إنَّما يعرف بعد العلم بخصال الخَيْر وأنواع العُلُوم والمعارف والأخلاق والأوصاف والأفْعال الَّتِي يسْتَحق تكْرار الحَمد عَلَيْها ولا ريب أن بني إسْرائِيل هم أولو العلم الأول والكتاب الَّذِي قالَ الله تَعالى فِيهِ ﴿وَكَتَبْنا لَهُ في الألْواحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ٤٥]
وَلِهَذا كانَت أمة مُوسى أوسع علومًا ومَعْرِفَة من أمة المَسِيح ولِهَذا لا تتمّ شَرِيعَة المَسِيح إلّا بِالتَّوْراةِ وأحكامها فَإن المَسِيح عَلَيْهِ السَّلام وأمته محالون في الأحْكام عَلَيْها والإنْجِيل كَأنَّهُ مكمل لَها متمم لمحاسنها والقُرْآن جامع لمحاسن الكِتابَيْنِ
فَعرف النَّبِي ﷺ عند هَذِه الأمة باسم مُحَمَّد الَّذِي قد جمع خِصال الخَيْر الَّتِي يسْتَحق أن يحمد عَلَيْها حمدًا بعد حمد وعرف عند أمة المَسِيح ب أحْمد الَّذِي يسْتَحق أن يحمد أفضل مِمّا يحمد غَيره وحمده أفضل من حمد غَيره فَإن أمة المَسِيح أمة لَهُم من الرياضات والأخلاق والعبادات ما لَيْسَ لأمة مُوسى، ولِهَذا كانَ غالب كِتابهمْ مواعظ وزهد وأخلاق وحض على الإحْسان والِاحْتِمال والصفح حَتّى قيل إن الشَّرائِع ثَلاثَة شَرِيعَة عدل وهِي شَرِيعَة التَّوْراة فِيها الحكم والقصاص وشَرِيعَة فضل وهِي شَرِيعَة الإنْجِيل مُشْتَمِلَة على العَفو ومَكارِم الأخْلاق والصفح والإحْسان كَقَوْلِه من أخذ رداءك فأعطه ثَوْبك ومن لطمك على خدك الأيْمن فأدر لَهُ خدك الأيْسَر ومن سخرك ميلًا فامش مَعَه ميلين وشَرِيعَة نَبينا جمعت هَذا وهَذا وهِي شَرِيعَة القُرْآن فَإنَّهُ يذكر العدْل ويوجبه والفضل وينْدب إلَيْهِ كَقَوْلِه تَعالى ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ﴾ [الشورى: ٤٠] فجاء اسْمه عند هَذِه الأمة بأفعل التَّفْضِيل الدّال على الفضل والكمال كَما جاءَت شريعتهم بِالفَضْلِ المكمل لشريعة التَّوْراة وجاء في الكتاب الجامِع لمحاسن الكتب قبله بالاسمين مَعًا فَتدبر هَذا الفَصْل وتبين ارتباط المعانِي بأسمائها ومناسبتها لَها والحَمْد لله المانِّ بفضله وتوفيقه.
وَقَول أبي القاسِم إن اسْم مُحَمَّد ﷺ إنَّما ترَتّب بعد ظُهُوره إلى الوُجُود لِأنَّهُ حِينَئِذٍ حمد حمدًا مكررًا فَكَذَلِك أن يُقال مُحَمَّد أيْضا سَواء وقَوله في اسْمه أحْمد إنَّه تقدم لكَونه أحْمد الحامدين لرَبه وهَذا يقدم على حمد الخَلائق لَهُ فبناء مِنهُ على أنه تَفْضِيل من فعل الفاعِل وأما على القَوْل الآخر الصَّحِيح فَلا يَجِيء هَذا وقد تقدم تَقْرِير ذَلِك والله سُبْحانَهُ وتَعالى أعلم.
* (فَصْلٌ: في أنَّهُ لا يُمْكِنُ الإيمانُ بِنَبِيٍّ أصْلًا مَعَ جُحُودِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وأنَّ مَن جَحَدَ نُبُوَّتَهُ فَهو لِنُبُوَّةِ غَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ أشَدُّ جَحْدًا)
وَهَذا يَتَبَيَّنُ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الأنْبِياءَ المُتَقَدِّمِينَ بَشَّرُوا بِنُبُوَّتِهِ، وأمَرُوا أُمَمَهم بِالإيمانِ بِهِ، كَما تَقَدَّمَ، ومَن جَحَدَ نُبُوَّتَهُ فَقَدْ كَذَّبَ الأنْبِياءَ قَبْلَهُ فِيما أخْبَرُوا بِهِ، وخالَفَهم فِيما أوْصَوْا بِهِ مِنَ الإيمانِ بِهِ، فالتَّصْدِيقُ بِهِ لازِمٌ مِن لَوازِمِ التَّصْدِيقِ بِهِمْ، وإذا انْتَفى اللّازِمُ انْتَفى مَلْزُومُهُ قَطْعًا، وبَيانُ المُلازَمَةِ ما تَقَدَّمَ مِنَ الوُجُوهِ الكَثِيرَةِ الَّتِي تُفِيدُ بِمَجْمُوعِها القَطْعَ عَلى أنَّهُ ﷺ قَدْ ذُكِرَ في الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ عَلى ألْسُنِ الأنْبِياءِ، وإذا ثَبَتَتِ المُلازَمَةُ فانْتِفاءِ اللّازِمُ مُوجِبٌ لِانْتِفاءِ مَلْزُومِهِ.
(الوَجْهُ الثّانِي): أنَّ دَعْوَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ هي دَعْوَةُ جَمِيعِ المُرْسَلِينَ قَبْلَهُ مِن أوَّلِهِمْ إلى آخِرِهِمْ.
فالمُكَذِّبُ بِدَعْوَتِهِ مُكَذِّبٌ بِدَعْوَةِ إخْوانِهِ كُلِّهِمْ، فَإنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ جاءُوا بِما جاءَ بِهِ، فَإذا كَذَّبَهُ المُكَذِّبُ فَقَدْ زَعَمَ أنَّ ما جاءَ بِهِ باطِلًا، وفي ذَلِكَ تَكْذِيبُ كُلِّ رَسُولٍ أرْسَلَهُ اللَّهُ، وكُلُّ كِتابٍ أنْزَلَهُ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُعْتَقَدَ أنَّ ما جاءَ بِهِ صِدْقٌ، وأنَّهُ كاذِبٌ مُفْتَرٍ عَلى اللَّهِ، وهَذا في غايَةِ الوُضُوحِ، وهَذا بِمَنزِلَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا بِالحَقِّ فَصَدَّقَهُمُ الخَصْمُ، وقالَ: هَؤُلاءِ كُلُّهم شُهُودٌ عُدُولٌ صادِقُونَ، ثُمَّ شَهِدَ آخَرُ عَلى شَهادَتِهِمْ سَواءٌ، فَقالَ الخَصْمُ: هَذِهِ الشَّهادَةُ باطِلَةٌ وكَذِبٌ لا أصْلَ لَها، فَذَلِكَ تَكْذِيبٌ بِشَهادَةِ جَمِيعِ الشُّهُودِ قَطْعًا، ولا يُنْجِيهِ مِن تَكْذِيبِهِمِ اعْتِرافُهُ بِصِحَّةِ شَهادَتِهِمْ، وأنَّها شَهادَةُ حَقٍّ، وأنَّ الشّاهِدَ بِها كاذِبٌ فِيما شَهِدَ بِهِ.
وَكَما أنَّهُ لَوْ لَمْ يَظْهَرْ مُحَمَّدٌ ﷺ لَبَطَلَتْ نُبُوّاتُ الأنْبِياءِ قَبْلَهُ، فَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُصَدَّقْ لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُ نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ قَبْلَهُ.
(الوَجْهُ الثّالِثُ): أنَّ الآياتِ والبَراهِينَ الَّتِي دَلَّتْ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وصِدْقِهِ أضْعافُ أضْعافِ آياتِ مَن قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، فَلَيْسَ لِنَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ آيَةٌ تُوجِبُ الإيمانَ بِهِ إلّا ولِمُحَمَّدٍ ﷺ مِثْلُها، أوْ ما هو في الدَّلالَةِ مِثْلُها، وإنْ لَمْ يَكُنْ مِن جِنْسِها.
فَآياتُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ أعْظَمُ وأكْبَرُ، وأبْهَرُ وأدَلُّ، والعِلْمُ بِنَقْلِها قَطْعِيٌّ لِقُرْبِ العَهْدِ وكَثْرَةِ النَّقَلَةِ، واخْتِلافِ أمْصارِهِمْ وأعْصارِهِمْ، واسْتِحالَةِ تَواطُئِهِمْ عَلى الكَذِبِ، فالعِلْمُ بِآياتِ نُبُوَّتِهِ كالعِلْمِ بِنَفْسِ وُجُودِهِ، وظُهُورِهِ وبَلَدِهِ، بِحَيْثُ لا تُمْكِنُ المُكابَرَةُ في ذَلِكَ، والمُكابِرُ فِيهِ في غايَةِ الوَقاحَةِ والبَهْتِ، كالمُكابَرَةِ في وُجُودِ ما شاهَدَ النّاسُ، ولَمْ يُشاهِدْهُ هو مِنَ البِلادِ والأقالِيمِ والجِبالِ والأنْهارِ.
فَإنْ جازَ القَدْحُ في ذَلِكَ كُلِّهِ، فَفي وُجُودِ مُوسى وعِيسى وآياتِ نُبُوَّتِهِما أجْوَزُ وأجْوَزُ، وإنِ امْتَنَعَ القَدْحُ فِيهِما وفي آياتِ نُبُوَّتِهِما، فامْتِناعُهُ في مُحَمَّدٍ ﷺ وآياتِ نُبُوَّتِهِ أشَدُّ. ولِذَلِكَ لَمّا عَلِمَ بَعْضُ عُلَماءِ أهْلِ الكِتابِ أنَّ الإيمانَ بِمُوسى لا يَتِمُّ مَعَ التَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ أبَدًا، كَفَرَ بِالجَمِيعِ وقالَ: ﴿ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ﴾
كَما قالَ تَعالى: ﴿وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قالُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ قُلْ مَن أنْزَلَ الكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُورًا وهُدًى لِلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وتُخْفُونَ كَثِيرًا وعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ ولا آباؤُكم قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهم في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾.
قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: جاءَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ، ويُقالُ لَهُ: مالِكُ بْنُ الصَّيْفِ يُخاصِمُ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: أنْشُدُكَ بِالَّذِي أنْزَلَ التَّوْراةَ عَلى مُوسى، أما تَجِدُ في التَّوْراةِ أنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الحَبْرَ السَّمِينَ؟
وَكانَ حَبْرًا سَمِينًا فَغَضِبَ عَدُوُّ اللَّهِ وقالَ: واللَّهِ ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بِشْرٍ مِن شَيْءٍ، فَقالَ لَهُ أصْحابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ: ويْحَكَ ولا مُوسى؟
فَقالَ: واللَّهِ ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بِشْرٍ مِن شَيْءٍ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قالُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ قُلْ مَن أنْزَلَ الكِتابَ﴾ الآياتِ، وهَذا قَوْلُ عِكْرِمَةَ.
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: جاءَ ناسٌ مِن يَهُودَ إلى النَّبِيِّ ﷺ وهو مُحْتَبٍ فَقالُوا: يا أبا القاسِمِ، ألا تَأْتِيَنا بِكِتابٍ مِنَ السَّماءِ، كَما جاءَ بِهِ مُوسى ألْواحًا يَحْمِلُها مِن عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿يَسْألُكَ أهْلُ الكِتابِ أنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتابًا مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَألُوا مُوسى أكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقالُوا أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ الآيَةَ.
فَجَثى رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ عَلى رُكْبَتَيْهِ فَقالَ: ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ وفي لَفْظٍ: ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ ولا عَلى مُوسى ولا عَلى عِيسى ولا عَلى أحَدٍ شَيْئًا، ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ، فَحَلَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَبْوَتَهُ وجَعَلَ يَقُولُ: ولا عَلى أحَدٍ؟
وَذَهَبَ جَماعَةٌ مِنهم مُجاهِدٌ إلى أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَهُمُ الَّذِينَ جَحَدُوا أصْلَ الرِّسالَةِ وكَذَّبُوا بِالرُّسُلِ وأمّا أهْلُ الكِتابِ فَلَمْ يَجْحَدُوا نُبُوَّةَ مُوسى وعِيسى، وهَذا اخْتِيارُ ابْنِ جَرِيرٍ، قالَ: وهو أوْلى الأقاوِيلِ بِالصَّوابِ، لِأنَّ ذَلِكَ في سِياقِ الخَبَرِ عَنْهُمْ، فَهو أشْبَهُ مِن أنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ اليَهُودِ، ولَمْ يَجْرِ لَهم ذِكْرٌ يَكُونُ هَذا بِهِ مُتَّصِلًا مَعَ ما في الخَبَرِ عَمَّنْ أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ مِن هَذِهِ الآيَةِ مِن إنْكارِهِ أنْ يَكُونَ اللَّهُ أنْزَلَ عَلى بَشَرٍ شَيْئًا مِنَ الكُتُبِ، ولَيْسَ ذَلِكَ ما يَدِينُ بِهِ اليَهُودُ، بَلِ المَعْرُوفُ مِن دِينِ اليَهُودِ الإقْرارُ بِصُحُفِ إبْراهِيمَ ومُوسى وزَبُورِ داوُدَ، والخَبَرُ مِن أوَّلِ السُّورَةِ إلى هَذا المَوْضِعِ خَبَرٌ عَنِ المُشْرِكِينَ مِن عَبْدَةِ الأوْثانِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ مَوْصُولٌ بِهِ غَيْرُ مَفْصُولٍ عَنْهُ.
قُلْتُ: ويُقَوِّي قَوْلَهُ إنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، فَهي خَبَرٌ عَنْ زَنادِقَةِ العَرَبِ المُنْكِرِينَ لِأصْلِ النُّبُوَّةِ، ولَكِنْ بَقِيَ أنْ يُقالَ: فَكَيْفَ يَحْسُنُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِما لا يُقِرُّونَ بِهِ مِن إنْزالِ الكِتابِ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى؟ وكَيْفَ يُقالُ لَهم (يَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرًا) ولا سِيَّما عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ بِتاءِ الخِطابَ؟ وهَلْ ذَلِكَ صالِحٌ لِغَيْرِ اليَهُودِ؟ فَإنَّهم كانُوا يُخْفُونَ مِنَ الكِتابِ ما لا يُوافِقُ أهْواءَهم وأغْراضَهُمْ، ويُبْدُونَ مِنهُ ما سِواهُ، كَما فَعَلَ ابْنُ صُورِيا عِنْدَ إحْضارِ التَّوْراةِ في مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِلِاسْتِشْهادِ بِنَصِّ التَّوْراةِ في حُكْمِ الرَّجْمِ، ووَضَعَ يَدَهُ عَلَيْها، وقَرَأ ما قَبْلَها وما بَعْدَها، وإظْهارِ ابْنِ سَلامٍ زَيْفَهُ.
وَلَمّا كانُوا كَذَلِكَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِما يُقِرُّونَ بِهِ مِن كِتابِ مُوسى، ثُمَّ وبَّخَهم بِأنَّهم خانُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ، فَأخْفَوْا بَعْضَهُ وأظْهَرُوا بَعْضَهُ.
وَهَذا اسْتِطْرادٌ مِن ذِكْرِ جَحْدِهِمُ النُّبُوَّةَ بِالكُلِّيَّةِ وذَلِكَ إخْفاءٌ لَها وكِتْمانٌ إلى جَحْدِ ما أقَرُّوا بِهِ كِتابَهم بِإخْفائِهِ وكِتْمانِهِ، فَتِلْكَ سَجِيَّةٌ لَهم مَعْرُوفَةٌ لا تُنْكَرُ، إذْ مَن أخْفى بَعْضَ كِتابِهِ الَّذِي يُقِرُّ بِأنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ، كَيْفَ لا يَجْحَدُ أصْلَ النُّبُوَّةِ؟ ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم قَدْ عَلِمُوا بِالوَحْيِ ما لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَهُ هم ولا آباؤُهُمْ، ولَوْلا الوَحْيُ الَّذِي أنْزَلَهُ اللَّهُ عَلى أنْبِيائِهِ ورُسُلِهِ لَمْ يَصِلُوا إلَيْهِ، ثُمَّ أمَرَ رَسُولَهُ ﷺ أنْ يُجِيبَ عَنْ هَذا السُّؤالِ، وهو قَوْلُهُ: مَن أنْزَلَ الكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى
فَقالَ: قُلِ اللَّهُ أيِ اللَّهُ الَّذِي أنْزَلَهُ، أيْ إنْ كَفَرُوا بِهِ وجَحَدُوهُ فَصَدِّقْ بِهِ أنْتَ وأقِرَّ بِهِ وذَرْهم في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ.
وَجَوابُ هَذا السُّؤالِ أنْ يُقالَ - واللَّهُ أعْلَمُ -: إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِما يُقِرُّ بِهِ الكِتابِيُّونَ وهم أُولُو العِلْمِ دُونَ الأُمَمِ الَّتِي لا كِتابَ لَها، أيْ إنْ جَحَدْتُمْ أصْلَ النُّبُوَّةِ، وأنْ يَكُونَ اللَّهُ أنْزَلَ عَلى بَشَرٍ شَيْئًا، فَهَذا كِتابُ مُوسى يُقِرُّ بِهِ أهْلُ الكِتابِ، وهم أعْلَمُ مِنكم فاسْألُوهم عَنْهُ.
وَنَظائِرُ هَذا في القُرْآنِ كَثِيرَةٌ، لِيَسْتَشْهِدَ سُبْحانَهُ بِأهْلِ الكِتابِ عَلى مُنْكِرِي النُّبُوّاتِ والتَّوْحِيدِ، والمَعْنى أنَّكم إنْ أنْكَرْتُمْ أنْ يَكُونَ اللَّهُ أنْزَلَ عَلى بَشَرٍ شَيْئًا فَمَن أنْزَلَ كِتابَ مُوسى؟ فَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا ذَلِكَ فاسْألُوا أهْلَ الكِتابِ.
وَأمّا قَوْلُهُ تَعالى: (يَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرًا) فَمَن قَرَأها بِالياءِ فَهو إخْبارٌ عَنِ اليَهُودِ بِلَفْظِ الغَيْبَةِ، ومَن قَرَأها بِالتّاءِ لِلْخِطابِ فَهو خِطابٌ لِهَذا الجِنْسِ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ، أنْ تَجْعَلُونَهُ يا مَن أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، وهَذا مِن أعْلامِ نُبُوَّتِهِ ﷺ أنْ يُخْبِرَ أهْلَ الكِتابِ بِما اعْتَمَدُوهُ في كِتابِهِمْ، وأنَّهم جَعَلُوهُ قَراطِيسَ، وأبْدَوْا بَعْضَهُ وأخْفَوْا كَثِيرًا مِنهُ، وهَذا لا يُعْلَمُ مِن غَيْرِ جِهَتِهِمْ إلّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى.
وَلا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (يَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) خِطابًا لِمَن حَكى عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ﴾
بَلْ هَذا اسْتِطْرادٌ مِنَ الشَّيْءِ إلى نَظِيرِهِ وشِبْهِهِ ولازِمِهِ.
وَلَهُ نَظائِرُ في القُرْآنِ كَثِيرَةٌ.
وَعَلى التَّقْدِيرِ، فَهَؤُلاءِ لَمْ يَتِمَّ لَهم إنْكارُ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ ومُكابَرَتُهم إلّا بِهَذا الجَحْدِ والتَّكْذِيبِ العامِّ، ورَأوْا أنَّهم إنْ أقَرُّوا بِبَعْضِ النُّبُوّاتِ وجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ ظَهَرَ تَناقُضُهم وتَفْرِيقُهم بَيْنَ المُتَماثِلَيْنِ، وأنَّهم لا يُمْكِنُهُمُ الإيمانُ بِنَبِيٍّ وجَحْدِ نُبُوَّةِ مَن نُبُوَّتُهُ أظْهَرُ وآياتُها أكْبَرُ، وأعْظَمُ مِمَّنْ أقَرُّوا بِهِ.
وَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ مَن جَحَدَ أنْ يَكُونَ قَدْ أرْسَلَ رُسُلَهُ، وأنْزَلَ كُتُبَهُ لَمْ يُقَدِّرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وأنَّهُ نَسَبَهُ إلى ما لا يَلِيقُ بِهِ، بَلْ يَتَعالى ويَتَنَزَّهُ عَنْهُ، فَإنَّ في ذَلِكَ إنْكارًا لِرُبُوبِيَّتِهِ وإلَهِيَّتِهِ ومُلْكِهِ وحُكْمِهِ ورَحْمَتِهِ، والظَّنِّ السَّيِّءِ بِهِ أنَّهُ خَلَقَ خَلْقَهُ عَبَثًا باطِلًا، وأنَّهُ خَلّاهم سُدًى مُهْمَلًا، وهَذا يُنافِي كَمالَهُ المُقَدَّسَ، وهو مُتَعالٍ عَنْ كُلِّ ما يُنافِي كَمالَهُ، فَمَن أنْكَرَ كَلامَهُ وتَكْلِيمَهُ وإرْسالَهُ الرُّسُلَ إلى خَلْقِهِ فَما قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، ولا عَرَفَهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، ولا عَظَّمَهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ، كَما أنَّ مَن عَبَدَ مَعَهُ إلَهًا غَيْرَهُ لَمْ يُقَدِّرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ، مُعَطِّلٌ جاحِدٌ لِصِفاتِ كَمالِهِ، ونُعُوتِ جَلالِهِ، وإرْسالِ رُسُلِهِ، وإنْزالِهِ كُتُبِهِ، ولا عَظَّمَهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ.
وَلِذَلِكَ كانَ جَحْدُ نُبُوَّةِ خاتَمِ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ، وتَكْذِيبُهُ إنْكارًا لِلرَّبِّ تَعالى في الحَقِيقَةِ وجُحُودًا لَهُ، فَلا يُمْكِنُ الإقْرارُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وإلَهِيَّتِهِ ومُلْكِهِ، بَلْ ولا بِوُجُودِهِ، مَعَ تَكْذِيبِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ﷺ، وقَدْ أشَرْنا إلى ذَلِكَ في المُناظَرَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، فَلا يُجامِعُ الكُفْرُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ الإقْرارَ بِالرَّبِّ تَعالى، وصِفاتِهِ أصْلًا، كَما لا يُجامِعُ الكُفْرَ بِالمَعادِ واليَوْمِ الآخِرِ، الإقْرارَ بِوُجُودِ الصّانِعِ أصْلًا وأمّا النَّصارى فَقَدْ عَرَفْتَ ما الَّذِي أدْرَكُوهُ مِن مَعْبُودِهِمْ وما وصَفُوهُ بِهِ، وما الَّذِي قالُوهُ في نَبِيِّهِمْ، وكَيْفَ لَمْ يُدْرِكُوا حَقِيقَتَهُ ألْبَتَّةَ، ووَصَفُوا اللَّهَ بِما هو مِن أعْظَمِ العُيُوبِ والنَّقائِصِ، ووَصَفُوا عَبْدَهُ ورَسُولَهُ بِما لَيْسَ لَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، ولا عَرَفُوا اللَّهَ ولا رَسُولَهُ، والمَعادُ الَّذِي أقَرُّوا بِهِ لَمْ يُدْرِكُوا حَقِيقَتَهُ، ولَمْ يُؤْمِنُوا بِما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِن حَقِيقَةٍ، إذْ لا أكْلَ عِنْدِهِمْ في الجَنَّةِ ولا شُرْبَ ولا زَوْجَةَ هُناكَ، ولا حُورَ عِينٍ يَلَذُّ بِهِنَّ الرِّجالُ كَلَذّاتِهِمْ في الدُّنْيا، ولا عَرَفُوا حَقِيقَةَ أنْفُسِهِمْ وما تَسْعَدُ بِهِ وتَشْقى، ومَن لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ فَهو أجْدَرُ أنْ لا يَعْرِفَ حَقِيقَةَ شَيْءٍ كَما يَنْبَغِي ألْبَتَّةَ.
فَلا لِأنْفُسِهِمْ عَرَفُوا ولا لِفاطِرِها وبارِيها، ولا لِمَن جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا في فَلاحِها وسَعادَتِها، ولا لِلْمَوْجُوداتِ وأنَّها جَمِيعَها فَقِيرَةٌ مَرْبُوبَةٌ مَصْنُوعَةٌ ناطِقُها آدَمِيُّها وجِنُّها ومَلَكُها، وكُلُّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ عَبْدُهُ ومِلْكُهُ، وهو مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ مَرْبُوبٌ فَقِيرٌ مِن كُلِّ وجْهٍ، ومَن لَمْ يَعْرِفْ هَذا لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا.
وَأمّا اليَهُودُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - فَقَدْ حَكى اللَّهُ لَكَ عَنْ جَهْلِ أسْلافِهِمْ وعِبادَتِهِمْ لِلْعِجْلِ وضَلالِهِمْ ما يَدُلُّ عَلى ما وراءَهُ مِن ظُلُماتِ الجَهْلِ الَّتِي بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، ويَكْفِي في ذَلِكَ عِبادَتُهُمُ العِجْلَ الَّذِي صَنَعَتْهُ أيْدِيهِمْ مِن ذَهَبٍ، ومِن غَباوَتِهِمْ وبَلادَتِهِمْ أنْ جَعَلُوهُ عَلى صُورَةِ أبْلَهِ الحَيَوانِ، وأقَلِّهِ فَطانَةً الَّذِي يُضْرَبُ المَثَلُ بِهِ في قِلَّةِ الفَهْمِ، فانْظُرْ إلى هَذِهِ الجَهالَةِ والغَباوَةِ المُجاوِزَةِ لِلْحَدِّ، كَيْفَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ، وقَدْ شاهَدُوا مِن أدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وعَظَمَةِ الرَّبِّ وجَلالِهِ ما لَمْ يُشاهِدْهُ سِواهُمْ؟!
وَإذْ قَدْ عَزَمُوا عَلى اتِّخاذِ إلَهٍ دُونَ اللَّهِ فاتَّخَذُوهُ ونَبِيُّهم حَيٌّ بَيْنَ أظْهُرِهُمْ، لَمْ يَنْتَظِرُوا مَوْتَهُ!
وَإذْ قَدْ فَعَلُوا فَلَمْ يَتَّخِذُوهُ مِنَ المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ، ولا مِنَ الأحْياءِ النّاطِقِينَ، بَلِ اتَّخَذُوهُ مِنَ الجَماداتِ! وإذْ قَدْ فَعَلُوا، فَلَمْ يَجْعَلُوهُ مِنَ الجَواهِرِ العُلْوِيَّةِ كالشَّمْسِ والقَمَرِ والنُّجُومِ، بَلْ هو مِنَ الجَواهِرِ الأرْضِيَّةِ! وإذْ قَدْ فَعَلُوا لَمْ يَتَّخِذُوهُ مِنَ الجَواهِرِ الَّتِي خُلِقَتْ فَوْقَ الأرْضِ عالِيَةً عَلَيْها كالجِبالِ ونَحْوِها، بَلْ مِن جَواهِرَ لا تَكُونُ إلّا تَحْتَ الأرْضِ، والصُّخُورُ والأحْجارُ عالِيَةٌ عَلَيْها! وإذْ قَدْ فَعَلُوا فَلَمْ يَتَّخِذُوهُ مِن جَوْهَرٍ يَسْتَغْنِي عَنِ الصَّنْعَةِ، وإدْخالِ النّارِ وتَقْلِيبِهِ وُجُوهًا مُخْتَلِفَةً، وضَرْبِهِ بِالحَدِيدِ وسَبْكِهِ، بَلْ مِن جَوْهَرٍ يَحْتاجُ إلى نَيْلِ الأيْدِي لَهُ بِضُرُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ وإدْخالِهِ النّارَ وإحْراقِهِ واسْتِخْراجِ خَبَثِهِ، وإذْ قَدْ فَعَلُوا، فَلَمْ يَصُوغُوهُ عَلى تِمْثالِ مَلَكٍ كَرِيمٍ، ولا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، ولا عَلى تِمْثالِ جَوْهَرٍ عُلْوِيٍّ لا تَنالُهُ الأيْدِي، بَلْ عَلى تِمْثالِ حَيَوانٍ أرْضِيٍّ، وإذْ قَدْ فَعَلُوا لَمْ يَصُوغُوهُ عَلى مِثالِ أشْرَفِ الحَيَواناتِ وأقْواها وأشَدِّها امْتِناعًا مِنَ الضَّيْمِ كالأسَدِ والفِيلِ ونَحْوِهِما، بَلْ صاغُوهُ عَلى تِمْثالِ أبْلَدِ الحَيَواناتِ وأقْبَلِهِ لِلضَّيْمِ والذُّلِّ بِحَيْثُ تُحْرُثُ عَلَيْهِ الأرْضُ، ويُسْقى عَلَيْهِ بِالسَّواقِي والدَّوالِيبِ، ولا لَهُ قُوَّةٌ يَمْتَنِعُ بِها مِن كَبِيرٍ ولا صَغِيرٍ.
فَأيُّ مَعْرِفَةٍ لِهَؤُلاءِ بِمَعْبُودِهِمْ ونَبِيِّهِمْ وبِحَقائِقِ المَوْجُوداتِ؟
وَحَقِيقٌ بِمَن سَألَ نَبِيَّهُ أنْ يَجْعَلَ لَهُ إلَهًا فَيَعْبُدَ الأصْنامَ إلَهًا مَجْعُولًا بَعْدَ ما شاهَدَ تِلْكَ الآياتِ الباهِراتِ أنْ لا يَعْرِفَ حَقِيقَةَ الإلَهِ ولا أسْماءَهُ وصِفاتِهِ ونُعُوتَهُ ودِينَهُ، ولا يَعْرِفَ حَقِيقَةَ المَخْلُوقِ وحاجَتَهُ وفَقْرَهُ، ولَوْ عَرَفَ هَؤُلاءِ مَعْبُودَهم ورَسُولَهُ لَما قالُوا لِنَبِيِّهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللَّهَ جَهْرَةً، ولا قالُوا لَهُ: فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا.
وَلا قَتَلُوا نَفُسًا، وطَرَحُوا المَقْتُولَ عَلى أبْوابِ البَراءِ مِن قَتْلِهِ ونَبِيُّهم حَيٌّ بَيْنَ أظْهُرِهُمْ، وخَبَرُ السَّماءِ والوَحْيُ يَأْتِيهِ صَباحًا ومَساءً، فَكَأنَّهم جَوَّزُوا أنْ يَخْفى هَذا عَلى اللَّهِ كَما يَخْفى عَلى النّاسِ؟!
وَلَوْ عَرَفُوا مَعْبُودَهم لَما قالُوا في بَعْضِ مُخاطَباتِهِمْ لَهُ: يا أبانا انْتَبِهْ مِن رَقْدَتِكَ لا تَنَمْ.
وَلَوْ عَرَفُوهُ لَما سارَعُوا إلى مُحارَبَةِ أنْبِيائِهِ وقَتْلِهِمْ وحَبْسِهِمْ ونَفْيِهِمْ، ولَما تَحايَلُوا عَلى تَحْلِيلِ مَحارِمِهِ وإسْقاطِ فَرائِضِهِ بِأنْواعِ الحِيَلِ.
وَلَقَدْ شَهِدَتِ التَّوْراةُ بِعَدَمِ فَطانَتِهِمْ وأنَّهم مِنَ الأغْبِياءِ.
* (فصل)
ولا يمكن ألبتة أن يؤمن يهودي بنبوة موسى عليه السلام إن لم يؤمن بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ولا يمكن نصرانيا أن يقر بنبوة المسيح إلا بعد إقراره بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
وبيان ذلك أن يقال لهاتين الأمتين:
أنتم لم تشاهدوا هذين الرسولين، ولا شاهدتم آياتهما وبراهين نبوتهما. فكيف يسع العاقل أن يكذب نبيا ذا دعوة سابقة، وكلمة قائمة، وآيات باهرة، وتصديق من ليس مثله ولا قريبا منه في ذلك؟ لأنه لم ير أحد النبيين، ولا شاهد معجزاته. فإذا كذب بنبوة أحدهما لزمه التكذيب بنبوتهما. وإن صدق بأحدهما لزمه التصديق بنبوتهما فمن كفر بنبي واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم، ولم ينفعه إيمانه به.
قال الله تعالى: ﴿إنَّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ ورُسُلِه ويُرِيدُونَ أنْ يفُرِّقوا بْينَ اللهِ ورُسُلِه ويَقُولُونَ نُؤْمِنُ ببِعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضِ ويُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاَ أُولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ، حَقا وأعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا * والّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ورُسُلِهِ ولَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أحَدٍ مِنهم أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهم وكانَ اللهُ غفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: ١٥٠-١٥٢]، وقال تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ والمُؤْمنُونَ كُل آمَنَ بِاللهَ مَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِه لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِه﴾ [البقرة: ٢٨٥].
فنقول للمغضوب عليه: هل رأيت موسى وعاينت معجزاته؟ فبالضرورة يقول: لا.
فنقول له: بأي شيء عرفت نبوته وصدقه؟
فله جوابان.
أحدهما: أن يقول: أبي عرفني ذلك، وأخبرني به.
والثاني: أن يقول: التواتر وشهادات الأمم حقق ذلك عندى، كما حققت شهادتهم وجود البلاد النائية، والبحار، والأنهار المعروفة وإن لم أشاهدها.
فإن اختار الجواب الأول، وقال: إن شهادة أبي وإخباره إياي بنبوة موسى هي سبب تصديقى بنبوته.
قلنا له: ولم كان أبوك عندك صادقا في ذلك، معصومًا عن الكذب؟ وأنت ترى الكفار يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك. فإذا كنت ترى الأديان الباطلة، والمذاهب الفاسدة، قد أخذها أربابها عن آبائهم كأخذك مذهبك عن أبيك، وأنت تعلم أن الذي هم عليه ضلال. فلزمك أن تبحث ما أخذته عن أبيك، خوفا أن تكون هذه حاله.
فإن قال: إن الذي أخذته عن أبي أصح من الذي أخذه الناس عن آبائهم، كفاه معارضة غيره له بمثل قوله.
فإن قال: أبي أصدق من آبائهم وأعرف وأفضل، عارضه سائر الناس في آبائهم بنظير ذلك.
فإن قال: أنا أعرف حال أبي، ولا أعرف حال غيره.
قيل له: فما يؤمنك أن يكون غير أبيك أصدق من أبيك، وأصدق وأعرف؟
وبكل حال. فإن كان تقليد أبيه حجة صحيحة، كان تقليد غيره لأبيه كذلك. وإن كان ذلك باطلا، كان تقليده لأبيه باطلا.
فإن رجع عن هذا الجواب واختار الجواب الثاني، وقال: إنما علمت نبوة موسى بالتواتر قرنا بعد قرن. فإنهم أخبروا بظهوره وبمعجزاته وآياته وبراهين نبوته التي تضطرنى إلى تصديقه.
فيقال له: لا ينفعك هذا الجواب. لأنك قد أبطلت ما شهد به التواتر من نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:
فإن قلت: تواتر ظهور موسى ومعجزاته وآياته، ولم يتواتر ذلك في المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
قيل لك: هذا هو اللائق ببهت الأمة الغضبية. فإن الأمم جميعهم قد عرفوا أنهم قوم بهت. وإلا فمن المعلوم أن الناقلين لمعجزات المسيح ومحمد صلى الله تعالى عليهما وسلم أضعاف أضعافكم بكثير. والمعجزات التي شاهدها أوائلهم لا تنقص عن المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام، وقد نقلها عنهم أهل التواتر جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن.
وأنت لا تقبل خبر التواتر في ذلك وترده، فيلزمك أن لا تقبله في أمر موسى عليه السلام.
ومن المعلوم بالضرورة: أن من أثبت شيئا ونفى نظيره فقد تناقض.
وإذا اشتهر النبي في عصر وصحت نبوته في ذلك العصر بالآيات التي ظهرت عليه لأهل عصره، ووصل خبره إلى أهل عصر آخر، وجب عليهم تصديقه والإيمان به. وموسى ومحمد والمسيح في هذا سواء ولعل تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمد، لأن الأمة الغضبية قد مزقها الله تعالى كل ممزق، وقطعها في الأرض، وسلبها ملكها وعزها، فلا عيش لها إلا تحت قهر سواهم من الأمم لها، بخلاف أمة عيسى عليه السلام، فإنها قد انتشرت في الأرض، وفيهم الملوك، ولهم الممالك.
وأما الحنفاء، فممالكهم قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وملأوا الدنيا سهلا وجبلا فكيف يكون نقلهم لما نقلوه كذبا، ونقل الأمة الغضبية الخاملة القليلة الزائلة صدقا؟
فثبت أنه لا يمكن يهوديا على وجه الأرض أن يصدق بنبوة موسى عليه السلام إلا بتصديقه وإقراره بنبوة محمد ﷺ. ولا يمكن نصرانيا ألبتة الإيمان بالمسيح عليه السلام إلا بعد الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولا ينفع هاتين الأمتين شهادة المسلمين بنبوة موسى والمسيح. لأنهم آمنوا بهما على يد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد، وبما جاء له. فلولاه ما عرفنا نبوتهما، ولا أمنا بهما.
ولا سيما فإن أمة الغضب والضلال ليس بأيديهم عن أنبيائهم ما يوجب الإيمان بهم فلولا القرآن ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما عرفنا شيئا من آيات الأنبياء المتقدمين.
فمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وكتابه هو الذي قرر نبوة موسى ونبوة المسيح، لا اليهود ولا النصارى.
بل كان نفس ظهوره ومجيئه تصديقا لنبوتهما. فإنهما أخبرا بظهوره، وبشرا به قبل ظهوره. فلما بعث كان بعثه تصديقا لهما.
وهذا أحد المعنيين في قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ أئِنّا لَتارِكُوا آلَهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ؟ بَلْ جاءَ بالحَقِّ وصَدَّقَ المُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: ٣٦-٣٧].
أي مجيئه تصديق لهم من جهتين.
من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه، ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به، ومطابقة ما جاءوا به لما جاءوا به. فإن الرسول الأول إذا أتى بأمر لا يعلم إلا بالوحي، ثم جاء نبي آخر لم يقارنه في الزمان ولا في المكان، ولا تلقى عنه ما جاء به، وأخبر بمثل ما أخبر به سواء، دل ذلك على صدق الرسولين الأول والآخر. وكان ذلك بمنزلة رجلين أخبر أحدهما بخبر عن عيان، ثم جاء آخر من غير بلده وناحيته، بحيث يعلم أنه لم يجتمع به، ولا تلقى عنه، ولا عمن تلقى عنه فأخبر بمثل ما أخبر به الأول سواء. فإنه يضطر السامع إلى تصديق الأول والثاني.
والمعنى الثاني: أنه لم يأت مكذبا لمن قبله من الأنبياء، مزريا عليهم، كما يفعل الملوك المتغلبون على الناس بمن تقدمهم من الملوك بل جاء مصدقا لهم، شاهدا بنبوتهم. ولو كان كاذبا متقولا منشئا من عنده سياسة، لم يصدق من قبله، بل كان يزرى بهم، ويطعن عليهم، كما يفعل أعداء الأنبياء.
* (فَصْلٌ آخر)
* قال في (هداية الحيارى)
وَنَحْنُ نُبَيِّنُ لَهم أنَّهم لا يُمْكِنُهم أنْ يُثْبِتُوا لِلْمَسِيحِ فَضِيلَةً ولا نُبُوَّةً ولا آيَةً ولا مُعْجِزَةً إلّا بِإقْرارِهِمْ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَسُولُ اللَّهِ، وإلّا فَمَعَ تَكْذِيبِهِ إيّاهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَثْبُتَ لِلْمَسِيحِ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ ألْبَتَّةَ. فَنَقُولُ: إذا كَفَرْتُمْ مَعاشِرَ المُثَلِّثَةِ عُبّادَ الصَّلِيبِ بِالقُرْآنِ ومُحَمَّدٍ ﷺ، فَمِن أيْنَ لَكم أنْ تُثْبِتُوا لِعِيسى فَضِيلَةً أوْ مُعْجِزَةً؟
وَمَن نَقَلَ إلَيْكم عَنْهُ آيَةً أوْ مُعْجِزَةً؟ فَإنَّكم إنَّما تَبِعْتُمْ مَن بَعْدَهُ ما يَنِيفُ عَلى مِائَتَيْنِ وعَشَراتٍ مِنَ السِّنِينَ، أخْبَرْتُمْ عَنْ مَنامٍ رُؤِيَ وأسْرَعْتُمْ إلى تَصْدِيقِهِ، وكانَ الأوْلى لِمَن كَفَرَ بِالقُرْآنِ أنْ يُنْكِرَ وُجُودَ عِيسى في العالَمِ لِأنَّهُ لا يَقْبَلُ قَوْلَ اليَهُودِ فِيهِ، ولا سِيَّما وهم أعْظَمُ أعْدائِهِ الَّذِينَ رَمَوْهُ وأمَّهُ بِالعَظائِمِ، فَأخْبارُ المَسِيحِ والصَّلِيبِ إنَّما شُيُوخُكم فِيها اليَهُودُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وهم فِيما بَيْنَهم مُخْتَلِفُونَ في أمْرِهِ أعْظَمَ اخْتِلافٍ، وأنْتُمْ مُخْتَلِفُونَ مَعَهم في أمْرِهِ.
فَإنَّ اليَهُودَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَزْعُمُ أنَّهم حِينَ أخَذُوهُ وحَبَسُوهُ في السِّجْنِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، وقالُوا: ما كانَ لَكم أنْ تَحْبِسُوهُ أكْثَرَ مِن ثَلاثَةِ أيّامٍ، ثُمَّ تَقْتُلُوهُ، إلّا أنَّهُ كانَ يُعَضِّدُهُ أحَدُ قُوّادِ الرُّومِ، لِأنَّهُ كانَ يُداخِلُهُ في صِناعَةِ الطِّبِّ عِنْدَهم.
وَفِي الإنْجِيلِ الَّذِي في أيْدِيكم أنَّهُ أُخِذَ صُبْحَ يَوْمِ الجُمُعَةِ وصُلِبَ في السّاعَةِ التّاسِعَةِ مِنَ اليَوْمِ بِعَيْنِهِ فَمَتى تَتَوافَقُونَ مَعَ اليَهُودِ في خَبَرِهِ.
واليَهُودُ مُجْمِعَةٌ أنَّهُ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ مُعْجِزَةٌ ولا بَدَتْ مِنهُ لَهم آيَةٌ غَيْرَ أنَّهُ طارَ يَوْمًا، وقَدْ هَمُّوا بِأخْذِهِ فَطارَ عَلى أثَرِهِ آخَرُ مِنهُمْ، فَعَلاهُ في طَيَرانِهِ فَسَقَطَ إلى الأرْضِ بِزَعْمِهِمْ.
وَفِي الإنْجِيلِ الَّذِي بِأيْدِيكم في غَيْرِ مَوْضِعٍ ما يَشْهَدُ أنَّهُ لا مُعْجِزَةَ لَهُ ولا آيَةَ فَمِن ذَلِكَ أنَّ فِيهِ مَنصُوصا إنَّ اليَهُودَ قالُوا لَهُ يَوْمًا: ماذا تَفْعَلُ حَتّى نَنْتَهِيَ بِهِ إلى أمْرِ اللَّهِ، قالَ: أنْ تُؤْمِنُوا بِمَن بَعَثَهُ، قالُوا لَهُ: وما آيَتُكَ الَّتِي تُرِينا ونُؤْمِنُ بِكَ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ آباءَنا قَدْ أكَلُوا المَنَّ والسَّلْوى بِالمَفاوِزِ؟
قالَ: إنْ كانَ أطْعَمَكم مُوسى خُبْزًا فَأنا أُطْعِمُكم خُبْزًا سَماوِيًّا، يُرِيدُ نَعِيمَ الآخِرَةِ ولَوْ عَرَفُوا لَهُ مُعْجِزَةً ما قالُوا ذَلِكَ.
وَفِي الإنْجِيلِ الَّذِي بِأيْدِيكم أنَّ اليَهُودَ قالَتْ لَهُ: ما آيَتُكَ الَّتِي نُصَدِّقُكَ بِها؟ قالَ: اهْدِمُوا البَيْتَ أبْنِيهِ لَكم في ثَلاثَةِ أيّامٍ، فَلَوْ كانَتِ اليَهُودُ تَعْرِفُ لَهُ آيَةً لَمْ تَقُلْ هَذا، ولَوْ كانَ قَدْ أظْهَرَ لَهم مُعْجِزَةً لَذَكَّرَهم بِها حِينَئِذٍ.
وَفِي الإنْجِيلِ الَّذِي بِأيْدِيكم أيْضًا: أنَّهم جاءُوا يَسْألُونَهُ آيَةً فَقَذَفَهُمْ، فَقالَ: إنَّ القَبِيلَةَ الفاجِرَةَ الخَبِيثَةَ آيَةٌ، فَلا تُعْطى ذَلِكَ.
وَفِيهِ أيْضًا أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ لَهُ وهو عَلى الخَشَبَةِ بِظَنِّهِمْ: إنْ كُنْتَ المَسِيحَ فَأنْزَلَ نَفْسَكَ نُؤْمِن بِكَ، يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ آيَةً فَلَمْ يَفْعَلْ.
فَإذا كَفَرْتُمْ مَعاشِرَ المُثَلِّثَةِ عُبّادَ الصَّلِيبِ بِالقُرْآنِ لَمْ يَتَحَقَّقْ لِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ آيَةٌ ولا فَضِيلَةٌ، فَإنَّ أخْبارَكم عَنْهُ وأخْبارُ اليَهُودِ لا يُلْتَفَتُ إلَيْها، لِاخْتِلافِكم في شَأْنِهِ أشَدَّ الِاخْتِلافِ وعَدَمِ يَقِينِكم لِجَمِيعِ أُمُورِهِ.
وَكَذَلِكَ اليَهُودُ اجْتَمَعَتْ عَلى أنَّهُ لَمْ يَدَّعِ شَيْئًا مِنَ الإلَهِيَّةِ الَّتِي نَسَبْتُمْ إلَيْهِ أنَّهُ ادَّعاها.
وَكانَ أقْصى مُرادِهِمْ أنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أبْلَغَ تَسَلُّطِهِمْ عَلَيْهِ، وقَدْ ذَكَرْتُمُ السَّبَبَ في اسْتِفاضَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وهو أنَّ أحْبارَهم وعُلَماءَهم لَمّا مَضى وبَقِيَ ذِكْرُهُ، خافُوا أنْ يَصِيرَ عامَّتُهم إلَيْهِ، إذْ كانَ عَلى سُنَنٍ تَقْبَلُهُ قُلُوبُ الَّذِينَ لا غَرَضَ لَهُمْ، فَشَنَّعُوا عَلَيْهِ أُمُورًا كَثِيرَةً، ونَسَبُوا إلَيْهِ دَعْوى الإلَهِيَّةِ تَزْهِيدًا لِلنّاسِ في أمْرِهِ.
ثُمَّ إنَّ اليَهُودَ عِنْدَهم مِنَ الِاخْتِلافِ في أمْرِهِ ما يَدُلُّ عَلى عَدَمِ يَقِينِهِمْ بِشَيْءٍ مِن أخْبارِهِ، فَمِنهم مَن يَقُولُ: إنَّهُ كانَ رَجُلًا مِنهم ويَعْرِفُونَ أباهُ وأُمَّهُ، ويَنْسِبُونَهُ لِزانِيَةٍ، وحاشاهُ وحاشا أُمَّهُ الصِّدِّيقَةَ الطّاهِرَةَ البَتُولَ، الَّتِي لَمْ يَقْرَعُها فَحْلٌ قَطُّ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أنّى يُؤْفَكُونَ، ويُسَمُّونَ أباهُ لِلزّانِيَةِ البَنْدِيرا الرُّومِيَّ، وأُمَّهُ مَرْيَمَ الماشِطَةَ، ويَزْعُمُونَ أنَّ زَوْجَها يُوسُفَ بْنَ يَهُودًا وجَدَ البَنْدِيرا عِنْدَها عَلى فِراشِها أوْ شَعَرَ بِذَلِكَ فَهَجَرَها وأنْكَرَ ابْنَها.
وَمِنَ اليَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ مَن رَغِبَ عَنْ هَذا القَوْلِ وقالُوا: إنَّما أبُوهُ يُوسُفُ بْنُ يَهُودا الَّذِي كانَ زَوْجًا لِمَرْيَمَ، ويَذْكُرُونَ أنَّ السَّبَبَ في اسْتِفاضَةِ اسْمِ الزَّنِيمِ عَلَيْهِ: أنَّهُ بَيْنا هو يَوْمًا مَعَ مُعَلِّمِهِ يَهْشُوعَ بْنِ بَرْضِيا وسائِرِ التَّلامِيذِ فَنَزَلُوا في سَفَرٍ مَوْضِعًا، وجاءَتِ امْرَأةٌ مِن أهْلِهِ وجَعَلَتْ تُبالِغُ في إكْرامِهِمْ، فَقالَ يَهْشُوعُ: ما أحْسَنَ هَذِهِ المَرْأةَ؟ يُرِيدُ أفْعالَها، فَقالَ عِيسى - بِزَعْمِهِمْ - لَوْلا عَمَشٌ في عَيْنِها، فَصاحَ يَهْشُوعُ وقالَ: مِمْزارُ - تَرْجَمَتُهُ: يا زَنِيمُ - أتَزْنِي بِالنَّظَرِ؟ وغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وعادَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وحَرَّمَ اسْمَهُ ولَعَنَهُ في أرْبَعِمِائَةِ قَرْنٍ، فَحِينَئِذٍ لَحِقَ بِبَعْضِ قُوّادِ الرُّومِ وأدْخَلَهُ بِصِناعَةِ الطِّبِّ فَقَوِيَ لِذَلِكَ عَلى اليَهُودِ، وهم يَوْمَئِذٍ في ذِمَّةِ قَيْصَرَ بَتارْيُوشَ، وجَعْلَ يُخالِفُ حُكْمَ التَّوْراةِ، ويَسْتَدْرِكُ عَلَيْها، ويُعْرِضُ عَنْ بَعْضِها إلى أنْ كانَ مِن أمْرِهِ ما كانَ.
وَطَوائِفُ مِنَ اليَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ غَيْرَ هَذا، ويَقُولُونَ إنَّهُ كانَ يُلاعِبُ الصِّبْيانَ بِالكُرَةِ فَوَقَفَتْ لَهُمُ الكُرَةُ بَيْنَ جَماعَةٍ مِن مَشايِخِ اليَهُودِ، فَضَعُفَ الصِّبْيانُ عَنِ اسْتِخْراجِها مِن بَيْنِهِمْ، حَياءً مِنهم أيْ مِن مَشايِخِهِمْ، فَقَوِيَ عِيسى وتَخَطّى رِقابَهم وأخَذَها، فَقالُوا لَهُ: ما نَظُنُّكَ إلّا زَنِيمًا.
وَمِنَ اخْتِلافِ اليَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ في أمْرِهِ أنَّهم يُسَمُّونَ أباهُ بِزَعْمِهِمُ الَّذِي هو خَطِيبُ مَرْيَمَ يُوسُفُ بْنُ يَهُودا النَّجّارُ، وبَعْضُهم يَقُولُ: إنَّما هو يُوسُفُ الحَدّادُ. والنَّصارى تَزْعُمُ أنَّها ذاتُ بَعْلٍ، وأنَّ زَوْجَها يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، وبَعْضُهم يَقُولُ يُوسُفُ بْنُ آلٍ.
وَهم يَخْتَلِفُونَ أيْضًا في آبائِهِ وعَدَدِهِمْ إلى إبْراهِيمِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَمِن مُقِلٍّ ومِن مُكْثِرٍ. فَهَذا ما عِنْدَ اليَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وهم شُيُوخُكم في نَقْلِ الصَّلْبِ وأمْرِهِ، وإلّا فَمِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُ أحَدٌ مِنَ النَّصارى. وإنَّما حَضَرَهُ اليَهُودُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وقالُوا: قَتَلْناهُ وصَلَبْناهُ وهُمُ الَّذِينَ قالُوا فِيهِ ما حَكَيْناهُ عَنْهُمْ، فَإنْ صَدَّقْتُمُوهم في الصَّلْبِ فَصَدِّقُوهم في سائِرٍ ما ذَكَرُوهُ، وإنْ كَذَّبْتُمُوهم فِيما نَقَلُوهُ عَنْهُ فَما المُوجِبُ لِتَصْدِيقِهِمْ في الصَّلْبِ وتَكْذِيبِهِمْ، وما صَلَبُوهُ بَلْ صانَهُ اللَّهُ وحَماهُ وحَفِظَهُ، وكانَ أكْرَمَ عَلى اللَّهِ وأوْجَهَ عِنْدِهِ مِن أنْ يَبْتَلِيَهُ بِما تَقُولُونَ أنْتُمْ، قاتَلَكُمُ اللَّهُ، واليَهُودُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ؟
وَأمّا خَبَرُ ما عِنْدَكم أنْتُمْ، فَلا نَعْلَمُ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ أشَدَّ اخْتِلافًا في مَعْبُودِها ونَبِيِّها ودِينِها مِنكُمْ، فَلَوْ سَألْتَ الرَّجُلَ وامْرَأتَهُ وابْنَتَهُ وأباهُ وأُمَّهُ عَنْ دِينِهِمْ لَأجابَكَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم بِغَيْرِ جَوابِ الآخَرِ.
وَلَوِ اجْتَمَعَ عَشَرَةٌ مِنهم يَتَذاكَرُونَ الدِّينَ لَتَفَرَّقُوا عَنْ أحَدَ عَشَرَ مَذْهَبًا. مَعَ اتِّفاقِ فِرَقِهِمُ المَشْهُورَةِ اليَوْمَ عَلى القَوْلِ بِالتَّثْلِيثِ وعِبادَةِ الصَّلِيبِ، وأنَّ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ لَيْسَ بِعَبْدٍ صالِحٍ، ولا نَبِيٍّ ولا رَسُولٍ، وأنَّهُ إلَهٌ في الحَقِيقَةِ، وأنَّهُ خالِقُ السَّماواتِ والأرْضِ والمَلائِكَةِ والنَّبِيِّينَ، وأنَّهُ هو الَّذِي أرْسَلَ وأظْهَرَ عَلى أيْدِيهِمُ المُعْجِزاتِ والآياتِ، وأنَّ لِلْعالَمِ إلَهًا هو أبٌ والِدٌ لَمْ يَزَلْ، وأنَّ ابْنَهُ نَزَلَ مِنَ السَّماءِ وتَجَسَّمَ مِن رُوحِ القُدُسِ، ومِن مَرْيَمَ، وصارَ هو وابْنُها النّاسُوتِيُّ إلَهًا واحِدًا ومَسِيحًا واحِدًا وخالِقًا واحِدًا ورازِقًا، وحَبِلَتْ بِهِ مَرْيَمُ ووَلَدَتْهُ، وأُخِذَ وصُلِبَ وأُلِمَ وماتَ ودُفِنَ، وقامَ بَعْدَ ثَلاثَةِ أيّامٍ، وصَعِدَ إلى السَّماءِ وجَلَسَ عَلى يَمِينِ أبِيهِ.
وَقالُوا: والَّذِي ولَدْتُهُ مَرْيَمُ وعايَنَهُ النّاسُ وكانَ بَيْنَهم هو اللَّهُ وهو ابْنُ اللَّهِ وهو كَلِمَةُ اللَّهِ.
فالقَدِيمُ الأزَلِيُّ خالِقُ السَّماواتِ والأرْضِ، هو الَّذِي حَبِلَتْ بِهِ مَرْيَمُ، وأقامَ هُناكَ تِسْعَةَ أشْهُرٍ، وهو الَّذِي وُلِدَ ورَضَعَ وفُطِمَ وأكَلَ وشَرِبَ وتَغَوَّطَ وأُخِذَ وصُلِبَ وشُدَّ بِالحِبالِ وسُمِّرَتْ يَداهُ.
ثُمَّ اخْتَلَقُوا: فَقالَتِ اليَعْقُوبِيَّةُ - قاتَلَهُمُ اللَّهُ - وهم أتْباعُ يَعْقُوبَ البَرادِعِيِّ ولُقِّبَ بِذَلِكَ لِأنَّ لِباسَهُ كانَ مِن خُرُوقِ بِرادِعِ الدَّوابِّ يُرَقِّعُ بَعْضَها بِبَعْضٍ ويَلْبَسُها - إنَّ المَسِيحَ طَبِيعَةٌ واحِدَةٌ مِن طَبِيعَتَيْنِ: إحْداهُما طَبِيعَةُ النّاسُوتِ، والأُخْرى طَبِيعَةُ اللّاهُوتِ، وأنَّ هاتَيْنِ الطَّبِيعَتَيْنِ تَرَكَّبَتا فَصارَتا إنْسانًا واحِدًا وجْوَهَرًا واحِدًا وشَخْصًا واحِدًا، وهَذِهِ الطَّبِيعَةُ الواحِدَةُ والشَّخْصُ الواحِدُ هو المَسِيحُ، هو إلَهُ كُلُّهُ وإنْسانٌ كُلُّهُ، وهو شَخْصٌ واحِدٌ، وطَبِيعَةٌ واحِدَةٌ مِن طَبِيعَتَيْنِ.
وَقالُوا: إنَّ مَرْيَمَ ولَدَتِ اللَّهَ، وإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى قُبِضَ عَلَيْهِ، وصُلِبَ وسُمِّرَ وماتَ ودُفِنَ ثُمَّ عاشَ بَعْدَ ذَلِكَ.
* فَصْلٌ: وقالَتِ المَلِكِيَّةُ - وهُمُ الرُّومُ نِسْبَةً إلى دِينِ المَلِكِ، لا إلى رَجُلٍ يُدْعى مَلِكايا، وهو صاحِبُ مَقالَتِهِمْ، كَما يَقُولُهُ بَعْضُ مَن لا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ - إنَّ الِابْنَ الأزَلِيَّ الَّذِي هو الكَلِمَةُ تَجَسَّدَتْ مِن مَرْيَمَ تَجَسُّدا كامِلًا كَسائِرِ أجْسادِ النّاسِ. ورَكِبَتْ في ذَلِكَ الجَسَدِ نَفْسًا كامِلَةً بِالعَقْلِ والمَعْرِفَةِ والعِلْمِ كَسائِرِ أنْفُسِ النّاسِ، وأنَّهُ صارَ إنْسانًا بِالجَسَدِ والنَّفْسِ اللَّذَيْنِ هُما مِن جَوْهَرِ النّاسِ، إلَهًا بِجَوْهَرِ اللّاهُوتِ كَمِثْلِ أبِيهِ لَمْ يَزَلْ، وهو إنْسانٌ بِجَوْهَرِ النّاسِ كَمِثْلِ إبْراهِيمَ ومُوسى وداوُدَ، وهو شَخْصٌ واحِدٌ لَمْ يَزِدْ عَدَدُهُ، وثَبَتَ لَهُ جَوْهَرُ اللّاهُوتِ كَما لَمْ يَزَلْ، وصَحَّ لَهُ جَوْهَرُ النّاسُوتُ الَّذِي لَبِسَهُ ابْنُ مَرْيَمَ، وهو شَخْصٌ واحِدٌ لَمْ يَزِدْ عَدَدُهُ، وطَبِيعَتانِ ولِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الطَّبِيعَتَيْنِ مَشِيئَةٌ كامِلَةٌ، فَلَهُ بِاللّاهُوتِيَّةِ مَشِيئَةٌ مِثْلُ الأبِّ، ولَهُ بِناسُوتِيَّتِهِ مَشِيئَةٌ كَمَشِيئَةِ إبْراهِيمَ وداوُدَ. وقالُوا: إنَّ مَرْيَمَ ولَدَتِ المَسِيحَ وهو اسْمٌ يَجْمَعُ اللّاهُوتَ والنّاسُوتَ. وقالُوا: إنَّ الَّذِي ماتَ هو الَّذِي ولَدَتْهُ مَرْيَمُ، وهو الَّذِي وقَعَ عَلَيْهِ الصَّلْبُ والتَّسْمِيرُ والصَّفْعُ والرَّبْطُ بِالحِبالِ، واللّاهُوتُ لَمْ يَمُتْ ولَمْ يَأْلَمْ ولَمْ يُدْفَنْ.
قالُوا: وهو إلَهٌ قامَ بِجَوْهَرِ لاهُوتِهِ، وإنْسانٌ قائِمٌ بِجَوْهَرِ ناسُوتِهِ، ولَهُ المَشِيئَتانِ: مَشِيئَةُ اللّاهُوتِ، ومَشِيئَةُ النّاسُوتِ، فَأتَوْا بِمِثْلِ ما أتى بِهِ اليَعْقُوبِيَّةُ مِن أنَّ مَرْيَمَ بِزَعْمِهِمْ نَزَّهُوا الإلَهَ عَنِ المَوْتِ.
وَإذا تَدَبَّرَتْ قَوْلَهم وجَدْتَهُ في الحَقِيقَةِ هو قَوْلُ اليَعْقُوبِيَّةِ مَعَ تُناقِضُهُمْ، واليَعْقُوبِيَّةُ أطْرَدُ لِكُفْرِهِمْ لَفْظًا ومَعْنًى.
وَأمّا النّسْطُورِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إلى القَوْلِ بِأنَّ المَسِيحَ شَخْصانِ وطَبِيعَتانِ لَهُما مَشِيئَةٌ واحِدَةٌ، وأنَّ طَبِيعَةَ اللّاهُوتِ لَمّا وُجِدَتْ بِالنّاسُوتِ صارَ لَهُما إرادَةٌ واحِدَةٌ، واللّاهُوتُ لا يَقْبَلُ زِيادَةً ولا نُقْصانًا ولا يَمْتَزِجُ بِشَيْءٍ، والنّاسُوتُ يَقْبَلُ بِالزِّيادَةِ والنُّقْصانِ، وكانَ المَسِيحُ بِذَلِكَ إلَهًا وإنْسانًا، فَهو الإلَهُ بِجَوْهَرِ اللّاهُوتِ الَّذِي لا يَقْبَلُ الزِّيادَةَ والنُّقْصانَ، وهو إنْسانٌ بِجَوْهَرِ النّاسُوتِ الَّذِي يَقْبَلُ الزِّيادَةَ والنُّقْصانَ. وقالُوا: إنَّ مَرْيَمَ ولَدَتِ المَسِيحَ بِناسُوتِهِ وإنَّ اللّاهُوتَ لَمْ يُفارِقْهُ قَطُّ.
وَكُلُّ هَذِهِ الفِرَقِ اسْتَنْكَفَتْ أنْ يَكُونَ المَسِيحُ عَبْدَ اللَّهِ وهو لَمْ يَسْتَنْكِفْ مِن ذَلِكَ، ورَغِبَتْ بِهِ عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ، وهو لَمْ يَرْغَبْ عَنْها، بَلْ أعْلى مَنازِلِهِ عُبُودِيَّةُ اللَّهِ، ومُحَمَّدٌ وإبْراهِيمُ خَيْرٌ مِنهُ، وأعْلى مَنازِلِهِما تَكْمِيلُ مَراتِبِ العُبُودِيَّةِ بِاللَّهِ تَعالى، ويا فَوْزَ مَن رَضِيَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ عَبْدًا، فَلَمْ تَرْضَ المُثَلِّثَةُ بِذَلِكَ.
وَقالَتِ الآرْيُوسِيَّةُ مِنهُمْ، وهم أتْباعُ آرِيُوسَ: إنَّ المَسِيحَ عَبْدُ اللَّهِ كَسائِرِ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ، وهو مَرْبُوبٌ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ.
وَكانَ النَّجاشِيُّ عَلى هَذا المَذْهَبِ.
وَإذا ظَفَرَتِ المُثَلِّثَةُ بِواحِدٍ مِن هَؤُلاءِ قَتَلُوهُ شَرَّ قِتْلَةٍ، وفَعَلُوا بِهِ ما يُفْعَلُ بِمَن سَبَّ المَسِيحَ وشَتَمَهُ أعْظَمَ سَبٍّ.
وَكُلٌّ مِن تِلْكَ الفِرَقِ الثَّلاثِ عَوامُّهم لا يَفْهَمُ مَقالَةَ خَواصِّهِمْ عَلى حَقِيقَتِها، بَلْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ تَخَطّى مَرْيَمَ كَما يَتَخَطّى الرَّجُلُ المَرْأةَ، وأحْبَلَها فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا، ولا يَعْرِفُونَ تِلْكَ الهَذَياناتِ الَّتِي وضَعَها خَواصُّهُمْ، فَهم يَقُولُونَ: الَّذِي تُدَنْدِنُونَ حَوْلَهُ نَحْنُ نَعْتَقِدُهُ بِغَيْرِ حاجَةٍ مِنّا إلى مَعْرِفَةِ الأقالِيمِ الثَّلاثِ والطَّبِيعَتَيْنِ والمَشِيئَتَيْنِ، وذَلِكَ التَّهْوِيلِ والتَّطْوِيلِ.
وَهم يُصَرِّحُونَ بِأنَّ مَرْيَمَ والِدَةُ الإلَهِ، واللَّهَ أبُوهُ، وهو الِابْنُ فَهَذا الزَّوْجُ والزَّوْجَةُ، والوَلَدُ وقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا أنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَدًا وما يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا إنْ كُلُّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أحْصاهم وعَدَّهم عَدًّا وكُلُّهم آتِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ فَرْدًا.
فَهَذِهِ أقْوالُ أعْداءِ المَسِيحِ مِنَ اليَهُودِ والمُغالِينَ فِيهِ مِنَ النَّصارى والمُثَلِّثَةِ عُبّادِ الصَّلِيبِ قاتَلَ اللَّهُ الفِئَتَيْنِ أنّى يُؤْفَكُونَ.
بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِما أزالَ الشُّبْهَةَ في أمْرِهِ، وكَشَفَ الغُمَّةَ، وبَرَّأ المَسِيحَ وأمَّهُ مِمّا افْتَراهُ (مِنَ افْتِراءِ اليَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وبَهْتِهِمْ وكَذِبِهِمْ، وتَنَزَّهَ رَبُّ العالَمِينَ وخالِقُ المَسِيحِ وأُمِّهِ مِمّا افْتَراهُ) عَلَيْهِ المُثَلِّثَةُ عُبّادُ الصَّلِيبِ الَّذِينَ سَبُّوهُ أعْظَمَ السَّبِّ قاتَلَهُمُ اللَّهُ. وأنْزَلَ أخاهُ المَسِيحَ بِالمَنزِلَةِ الَّتِي أنْزَلَهُ اللَّهُ بِها، وهي أشْرَفُ مَنازِلِهِ، فَآمَنَ بِهِ وصَدَّقَهُ، وشَهِدَ لَهُ بِأنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ ورُوحُهُ، وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ العَذْراءِ البَتُولِ الطّاهِرَةِ الصِّدِّيقَةِ سَيِّدَةِ نِساءِ العالَمِينَ في زَمانِها، وقَرَّرَ مُعْجِزاتِ المَسِيحِ وآياتِهِ، وأخْبَرَ عَنْ رَبِّهِ تَعالى بِتَخْلِيدِ مَن كَفَرَ بِالمَسِيحِ في النّارِ، وأنَّ رَبَّهُ تَعالى أكْرَمَ عَبْدَهُ ورَسُولَهُ ونَزَّهَهُ وصانَهُ أنْ يَنالَ إخْوانُ القِرَدَةِ أُمَّةُ الغَضَبِ مِنهُ ما زَعَمَتْهُ النَّصارى أنَّهم نالُوهُ مِنهُ، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ مُؤَيَّدًا مَنصُورًا لَمْ يَشُكْهُ أعْداؤُهُ بِشَوْكَةٍ، ولا نالَتْهُ أيْدِيهِمْ بِأذًى، فَرَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ وأسْكَنَهُ سَماءَهُ وسَيُعِيدُهُ إلى الأرْضِ يَنْتَقِمُ بِهِ مِن مَسِيحِ الضَّلالِ وأتْباعِهِ، ثُمَّ يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، ويَقْتُلُ بِهِ الخِنْزِيرَ، ويُعْلِي بِهِ الإسْلامَ، ويَنْصُرُ بِهِ مِلَّةَ أخِيهِ وأوْلى النّاسِ بِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
فَإذا وُضِعَ هَذا القَوْلُ في المَسِيحِ في كِفَّةٍ، وقَوْلُ عُبّادِ الصَّلِيبِ المُثَلِّثَةِ في كِفَّةٍ، تَبَيَّنَ لِكُلِّ مَن لَهُ أدْنى مُسْكَةٍ مِن عَقْلٍ، ما بَيْنَهُما مِنَ التَّفاوُتِ، وأنَّ تَفاوُتَهُما كَتَفاوُتِ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ قَوْلِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَلَوْلا مُحَمَّدٌ ﷺ لَما عَرَفْنا أنَّ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ الَّذِي هو رَسُولُ اللَّهِ وعَبْدُهُ وكَلِمَتُهُ ورُوحُهُ مَوْجُودٌ أصْلًا، فَإنَّ هَذا المَسِيحَ الَّذِي أثْبَتَهُ اليَهُودُ مِن شَرارِ خَلْقِ اللَّهِ لَيْسَ بِمَسِيحِ الهُدى.
والَّذِي أثْبَتَهُ النَّصارى مِن أبْطَلِ الباطِلِ لا يُمْكِنُ وُجُودُهُ في عَقْلٍ ولا فِطْرَةٍ. ويَسْتَحِيلُ أنْ يَدْخُلَ في الوُجُودِ أعْظَمَ اسْتِحالَةٍ، ولَوْ أمْكَنَ وجُودَهُ لَبَطَلَتْ أدِلَّةُ العُقُولِ، ولَمْ يَبْقَ لِأحَدٍ ثِقَةٌ بِمَعْقُولٍ أصْلًا، فَإنَّ اسْتِحالَةَ وجُودِهِ فَوْقَ اسْتِحالَةِ جَمِيعِ المُحالاتِ، ولَوْ صَحَّ ما يَقُولُونَ لَبَطَلَ العالَمُ واضْمَحَلَّتِ السَّماواتُ والأرْضُ، وعَدِمَتِ المَلائِكَةُ والعَرْشُ والكُرْسِيُّ، ولَمْ يَكُنْ بَعْثٌ ولا نُشُورٌ ولا جَنَّةٌ ولا نارٌ.
وَلا يُسْتَعْجَبُ مِن إطْباقِ أُمَّةِ الضَّلالِ، الَّذِينَ شَهِدَ اللَّهُ أنَّهم أضَلُّ مِنَ الأنْعامِ عَلى ذَلِكَ، فَكُلُّ باطِلٍ في الوُجُودِ يُنْسَبُ إلى أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ فَإنَّها مُطْبِقَةٌ عَلَيْهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ إطْباقِ الأُمَمِ العَظِيمَةِ الَّتِي لا يُحْصِيها إلّا اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَلى الكُفْرِ والضَّلالِ بَعْدَ مُعايَنَةِ الآياتِ البَيِّناتِ، فَلِعِبادِ الصَّلِيبِ أُسْوَةٌ بِإخْوانِهِمْ مِن أهْلِ الشِّرْكِ والضَّلالِ.
* (فَصْلٌ: من بِشاراتُ التَّوْراةِ برسول الله ﷺ)
فِي السِّفْرِ الأوَّلِ مِنَ التَّوْراةِ: إنَّ اللَّهَ قالَ لِإبْراهِيمَ إنِّي جاعِلٌ ابْنَكَ إسْماعِيلَ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ إذْ هو مِن زَرْعِكَ.
وَهَذِهِ بِشارَةٌ بِمَن جُعِلَ مِن ولَدِهِ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ، ولَيْسَ هو سِوى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ﷺ.
الَّذِي هو مِن صَمِيمِ ولَدِهِ، فَإنَّهُ جُعِلَ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ، ومَن تَدَبَّرَ هَذِهِ البِشارَةَ جَزَمَ بِأنَّ المُرادَ بِها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، لِأنَّ إسْماعِيلَ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ فَوْقَ يَدِ إسْحاقَ قَطُّ، ولا كانَتْ يَدُ إسْحاقَ مَبْسُوطَةً إلَيْهِ بِالخُضُوعِ، وكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وقَدْ كانَتِ النُّبُوَّةُ والمُلْكُ في ولَدِ إسْرائِيلَ والعِيصِ وهُما ابْنا إسْحاقَ. فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ انْتَقَلَتِ النُّبُوَّةُ إلى ولَدِ إسْماعِيلَ ودانَتْ لَهُ الأُمَمُ، وخَضَعَتْ لَهُ المُلُوكُ، وجُعِلَ خِلافَةُ المُلْكِ إلى أهْلِ بَيْتِهِ إلى آخِرِ الدَّهْرِ، وصارَتْ أيْدِيهِمْ فَوْقَ أيْدِي الجَمِيعِ، وأيْدِي الجَمِيعِ مَبْسُوطَةً إلَيْهِمْ بِالخُضُوعِ، وكَذَلِكَ في السِّفْرِ الأوَّلِ: إنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ لِإبْراهِيمَ: إنَّ في هَذا العامِ يُولَدُ لَكَ ولَدٌ اسْمُهُ إسْحاقَ، فَقالَ إبْراهِيمُ: لَيْتَ إسْماعِيلَ هَذا يَحْيى بَيْنَ يَدَيْكَ ويُمَجِّدُكَ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى: {قَدِ اسْتَجَبْتُ لَكَ في إسْماعِيلِ وإنِّي أُبارِكُهُ وأُنَمِّيهِ وأُعَظِّمُهُ جِدًّا جِدًّا بِما قَدِ اسْتَجَبْتُ فِيهِ، وإنِّي أُصَيِّرُهُ إلى أُمَّةٍ كَبِيرَةٍ عَظِيمَةٍ، وأُعْطِيهِ شَعْبًا جَلِيلًا. ولَمْ يَأْتِ مِن صُلِبَ إسْماعِيلَ مَن بُورِكَ وعَظُمَ وانْطَبَقَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ العَلاماتُ غَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأُمَّتِهِ، مَلَئُوا الآفاقَ وأرْبُوا في الكَثْرَةِ عَلى نَسْلِ إسْحاقَ.
قالَ في التَّوْراةِ في السِّفْرِ الخامِسِ: قالَ مُوسى لِبَنِي إسْرائِيلَ: لا تُطِيعُوا العَرّافِينَ والمُنَجِّمِينَ، فَسَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ سُبْحانَهُ وتَعالى نَبِيًّا مِن إخْوَتِكم مِثْلِي، فَأطِيعُوا ذَلِكَ النَّبِيَّ.
وَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا النَّبِيُّ المَوْعُودُ بِهِ مِن أنْفُسِ بَنِي إسْرائِيلَ لِما تَقَدَّمَ أنَّ إخْوَةَ القَوْمِ لَيْسُوا أنْفُسَهُمْ، كَما تَقُولُ: بَكْرٌ وتَغْلِبُ ابْنا وائِلٍ، ثُمَّ تَقُولُ: تَغْلِبُ أخُو بَكْرٍ، وبَنُو تَغْلِبَ إخْوَةُ بَكْرٍ، فَلَوْ قُلْتَ: إخْوَةُ بَنِي بَكْرٍ بَنُو بَكْرٍ كانَ مُحالًا، ولَوْ قُلْتَ لِرَجُلٍ: ائْتِنِي بِرَجُلٍ مِن إخْوَةِ بَنِي بَكْرِ بْنِ وائِلٍ لَكانَ الواجِبُ أنْ تَأْتِيَ بِرَجُلٍ مِن بَنِي تَغْلِبَ بْنِ وائِلٍ لا بِواحِدٍ مِن بَنِي بَكْرٍ.
ما في الإنْجِيلِ أنَّ المَسِيحَ قالَ لِلْحِوارِيَّيْنِ: أنا أذْهَبُ وسَيَأْتِيكُمُ البارَقْلِيطُ رُوحُ الحَقِّ، لا يَتَكَلَّمُ مِن قِبَلِ نَفْسِهِ، إنَّما هو كَما يُقالُ لَهُ، وهو يَشْهَدُ لِي وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ، لِأنَّكم مَعِي مِن قَبْلِ النّاسِ، وكُلُّ شَيْءٍ أعَدَّهُ اللَّهُ لَكم يُخْبِرُكم بِهِ.
وَفِي إنْجِيلِ يُوحَنّا: البارَقْلِيطُ لا يَجِيئُكم ما لَمْ أذْهَبْ، وإذا جاءَ وبَّخَّ العالَمَ عَلى الخَطِيئَةِ، ولا يَقُولُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ، ولَكِنَّهُ مِمّا يَسْمَعُ بِهِ يُكَلِّمُكم ويَسُوسُكم بِالحَقِّ، ويُخْبِرُكم بِالحَوادِثِ والغُيُوبِ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنِّي سائِلٌ أبِي أنْ يَبْعَثَ إلَيْكم بارَقْلِيطًا آخَرَ يَكُونُ مُعَلِّمَ الأبَدِ، وهو يُعَلِّمُكم كُلَّ شَيْءٍ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ابْنُ البَشَرِ ذاهِبٌ، والبارَقْلِيطُ مِن بَعْدِهِ يَجِيءُ لَكم بِالأسْرارِ، ويُفَسِّرُ لَكم كُلَّ شَيْءٍ، وهو يَشْهَدُ لِي كَما شَهِدْتُ لَهُ، فَإنِّي أجِيئُكم بِالأمْثالِ وهو يَأْتِيكم بِالتَّأْوِيلِ.
قالَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ: وهَذِهِ الأشْياءُ عَلى اخْتِلافِها مُتَقارِبَةٌ، وإنَّما اخْتَلَفَتْ لِأنَّ مَن نَقَلَها عَنِ المَسِيحِ ﷺ في الإنْجِيلِ مِنَ الحَوارِيِّينَ بَعْدَهُ، والبارَقْلِيطُ في لُغَتِهِمْ مِن ألْفاظِ الحَمْدِ، إمّا أحْمَدُ أوْ مُحَمَّدٌ أوْ مَحْمُودٌ أوْ حامِدٌ ونَحْوُ ذَلِكَ ... وهو في الإنْجِيلِ الحَبَشِيِّ: بَرَفْقِطِيسُ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونِي فاحْفَظُوا وصايايَ، وأنا أطْلُبُ مِنَ الأبِ أنْ يُعْطِيَكم بارَقْلِيطًا آخَرَ يَثْبُتُ مَعَكم إلى الأبَدِ، ويَتَكَلَّمُ بِرُوحِ الحَقِّ الَّذِي لَمْ يُطِقِ العالَمُ أنْ يَقْبَلُوهُ لِأنَّهم لَمْ يَعْرِفُوهُ، ولَسْتُ أدَعُكم أيْتامًا لِأنِّي سَآتِيكم عَنْ قَرِيبٍ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: مَن يُحِبَّنِي بِحْفَظِ كَلِمَتِي يُحِبَّهُ وإلَيْهِ يَأْتِ وعِنْدَهُ يَتَّخِذُ المَنزِلَ، كَلَّمْتُكم بِهَذا لِأنِّي لَسْتُ عِنْدَكم مُقِيمًا، والبارَقْلِيطُ رُوحُ الحَقِّ الَّذِي يُرْسِلُهُ أبِي، وهو يُعَلِّمُكم كُلَّ شَيْءٍ، وهو يُذَكِّرُكم كُلَّ ما قُلْتُ لَكُمْ، اسْتَوْدَعْتُكم سَلامِي، لا تَقْلَقُ قُلُوبُكُمْ، ولا تَجْزَعُوا، فَإنِّي مُنْطَلِقٌ وعائِدٌ إلَيْكُمْ، لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونِي كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ بِمُضِيِّي إلى أبِي، فَإنْ ثَبَتَ كَلامِي فِيكم كانَ لَكم كُلُّ ما تُرِيدُونَ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إذا جاءَ البارَقْلِيطُ الَّذِي أبِي يُرْسِلُهُ رُوحُ الحَقِّ الَّذِي مِن أبِي يَشْهَدُ لِي ما قُلْتُ لَكم حَتّى إذا كانَ تُؤْمِنُوا ولا تَشُكُّوا فِيهِ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنَّ لِي كَلامًا كَثِيرًا أُرِيدُ أنْ أقُولَهُ لَكُمْ، ولَكِنَّكم لا تَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ، لَكِنْ إذا جاءَ رُوحُ الحَقِّ، ذاكَ يُرْشِدُكم إلى جَمِيعِ الحَقِّ، لِأنَّهُ لَيْسَ يَنْطِقُ مِن عِنْدِهِ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِما يَسْمَعُ، ويُخْبِرُكم بِكُلِّ ما يَأْتِي، ويُعَرِّفُكم جَمِيعَ ما لِلْأبِّ. قالَ يُوحَنّا: قالَ المَسِيحُ: إنَّ أرَكُونَ العالَمِ سَيَأْتِي ولَيْسَ لِي شَيْءٌ. وقالَ مَتّى: قالَ المَسِيحُ: ألَمْ يَرَوْا أنَّ الحَجَرَ الَّذِي أخَّرَ البَنّاءُونَ صارَ رَأْسًا لِلزّاوِيَةِ مِن عِنْدِ اللَّهِ، كانَ هَذا وهو عَجِيبٌ في أعْيُنِنا، ومِن أجْلِ ذَلِكَ أقُولُ لَكُمْ: إنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ سَيُؤْخَذُ مِنكُمْ، ويُدْفَعُ إلى أُمَّةٍ أُخْرى تَأْكُلُ ثَمَرَتَها، ومَن يَسْقُطْ عَلى هَذا الحَجَرِ يَنْشَدِحْ، وكُلُّ مَن سَقَطَ عَلَيْهِ يُمْحَقُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ في البارَقْلِيطِ في لُغَتِهِمْ، يَعْنِي العِبْرانِيَّةَ، فَذَكَرُوا فِيهِ أقْوالًا تَرْجِعُ إلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
أحَدُها: أنَّهُ الحامِدُ والحَمْدُ كَما تَقَدَّمَ، ورَجَّحَتْ طائِفَةٌ هَذا القَوْلَ، وقالُوا: الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ البُرْهانُ في لُغَتِهِمْ أنَّهُ الحَمْدُ. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ في قَوْلِ يُوشَعَ: مَن عَمِلَ حَسَنَةً يَكُونُ لَهُ فارَقْلِيطٌ جَيِّدٌ: أيْ حَمْدٌ جَيِّدٌ.
والقَوْلُ الثّانِي: وعَلَيْهِ أكْثَرُ النَّصارى - أنَّهُ المُخَلِّصُ، والمَسِيحُ نَفْسُهُ يُسَمُّونَهُ المُخَلِّصُ، وهَذِهِ كَلِمَةٌ سُرْيانِيَّةٌ مَعْناها المُخَلِّصُ، قالُوا: وهو بِالسُّرْيانِيَّةِ فارُوقٌ، فَجُعِلَ (فارَقْ)، قالُوا: و(لِيطَ) كَلِمَةٌ تُزادُ، ومَعْناها كَقَوْلِ العَرَبِ: رَجُلٌ هُوَ، وحَجَرٌ هُوَ، وفَرَسٌ هو. قالُوا: فَكَذَلِكَ مَعْنى لِيطَ في السُّرْيانِيَّةِ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: وقالَتْ طائِفَةٌ أُخْرى مِنَ النَّصارى: مَعْناهُ بِالسُّرْيانِيَّةِ المُعَزِّي، قالُوا: وكَذَلِكَ هو في اللِّسانِ اليُونانِيِّ. ويُعْتَرَضُ عَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ بِأنَّ المَسِيحَ لَمْ تَكُنْ لُغَتُهُ سُرْيانِيَّةً - ولا يُونانِيَّةً بَلْ عِبْرانِيَّةً -، وأُجِيبُ عَنْ هَذا بِأنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالعِبْرانِيَّةِ، والإنْجِيلُ إنَّما نَزَلَ بِاللُّغَةِ العِبْرانِيَّةِ، وتُرْجَمَ عَلَيْهِ بِاللُّغَةِ السُّرْيانِيَّةِ والرُّومِيَّةِ واليُونانِيَّةِ وغَيْرِها.
وَأكْثَرُ النَّصارى عَلى أنَّهُ المُخَلِّصُ، والمَسِيحُ نَفْسُهُ يُسَمُّونَهُ المُخَلِّصَ، وفي الإنْجِيلِ الَّذِي بِأيْدِيهِمْ أنَّهُ قالَ: إنَّما أتَيْتُ لِأُخَلِّصَ العالَمَ.
والنَّصارى يَقُولُونَ في صَلاتِهِمْ: لَقَدْ وُلِدْتَ لَنا مُخَلِّصًا.
وَلَمّا لَمْ يُمْكِنِ النَّصارى إنْكارُ هَذِهِ النُّصُوصِ، حَرَّفُوها أنْواعًا مِنَ التَّحْرِيفِ، فَمِنهم مَن قالَ: هو رَوْحٌ نَزَلَتْ عَلى الحَوارِيِّينَ، ومِنهم مَن قالَ: هو ألْسُنٌ نارِيَّةٌ نَزَلَتْ مِنَ السَّماءِ عَلى التَّلامِيذِ فَفَعَلُوا بِها الآياتِ والعَجائِبِ، ومِنهم مَن يَزْعُمُ أنَّهُ المَسِيحُ نَفْسُهُ لِكَوْنِهِ جاءَ بَعْدَ الصَّلِيبِ بِأرْبَعِينَ يَوْمًا، وكَوْنُهُ قامَ مِن قَبْرِهِ، ومِنهم مَن قالَ: لا نَعْرِفُ ما المُرادُ بِهَذا الفارَقْلِيطِ ولا يَتَحَقَّقُ لَنا مَعْناهُ.
وَمَن تَأمَّلَ ألْفاظَ الإنْجِيلِ وسِياقَها عَلِمَ أنَّ تَفْسِيرَهُ بِالرُّوحِ باطِلٌ، وأبْطَلُ مِنهُ تَفْسِيرُهُ بِالألْسُنِ النّارِيَّةِ، وأبْطَلُ مِنهُما تَفْسِيرُهُ بِالمَسِيحِ، فَإنَّ رُوحَ القُدُسِ لا زالَتْ تَنْزِلُ عَلى الأنْبِياءِ والصّالِحِينَ قَبْلَ المَسِيحِ وبَعْدَهُ، ولَيْسَتْ مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفاتِ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهم أوْ أبْناءَهم أوْ إخْوانَهم أوْ عَشِيرَتَهم أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهم بِرُوحٍ مِنهُ﴾.
وَقالَ النَّبِيُّ ﷺ لِحَسّانِ بْنِ ثابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمّا كانَ يَهْجُو المُشْرِكِينَ: اللَّهُمَّ أيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ. وقالَ: إنَّ رُوحَ القُدُسِ مَعَكَ ما زِلْتَ تُنافِحُ عَنْ نَبِيِّهِ.
وَإذا كانَ كَذَلِكَ، ولَمْ يُسَمِّ أحَدٌ هَذِهِ الرُّوحَ فارَقْلِيطًا، عُلِمَ أنَّ البارَقْلِيطَ هو أمْرٌ غَيْرُ هَذا، وأيْضًا فَمِثْلُ هَذِهِ الرُّوحِ لا زالَتْ يُؤَيَّدُ بِها الأنْبِياءُ والصّالِحُونَ، وما بَشَّرَ بِهِ المَسِيحُ ووَعَدَ بِهِ أمْرٌ عَظِيمٌ يَأْتِي بَعْدَهُ أعْظَمُ مِن هَذا. فَإنَّهُ وصَفَ البارَقْلِيطَ بِصِفاتٍ لا تَناسُبَ هَذِهِ الرُّوحِ، وإنَّما تُناسِبُ رَجُلًا يَأْتِي بَعْدَهُ نَظِيرًا لَهُ، فَإنَّهُ قالَ: إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونِي فاحْفَظُوا وصايايَ، وأنا أطْلُبُ مِنَ الأبِ أنْ يُعْطِيَكم فارَقْلِيطًا آخَرَ يَثْبُتُ مَعَكم إلى الأبَدِ، فَقَوْلُهُ: فارَقْلِيطًا آخَرَ دَلَّ عَلى أنَّهُ ثانٍ لِأوَّلٍ كانَ قَبْلَهُ، وأنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهم في حَياةِ المَسِيحِ، وإنَّما يَكُونُ بَعْدَ ذَهابِهِ وتَوَلِّيهِ، وأيْضًا فَإنَّهُ قالَ: يَثْبُتُ مَعَكم إلى الأبَدِ وهَذا إنَّما يَكُونُ لِما يَدُومُ ويَبْقى مَعَهم إلى آخِرِ الدَّهْرِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بَقاءَ ذاتِهِ، فَعُلِمَ أنَّهُ بَقاءُ شَرْعِهِ وأمْرِهِ، والبارَقْلِيطُ الأوَّلُ لَمْ يَثْبُتْ مَعَهم شَرْعُهُ ودِينُهُ إلى الأبَدِ، وهَذا يُبَيِّنُ أنَّ الثّانِي صاحِبُ شَرْعٍ لا يُنْسَخُ بَلْ يَبْقى إلى الأبَدِ بِخِلافِ الأوَّلِ، وهَذا إنَّما يَنْطَبِقُ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَأيْضًا فَإنَّهُ أخْبَرَ أنَّ هَذا البارَقْلِيطَ الَّذِي أخْبَرَ بِهِ يَشْهَدُ لَهُ، ويُعَلِّمُهم كُلَّ شَيْءٍ، وأنَّهُ يُذَكِّرُهم كُلَّ ما قالَهُ، وأنَّهُ يُوَبِّخُ العالَمَ عَلى خَطِيئَتِهِ.
قالَ: والفارَقْلِيطُ الَّذِي يُرْسِلُهُ أبِي هو يُعَلِّمُكم كُلَّ شَيْءٍ ويُذَكِّرُكم كُلَّ ما قُلْتُ لَكم.
وَقالَ: إذا جاءَ الفارَقْلِيطُ الَّذِي أبِي يُرْسِلُهُ هو يَشْهَدُ لِي أنِّي قُلْتُ هَذا، حَتّى إذا كانَ تُؤْمِنُوا بِهِ، ولا تَشُكُّوا فِيهِ.
وَقالَ: إنَّ خَيْرًا لَكم أنْ أنْطَلِقَ إلى أبِي، إنْ لَمْ أذْهَبْ لَمْ يَأْتِكُمُ الفارَقْلِيطُ، فَإذا انْطَلَقْتُ أرْسَلْتُهُ إلَيْكُمْ، فَهو يُوَبِّخُ العالِمَ عَلى الخَطِيئَةِ، وإنَّ لِي كَلامًا كَثِيرًا أُرِيدُ أنْ أقُولَهُ، ولَكِنَّكم لا تَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ، لَكِنْ إذْ جاءَ رُوحُ الحَقِّ ذاكَ الَّذِي يُرْشِدُكم إلى جَمِيعِ الحَقِّ، لِأنَّهُ لَيْسَ يَنْطِقُ مِن عِنْدِ نَفْسِهِ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِما يَسْمَعُ ويُخْبِرُ بِكُلِّ ما يَأْتِي ويُعَرِّفُكم جَمِيعَ ما لِلْأبِّ.
فَهَذِهِ الصِّفاتُ والنُّعُوتُ الَّتِي تَلَقَّوْها عَنِ المَسِيحِ لا تَنْطَبِقُ عَلى أمْرٍ مَعْنَوِيٍّ يَكُونُ في قَلْبِ بَعْضِ النّاسِ لا يَراهُ أحَدٌ ولا يَسْمَعُ كَلامَهُ. وإنَّما يَنْطَبِقُ عَلى مَن يَراهُ النّاسُ ويَسْمَعُونَ كَلامَهُ، فَيَشْهَدُ لِلْمَسِيحِ، ويُعَلِّمُهم كُلَّ شَيْءٍ، ويُذَكِّرُهم بِكُلِّ ما قالَ لَهُمُ المَسِيحُ، ويُوَبِّخُ العالَمَ عَلى الخَطِيئَةِ، ويُرْشِدُ النّاسَ إلى جَمِيعِ الحَقِّ، ولا يَنْطِقُ مِن عِنْدِ نَفْسِهِ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِما يَسْمَعُ، ويُخْبِرُهم بِكُلِّ ما يَأْتِي، ويُعَرِّفُهم جَمِيعَ ما لِرَبِّ العالَمِينَ، وهَذا لا يَكُونُ مَلَكًا لا يَراهُ أحَدٌ، ولا يَكُونُ هُدًى وعِلْمًا في قُلُوبِ بَعْضِ النّاسِ. ولا يَكُونُ إلّا إنْسانًا عَظِيمَ القَدْرِ يُخاطِبُ النّاسَ بِما أخْبَرَ بِهِ المَسِيحُ، وهَذا لا يَكُونُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا، بَلْ يَكُونُ أعْظَمَ مِنَ المَسِيحِ، فَإنَّ المَسِيحَ أخْبَرَ أنَّهُ يَقْدِرُ عَلى ما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ المَسِيحُ، ويَعْلَمُ ما لا يَعْلَمُهُ، ويُخْبِرُ بِكُلِّ ما يَأْتِي وبِما يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ، حَيْثُ قالَ: إنَّ لِي كَلامًا كَثِيرًا أُرِيدُ أنْ أقُولَهُ ولَكِنَّكم لا تَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ، ولَكِنْ إذا جاءَ رُوحُ الحَقِّ ذاكَ الَّذِي يُرْشِدُكم إلى جَمِيعِ الحَقِّ، لِأنَّهُ لَيْسَ يَنْطِقُ مِن عِنْدِهِ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِما يَسْمَعُ، ويُخْبِرُكم بِما يَأْتِي، ويُعَرِّفُكم جَمِيعَ ما لِلْأبِّ.
فَلا يَسْتَرِيبُ عاقِلٌ أنَّ هَذِهِ الصِّفاتِ لا تَنْطَبِقُ إلّا عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ، وذَلِكَ لِأنَّ الإخْبارَ عَنِ اللَّهِ تَعالى بِما هو مُتَّصِفٌ بِهِ مِنَ الصِّفاتِ، وعَنْ مَلائِكَتِهِ وعَنْ مَلَكُوتِهِ، وعَمّا أعَدَّهُ في الجَنَّةِ لِأوْلِيائِهِ، وفي النّارِ لِأعْدائِهِ، أمْرٌ لا تَحْتَمِلُ أكْثَرُ عُقُولِ النّاسِ مَعْرِفَتَهُ عَلى التَّفْصِيلِ.
قالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَدِّثُوا النّاسَ بِما يَعْرِفُونَ ودَعُوا ما يُنْكِرُونَ، أتُرِيدُونَ أنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ....
وَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ما مِن رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا بِحَدِيثٍ لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهم إلّا كانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ ....
وَسَألَ رَجُلٌ ابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ
قالَ: ما يُؤَمِّنُكَ أنْ لَوْ أخْبَرْتُكَ بِها لَكَفَرْتَ .... يَعْنِي لَوْ أخْبَرْتُكَ بِتَفْسِيرِها لَكَفَرْتَ بِها، وكُفْرُكَ بِها تَكْذِيبُكَ بِها.
فَقالَ لَهُمُ المَسِيحُ: إنَّ لِي كَلامًا كَثِيرًا أُرِيدُ أنْ أقُولَهُ لَكم ولَكِنَّكم لا تَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ، وهو الصّادِقُ المَصْدُوقُ في هَذا.
وَلِهَذا لَيْسَ في الإنْجِيلِ مِن صِفاتِ اللَّهِ تَعالى وصِفاتِ مَلَكُوتِهِ، وصِفاتِ اليَوْمِ الآخِرِ إلّا أُمُورٌ مُجْمَلَةٌ، وكَذَلِكَ التَّوْراةُ لَيْسَ فِيها مِن ذِكْرِ اليَوْمِ الآخِرِ إلّا أُمُورٌ مُجْمَلَةٌ، مَعَ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ قَدْ مَهَّدَ لِأمْرِ المَسِيحِ، ومَعَ هَذا فَقَدَ قالَ لَهُمُ المَسِيحُ: إنَّ لِي كَلامًا كَثِيرًا أُرِيدُ أنْ أقُولَهُ لَكم ولَكِنَّكم لا تَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ. ثُمَّ قالَ: ولَكِنْ إذا جاءَ رُوحُ الحَقِّ فَذاكَ الَّذِي يُرْشِدُكم إلى الحَقِّ، ويُخْبِرُكم بِكُلِّ ما يَأْتِي، وبِجَمِيعِ ما لِلرَّبِّ.
فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ الفارَقْلِيطَ هو الَّذِي يَفْعَلُ هَذا دُونَ المَسِيحِ، وكَذَلِكَ كانَ، فَإنَّ مُحَمَّدًا ﷺ أرْشَدَ النّاسَ إلى جَمِيعِ الحَقِّ حَتّى أكْمَلَ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ وأتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ، ولِهَذا كانَ خاتَمَ الأنْبِياءِ فَإنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يَأْتِي بِهِ غَيْرُهُ، وأخْبَرَ مُحَمَّدٌ ﷺ بِكُلِّ ما يَأْتِي مِن أشْراطِ السّاعَةِ والقِيامَةِ والحِسابِ والصِّراطِ ووَزْنِ الأعْمالِ، والجَنَّةِ وأنْواعِ نَعِيمِها، والنّارِ وأنْواعِ عَذابِها، ولِهَذا كانَ في القُرْآنِ تَفْصِيلُ أمْرِ الآخِرَةِ، وذِكْرُ الجَنَّةِ والنّارِ، فَهو يَأْتِي بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ لا تُوجَدُ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، وذَلِكَ تَصْدِيقُ قَوْلِ المَسِيحِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّهُ يُخْبَرُ بِكُلِّ ما يَأْتِي، وذَلِكَ يَتَضَمَّنُ صِدْقَ المَسِيحِ وصِدْقَ مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَهَذا مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهم كانُوا إذا قِيلَ لَهم لا إلَهَ إلّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ويَقُولُونَ أئِنّا لَتارِكُو آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جاءَ بِالحَقِّ وصَدَّقَ المُرْسَلِينَ﴾. أيْ: مَجِيئُهُ تَصْدِيقٌ لِلرُّسُلِ قَبْلَهُ، فَإنَّهم أخْبَرُوا بِمَجِيئِهِ فَجاءَ كَما أخْبَرُوا بِهِ، فَتَضَمَّنُ مَجِيئُهُ تَصْدِيقَهُمْ، ثُمَّ شَهِدَ هو بِصِدْقِهِمْ فَصَدَّقَهم بِقَوْلِهِ ومَجِيئِهِ.
وَمُحَمَّدٌ ﷺ بَعَثَهُ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيِ السّاعَةِ كَما قالَ: ﷺ بُعِثْتُ أنا والسّاعَةُ كَهاتَيْنِ، وأشارَ بِإصْبَعَيْهِ السَّبّابَةِ والوُسْطى، وكانَ إذا ذَكَرَ السّاعَةَ عَلا صَوْتُهُ واحْمَرَّ وجْهُهُ، واشْتَدَّ غَضَبُهُ، وقالَ: أنا النَّذِيرُ العُرْيانُ.
فَأخْبَرَ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي تَأْتِي في المُسْتَقْبَلِ بِما لَمْ يَأْتِ بِهِ نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِياءِ، كَما نَعَتَهُ بِهِ المَسِيحُ حَيْثُ قالَ: إنَّهُ يُخْبِرُكم بِكُلِّ ما يَأْتِي، ولا يُوجِدُ مِثْلُ هَذا أصْلًا عَنْ نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَضْلًا عَنْ أنْ يُوجَدَ في شَيْءٍ أُنْزِلَ عَلى قَلْبِ بَعْضِ الحَوارِيِّينَ. وأيْضًا فَإنَّهُ قالَ: ويُعَرِّفُكم جَمِيعَ ما لِلرَّبِّ.
فَبَيَّنَ أنَّهُ يُعَرِّفُ النّاسَ جَمِيعَ ما لِلَّهِ، وذَلِكَ يَتَناوَلُ ما لِلَّهِ مِنَ الأسْماءِ والصِّفاتِ، وما لَهُ مِنَ الحُقُوقِ، وما يَجِبُ مِنَ الإيمانِ بِهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ ما يَأْتِي بِهِ جامِعًا لِما يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ سُبْحانَهُ وتَعالى، وهَذا لَمْ يَأْتِ بِهِ غَيْرُ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَإنَّهُ تَضَمَّنَ ما جاءَ بِهِ مِنَ الكِتابِ والحِكْمَةِ.
هَذا كُلُّهُ، وأيْضًا فَإنَّ المَسِيحَ قالَ: إذا جاءَ البارَقْلِيطُ الَّذِي أرْسَلَهُ أبِي فَهو يَشْهَدُ لِي أنِّي قُلْتُ لَكم هَذا حَتّى إذا كانَ تُؤْمِنُوا بِهِ.
فَأخْبَرَ أنَّهُ شَهِدَ لَهُ، وهَذِهِ صِفَةُ نَبِيِّ بَشَّرَ بِهِ المَسِيحُ، ويَشْهَدُ لِلْمَسِيحِ، كَما قالَ تَعالى: {وَإذْ قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِي إسْرائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ومُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ.
وَأخْبَرَ أنَّهُ يُوَبِّخُ العالَمَ عَلى الخَطِيئَةِ، وهَذا يَسْتَحِيلُ حَمْلُهُ عَلى مَعْنًى يَقُومُ بِقَلْبِ الحَوارِيِّينَ، فَإنَّهم آمَنُوا بِهِ وشَهِدُوا لَهُ قَبْلَ ذِهابِهِ، فَكَيْفَ يَقُولُ: إذا جاءَ فَإنَّهُ يَشْهَدُ لِي، ويُوصِيهِمْ بِالإيمانِ بِهِ، أفَتَرى الحَوارِيِّينَ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِالمَسِيحِ، فَهَذا مِن أعْظَمِ جَهْلِ النَّصارى وضَلالِهِمْ.
وَأيْضًا فَإنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أحَدٌ وبَّخَ جَمِيعَ العالِمِ عَلى الخَطِيئَةِ إلّا مُحَمَّدٌ ﷺ، فَإنَّهُ أنْذَرَ جَمِيعَ العالَمِ مِن أصْنافِ النّاسِ ووَبَّخَهم عَلى الخَطِيئَةِ مِنَ الكُفْرِ والفُسُوقِ والعِصْيانِ، ولَمْ يَقْتَصِرْ عَلى مُجَرَّدِ الأمْرِ والنَّهْيِ بَلْ وبَّخَهم وفَزَّعَهم وتَهَدَّدَهم.
وَأيْضًا فَإنَّهُ أخْبَرَ أنَّهُ لَيْسَ يَنْطِقُ مِن عِنْدِهِ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ ما يَسْمَعُ. وهَذا إخْبارٌ بِأنَّ كُلَّ ما يَتَكَلَّمُ بِهِ فَهو وحْيٌ يَسْمَعُهُ، لَيْسَ هو شَيْءٌ تَعَلَّمُهُ مِنَ النّاسِ أوْ عَرَفَهُ بِاسْتِنْباطٍ، وهَذِهِ خاصَّةٌ بِمُحَمَّدٍ ﷺ.
وَأمّا المَسِيحُ فَكانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِما جاءَ بِهِ مُوسى قَبْلَهُ يُشارِكُ بِهِ أهْلَ الكِتابِ، تَلَقّاهُ عَمَّنْ قَبْلَهُ، ثُمَّ جاءَهُ وحْيٌ خاصٌّ مِنَ اللَّهِ فَوْقَ ما كانَ عِنْدَهُ، قالَ تَعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى أنَّهُ يُعَلِّمُهُ التَّوْراةَ الَّتِي تَعَلَّمَها بَنُو إسْرائِيلَ، وزادَهُ تَعْلِيمَ الإنْجِيلِ الَّذِي اخْتُصَّ بِهِ، والكِتابَ الَّذِي هو الكِتابَةُ، ومُحَمَّدٌ ﷺ لَمْ يَكُنْ تَعَلَّمَ قَبْلَ الوَحْيِ شَيْئًا ألْبَتَّةَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ ولا الإيمانُ﴾.
وَقالَ تَعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ بِما أوْحَيْنا إلَيْكَ هَذا القُرْآنَ وإنْ كُنْتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافِلِينَ، فَلَمْ يَكُنْ ﷺ يَنْطِقُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ، بَلْ إنَّما كانَ نُطْقُهُ بِالوَحْيِ كَما قالَ تَعالى: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى إنْ هو إلّا وحْيٌ يُوحى وهَذا مُطابِقٌ لِقَوْلِ المَسِيحِ: إنَّهُ لا يَتَكَلَّمُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ بَلْ إنَّما يَتَكَلَّمُ بِما يُوحى إلَيْهِ.
فاللَّهُ تَعالى أمْرَهُ أنْ يُبَلِّغَ ما أُنْزِلَ إلَيْهِ، وضَمِنَ لَهُ العِصْمَةَ في تَبْلِيغِ رِسالاتِهِ، فَلِهَذا أرْشَدَ النّاسَ إلى جَمِيعِ الحَقِّ، وألْقى إلى النّاسِ ما لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ مِنَ الأنْبِياءِ ألْقاهُ خَوْفًا أنْ يَقْتُلَهُ قَوْمُهُ، وقَدْ أخْبَرَ المَسِيحُ أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لَهم جَمِيعَ ما عِنْدَهُ، وأنَّهم لا يُطِيقُونَ حَمْلَهُ، وهم مُعْتَرِفُونَ بِأنَّهُ كانَ يَخافُ مِنهم إذا أخْبَرَهم بِحَقائِقِ الأُمُورِ، ومُحَمَّدٌ ﷺ أيَّدَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى تَأْيِيدًا لَمْ يُؤَيِّدْهُ لِغَيْرِهِ، فَعَصَمَهُ مِنَ النّاسِ حَتّى لَمْ يَخَفْ مِن شَيْءٍ يَقُولُهُ، وأعْطاهُ مِنَ البَيانِ والعِلْمِ ما لَمْ يُؤْتِهِ غَيْرَهُ.
فالكِتابُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ، فِيهِ بَيانُ حَقائِقِ الغَيْبِ ما لَيْسَ في كِتابِ غَيْرِهِ، وأيَّدَ أُمَّتَهُ تَأْيِيدًا طاقَتْ بِهِ حَمْلَ ما ألْقاهُ إلَيْهِمْ، فَلَمْ يَكُونُوا كَأهْلِ التَّوْراةِ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها، ولا كَأهْلِ الإنْجِيلِ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ المَسِيحَ: إنَّ لِي كَلامًا كَثِيرًا أُرِيدُ أنْ أقُولَهُ لَكم ولَكِنْ لا تَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ.
وَلا رَيْبَ أنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ أكْمَلُ عُقُولًا، وأعْظَمُ إيمانًا، وأتَمُّ تَصْدِيقًا وجِهادًا، ولِهَذا كانَتْ عُلُومُهم وأعْمالُهُمُ القَلْبِيَّةُ وإيمانُهم أعْظَمَ، وكانَتِ العِباداتُ البَدَنِيَّةُ لِغَيْرِهِمْ أعْظَمُ.
وَأيْضًا فَإنَّهُ أخْبَرَ عَنِ الفارَقْلِيطِ أنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ، وأنَّهُ يُعَلِّمُهم كُلَّ شَيْءٍ، وأنَّهُ يُذَكِّرُهم كُلَّ ما قالَ المَسِيحُ، ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا لا يَكُونُ إلّا إذا شَهِدَ لَهُ شَهادَةً يَسْمَعُها النّاسُ عامَّةً، لا يَكُونُ هَذا في قَلْبِ طائِفَةٍ قَلِيلَةٍ، ولَمْ يَشْهَدْ أحَدٌ لِلْمَسِيحِ شَهادَةً يَسْمَعُها عامَّةُ النّاسِ إلّا مُحَمَّدٌ ﷺ، فَإنَّهُ أظْهَرَ أمْرَ المَسِيحِ وشَهِدَ لَهُ بِالحَقِّ، حَتّى سَمِعَ شَهادَتَهُ لَهُ عامَّةُ أهْلِ الأرْضِ، وعَلِمُوا أنَّهُ صَدَّقَ المَسِيحَ ونَزَّهَهُ عَمّا يَقُولُهُ عَلَيْهِ اليَهُودُ مِنَ الِافْتِراءِ وما غَلَتْ فِيهِ النَّصارى.
فَهُوَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ بِالحَقِّ. ولِهَذا لَمّا سَمِعَ النَّجاشِيُّ مِنَ الصَّحابَةِ ما شَهِدَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ لِلْمَسِيحِ، قالَ لَهُمْ: ما زادَ عِيسى عَلى ما قُلْتُمْ هَذا العُودَ.
وَجَعَلَ اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ شُهَداءَ عَلى النّاسِ، يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِما عَلِمُوا مِنَ الحَقِّ، إذْ كانُوا وسَطًا عُدُولًا لا يَشْهَدُونَ بِباطِلٍ، فَإنَّ الشّاهِدَ لا يَكُونُ إلّا عَدْلًا، بِخِلافِ مَن جارَ في شَهادَتِهِ فَزادَ عَلى الحَقِّ أوْ نَقَصَ مِنهُ، كَشَهادَةِ اليَهُودِ والنَّصارى في المَسِيحِ.
وَأيْضًا فَإنَّ مَعْنى الفارَقْلِيطِ: إنْ كانَ هو الحامِدُ أوِ الحَمّادُ أوِ المَحْمُودُ أوِ الحَمْدُ، فَهَذا وصْفٌ ظاهِرٌ في مُحَمَّدٍ ﷺ، فَإنَّهُ وأُمَّتُهُ الحامِدُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلى كُلِّ حالٍ، وهو صاحِبُ لِواءِ الحَمْدِ، والحَمْدُ مِفْتاحُ خُطْبَتِهِ، ومِفْتاحُ صَلاتِهِ، ولَمّا كانَ حَمّادًا سُمِّيَ بِمِثْلِ وصْفِهِ مُحَمَّدًا عَلى وزْنِ: مُكَرَّمٍ ومُقَدَّسٍ ومُعَظَّمٍ، وهو الَّذِي يَحْمَدُ أكْثَرَ ما يَحْمَدُ غَيْرُهُ، ويَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، فَلَمّا كانَ حَمّادًا لِلَّهِ كانَ مُحَمَّدًا، وفي ... شَعْرِ حِسانٍ:
أغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خاتَمٌ ... مِنَ اللَّهِ مَيْمُونٌ يَلُوحُ ويَشْهَدُ ... وضَمَّ الإلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ إلى اسْمِهِ
؎إذا قالَ في الخَمْسِ المُؤَذِّنُ أشْهَدُ ∗∗∗ وشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ
فَذُو العَرْشِ مَحْمُودٌ وهَذا مُحَمَّدُ وأمّا أحْمَدُ فَهو أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، أيْ هو أحْمَدُ مِن غَيْرِهِ، أيْ أحَقُّ بِأنْ يَكُونَ مَحْمُودًا أكْثَرَ مِن غَيْرِهِ، يُقالُ: هَذا أحْمَدُ مِن هَذا، أيْ هَذا أحَقُّ بِأنْ يُحْمَدَ مِن هَذا، فَيَكُونُ فِيهِ تَفْضِيلٌ عَلى غَيْرِهِ في كَوْنِهِ مَحْمُودًا. فَلَفَظُ مُحَمَّدٍ يَقْتَضِي زِيادَةً في الكَمِّيَّةِ، ولَفْظُ أحْمَدَ يَقْتَضِي زِيادَةً في الكَيْفِيَّةِ.
وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: مَعْناهُ أنَّهُ أكْثَرَ حَمْدًا لِلَّهِ مِن غَيْرِهِ، وعَلى هَذا فَيَكُونُ بِمَعْنى الحامِدِ والحَمّادِ، وعَلى الأوَّلِ بِمَعْنى المَحْمُودِ.
وَإذا كانَ الفارَقْلِيطُ بِمَعْنى الحَمْدِ، فَهو تَسْمِيَةٌ بِالمَصْدَرِ مُبالَغَةً في كَثْرَةِ الحَمْدِ، كَما يُقالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ ورِضًى ونَظائِرُ ذَلِكَ، وبِهَذا يَظْهَرُ سِرُّ ما أخْبَرَ بِهِ القُرْآنُ عَنِ المَسِيحِ مِن قَوْلِهِ: ومُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ.
فَإنَّ هَذا هو مَعْنى الفارَقْلِيطِ كَما تَقَدَّمَ.
وَفِي التَّوْراةِ ما تَرْجَمَتُهُ بِالعَرَبِيَّةِ: (وَأمّا في إسْماعِيلَ فَقَدْ قَبِلْتُ دُعاءَكَ قَدْ بارَكْتُ فِيهِ وأثْمَرْتُ، وأُكَثِّرُهُ بِـ (مُؤَدَ مُؤَدَ) هَذِهِ اللَّفْظَةُ " مُؤَدَ مُؤَدَ " عَلى وزْنِ عُمَرَ، وقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيها عُلَماءُ أهْلِ الكِتابِ، فَطائِفَةٌ تَقُولُ: مَعْناها جِدًّا جِدًّا: أيْ كَثِيرًا كَثِيرًا، فَإنْ كانَ هَذا مَعْناها فَهو بِشارَةٌ بِمَن عَظُمَ مِن نَبِيِّهِ كَثِيرًا كَثِيرًا، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يُعَظَّمْ مِن نَبِيِّهِ أكْثَرَ مِمّا عُظِّمَ مُحَمَّدٌ ﷺ.
وَقالَتْ طائِفَةٌ أُخْرى: بَلْ هي صَرِيحُ اسْمِ مُحَمَّدٍ، قالُوا: ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ ألْفاظَ العِبْرانِيَّةِ قَرِيبَةٌ مِن ألْفاظِ العَرَبِيَّةِ، فَهي أقْرَبُ اللُّغاتِ إلى العَرَبِيَّةِ، فَإنَّهم يَقُولُونَ لِإسْماعِيلَ شَماعِيلَ، وسَمِعْتُكَ شَمِعْتَخا، (وَأنا: أنُو)، وقَدَّسَكَ: قَدْ شَتْخا، وأنْتَ أتا، وإسْرائِيلُ: يِسْرائِيلُ، وتَأمَّلْ قَوْلَهُ في التَّوْراةِ: (قدش لي خل بخور ريحم ببني يسرائيل بأدام وببهيما لِي).
مَعْناهُ: قَدَّسَ لِي كُلُّ بِكْرٍ أوْ مَوْلُودِ رَحِمٍ في بَنِي إسْرائِيلَ مِن إنْسانٍ إلى بَهِيمَةٍ لِي. وتَأمَّلْ قَوْلَهُ: (نابي أقيم لا هيم مفارت أخيهم كاموها أخا الاؤه يشماعون)، وإنَّ مَعْناهُ: نَبِيًّا أُقِيمُ لَهم مِن وسَطِ إخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ لَهُ تَسْمَعُونَ، وكَذَلِكَ قَوْلَهُ: (أنتم عابريم بفبول آحيحيم بني عيصا) مَعْناهُ: أنْتُمْ عابِرُونَ في تُخْمِ إخْوَتِكم بَنِي العِيصِ. ونَظائِرُ ذَلِكَ أكْثَرُ مِن أنْ تُذْكَرَ.
فَإذا أخَذَتْ لَفْظَةَ (مُوَدَ مُوَدَ) وجَدْتَها أقْرَبَ شَيْءٍ إلى لَفْظَةِ مُحَمَّدٍ، وإذا أرَدْتَ تَحْقِيقَ ذَلِكَ فَطابِقْ بَيْنَ ألْفاظِ العِبْرانِيَّةِ والعَرَبِيَّةِ، ولِذَلِكَ يَقُولُونَ: اصْبُوعُ أُلُوهِيمَ، أيْ: أُصْبُعُ اللَّهِ كَتَبَ لَهُ بِها التَّوْراةَ.
وَيَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أداةُ الباءِ في قَوْلِهِ: بِمُوَدَ مُوَدَ، ولا يُقالُ أُعَظِّمُهُ بِجِدًّا جِدًّا، بِخِلافِ أُعَظِّمُهُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ. وكَذَلِكَ فَإنَّهُ عَظُمَ بِهِ وازْدادَ شَرَفًا إلى شَرَفِهِ، بَلْ تَعْظِيمُهُ بِمُحَمَّدٍ ابْنِهِ ﷺ فَوْقَ تَعْظِيمِ كُلِّ والِدٍ لِوَلَدِهِ العَظِيمِ القَدْرِ، فاللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى كَثَّرَهُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ.
وَعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فالنَّصُّ مَن أظْهَرِ البِشاراتِ بِهِ، أمّا عَلى هَذا التَّفْسِيرِ فَظاهِرٌ جِدًّا جِدًّا، وأمّا عَلى التَّفْسِيرِ الأوَّلِ فَإنَّما كَثَّرَ إسْماعِيلَ وعَظَّمَهُ عَلى إسْحاقَ جِدًّا جِدًّا بِابْنِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ. فَإذا طابَقْتَ بَيْنَ مَعْنى البارَقْلِيطِ ومَعْنى مُوَدَ مُوَدَ ومَعْنى مُحَمَّدٍ وأحْمَدَ ونَظَرْتَ إلى خِصالِ الحَمْدِ الَّتِي فِيهِ وتَسْمِيَتِهِ أُمَّتَهُ بِالحامِدِينَ، وافْتِتاحِ كِتابِهِ بِالحَمْدِ، وافْتِتاحِ الصَّلاةِ بِالحَمْدِ، وكَثْرَةِ خِصالِ الحَمْدِ الَّتِي فِيهِ، وفي أُمَّتِهِ وفي دِينِهِ، وفي كِتابِهِ، وعَرَفْتَ ما خَلَّصَ بِهِ العالِمَ مِن أنْواعِ الشِّرْكِ والكُفْرِ والخَطايا والبِدَعِ، والقَوْلِ عَلى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وما أعَزَّ اللَّهُ بِهِ الحَقَّ وأهْلَهُ، وقَمَعَ بِهِ الباطِلَ وحِزْبَهُ، تَيَقَّنَتْ أنَّهُ الفارَقْلِيطُ بِالِاعْتِباراتِ كُلِّها. فَمَن هَذا الَّذِي هو رُوحُ الحَقِّ الَّذِي لا يَتَكَلَّمُ إلّا بِما يُوحى إلَيْهِ؟! ومَن هو العاقِبُ لِلْمَسِيحِ، والشّاهِدُ لِما جاءَ بِهِ والمُصَدِّقُ لَهُ بِمَجِيئِهِ؟! ومَن ذا الَّذِي أخْبَرَنا بِالحَوادِثِ والأزْمِنَةِ المُسْتَقْبَلَةِ كَخُرُوجِ الدَّجّالِ، وظُهُورِ الدّابَّةِ، وطُلُوعِ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها، وخُرُوجِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، ونُزُولِ المَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ، وظُهُورِ النّارِ الَّتِي تَحْشُرُ النّاسَ، وأضْعافِ أضْعافِ ذَلِكَ مِنَ الغُيُوبِ الَّتِي قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ، والغُيُوبِ الواقِعَةِ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ الصِّراطِ والمِيزانِ والحِسابِ، وأخْذِ الكُتُبِ بِالأيْمانِ والشَّمائِلِ، وتَفاصِيلِ ما في الجَنَّةِ والنّارِ مِمّا لَمْ يُذْكَرْ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، غَيْرُ مُحَمَّدٍ ﷺ، ومَنِ الَّذِي وبَّخَ العالَمَ عَلى الخَطايا سِواهُ؟! ومَنِ الَّذِي عَرَّفَ الأُمَّةَ (ما يَنْبَغِي لِلَّهِ) حَقَّ التَّعْرِيفِ غَيْرُهُ، ومَنَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ في هَذا البابِ بِما لَمْ يُطِقْ أكْثَرُ العالَمَ أنْ يَقْبَلُوهُ غَيْرُهُ، حَتّى عَجَزَتْ عَنْهُ عُقُولٌ كَثِيرَةٌ مِمَّنْ صَدَّقَهُ وآمَنَ بِهِ، فَسامُوهُ أنْواعَ التَّحْرِيفِ والتَّأْوِيلِ بِعَجْزِ عُقُولِهِمْ عَنْ حَمْلِهِ، كَما قالَ أخُوهُ المَسِيحُ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِما وسَلامُهُ؟ ومَنِ الَّذِي أُرْسِلَ إلى جَمِيعِ الخَلْقِ قَوْلًا وعَمَلًا واعْتِقادًا في مَعْرِفَةِ اللَّهِ وأسْمائِهِ وصِفاتِهِ وأحْكامِهِ وأفْعالِهِ وقَضائِهِ وقَدْرِهِ، غَيْرُهُ ﷺ؟! ومَن هو أرَكُونُ العالَمِ الَّذِي أتى بَعْدَ المَسِيحِ غَيْرُهُ؟ وأرَكُونُ العالَمِ هو عَظِيمُ العالَمِ وكَبِيرُ العالَمِ، وتَأمَّلْ قَوْلَ المَسِيحِ في هَذِهِ البِشارَةِ الَّتِي لا يُنْكِرُونَها: أنَّ أرَكُونَ العالَمِ سَيَأْتِي ولَيْسَ لِي مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ، كَيْفَ وهي شاهِدَةٌ بِنُبُوَّةِ المَسِيحِ وبِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مَعًا، فَإنَّهُ لَمّا جاءَ صارَ الأمْرُ لَهُ دُونَ المَسِيحِ. فَوَجَبَ عَلى العالَمِ كُلِّهِمْ طاعَتُهُ والِانْقِيادُ لَهُ ولِأمْرِهِ، وصارَ الأمْرُ لَهُ حَقِيقَةً. ولَمْ يَبْقَ بِأيْدِي النَّصارى إلّا دِينٌ باطِلُهُ أضْعافُ أضْعافِ حَقِّهِ، وحَقُّهُ مَنسُوخٌ بِما بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا ﷺ، فَطابَقَ قَوْلُ المَسِيحِ قَوْلَ أخِيهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: يَنْزِلُ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا وإمامًا مُقْسِطًا فَيَحْكُمُ بِكِتابِ رَبِّكُمْ، وقَوْلُهُ في اللَّفْظِ الآخَرِ: فَأمَّكم بِكِتابِ رَبِّكُمْ، فَتَطابَقَ قَوْلُ الرَّسُولَيْنِ الكَرِيمَيْنِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِما وسَلَّمَ، وبَشَّرَ الأوَّلُ بِالثّانِيِّ، وصَدَّقَ الثّانِي بِالأوَّلِ.
وَتَأمَّلْ قَوْلَهُ في البِشارَةِ الأُخْرى: ألَمْ تَرَ إلى الحَجَرِ الَّذِي أخَّرَهُ البَنّاءُونَ صارَ أُسًّا لِلزّاوِيَةِ؟ كَيْفَ تَجِدُهُ مُطابِقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: مَثَلِي ومَثَلُ الأنْبِياءِ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنى دارًا فَأكْمَلَها وأتَمَّها إلّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنها، فَجَعَلَ النّاسُ يَطُوفُونَ بِها ويَعْجَبُونَ مِنها، ويَقُولُونَ هَلّا وُضِعْتَ تِلْكَ اللَّبِنَةُ؟ فَكُنْتُ أنا تِلْكَ اللَّبِنَةَ.
وَتَأمَّلْ قَوْلَ المَسِيحِ في هَذِهِ البِشارَةِ: إنَّ ذَلِكَ لِعَجِيبٌ في أعْيُنِنا، وتَأمَّلْ قَوْلَهُ فِيها: إنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ سَيُؤْخَذُ مِنكم ويُدْفَعُ إلى أُمَّةٍ أُخْرى، كَيْفَ تَجِدُهُ مُطابِقًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ﴾
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهم في الأرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهم دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهم ولَيُبَدِّلَنَّهم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾.
وَتَأمَّلْ قَوْلَهُ في البارَقْلِيطِ المُبَشَّرِ بِهِ: يُفْشِي لَكُمُ الأسْرارَ، ويُفَسِّرُ لَكم كُلَّ شَيْءٍ، فَإنِّي أجِيئُكم بِالأمْثالِ وهو يَأْتِيكم بِالتَّأْوِيلِ.
كَيْفَ تَجِدُهُ مُطابِقًا لِلْواقِعِ مِن كُلِّ وجْهٍ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، ولِقَوْلِهِ تَعالى: {ما كانَ حَدِيثًا يُفْتَرى ولَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
وَإذا تَأمَّلْتَ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ والكُتُبَ، وتَأمَّلْتَ القُرْآنَ وجَدْتَهُ كالتَّفْصِيلِ لِجُمَلِها، والتَّأْوِيلِ لِأمْثِلَتِها، والشَّرْحِ لِرُمُوزِها، وهَذا حَقِيقَةُ قَوْلِ المَسِيحِ: أجِيئُكم بِالأمْثالِ ويَجِيئُكم بِالتَّأْوِيلِ، ويُفَسِّرُ لَكم كُلَّ شَيْءٍ.
وَإذا تَأمَّلْتَ قَوْلَهُ: وكُلُّ شَيْءٍ أعَدَّهُ اللَّهُ لَكم يُخْبِرُكم بِهِ، وتَفاصِيلُ ما أخْبَرَ بِهِ مِنَ الجَنَّةِ والنّارِ، والثَّوابِ والعِقابِ، تَيَقَّنْتَ صِدْقَ الرَّسُولَيْنِ الكَرِيمَيْنِ، ومُطابَقَةَ الخَبَرِ المُفَصَّلِ عَنْ مُحَمَّدٍ ﷺ لِلْخَبَرِ المُجْمَلِ مِن أخِيهِ المَسِيحِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وتَأمَّلْ قَوْلَهُ في البارقليط: وهو يَشْهَدُ لِي كَما شَهِدَتْ لَهُ، كَيْفَ تَجِدُهُ مُنْطَبِقًا عَلى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وكَيْفَ تَجِدُهُ شاهِدًا بِصِدْقِ الرَّسُولَيْنِ، وكَيْفَ تَجِدُهُ صَرِيحًا في رَجُلٍ يَأْتِي بَعْدَ المَسِيحِ يَشْهَدُ لَهُ بِأنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ، كَما شَهِدَ لَهُ المَسِيحُ؟! فَلَقَدْ أذَّنَ المَسِيحُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ وسَلامِهِ عَلَيْهِما أذانًا لَمْ يُؤَذِّنْهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، وأعْلَنَ بِتَكْبِيرِ رَبِّهِ أنّى تَكُونُ لَهُ صاحِبَةٌ أوْ ولَدٌ؟ ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ بِشَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، إلَهًا واحِدًا أحَدًا فَرْدًا صَمَدْا لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ، ثُمَّ أعْلَنَ بِشَهادَةِ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، الشّاهِدُ لَهُ بِنُبُوَّتِهِ المُؤَيَّدُ بِرُوحِ الحَقِّ، الَّذِي لا يَقُولُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِما يُوحى إلَيْهِ ويُعَلِّمُهم كُلَّ شَيْءٍ ويُخْبِرُ بِما أعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ، ثُمَّ رَفَعَ صَوْتُهُ بِحَيَّ عَلى الفَلاحِ بِاتِّباعِهِ والإيمانِ بِهِ وتَصْدِيقِهِ، وأنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ، وخَتَمَ التَّأْذِينَ بِأنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ سَيُؤْخَذُ مِمَّنْ كَذَّبَهُ، ويُدْفَعُ إلى أتْباعِهِ والمُؤْمِنِينَ بِهِ، فَهَلَكَ مَن هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وعاشَ مَن عاشَ عَنْ بَيِّنَةٍ، فاسْتَجابَ أتْباعُ المَسِيحِ حَقًّا لِهَذا التَّأْذِينِ، وأباهُ الكافِرُونَ والجاحِدُونَ، فَقالَ تَعالى: ﴿إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ إلَيَّ ومُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيامَةِ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكم فَأحْكُمُ بَيْنَكم فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.
وَهَذِهِ بِشارَةٌ بِأنَّ المُسْلِمِينَ لا يَزالُونَ فَوْقَ النَّصارى إلى يَوْمِ القِيامَةِ، فَإنَّ المُسْلِمِينَ هم أتْباعُ المُرْسَلِينَ في الحَقِيقَةِ، وأتْباعُ جَمِيعِ الأنْبِياءِ، لا أعْداؤُهُ، وأعْداؤُهُ عُبّادُ الصَّلِيبِ، الَّذِينَ رَضُوا أنْ يَكُونَ إلَهًا مَصْفُوعًا مَصْلُوبًا مَقْتُولًا، ولَمْ يَرْضَوْا أنْ يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا لِلَّهِ وجِيهًا عِنْدَهُ مُقَرَّبًا لَدَيْهِ، فَهَؤُلاءِ أعْداؤُهُ حَقًّا والمُسْلِمُونَ أتْباعُهُ حَقًّا.
والمَقْصُودُ أنَّ بِشارَةِ المَسِيحِ بِالنَّبِيِّ ﷺ فَوْقَ كُلِّ بِشارَةٍ، لَمّا كانَ أقْرَبَ الأنْبِياءِ إلَيْهِ وأوْلاهم بِهِ، ولَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ صاحِبُ شَرِيعَةٍ وكِتابٍ.
* (فَصْلٌ):
وَتَأمَّلْ قَوْلَ المَسِيحِ: أنَّ أرَكُونَ العالَمِ سَيَأْتِي، وأرَكُونُ العالَمِ هو سَيِّدُ العالَمِ وعَظِيمُهُ، ومَنِ الَّذِي سادَ العالَمَ، وأطاعَهُ العالَمُ بَعْدَ المَسِيحِ غَيْرُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؟!
وَتَأمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ وقَدْ سُئِلَ ما أوَّلُ أمْرِكَ قالَ: أنا دَعْوَةُ أبِي إبْراهِيمَ وبَشَّرَ بِي عِيسى.
وَطابِقْ بَيْنَ هَذا وبَيْنَ هَذِهِ البِشارَةِ الَّتِي ذَكَرَها المَسِيحُ، فَمَنِ الَّذِي سادَ العالِمَ باطِنًا وظاهِرًا، وانْقادَتْ لَهُ القُلُوبُ والأجْسادُ، وأُطِيعُ في السِّرِّ والعَلانِيَةِ، في مَحْياهُ وبَعْدَ مَماتِهِ في جَمِيعِ الأعْصارِ، وأفْضَلِ الأقالِيمِ والأمْصارِ، وسارَتْ دَعْوَتُهُ مَسِيرَ الشَّمْسِ في الأقْطارِ، وبَلَغَ دِينُهُ ما بَلَغَ اللَّيْلُ والنَّهارُ، وخَرَّتْ لِمَجِيئِهِ الأُمَمُ عَلى الأذْقانِ، وبَطَلَتْ بِهِ عِبادَةُ الأوْثانِ، وقامَتْ بِهِ دَعْوَةُ الرَّحْمَنِ، واضْمَحَلَّتْ بِهِ دَعْوَةُ الشَّيْطانِ، وأذَلَّ الكافِرِينَ والجاحِدِينَ، وأعَزَّ المُؤْمِنِينَ، وجاءَ بِالحَقِّ وصَدَّقَ المُرْسَلِينَ، حَتّى أعْلَنَ بِالتَّوْحِيدِ عَلى رُءُوسِ الأشْهادِ، وعَبَدَ اللَّهَ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ في كُلِّ حاضِرٍ وبادٍ، وامْتَلَأتْ بِهِ الأرْضُ تَحْمِيدًا لِلَّهِ وتَسْبِيحًا وتَكْبِيرًا، واكْتَسَتْ بِهِ بَعْدَ الظُّلْمِ والظَّلامِ عَدْلًا ونُورًا؟
* (فَصْلٌ)
وَطابِقْ بَيْنَ قَوْلِ المَسِيحِ: أنَّ أرَكُونَ العالَمِ سَيَأْتِيكُمْ، وقَوْلَ أخِيهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ، آدَمُ تَحْتَ لِوائِي، وأنا خَطِيبُ الأنْبِياءِ إذا وفَدُوا، وإمامُهم إذا اجْتَمَعُوا، ومُبَشِّرُهم إذا يَئِسُوا، لِواءُ الحَمْدِ بِيَدِي، وأنا أكْرَمُ ولَدِ آدَمَ عَلى رَبِّي.
* (فَصْلٌ):
وَفِي قَوْلِ المَسِيحِ في هَذِهِ البِشارَةِ: ولَيْسَ لِي مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ، إشارَةٌ إلى التَّوْحِيدِ وأنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ البِشارَةُ أصْلَيِ الدِّينِ: إثْباتَ التَّوْحِيدِ، وإثْباتَ النُّبُوَّةِ.
وَهَذا الَّذِي قالَهُ المَسِيحُ مُطابِقٌ لِما جاءَ بِهِ أخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَبِّهِ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾
فَمَن تَأمَّلَ حالَ الرَّسُولَيْنِ الكَرِيمَيْنِ ودَعْوَتِهِما وجَدَهُما مُتَوافِقَيْنِ مُتَطابِقَيْنِ حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، وأنَّهُ لا يُمْكِنُ التَّصْدِيقُ بِأحَدِهِما مَعَ التَّكْذِيبِ بِالآخَرِ ألْبَتَّةَ، فَإنَّ المُكَذِّبَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ أشَدُّ تَكْذِيبًا لِلْمَسِيحِ الَّذِي هو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولِهِ، وإنْ آمَنَ بِمَسِيحٍ لا حَقِيقَةَ لَهُ ولا وُجُودَ فَهو أبْطَلُ الباطِلِ.
وَقَدْ قالَ يُوحَنّا في كِتابِ أخْبارِ الحَوارِيِّينَ، وهو يُسَمُّونَهُ افْراكِيسَ: يا أحْبابِي إيّاكم أنْ تُؤْمِنُوا بِكُلِّ رُوحٍ، لَكِنْ مَيِّزُوا الأرْواحَ الَّتِي مِن عِنْدِ اللَّهِ مِن غَيْرِها، واعْلَمُوا أنَّ كُلَّ رُوحٍ تُؤْمِنُ بِأنَّ يَسُوعَ المَسِيحَ قَدْ جاءَ وكانَ جَسَدانِيًّا فَهي مِن عِنْدِ اللَّهِ، وكُلُّ رُوحٍ لا تُؤْمِنُ بِأنَّ المَسِيحَ قَدْ جاءَ وكانَ جَسَدانِيًّا فَلَيْسَتْ مِن عِنْدِ اللَّهِ بَلْ مِنَ المَسِيحِ الكَذّابِ، الَّذِي هو الآنَ في العالَمِ.
فالمُسْلِمُونَ يُؤْمِنُونَ بِالمَسِيحِ الصّادِقِ الَّذِي جاءَ مِن عِنْدِ اللَّهِ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ، الَّذِي هو عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ، وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ العَذْراءِ البَتُولِ، والنَّصارى إنَّما تُؤْمِنُ بِمَسِيحٍ دَعا لِعِبادَةِ نَفْسِهِ وأُمِّهِ، وأنَّهُ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، وأنَّهُ اللَّهُ أوِ ابْنُ اللَّهِ، وهَذا هو أخُو المَسِيحِ الكَذّابِ لَوْ كانَ لَهُ وُجُودٌ.
فَإنَّ المَسِيحَ الكَذّابَ يَزْعُمُ أنَّهُ اللَّهُ، والنَّصارى في الحَقِيقَةِ أتْباعُ هَذا المَسِيحِ الكَذّابِ، كَما أنَّ اليَهُودَ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ، وهم يَزْعُمُونَ أنَّهم يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ الَّذِي بُشِّرُوا بِهِ، فَعَوَّضَهُمُ الشَّيْطانُ بَعْدَ مَجِيئِهِ مِنَ الإيمانِ بِهِ الِانْتِظارَ لِلْمَسِيحِ الدَّجّالِ، وهَكَذا كُلُّ مَن أعْرَضَ عَنِ الحَقِّ يُعَوَّضُ مِنَ الباطِلِ. وأصُلُ هَذا أنَّ إبْلِيسَ لَمّا أعْرَضَ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ كِبْرًا أنْ يَخْضَعَ لَهُ تَعَوَّضَ مِن ذَلِكَ ذُلَّ القِيادَةِ لِكُلِّ فاسِقٍ ومُجْرِمٍ مِن بَنِيهِ، فَلا بِتِلْكَ النَّخْوَةِ ولا بِهَذِهِ الحِرْفَةِ، والنَّصارى لَمّا أنِفُوا أنْ يَكُونَ المَسِيحُ عَبْدًا لِلَّهِ تَعَوَّضُوا مِن هَذِهِ الأنَفَةِ بِأنْ رَضُوا أنْ يَجْعَلُوهُ مَصْفَعَةً لِلْيَهُودِ، ومْصُلُوبَهُمُ الَّذِي يَسْخَرُونَ مِنهُ ويَهْزَءُونَ بِهِ، ثُمَّ عَقَدُوا لَهُ تاجًا مِنَ الشَّوْكِ بَدْلَ تاجِ المُلْكِ، وساقُوهُ في حَبْلٍ إلى خَشَبَةِ الصَّلْبِ يُصَفِّقُونَ حَوْلَهُ ويَرْقُصُونَ. فَلا بِتِلْكَ الأنَفَةِ مِن عُبُودِيَّةِ اللَّهِ، ولا بِهَذِهِ النِّسْبَةِ لَهُ إلى أعْظَمِ الذُّلِّ، والضَّيْمِ والقَهْرِ.
وَكَذَلِكَ أنِفُوا أنْ يَكُونَ لِلْبَتْرَكِ والرّاهِبِ زَوْجَةٌ أوْ ولَدٌ، وجَعَلُوا لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ الوَلَدَ والزَّوْجَةَ، وكَذَلِكَ أنِفُوا أنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ويُطِيعُوا عَبْدَهُ ورَسُولَهُ، ثُمَّ رَضُوا بِعِبادَةِ الصَّلِيبِ والصُّوَرِ المَصْنُوعَةِ بِالأيْدِي في الحِيطانِ، وطاعَةِ كُلِّ مَن يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ ما شاءَ أوْ يُحَلِّلُ لَهم ما شاءَ ويُشَرِّعُ لَهم مِنَ الدِّينِ ما شاءَ ومِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ.
وَنَظِيرُ هَذا التَّعْوِيضِ أنِفَتِ الجَهْمِيَّةِ أنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى فَوْقَ سَماواتِهِ عَلى عَرْشِهِ مُبايِنًا مِن خَلْقِهِ حَتّى لا يَكُونَ مَحْصُورًا بِزَعْمِهِمْ في جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ قالُوا: هو في كُلِّ مَكانٍ بِذاتِهِ، فَحَصَرُوهُ في الآبارِ والسُّجُونِ والأنْجاسِ والأحْواشِ، وعَوَّضُوهُ بِهَذِهِ الأمْكِنَةِ عَنْ عَرْشِهِ المَجِيدِ، فَلْيَتَأمَّلِ العاقِلُ لَعِبَ الشَّيْطانِ بِعُقُولِ هَذا الخَلْقِ، وضَحِكَهُ عَلَيْهِمْ، واسْتِهْزاءَهُ بِهِمْ.
* (فَصْلٌ):
وَقَوْلُ المَسِيحِ: إذا انْطَلَقْتُ أرْسَلْتُهُ إلَيْكُمْ، مَعْناهُ أنِّي أُرْسِلُهُ بِدُعائِي وطَلَبِي مِنهُ أنْ يُرْسِلَهُ، كَما يَطْلُبُ الطّالِبُ مِن ولِيِّ الأمْرِ أنْ يُرْسِلَ رَسُولًا، أوْ يُوَلِّيَ نائِبًا، أوْ يُعْطِيَ أحَدًا، فَيَقُولُ: أنا أرْسَلْتُ هَذا ووَلَّيْتُهُ وأعْطَيْتُهُ، أيْ كُنْتُ سَبَبًا في ذَلِكَ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى إذا قَضى بِأنْ يَكُونَ الشَّيْءُ، فَإنَّهُ يُقَدِّرُ لَهُ أسْبابًا يَكُونُ بِها، ومِن تِلْكَ الأسْبابِ دُعاءُ بَعْضِ عِبادِهِ بِأنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ في ذَلِكَ مِنَ النِّعْمَةِ إجابَةُ دُعائِهِ، مَضافًا إلى نِعْمَتِهِ بِإيجادِ ما قَضى كَوْنَهُ، ومُحَمَّدٌ ﷺ قَدْ دَعا بِهِ الخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أبُوهُ، فَقالَ: رَبَّنا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِكَ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ ويُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ.
مَعَ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى قَدْ قَضى بِإرْسالِهِ وأعْلَنَ بِاسْمِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، كَما قِيلَ لَهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، مَتى كُنْتَ نَبِيًّا؟ قالَ: وآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجَسَدِ، وقالَ: إنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَمَكْتُوبٌ خاتَمُ النَّبِيِّينَ وإنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ في طِينَتِهِ.
وَهَذا كَما قَضى اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِنَصْرِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، ومِن أسْبابِ ذَلِكَ اسْتِعانَتُهُ بِرَبِّهِ ودُعاؤُهُ وابْتِهالُهُ بِالنَّصْرِ، وكَذَلِكَ ما يَقْتَضِيهِ مِن إنْزالِ الغَيْثِ قَدْ يَجْعَلُهُ بِسَبَبِ ابْتِهالِ عِبادِهِ ودُعائِهِمْ وتَضَرُّعِهِمْ إلَيْهِ، وكَذَلِكَ ما يَقْضِيهِ مِن مَغْفِرَةٍ ورَحْمَةٍ وهِدايَةٍ ونَصْرٍ، قَدْ يُسَبِّبُ لَهُ أدْعِيَةً يَحْصُلُ بِها مِمَّنْ يَنالُ ذَلِكَ، أوْ مِن غَيْرِهِ، فَلا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ المَسِيحُ سَألَ رَبَّهُ بَعْدَ صُعُودِهِ أنْ يُرْسِلَ أخاهُ مُحَمَّدًا ﷺ إلى العالَمِ، ويَكُونُ ذَلِكَ مِن أسْبابِ إرْسالِهِ، إضافَةً إلى دَعْوَةِ أبِيهِ إبْراهِيمَ، لَكِنَّ إبْراهِيمَ سَألَ رَبَّهُ أنْ يُرْسِلَهُ في الدُّنْيا، فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، وأمّا المَسِيحُ فَإنَّما سَألَهُ بَعْدَ رَفْعِهِ وصُعُودِهِ إلى السَّماءِ كَما وعَدَ قَبْلَ رَفْعِهِ.
* (فَصْلٌ):
وَتَأمَّلْ قَوْلَ المَسِيحِ " إنِّي لَسْتُ أدَعُكم أيْتامًا لِأنِّي سَآتِيكم عَنْ قَرِيبٍ " كَيْفَ هو مُطابِقٌ لِقَوْلِ أخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِما: يَنْزِلُ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، وإمامًا مُقْسِطًا، فَيَقْتُلُ الخِنْزِيرَ، ويَكْسِرُ الصَّلِيبَ، ويَضَعُ الجِزْيَةَ، وأوْصى أُمَّتَهُ بِأنْ يُقْرِئَهُ السَّلامَ مَن لَقِيَهُ مِنهم.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: كَيْفَ تَهْلِكُ أُمَّةٌ أنا في أوَّلِها وعِيسى في آخِرِها؟!.
* (فَصْلٌ):
وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ التَّوْراةِ: تَجَلّى اللَّهُ مِن طُورِ سَيْناءَ، وأشْرَقَ مِن ساعِيرَ، واسْتَعْلَنَ مِن جِبالِ فارانَ.
قالَ عُلَماءُ الإسْلامِ - وهَذا لَفْظُ أبِي مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ - لَيْسَ بِهَذا خَفاءٌ عَلى مَن تَدَبَّرَهُ ولا غُمُوضٌ، لِأنَّ المَجِيءَ أيْ مَجِيءُ اللَّهِ مِن طُورِ سَيْناءَ: إنْزالُهُ التَّوْراةَ عَلى مُوسى مِن طُورِ سَيْناءَ كالَّذِي هو عِنْدَ أهْلِ الكِتابِ وعِنْدَنا، وكَذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ إشْراقُهُ مِن ساعِيرَ: إنْزالَهُ الإنْجِيلَ عَلى المَسِيحِ، وكانَ المَسِيحُ مِن ساعِيرَ، أرْضِ الخَلِيلِ، بِقَرْيَةٍ تُدْعى ناصِرَةَ، وبِاسْمِها تَسَمّى مَنِ اتَّبَعَهُ نَصارى، وكَما وجَبَ أنْ يَكُونَ إشْراقُهُ مِن ساعِيرَ بِالمَسِيحِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ اسْتِعْلانُهُ مِن جِبالِ فارانَ: إنْزالَهُ القُرْآنَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ، وجِبالُ فارانَ هي جِبالُ مَكَّةَ، قالَ: ولَيْسَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وأهْلِ الكِتابِ خِلافٌ في أنَّ فارانَ هي مَكَّةُ، فَإنِ ادَّعَوْا أنَّها غَيْرُ مَكَّةَ - ولَيْسَ يُنْكَرُ ذَلِكَ مِن تَحْرِيفِهِمْ وإفْكِهِمْ - قُلْنا: ألَيْسَ في التَّوْراةِ " أنَّ إبْراهِيمَ أسْكَنَ هاجَرَ وإسْماعِيلَ فارانَ "؟! وقُلْنا لَهُمْ: دُلُّونا عَلى المَوْضِعِ الَّذِي اسْتَعْلَنَ اللَّهُ مِنهُ واسْمُهُ فارانُ، والنَّبِيِّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتابًا بَعْدَ المَسِيحِ.
أوَلَيَسَ اسْتَعْلَنَ وعَلَنَ بِمَعْنًى واحِدٍ، وهُما ظَهَرَ وانْكَشَفَ، فَهَلْ تَعْلَمُونَ دِينًا ظَهَرَ ظُهُورَ الإسْلامِ وفَشا في مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها فَبَيِّنُوهُ لَنا؟ قالَ عُلَماءُ الإسْلامِ: وساعِيرُ جِبالٌ بِالشّامِ، مِنهُ ظُهُورُ نُبُوَّةِ المَسِيحِ إلى جانِبِ قَرْيَةِ بَيْتِ لَحْمٍ - القَرْيَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيها المَسِيحُ - تُسَمّى اليَوْمَ ساعِيرَ.
وَفِي التَّوْراةِ أنَّ نَسْلَ العِيصِ كانُوا سُكّانًا بِساعِيرَ، وأمَرَ اللَّهُ مُوسى أنْ لا يُؤْذِيَهم.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ: - يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ - وعَلى هَذا فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ الجِبالَ الثَّلاثَةَ، وحِراءُ الَّذِي لَيْسَ حَوْلَ مَكَّةَ أعْلى مِنهُ، وفِيهِ ابْتِداءُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِنُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِ، وحَوْلَهُ جِبالٌ كَثِيرَةٌ، وذَلِكَ المَكانُ يُسَمّى فارانَ إلى هَذا اليَوْمِ، والبَرِّيَّةُ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وطُورِ سَيْناءَ تُسَمّى بَرِّيَّةَ فارانَ، ولا يُمْكِنُ أحَدًا أنْ يَدَّعِيَ أنَّهُ بَعْدَ المَسِيحِ نَزَلَ كِتابٌ في شَيْءٍ مِن تِلْكَ الأماكِنِ ولا بُعِثَ نَبِيٌّ، فَعُلِمَ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ بِاسْتِعْلانِهِ مِن جِبالِ فارانَ إلّا إرْسالُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وهو سُبْحانُهُ ذَكَرَ هَذا في التَّوْراةِ عَلى التَّرْتِيبِ الزَّمانِيِّ، فَذَكَرَ إنْزالَ التَّوْراةِ ثُمَّ الإنْجِيلِ ثُمَّ القُرْآنِ، وهَذِهِ الكُتُبُ نُورُ اللَّهِ تَعالى وهِدايَتُهُ، وقالَ في الأوَّلِ: جاءَ، وفي الثّانِي: أشْرَقَ، وفي الثّالِثِ: اسْتَعْلَنَ، وكانَ مَجِيءُ التَّوْراةِ مِثْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، ونُزُولُ الإنْجِيلِ مِثْلَ إشْراقِ الشَّمْسِ، ونُزُولُ القُرْآنِ بِمَنزِلَةِ ظُهُورِ الشَّمْسِ في السَّماءِ، ولِهَذا قالَ: واسْتَعْلَنَ مِن جِبالِ فارانَ، فَإنَّ مُحَمَّدًا ﷺ ظَهَرَ بِهِ نُورُ اللَّهِ وهُداهُ في مَشْرِقِ الأرْضِ ومَغْرِبِها أعْظَمَ مِمّا ظَهَرَ بِالكِتابَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ، كَما يَظْهَرُ نُورُ الشَّمْسِ في مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها إذا اسْتَعْلَتْ وتَوَسَّطَتِ السَّماءَ، ولِهَذا سَمّاهُ اللَّهُ تَعالى سِراجًا مُنِيرًا، وسَمّى الشَّمْسَ سِراجًا وهّاجًا، والخَلْقُ يَحْتاجُونَ إلى السِّراجِ المُنِيرِ أعْظَمَ مِن حاجَتِهِمْ إلى السِّراجِ الوَهّاجِ، فَإنَّ هَذا يَحْتاجُونَ إلَيْهِ في وقْتٍ دُونَ وقْتٍ، وأمّا السِّراجُ المُنِيرُ فَيَحْتاجُونَ إلَيْهِ كُلَّ وقْتٍ، وفي كُلِّ مَكانٍ لَيْلًا ونَهارًا، سِرًّا وعَلانِيَةً.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى هَذِهِ الأماكِنَ الثَّلاثَةَ في قَوْلِهِ تَعالى: {والتِّينِ والزَّيْتُونِ وهو في الأرْضِ المُقَدَّسَةِ الَّتِي بُعِثَ مِنها المَسِيحُ، وأُنْزِلَ فِيها الإنْجِيلُ وطُورِ سِينِينَ وهو الجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تَكْلِيمًا، وناداهُ مِن وادِيهِ الأيْمَنِ مِنَ البُقْعَةِ المُبارَكَةِ في الشَّجَرَةِ الَّتِي فِيهِ، وأقْسَمَ بِـ البَلَدِ الأمِينِ وهو مَكَّةُ، الَّتِي أسْكَنَ إبْراهِيمُ إسْماعِيلَ وأُمَّهُ فِيهِ وهو فارانُ كَما تَقَدَّمَ، ولَمّا كانَ ما في التَّوْراةِ خَبَرًا عَنْ ذَلِكَ أخْبَرَ بِهِ عَلى التَّرْتِيبِ الزَّمانِيِّ، فَقَدَّمَ الأسْبَقَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، وأمّا القُرْآنُ فَإنَّهُ أقْسَمَ بِهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِها، وإظْهارًا لِقُدْرَتِهِ وآياتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، فَأقْسَمَ بِها عَلى وجْهِ التَّدْرِيجِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، فَبَدَأ بِالعالِي، ثُمَّ انْتَقَلَ إلى أعْلى مِنهُ، ثُمَّ أعْلى مِنهُ، فَإنَّ أشْرَفَ الكُتُبِ القُرْآنُ، ثُمَّ التَّوْراةُ، ثُمَّ الإنْجِيلُ، وكَذَلِكَ الأنْبِياءُ الثَّلاثَةُ.
* (فَصْلٌ)
وَهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وغَيْرُهُ مِن عُلَماءِ المُسْلِمِينَ، مَن تَأمَّلَ التَّوْراةَ وجَدَها ناطِقَةً بِهِ صَرِيحًا فِيهِ، فَإنَّ فِيها
"وَغَدا إبْراهِيمُ فَأخَذَ الغُلامَ وأخَذَ خُبْزًا وسِقاءً مِن ماءٍ ودَفَعَهُ إلى هاجَرَ وحَمَلَهُ عَلَيْها، وقالَ لَها: اذْهَبِي، فانْطَلَقَتْ هاجَرُ، ونَفَذَ الماءُ الَّذِي كانَ مَعَها، فَطَرَحَتِ الغُلامَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، وجَلَسَتْ مُقابَلَتَهُ عَلى مِقْدارِ رَمْيَةِ حَجَرٍ، لِئَلّا تُبْصِرَ الغُلامَ حِينَ يَمُوتُ، ورَفَعَتْ صَوْتَها بِالبُكاءِ، وسَمِعَ اللَّهُ صَوْتَ الغُلامِ، وحَيْثُ هو فَقالَ لَها المَلَكُ: قُومِي واحْمِلِي الغُلامَ، وشُدِّي يَدَيْكِ بِهِ، فَإنِّي جاعِلُهُ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ، فَتَحَ اللَّهُ عَيْنَيْها، فَرَأتْ بِئْرَ ماءٍ، فَسَقَتِ الغُلامَ ومَلَأتْ سِقاءَها، وكانَ اللَّهُ مَعَ الغُلامِ، فَرُبِّيَ وسَكَنَ في بَرِّيَّةِ فارانَ".
فَهَذا نَصُّ التَّوْراةِ أنَّ إسْماعِيلَ رُبِّيَ وسَكَنَ في بَرِّيَّةِ فارانَ بَعْدَ أنْ كادَ يَمُوتُ مِنَ العَطَشِ، وأنَّ اللَّهَ تَعالى سَقاهُ مِن بِئْرِ ماءٍ، وقَدْ عُلِمَ بِالتَّواتُرِ واتِّفاقِ الأُمَمِ أنَّ إسْماعِيلَ إنَّما رُبِّيَ بِمَكَّةَ هو وأبُوهُ إبْراهِيمُ بَنَيا البَيْتَ، فَعُلِمَ قَطْعًا أنَّ فارانَ هي أرْضُ مَكَّةَ.
* (فَصْلٌ)
وَقالَ ابْنُ إسْحاقَ: حَدَّثَنِي عاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتادَةَ الأنْصارِيُّ، عَنْ رِجالٍ مِن قَوْمِهِ، قالُوا: ومِمّا دَعانا إلى الإسْلامِ مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ وهُداهُ، ما كُنّا نَسْمَعُ مِن رِجالِ يَهُودَ، كُنّا أهْلَ شِرْكٍ أصْحابَ أوْثانٍ، وكانُوا أهْلَ كِتابٍ، عِنْدَهم عَلِمٌ لَيْسَ عِنْدَنا، فَكانَتْ لا تَزالُ بَيْنَنا
وَبَيْنَهم شُرُورٌ، فَإذا نِلْنا مِنهم بَعْضَ ما يَكْرَهُونَ، قالُوا لَنا: قَدْ تَقارَبَ زَمانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ الآنَ نَتَّبِعُهُ فَنَقْتُلَكم مَعَهُ قَتْلَ عادٍ وإرَمَ، فَكُنّا كَثِيرًا ما نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنهُمْ، فَلَمّا بَعَثَ اللَّهُ تَعالى رَسُولَهُ ﷺ أجَبْناهُ حِينَ دَعانا إلى اللَّهِ، وعَرَفْنا ما كانُوا يَتَوَعَّدُونا بِهِ، فَبادَرْناهم إلَيْهِ فَآمَنّا بِهِ وكَفَرُوا بِهِ، فَفِينا وفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآياتُ الَّتِي في البَقَرَةِ: ولَمّا جاءَهم كِتابٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهم وكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الكافِرِينَ.
فِي كِتابِ أشْعِيا: أشْكُرُ حَبِيبِي وابْنِي أحْمَدَ، فَلِهَذا جاءَ ذِكْرُهُ في نُبُوَّةِ أشْعِيا أكْثَرَ مِن غَيْرِها مِنَ النُّبُوّاتِ، وأعْلَنَ أشْعِيا بِذَكَرِهِ وصِفَتِهِ وصِفَةِ أُمَّتِهِ، ونادى بِها في نُبُوَّتِهِ سِرًّا وجَهْرًا لِمَعْرِفَتِهِ بِقَدْرِهِ ومَنزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
وَقالَ أشْعِيا أيْضًا: إنّا سَمِعْنا مِن أطْرافِ الأرْضِ صَوَّتَ مُحَمَّدٍ، وهَذا إفْصاحٌ مِنهُ بِاسْمِهِ ﷺ، فَلْيُرِنا أهْلُ الكِتابِ نَبِيًّا نَصَّتِ الأنْبِياءُ عَلى اسْمِهِ وصِفَتِهِ ونَعْتِهِ وسِيرَتِهِ وصِفَةِ أُمَّتِهِ وأحْوالِهِمْ سِوى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟
قَوْلُ حَبْقُوقَ في كِتابِهِ: إنَّ اللَّهَ جاءَ مِنَ اليَمَنِ، والقُدُّوسُ مِن جِبالِ فارانَ، لَقَدْ أضاءَتِ السَّماءُ مِن بَهاءِ مُحَمَّدٍ، وامْتَلَأتِ الأرْضُ مِن حَمْدِهِ، شُعاعُ مَنظَرِهِ مِثْلُ النُّورِ، يَحُوطُ بِلادَهُ بِعِزَّةٍ، تَسِيرُ المَنايا أمامَهُ، وتَصْحَبُ سِباعُ الطَّيْرِ أجْنادَهُ، قامَ فَمَسَحَ الأرْضَ فَتَضَعْضَعَتْ لَهُ الجِبالُ القَدِيمَةُ، وانْخَفَضَتِ الرَّوابِي فَتَزَعْزَعَتْ أسْوارُ مَدْيَنَ، ولَقَدْ حازَ المَساعِيَ القَدِيمَةَ، ثُمَّ قالَ: زَجَرُكَ في الأنْهارِ، واحْتِذامُ صَوْتِكَ في البِحارِ، رَكِبْتَ الخُيُولَ، وعَلَوْتَ مَراكِبَ الأتْقِياءِ، وسَتَنْزِعُ في قِسِيِّكَ أعْراقًا، وتَرْتَوِي الهامُ بِأمْرِكَ يا مُحَمَّدُ ارْتِواءً، ولَقَدْ رَأتْكَ الجِبالُ فارْتاعَتْ، وانْحَرَفَ عَنْكَ شُؤْبُوبُ السَّيْلِ، وتَضَيَّمَتِ المَهارِيُّ تَضَوُّرًا، ورَفَعَتْ أيْدِيها وجَلًا وخَوْفًا، وسارَتِ العَساكِرُ في بَرِيقِ سِهامِكَ، ولَمَعانِ نَيازِكِكَ، وتَدُوخُ الأرْضَ وتَدُوسُ الأُمَمَ أنَّكَ ظَهَرْتَ بِخَلاصِ أُمَّتِكَ، وإنْقاذِ تُرابِ آبائِكِ.
فَمَن رامَ صَرْفَ هَذِهِ البِشارَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ فَقَدْ رامَ سَتْرَ الشَّمْسِ بِالنَّهارِ، وتَغْطِيَةِ البِحارِ، وأنّى يَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ، وقَدْ وصَفَهُ بِصِفاتٍ عَيَّنَتْ شَخْصَهُ، وأزالَتْ عَنِ الحَيْرانِ لَبْسَهُ؟! بَلْ قَدْ صَرَّحَ بِاسْمِهِ مَرَّتَيْنِ، حَتّى انْكَشَفَ الصُّبْحُ لِمَن كانَ ذا عَيْنَيْنِ، وأخْبَرَ بِقُوَّةِ أُمَّتِهِ، وتَسْيِيرِ المَنايا أمامَهُمْ، واتِّباعِ جَوارِحِ الطَّيْرِ آثارَهُمْ، وهَذِهِ النُّبُوَّةُ لا تَلِيقُ إلّا بِمُحَمَّدٍ ﷺ ولا تَصْلُحُ إلّا لَهُ، ولا تَنْزِلُ إلّا عَلَيْهِ، فَمَن حاوَلَ صَرْفَ الأنْهارَ العَظِيمَةَ عَنْ مَجارِيها، وحَبْسَها عَنْ غايَتِها ومُنْتَهاها، فَهَيْهاتَ ما يَرُومُ المُبْطِلُونَ والجاحِدُونَ، ويَأْبى اللَّهُ إلّا أنْ يُتِمَّ نُورَهُ ولَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ.
فَمِنَ الَّذِي امْتَلَأتِ الأرْضُ مِن حَمْدِهِ وحَمْدِ أُمَّتِهِ في صَلَواتِهِمْ وخَطَبِهِمْ، وإدْبارِ صَلَواتِهِمْ، وعَلى السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، وجَمِيعِ الأحْوالِ سِواهُمْ! حَتّى سَمّاهُمُ اللَّهُ تَعالى قَبْلَ ظُهُورِهِمُ الحَمّادِينَ! ومَن ذا الَّذِي كانَ وجْهُهُ كَأنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ يَجْرِيانِ فِيهِ مِن ضِيائِهِ ونُورِهِ؟
قَدْ عَوَّدَ الطَّيْرَ عاداتٍ وثِقْنَ بِهِ فَهُنَّ يَتْبَعْنَهُ في كُلِّ مُرْتَحِلِ لَوْ لَمْ يَقُلْ إنِّي رَسُولٌ أما أتى شاهَدَهُ في وجْهِهِ يَنْطِقُ ومَنِ الَّذِي سارَتِ المَنايا أمامَهُ، وصَحِبَتْ سِباعُ الطَّيْرِ جُنُودَهُ لِعِلْمِهِما بِقُرْبِ مَن ذَبَحَ الكُفّارَ لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ.
يَتَطايَرُونَ بِقُرْبِهِ قُرْبانَهم بِدِماءِ مَن عَلَقُوا مِنَ الكُفّارِ ومَنِ الَّذِي تَضَعْضَعَتْ لَهُ الجِبالُ وانْخَفَضَتْ لَهُ الرَّوابِي، وداسَ الأُمَمَ ورَوَّعَ العالَمَ، وانْتَقَضَتْ لِنُبُوَّتِهِ المَمالِكُ، وخَلَّصَ الأُمَّةَ مِنَ الشِّرْكِ والكُفْرِ والجَهْلِ والظُّلْمِ سَواءٌ؟
قَوْلُهُ في كِتابِ حِزْقِيلَ يُهَدِّدُ اليَهُودَ ويَصِفُ لَهم أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ: إنَّ اللَّهَ مُظْهِرُهم عَلَيْكُمْ، وباعِثٌ فِيهِمْ نَبِيًّا، ويُنْزِلُ عَلَيْهِ كِتابًا، ويُمَلِّكُهم رِقابَكم فَيَقْهَرُونَكم ويُذِلُّونَكم بِالحَقِّ، ويَخْرُجُ رِجالُ بَنِي قِيدارَ في جَماعاتِ الشُّعُوبِ، مَعَهم مَلائِكَةٌ عَلى خَيْلٍ بِيضٍ مُتَسَلِّحِينَ يُوقِعُونَ بِكُمْ، وتَكُونُ عاقِبَتُكم إلى النّارِ.
فَمَنِ الَّذِي أظْهَرَهُ اللَّهُ عَلى اليَهُودِ حَتّى قَهَرَهم وأذَلَّهم وأوْقَعَ بِهِمْ وأنْزَلَ عَلَيْهِ كِتابًا؟ ومَن هم بَنُو قِيدارَ غَيْرُ بَنِي إسْماعِيلَ الَّذِي خَرَجُوا مَعَهُ وهم جَماعاتُ الشُّعُوبِ؟ ومَنِ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ وعَلى أُمَّتِهِ المَلائِكَةُ عَلى خَيْلٍ بِيضٍ يَوْمَ بَدْرٍ، ويَوْمَ الأحْزابِ، ويَوْمَ حُنَيْنٍ، حَتّى عايَنُوها عِيانًا، فَقاتَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وعَنْ يَمِينِهِ، وعَنْ شِمالِهِ، حَتّى غَلَبَ ثَلاثُمِائَةٍ وثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا لَيْسَ مَعَهم غَيْرُ فَرَسَيْنِ، ألْفَ رَجُلٍ مُقَنَّعِينَ في الحَدِيدِ مَعْدُودِينَ مِن فُرْسانِ العَرَبِ فَأصْبَحُوا بَيْنَ قَتِيلٍ وأسِيرٍ ومُنْهَزِمٍ.
قَوْلُ دانْيالَ وذِكْرُهُ بِاسْمِهِ الصَّرِيحِ مِن غَيْرِ تَعْرِيضٍ ولا تَلْوِيحٍ، وقالَ: سَتَنْزِعُ في قِسِيِّكَ أعْراقًا وتَرْتَوِي السِّهامُ بِأمْرِكِ يا مُحَمَّدُ ارْتِواءً.
وَقَوْلُ دانْيالَ النَّبِيِّ أيْضًا حِينَ سَألَهُ بُخْتَنَصَّرُ عَنْ تَأْوِيلِ رُؤْيا رَآها ثُمَّ أُنْسِيَها: رَأيْتَ أيُّها المَلِكُ صَنَمًا عَظِيمًا قائِمًا بَيْنَ يَدَيْكَ رَأسُهُ مِنَ الذَّهَبِ، وساعِداهُ مِنَ الفِضَّةِ، وبَطْنُهُ وفَخِذُهُ مِنَ النُّحاسِ، وساقاهُ مِنَ الحَدِيدِ، ورِجْلاهُ مِنَ الخَزَفِ، فَبَيْنَما أنْتَ تَتَعَجَّبُ مِنهُ إذْ أقْبَلَتْ صَخْرَةٌ فَدَقَّتْ في ذَلِكَ الصَّنَمِ فَتَفَتَّتَ وتَلاشى، وعادَ رُفاتًا، ثُمَّ نَسَفَتْهُ الرِّياحُ، وذَهَبَ وتَحَوَّلَ ذَلِكَ الحَجَرُ إنْسانًا عَظِيمًا مَلَأ الأرْضَ، فَهَذا ما رَأيْتَ أيُّها المَلِكُ، فَقالَ بُخْتُنَصَّرُ: صَدَقْتَ، فَما تَأْوِيلُها؟ قالَ: أنْتَ الرَّأْسُ الَّذِي رَأيْتَهُ مِنَ الذَّهَبِ، ويَقُومُ بَعْدَكَ ولَدُكَ، وهو الَّذِي رَأيْتَهُ مِنَ الفِضَّةِ، وهو دُونُكَ وتَقُوُمُ بَعْدَهُ مَمْلَكَةٌ أُخْرى هي دُونَهُ وهي تُشْبِهُ النُّحاسَ، وبَعْدَها مَمْلَكَةٌ قَوِيَّةٌ مِثْلَ الحَدِيدِ، وأمّا الرِّجْلانِ اللَّذانِ رَأيْتَ مِن خَزَفٍ فَمَمْلَكَةٌ ضَعِيفَةٌ، وأمّا الحَجَرُ العَظِيمُ الَّذِي رَأيْتَهُ دَقَّ الصَّنَمَ فَفَتَّتَهُ فَهو نَبِيٌّ يُقِيمُهُ إلَهُ الأرْضِ والسَّماءِ بِشَرِيعَةٍ قَوِيَّةٍ فَيَدُقُّ جَمِيعَ مُلُوكِ الأرْضِ وأُمَمِها حَتّى تَمْتَلِئَ الأرْضُ مِنهُ ومِن أُمَّتِهِ، ويَدُومُ سُلْطانُ ذَلِكَ النَّبِيِّ إلى انْقِضاءِ الدُّنْيا، فَهَذا تَعْبِيرُ رُؤْياكَ أيُّها المَلِكُ.
وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذا مُنْطَبِقٌ عَلى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ﷺ حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، لا عَلى المَسِيحِ ولا عَلى نَبِيٍّ سِواهُ، فَهو الَّذِي بُعِثَ بِشَرِيعَةٍ قَوِيَّةٍ، ودَقَّ جَمِيعَ مُلُوكِ الأرْضِ وأُمَمِها، حَتّى امْتَلَأتِ الأرْضُ مِن أُمَّتِهِ، وسُلْطانُهُ دائِمَ إلى آخِرِ الدَّهْرِ، لا يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يُزِيلَهُ، كَما أزالُ سُلْطانَ اليَهُودِ مِنَ الأرْضِ، وأزالَ سُلْطانَ النَّصارى عَنْ خِيارِ الأرْضِ - وسَطِها - فَصارَ في بَعْضِ أطْرافِها، وأزالَ سُلْطانَ المَجُوسِ وعُبّادِ الأصْنامِ وسُلْطانَ الصّابِئِينَ.
قَوْلُ دانْيالَ أيْضًا: سَألْتُ اللَّهَ وتَضَرَّعْتُ إلَيْهِ أنْ يُبَيِّنَ لِي ما يَكُونُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، وهَلْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ويَرُدُّ إلَيْهِمْ مُلْكَهُمْ، ويَبْعَثُ إلَيْهِمُ الأنْبِياءَ، أوْ يَجْعَلُ ذَلِكَ في غَيْرِهِمْ، فَظَهَرَ لِيَ المَلَكُ في صُورَةِ شابٍّ حَسَنِ الوَجْهِ، فَقالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يا دانْيالُ، إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ أغْضَبُونِي، وتَمَرَّدُوا عَلَيَّ وعَبَدُوا مِن دُونِي آلِهَةً أُخْرى، وصارُوا مِن بَعْدِ العِلْمِ إلى الجَهْلِ، ومِن بَعْدِ الصِّدْقِ إلى الكَذِبِ، فَسَلَّطْتُ عَلَيْهِمْ بُخْتَ نَصَّرَ فَقَتَلَ رِجالَهُمْ، وسَبى ذَرارِيَّهِمْ، وهَدَمَ مَساجِدَهُمْ، وحَرَقَ كُتُبَهُمْ، وكَذَلِكَ فَعَلَ مَن بَعْدَهُ بِهِمْ، وأنا غَيْرُ راضٍ عَنْهُمْ، ولا مُقِيلُهم عَثَراتِهِمْ، فَلا يَزالُونَ في سُخْطِي حَتّى أبْعَثَ مَسِيحِي ابْنِ العَذْراءِ البَتُولِ، وأخْتِمُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِاللَّعْنِ والسُّخْطِ، فَلا يَزالُونَ مَلْعُونِينَ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والمَسْكَنَةُ حَتّى أبْعَثَ نَبِيَّ بَنِي إسْماعِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ هاجَرَ، وأرْسَلْتُ إلَيْها مَلاكِي، فَبَشَّرَها، وأُوحِي إلى ذَلِكَ النَّبِيِّ، وأُعَلِّمُهُ الأسْماءَ، وأُزَيِّنُهُ بِالتَّقْوى، وأجْعَلُ البِرَّ شِعارَهُ، والتَّقْوى ضَمِيرَهُ، والصِّدْقَ قَوْلَهُ، والوَفاءَ طَبِيعَتَهُ، والقَصْدَ سِيرَتَهُ، والرُّشْدَ سُنَّتَهُ، أخُصُّهُ بِكِتابٍ مُصَدَّقٍ لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ، وناسِخٍ لِبَعْضِ ما فِيها، أُسْرِي بِهِ إلَيَّ، وأرْقِيهِ مِن سَماءٍ إلى سَماءٍ حَتّى يَعْلُوَ فَأُدْنِيَهُ، وأُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وأُوحِيَ إلَيْهِ، ثُمَّ أرُدَّهُ إلى عِبادِي بِالسُّرُورِ والغِبْطَةِ، حافِظًا لِما اسْتُودِعَ، صادِقا فِيما أمَرَ، يَدْعُو إلى تَوْحِيدِي بِاللِّينِ مِنَ القَوْلِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، لا فَظٌّ ولا غَلِيظٌ ولا صَخّابٌ بِالأسْواقِ، رَءُوفٌ بِمَن والاهُ، رَحِيمٌ بِمَن آمَنَ بِهِ، خَشِنٌ عَلى مَن عاداهُ، فَيَدْعُو قَوْمَهُ إلى تَوْحِيدِي وعِبادَتِي، ويُخْبِرُهم بِما رَأى مِن آياتِي، فَيُكَذِّبُونَهُ ويُؤْذُونَهُ.
ثُمَّ سَرَدَ دانْيالُ قِصَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِما أمْلاهُ عَلَيْهِ المَلَكُ، حَتّى وصَلَ آخِرَ أيّامِ أُمَّتِهِ بِالنَّفْخَةِ وانْقِضاءِ الدُّنْيا، وهَذِهِ البِشارَةُ الآنَ عِنْدَ اليَهُودِ والنَّصارى، يَقْرَءُونَها ويُقِرُّونَ بِها، ويَقُولُونَ: لَمْ يَظْهَرْ صاحِبُها بَعْدُ.
قالَ أبُو العالِيَةَ: لَمّا فَتَحَ المُسْلِمُونَ تُسْتَرَ وجَدُوا دانْيالَ مَيِّتًا ووَجَدُوا عِنْدَهُ مُصْحَفًا.
قالَ أبُو العالِيَةَ: فَأنا قَرَأْتُ ذَلِكَ المُصْحَفَ، وفِيهِ صِفَتُكم وأخْبارُكُمْ، وسِيرَتُكم ولُحُونُ كَلامِكُمْ، وكانَ أهْلُ النّاحِيَةِ - يَعْنِي أهْلَ أرْضِ السُّوَيْسِ حَيْثُ دانْيالُ مَدْفُونٌ - إذا أجْدَبُوا كَشَفُوا عَنْ قَبْرِهِ فَيُسْقَوْنَ، فَكَتَبَ أبُو مُوسى في ذَلِكَ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أنِ احْفُرْ بِالنَّهارِ ثَلاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا، وادْفِنْهُ بِاللَّيْلِ في واحِدٍ مِنها كَيْ لا تُفْتَنَ النّاسُ بِهِ ....
قالَ كَعْبٌ: وذَكَرَ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في التَّوْراةِ، ويُرِيدُ بِها التَّوْراةَ الَّتِي هي أعَمُّ مِنَ التَّوْراةِ المَعْنِيَّةِ: أحْمَدُ عَبْدِي المُخْتارُ، لا فَظٌّ ولا غَلِيظٌ ولا صَخّابٌ بِالأسْواقِ، ولا يَجْزِي السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، يَعْفُو ويَغْفِرُ، مَوْلِدُهُ بَكّا، وهِجْرَتُهُ طابا، ومُلْكُهُ بِالشّامِ، وأُمَّتُهُ الحامِدُونَ، يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلى كُلِّ نَجْدٍ، ويُسَبِّحُونَهُ في كُلِّ مَنزِلَةٍ، ويُوَضِّئُونَ أطْرافَهُمْ، ويَأْتَزِرُونَ عَلى أنْصافِهِمْ، وهم رُعاةُ الشَّمْسِ، ومُؤَذِّنُهم في جَوِّ السَّماءِ، وصَفُّهم في القِتالِ وصَفُّهم في الصَّلاةِ سَواءٌ، رُهْبانٌ بِاللَّيْلِ، أُسْدٌ بِالنَّهارِ، ولَهم دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يُصَلُّونَ الصَّلاةَ حَيْثُ ما أدْرَكَتْهم ولَوْ عَلى كُناسَةٍ.
قالَ ابْنُ أبِي الزِّنادِ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الحارِثِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، وكانَ مِن خِيارِ النّاسِ، قالَ: كانَ عِنْدَ أبِي وجَدِّي ورَقَةً يَتَوارَثُونَها قَبْلَ الإسْلامِ، فِيها اسْمُ اللَّهِ، وقَوْلُهُ الحَقُّ، وقَوْلُ الظّالِمِينَ في تَبارٍ، هَذا الذِّكْرُ لِأُمَّةٍ تَأْتِي في آخِرِ الزَّمانِ، يَتَّزِرُونَ عَلى أوْساطِهِمْ، ويَغْسِلُونَ أطْرافَهُمْ، ويَخُوضُونَ البُحُورَ إلى أعْدائِهِمْ، فِيهِمْ صَلاةٌ لَوْ كانَتْ في قَوْمِ نُوحٍ ما هَلَكُوا بِالطُّوفانِ، وفي ثَمُودَ ما أُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ.
قالَ أشْعِيا وذَكَرَ قِصَّةَ العَرَبِ فَقالَ: يَدُوسُونَ الأُمَمَ دِياسَ البَيادِرِ، ويَنْزِلُ البَلاءُ بِمُشْرِكِي العَرَبِ، ويَنْهَزِمُونَ بَيْنَ يَدَيْ سُيُوفٍ مَسْلُولَةٍ، وقِسِيٍّ مَوْتُورَةٍ مِن شِدَّةِ المَلْحَمَةِ. وهَذا إخْبارٌ عَمّا حَلَّ بِعَبَدَةِ الأوْثانِ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأصْحابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، ويَوْمَ حُنَيْنٍ، وفي غَيْرِهِما مِنَ الوَقائِعِ.
قَوْلُهُ في الإنْجِيلِ الَّذِي بِأيْدِي النَّصارى عَنْ يُوحَنّا: أنَّ المَسِيحَ قالَ لِلْحِوارِيَّيْنِ: مَن أبْغَضَنِي فَقَدْ أبْغَضَ الرَّبَّ، ولَوْلا أنِّي صَنَعْتُ لَهم صَنائِعَ لَمْ يَصْنَعْها أحَدٌ لَمْ يَكُنْ لَهم ذَنْبٌ، ولَكِنْ مِنَ الآنَ بَطَرُوا، فَلا بُدَّ أنْ تَتِمَّ الكَلِمَةُ الَّتِي في النّامُوسِ لِأنَّهم أبْغَضُونِي مَجّانًا، فَلَوْ قَدْ جاءَ المِنَحْمَنا هَذا الَّذِي يُرْسِلُهُ اللَّهُ إلَيْكم مِن عِنْدِ الرَّبِّ رُوحِ القُدُسِ، فَهو شَهِيدٌ عَلَيَّ وأنْتُمْ أيْضًا لِأنَّكم قَدِيمًا كُنْتُمْ مَعِي، هَذا قَوْلِي لَكم لِكَيْ لا تَشُكُّوا إذا جاءَ.
والمَنَحْمَنا بِالسُّرْيانِيَّةِ، وتَفْسِيرُهُ بِالرُّومِيَّةِ البارَقْلِيطُ، وهو بِالعِبْرانِيَّةِ الحامِدُ والمَحْمُودُ والحَمْدُ كَما تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ في الإنْجِيلِ أيْضًا: إنَّ المَسِيحَ قالَ لِلْيَهُودِ: وتَقُولُونَ: لَوْ كُنّا في أيّامِ آبائِنا لَمْ نُساعِدْهم عَلى قَتْلِ الأنْبِياءِ، فَأتِمُّوا كَيْلَ آبائِكم يا ثَعابِينَ بَنِي الأفاعِي، كَيْفَ لَكُمُ النَّجاةُ مِن عَذابِ النّارِ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ ما ورَدَ في سُورَةِ يس إذْ أرْسَلْنا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ.
وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ أنَّهُ بَعْدَ رَفْعِ المَسِيحِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مَعْنى (وَسَأبْعَثُ إلَيْكم أنْبِياءَ وعُلَماءَ وتَقْتُلُونَ مِنهُمْ، وتَصْلُبُونَ وتَجْلِدُونَ، وتَطْلُبُونَهم مِن مَدِينَةٍ إلى أُخْرى، لِتَتَكامَلَ عَلَيْكم دِماءُ المُؤْمِنِينَ المُهْرَقَةُ عَلى الأرْضِ، مِن دَمِ هابِيلَ الصّالِحِ إلى دَمِ زَكَرِيّا بْنِ بَرْضِيا الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ عِنْدَ المَذْبَحِ، إنَّهُ سَيَأْتِي جَمِيعَ ما وصَفْتُ عَلى هَذِهِ الأُمَّةِ، يا أُورْشَلِيمُ الَّتِي تَقْتُلُ الأنْبِياءَ وتَرْحَمُ مَن بُعِثَ إلَيْكِ، قَدْ أرَدْتُ أنْ أجْمَعَ بَنِيكِ كَجَمْعِ الدَّجاجَةِ فَرارِيجَها تَحْتَ جَناحِها وكَرِهْتِ أنْتِ ذَلِكَ، سَأُقْفِرُ عَلَيْكم بَيْتَكُمْ، وأنا أقُولُ لا تَرَوْنِي الآنَ حَتّى يَأْتِيَ مَن يَقُولُونَ لَهُ مُبارَكٌ، يَأْتِي عَلى اسْمِ اللَّهِ.
فَأخْبَرَهُمُ المَسِيحُ أنَّهم لا بُدَّ أنْ يَسْتَوْفُوا الصّاعَ الَّذِي قُدِّرَ لَهُمْ، وأنَّهُ سَيُقْفِرُ بَيْتَهم أيْ يُخْلِيهِ مِنهُمْ، وأنَّهُ يَذْهَبُ عَنْهم فَلا يَرَوْنَهُ حَتّى يَأْتِيَ المُبارَكُ الَّذِي يَأْتِي عَلى اسْمِ اللَّهِ. فَهو الَّذِي انْتَقَمَ بَعْدَهُ لِدِماءِ المُؤْمِنِينَ. وهَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ في المَوْضِعِ الآخَرِ: إنَّ خَيْرًا لَكم أنْ أذْهَبَ عَنْكم حَتّى يَأْتِيَكُمُ البارَقْلِيطُ فَإنَّهُ لا يَجِيءُ ما لَمْ أذْهَبْ. وقَوْلُهُ أيْضًا: ابْنُ البَشَرِ ذاهِبٌ، والبارَقْلِيطُ مِن بَعْدَهُ، وفي مَوْضِعٍ آخَرَ: أنا ذاهِبٌ وسَيَأْتِيكُمُ البارَقْلِيطُ.
والمُبارَكُ الَّذِي جاءَ بَعْدَ المَسِيحِ هو مُحَمَّدٌ ﷺ كَما تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.
قَوْلُهُ في إنْجِيلِ مَتّى: إنَّهُ لَمّا حُبِسَ يَحْيى بْنُ زَكَرِيّا بَعَثَ تَلامِيذَهُ إلى المَسِيحِ، وقالَ لَهُمْ: قُولُوا لَهُ: أنْتَ إيلِيا أمْ نَتَوَقَّعُ غَيْرَكَ؟، فَقالَ المَسِيحُ: الحَقُّ اليَقِينُ أقُولُ لَكُمْ: إنَّهُ لَمْ تَقُمِ النِّساءُ عَنْ أفْضَلَ مِن يَحْيى بْنِ زَكَرِيّا، وإنَّ التَّوْراةَ وكُتُبَ الأنْبِياءِ يَتْلُو بَعْضُها بَعْضًا بِالنُّبُوَّةِ والوَحْيِ، حَتّى جاءَ يَحْيى، وأمّا الآنُ فَإنْ شِئْتُمْ فاقْبَلُوا فَإنَّ (إيلَ) مُزْمِعٌ أنْ يَأْتِيَ، فَمَن كانَتْ لَهُ أُذُنانِ سامِعَتانِ فَلْيَسْتَمِعْ.
وَهَذِهِ بِشارَةٌ بِمَجِيءِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى الَّذِي هو (إيلُ) بِالعِبْرانِيَّةِ، ومَجِيئِهُ هو مَجِيءُ رَسُولِهِ وكِتابِهِ ودِينِهِ، كَما في التَّوْراةِ: جاءَ اللَّهُ مِن طُورِ سَيْناءَ، قالَ بَعْضُ عُبّادِ الصَّلِيبِ: إنَّما بَشَّرَ بِإلْياسِ النَّبِيِّ.
وَهَذا لا يُنْكَرُ مِن جَهْلِ أُمَّةِ الضَّلالِ وعُبّادِ خَشَبَةِ الصَّلِيبِ الَّتِي نَحَتَتْها أيْدِي اليَهُودِ، فَإنَّ إلْياسَ تَقَدَّمَ إرْسالُهُ عَلى المَسِيحِ بِدُهُورٍ مُتَطاوِلَةٍ.
قَوْلُهُ في نُبُوَّةِ أرْمِيا: قَبْلَ أنْ أخْلُقَكَ قَدْ عَظَّمْتُكَ مِن قَبْلِ أنْ أُصَوِّرَكَ في البَطْنِ، وأرْسَلْتُكَ وجَعَلْتُكَ نَبِيًّا لِلْأجْناسِ كُلِّهِمْ. فَهَذِهِ بِشارَةٌ عَلى لِسانِ أرْمِيا لِمَن بَعْدُهُ، وهو إمّا المَسِيحُ وإمّا مُحَمَّدٌ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِما، لا تَعْدُوهُما إلى غَيْرِهِما، ومُحَمَّدٌ أوْلى بِها لِأنَّ المَسِيحَ إنَّما كانَ نَبِيًّا لِبَنِي إسْرائِيلَ، كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَرَسُولًا إلى بَنِي إسْرائِيلَ﴾.
والنَّصارى تُقِرُّ بِذَلِكَ، ولَمْ يَدَّعِ المَسِيحُ أنَّهُ رَسُولٌ إلى سائِرِ الأجْناسِ مِن أهْلِ الأرْضِ، فَإنَّ الأنْبِياءَ مِن عَهِدَ مُوسى إلى المَسِيحِ إنَّما كانُوا يُبْعَثُونَ إلى قَوْمِهِمْ، بَلْ عِنْدَهم في الإنْجِيلِ أنَّ المَسِيحَ قالَ لِلْحِوارِيَّيْنِ: لا تَسْلُكُوا إلى سَبِيلِ الأجْناسِ، ولَكِنِ اخْتَصِرُوا عَلى الغَنَمِ الرّابِضَةِ مَن نَسْلِ إسْرائِيلَ.
وَأمّا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَهو الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ إلى سائِرِ أجْناسٍ الأرْضِ وطَوائِفِ بَنِي آدَمَ.
وَهَذِهِ البِشارَةُ مُطابَقَةٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها النّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم جَمِيعًا﴾.
وَلِقَوْلِهِ ﷺ: بُعِثْتُ إلى الأسْوَدِ والأحْمَرِ.
وَقَوْلِهِ: وكانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ وبُعِثْتُ إلى النّاسِ عامَّةً.
وَقَدِ اعْتَرَفَتِ النَّصارى بِهَذِهِ البِشارَةِ ولَمْ يُنْكِرُوها، لَكِنْ قالَ بَعْضُ زُعَمائِهِمْ إنَّها بِشارَةُ مُوسى بْنِ عِمْرانَ، وإلْياسَ، واليَسَعَ، وأنَّهم سَيَأْتُونَ في آخِرِ الزَّمانِ، وهَذا مِن أعْظَمِ البَهْتِ والجُرْأةِ عَلى اللَّهِ تَعالى والِافْتِراءِ عَلَيْهِ: فَإنَّهُ لا يَأْتِي مَن قَدْ ماتَ إلى يَوْمِ المِيقاتِ المَعْلُومِ.
قَوْلُ المَسِيحِ في الإنْجِيلِ الَّذِي بِأيْدِيهِمْ، وقَدْ ضَرَبَ مَثْلَ الدُّنْيا، فَقالَ: كَمِثْلِ رَجُلٍ اغْتَرَسَ كَرْمًا ويُسَيِّجُ حَوْلَهُ، وجَعَلَ فِيهِ مَعْصَرَةً، وشَيَّدَ فِيهِ قَصْرًا، ووَكَّلَ بِهِ أعْوانًا، وتَقَرَّبَ عِنَبَهُ، فَلَمّا دَنا أوانُ القِطافِ، بَعَثَ عَبْدًا إلى أعْوانِهِ المُتَوَكِّلِينَ بِالكَرْمِ. ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا لِلْأنْبِياءِ ولِنَفْسِهِ، ثُمَّ لِلنَّبِيِّ المُوَكِّلِ آخَرَ بِالكَرْمِ، إلى أنْ أفْصَحَ عَنْ أُمِّتِهِ، فَقالَ: وأقُولُ لَكُمْ: سَيُزاحُ عَنْكم مُلْكُ اللَّهِ، وتُعْطاهُ الأُمَّةُ المُطِيعَةُ العامِلَةُ.
ثُمَّ ضَرَبَ لِبَنِي إسْرائِيلَ مَثَلًا بِصَخْرَةٍ وقالَ: مَن سَقَطَ عَلى هَذِهِ الصَّخْرَةِ يَنْكَسِرُ، ومَن سَقَطَتْ عَلَيْهِ يَتَهَشَّمُ. وهَذِهِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ ومَن ناوَأهُ وحارَبَهُ مِنَ النّاسِ لا يَنْطَبِقُ عَلى أحَدٍ بَعْدَ المَسِيحِ سِواهُ.
قَوْلُ أشْعِيا في صِفَتِهِ: لِتَفْرَحْ أرْضُ البادِيَةِ العَطْشى، ولْتَبْتَهِجِ الرَّوابِي والفَلَواتُ، لِأنَّها سَتُعْطى بِأحْمَدَ مَحاسِنُ لُبْنانَ ومِثْلُ حُسْنِ الدَّساكِيرِ. وبِاللَّهِ ما بَعْدَ هَذا إلّا المُكابَرَةُ وجَحْدُ الحَقَّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ.
قَوْلُ حِزْقِيلَ في صُحُفِهِ الَّتِي بِأيْدِيهِمْ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ - بَعْدَ ما ذَكَرَ مَعاصِي بَنِي إسْرائِيلَ وشَبَّهَهم بِكَرْمَةٍ غَذّاها وقالَ: لَمْ تَلْبَثِ الكَرْمَةُ أنْ قُلِعَتْ بِالسَّخْطَةِ ورُمِيَ بِها عَلى الأرْضِ، وأحْرَقَتِ السَّمائِمُ ثِمارَها، فَعِنْدَ ذَلِكَ غُرِسَ في البَدْوِ وفي الأرْضِ المُهْمَلَةِ العَطْشى، وخَرَجَتْ مِن أغْصانِها الفاضِلَةِ نارٌ أكَلَتْ تِلْكَ الكَرْمَةَ، حَتّى لَمْ يُوجَدُ فِيها غُصْنٌ قَوِيٌّ ولا قَضِيبٌ.
وَهَذا تَصْرِيحٌ لا تَلْوِيحَ بِهِ ﷺ، وبِبَلَدِهِ وهي مَكَّةُ العَطْشى المُهْمَلَةُ مِنَ النُّبُوَّةِ قَبْلَهُ مِن عَهْدِ إسْماعِيلَ.
ما في صُحُفٍ دانْيالَ وقَدْ نَعَتَ (الكِشْدانِيِّينَ) الكِلْدانِيِّينَ، فَقالَ: لا تَمِيدُ دَعْوَتُهُمْ، وأقْسَمَ الرَّبُّ بِساعِدِهِ أنْ لا يَظْهَرَ الباطِلُ ولا يَقُومَ لِمُدَّعٍ كاذِبٍ دَعْوَةٌ أكْثَرَ مِن ثَلاثِينَ سَنَةً.
وَفِي التَّوْراةِ ما يُشْبِهُ هَذا، وهَذا تَصْرِيحٌ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ ﷺ، فَإنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أضْعافُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في حَياتِهِ، وهَذِهِ دَعْوَتُهُ قَدْ مَرَّتْ عَلَيْها القُرُونُ مِنَ السِّنِينَ، وهي باقِيَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ وكَذَلِكَ إلى آخِرِ الدَّهْرِ، ولَمْ يَقَعْ هَذا لِمَلِكٍ قَطُّ، فَضْلًا عَنْ كَذّابٍ مُفْتَرٍ عَلى اللَّهِ وأنْبِيائِهِ مُفْسِدٍ لِلْعالَمِ مُغَيِّرٍ لِدَعْوَةِ الرُّسُلِ، ومَن ظَنَّ هَذا بِاللَّهِ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ أسْوَأ الظَّنِّ، وقَدَحَ في عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ.
وَقَدْ جَرَتْ لِي مُناظَرَةٌ مَعَ أكْبَرِ مَن تُشِيرُ إلَيْهِ اليَهُودُ بِالعِلْمِ والرِّئاسَةِ، فَقُلْتُ لَهُ في أثْناءِ الكَلامِ: إنَّهم بِتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا ﷺ وقَدْ شَتَمْتُمُ اللَّهَ أعْظَمَ شَتِيمَةً، فَعَجِبَ مِن ذَلِكَ، وقالَ: مِثْلُكَ يَقُولُ هَذا الكَلامَ! فَقُلْتُ لَهُ: اسْمَعِ الآنَ تَقْرِيرَهُ، إذا قُلْتُمْ: إنَّ مُحَمَّدًا مَلِكٌ ظالِمٌ قَهَرَ النّاسَ بِسَيْفِهِ، ولَيْسَ بِرَسُولٍ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وقَدْ أقامَ ثَلاثًا وعِشْرِينَ سَنَةً يَدَّعِي أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ أرْسَلَهُ إلى الخَلْقِ كافَّةً، ويَقُولُ: أمَرَنِي اللَّهُ بِكَذا ونَهانِي عَنْ كَذا وأُوحِيَ إلَيَّ كَذا، ولَمْ يَكُنْ مِن ذَلِكَ شَيْءٌ. ويَقُولُ: إنَّهُ أباحَ لِي سَبْيَ ذَرارِيِّ مَن كَذَّبَنِي وخالَفَنِي ونِساءَهُمْ، وغَنِيمَةَ أمْوالِهِمْ، وقَتْلَ رِجالِهِمْ، ولَمْ يَكُنْ مِن ذَلِكَ شَيْءٌ، وهو يَدْأبُ في تَغْيِيرِ دِينِ الأنْبِياءِ ومُعاداةِ أُمَمِهِمْ ونَسْخِ شَرائِعِهِمْ، فَلا يَخْلُو إمّا أنْ تَقُولُوا: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى كانَ يَطَّلِعُ عَلى ذَلِكَ ويُشاهِدُهُ ويَعْلَمُهُ، أوْ تَقُولُوا: إنَّهُ خَفِيَ عَنْهُ ولَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَإنْ قُلْتُمْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ نَسَبْتُمُوهُ إلى أقْبَحِ الجَهْلِ، وكانَ مَن عَلِمَ ذَلِكَ أعْلَمَ مِنهُ، وإنْ قُلْتُمْ بَلْ كانَ كُلُّهُ بِعِلْمِهِ ومُشاهَدَتِهِ واطِّلاعِهِ عَلَيْهِ، فَلا يَخْلُو: إمّا أنْ يَكُونَ قادِرًا عَلى تَغْيِيرِهِ، والأخْذِ عَلى يَدَيْهِ ومَنعِهِ مِن ذَلِكَ، أوْ لا، فَإنْ لَمْ يَكُنْ قادِرًا، فَقَدْ نَسَبْتُمُوهُ إلى أقْبَحِ العَجْزِ المُنافِي لِلرُّبُوبِيَّةِ، وإنْ كانَ قادِرًا، وهو مَعَ ذَلِكَ يُعِزُّهُ ويَنْصُرُهُ ويَوَدُّهُ، ويُعْلِيهِ ويُعْلِي كَلِمَتَهُ، ويُجِيبُ دُعاءَهُ ويُمَكِّنُهُ مِن أعْدائِهِ، ويُظْهِرُ عَلى يَدَيْهِ مِن أنْواعِ المُعْجِزاتِ والكَراماتِ ما يَزِيدُ عَلى الألْفِ، ولا يَقْصِدُهُ أحَدٌ بِسُوءٍ إلّا ظَفَرَ بِهِ، ولا يَدْعُوهُ بِدَعْوَةٍ إلّا اسْتَجابَها لَهُ، فَهَذا مِن أعْظَمِ الظُّلْمِ والسَّفَهِ الَّذِي لا يَلِيقُ نِسْبَتُهُ إلى آحادِ العُقَلاءِ، فَضْلًا عَنْ رَبِّ الأرْضِ والسَّماءِ، فَكَيْفَ وهو يَشْهَدُ لَهُ بِإقْرارِهِ عَلى دَعْوَتِهِ وتَأْيِيدِهِ بِكَلامِهِ، وهَذِهِ عِنْدَكم شَهادَةُ زُورٍ وكَذِبٍ؟ فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ، قالَ: مَعاذَ اللَّهِ أنْ يَفْعَلَ اللَّهُ هَذا بِكاذِبٍ مُفْتَرٍ، بَلْ هو نَبِيٌّ صادِقٌ مَنِ اتَّبَعَهُ أفْلَحَ وسَعِدَ.
قُلْتُ: فَما لَكَ لا تَدْخُلُ في دِينِهِ؟
قالَ: إنَّما بُعِثَ لِلْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لا كِتابَ لَهُمْ، وأمّا نَحْنُ فَعِنْدَنا كِتابٌ نَتَّبِعُهُ.
قُلْتُ لَهُ: غُلِبْتَ كُلَّ الغَلَبِ، فَإنَّهُ قَدْ عَلِمَ الخاصُّ والعامُّ أنَّهُ أخْبَرَ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إلى جَمِيعِ الخَلْقِ، وإنَّ مَن لَمْ يَتْبَعْهُ فَهو كافِرٌ مِن أهْلِ الجَحِيمِ، وقاتَلَ اليَهُودَ والنَّصارى وهم أهْلُ كِتابٍ، وإذا صَحَّتْ رِسالَتُهُ وجَبَ تَصْدِيقُهُ في كُلِّ ما أخْبَرَ بِهِ، فَأمْسَكَ ولَمْ يُحِرْ جَوابًا.
وَقَرِيبًا مِن هَذِهِ المُناظَرَةِ ما جَرى لِبَعْضِ عُلَماءِ المُسْلِمِينَ مَعَ بَعْضِ اليَهُودِ بِبِلادِ المَغْرِبِ
قالَ لَهُ المُسْلِمُ: في التَّوْراةِ الَّتِي بِأيْدِيكم إلى اليَوْمِ أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: إنِّي أُقِيمُ لِبَنِي إسْرائِيلَ مِن إخْوَتِهِمْ نَبِيًّا مِثْلَكَ أجْعَلُ كَلامِي عَلى فِيهِ، فَمَن عَصاهُ انْتَقَمْتُ مِنهُ. قالَ لَهُ اليَهُودِيُّ: ذَلِكَ يُوشَعُ بْنُ نُونَ. فَقالَ المُسْلِمُ: هَذا مُحالٌ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّهُ قالَ عِنْدَكَ في آخِرِ التَّوْراةِ: أنَّهُ لا يَقُومُ في بَنِي إسْرائِيلَ نَبِيٌّ مِثْلُ مُوسى.
(الثّانِي): أنَّهُ قالَ مِن إخْوَتِهِمْ، وإخْوَةُ بَنِي إسْرائِيلَ إمّا العَرَبُ وإمّا الرُّومُ.
فَإنَّ العَرَبَ بَنُو إسْماعِيلَ والرُّومُ بَنُو العِيصِ، وهَؤُلاءِ إخْوَةُ بَنِي إسْرائِيلَ، فَأمّا الرُّومُ فَلَمْ يَقُمْ مِنهم نَبِيٌّ سِوى أيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ وكانَ قَبْلَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هو الَّذِي بَشَّرَتْ بِهِ التَّوْراةُ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا العَرَبُ وهو ابْنُ إسْماعِيلَ وهم إخْوَةُ بَنِي إسْرائِيلَ.
وَقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى في التَّوْراةِ حِينَ ذَكَرَ إسْماعِيلَ جَدَّ العَرَبِ: أنَّهُ يَضَعُ فُسْطاطَهُ في وسَطِ بِلادِ إخْوَتِهِ وهم بَنُو إسْرائِيلَ.
وَهَذِهِ بِشارَةٌ بِنُبُوَّةِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي نَصَبَ فُسْطاطَهُ، ومُلْكُ أُمَّتِهِ في وسَطِ بِلادِ بَنِي إسْرائِيلَ، وهي الشّامُ الَّتِي هي مَظْهَرُ مُلْكِهِ كَما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ومُلْكُهُ بِالشّامِ.
فَقالَ لَهُ اليَهُودِيُّ: فَعِنْدَكم في القُرْآنِ: ﴿وَإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْبًا﴾، ﴿وَإلى عادٍ أخاهم هُودًا﴾، ﴿وَإلى ثَمُودَ أخاهم صالِحًا﴾
والعَرَبُ تَقُولُ: يا أخا تَمِيمٍ لِواحِدٍ مِنهُمْ، فَهَذا قَوْلُهُ: أُقِيمَ لِبَنِي إسْرائِيلَ مِن إخْوَتِهِمْ.
قالَ المُسْلِمُ: الفَرْقُ بَيْنَ المَوْضِعَيْنِ ظاهِرٌ، فَإنَّهُ مِنَ المُحالِ أنْ يُقالَ: بَنُو إسْرائِيلَ إخْوَةُ بَنِي إسْرائِيلَ وبَنِي تَمِيمٍ إخْوَةُ بَنِي تَمِيمٍ وبَنِي هاشِمٍ إخْوَةُ بَنِي هاشِمٍ، وهَذا ما لا يُعْقَلُ في لُغَةِ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ، بِخِلافِ قَوْلِكَ: زِيدٌ أخُو بَنِي تَمِيمٍ، وهو أخُو عادٍ، وصالِحٌ أخُو ثَمُودَ أيْ واحِدٌ مِنهُمْ، فَهو أخُوهم في النَّسَبِ، ولَوْ قِيلَ: عادٌ أخُو عادٍ، وثَمُودُ أخُو ثَمُودَ، ومَدْيَنُ أخُو مَدْيَنَ، لَكانَ نَقْصًا، وكانَ نَظِيرَ قَوْلِكَ بَنُو إسْرائِيلَ إخْوَةُ بَنِي إسْرائِيلَ، فاعْتِبارُ أحَدِ المَوْضِعَيْنِ بِالآخَرِ صَرِيحٌ.
قالَ اليَهُودِيُّ: أخْبَرَ أنَّهُ سَيُقِيمُ هَذا النَّبِيَّ لِبَنِي إسْرائِيلَ، ومُحَمَّدٌ إنَّما أُقِيمَ لِلْعَرَبِ ولَمْ يُقَمْ لِبَنِي إسْرائِيلَ، فَهَذا الِاخْتِصاصُ يُشْعِرُ بِأنَّهُ مَبْعُوثٌ إلَيْهِمْ لا إلى غَيْرِهِمْ.
قالَ المُسْلِمُ: هَذا مِن دَلائِلِ صِدْقِهِ، فَإنَّهُ ادَّعى أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إلى أهْلِ الأرْضِ كِتابَيِّهِمْ وأُمِّيِّهِمْ، ونَصَّ اللَّهُ في التَّوْراةِ عَلى أنَّهُ يُقِيمُهُ لَهم لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّهُ مُرْسَلٌ إلى العَرَبِ والأُمِّيِّينَ خاصَّةً، والنَّبِيُّ ﷺ خُصَّ بِالذِّكْرِ لِحاجَةِ المُخاطَبِ إلى ذِكْرِهِ، ولِئَلّا يَتَوَهَّمَ السّامِعُ أنَّهُ غَيْرُ مُرادٍ بِاللَّفْظِ العامِ ولا داخِلٌ فِيهِ، ولِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ ما عَداهُ أوْلى بِحُكْمِهِ ولِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَقاصِدِ. فَكانَ في تَعْيِينِ بَنِي إسْرائِيلَ إزالَةٌ لِوَهْمِ مَن تَوَهَّمَ أنَّهُ مَبْعُوثٌ إلى العَرَبِ خاصَّةً، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أتاهم مِن نَذِيرٍ مِن قَبْلِكَ﴾ وهَؤُلاءِ قَوْمُهُ، ولَمْ يَنْفِ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ نَذِيرًا لِغَيْرِهِمْ، فَلَوْ أمْكَنَكَ أنْ تَذْكُرَ عَنْهُ أنَّهُ ادَّعى أنَّهُ رَسُولٌ إلى العَرَبِ خاصَّةً لَكانَ ذَلِكَ حُجَّةً، فَأمّا وقَدْ نَطَقَ كِتابُهُ وعَرَفَ الخاصُّ والعامُ بِأنَّهُ ادَّعى أنَّهُ مُرْسَلٌ إلى بَنِي إسْرائِيلَ وغَيْرِهِمْ فَلا حُجَّةَ لَكَ. قالَ اليَهُودِيُّ: إنَّ أسْلافَنا مِنَ اليَهُودِ كُلَّهُمُ عَلى أنَّهُ ادَّعى ذَلِكَ، ولَكِنَّ العِيسَوِيَّةُ مِنّا تَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيُّ العَرَبِ خاصَّةً، ولَسْنا نَقُولُ بِقَوْلِهِمْ. ثُمَّ التَفَتَ إلَيَّ يَهُودِيٌّ مَعَهُ فَقالَ: نَحْنُ قَدْ جَرى شَأْوُنا عَلى اليَهُودِيَّةِ، وبِاللَّهِ أدْرِي كَيْفَ أتَخَلَّصُ مِن هَذا العَرَبِيِّ، إلّا أنَّهُ أقَلُّ ما يَجِبُ عَلَيْنا أنْ نَأْخُذَ بِهِ أنْفُسَنا النَّهْيُ عَنْ ذِكْرِهِ بِسُوءٍ.
وَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ في الطَّبَقاتِ: حَدَّثَنا مَعْنُ بْنُ عِيسى، حَدَّثَنا مُعاوِيَةُ بْنُ صالِحٍ، عَنْ أبِي فَرْوَةَ، ... عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، أنَّهُ سَألَ كَعْبَ الأحْبارِ: كَيْفَ تَجِدُ نَعْتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في التَّوْراةِ؟ قالَ: نَجِدُهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، ومُهاجَرُهُ إلى طابَةَ، ويَكُونُ مُلْكُهُ بِالشّامِ، لَيْسَ بِفَحّاشٍ ولا صَخّابٍ بِالأسْواقِ، ولا يُكافِئُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، ولَكِنْ يَعْفُو ويَصْفَحُ .... وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدّارِمِيُّ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنا أبُو الأحْوَصِ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أبِي صالِحٍ قالَ: ... قالَ كَعْبٌ: نَجِدُ مَكْتُوبًا في التَّوْراةِ: مُحَمَّدٌ لا فَظٌّ ولا غَلِيظٌ ولا صَخّابٌ بِالأسْواقِ، ولا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ولَكِنْ يَعْفُو ويَغْفِرُ، وأُمَّتُهُ الحَمّادُونَ، يُكَبِّرُونَ اللَّهَ عَلى كُلِّ نَجْدٍ، ويَحْمَدُونَهُ في كُلِّ مَنزِلَةٍ، يَأْتَزِرُونَ عَلى أنْصافِهِمْ، ويَتَوَضَّئُونَ عَلى أطْرافِهِمْ، مُنادِيهِمْ يُنادِيهِمْ في جَوِّ السَّماءِ، صَفُّهم في القِتالِ وصَفُّهم في الصَّلاةِ سَواءٌ، لَهم دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، ومُهاجَرُهُ بِطابَةَ، ومُلْكُهُ بِالشّامِ.
قالَ الدّارِمِيُّ: أخْبَرَنا زَيْدُ بْنُ عَوْفٍ، حَدَّثَنا أبُو عَوانَةَ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ ذَكْوانَ أبِي صالِحٍ، ... عَنْ كَعْبٍ قالَ: في السَّطْرِ الأوَّلِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، عَبْدِي المُخْتارُ، لا فَظٌّ ولا غَلِيظٌ، ولا صَخّابٌ بِالأسْواقِ، ولا يُجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ولَكِنْ يَعْفُو ويَغْفِرُ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ، ومُلْكُهُ بِالشّامِ. وفي السَّطْرِ الثّانِي: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أُمَّتُهُ الحَمّادُونَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ في كُلِّ حالٍ ومَنزِلَةٍ، ويُكَبِّرُونَهُ عَلى كُلِّ شَرَفٍ، رُعاةُ الشَّمْسِ، يُصَلُّونَ الصَّلاةَ إذا جاءَ وقْتُها ولَوْ كانُوا عَلى رَأْسِ كُناسَةٍ، يَأْتَزِرُونَ عَلى أوْساطِهِمْ، ويُوَضِّئُونَ أطْرافَهُمْ، وأصْواتُهم بِاللَّيْلِ في جَوِّ السَّماءِ أصْواتُ النَّحْلِ ....
وَقالَ عاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتادَةَ، ... عَنْ نَمْلَةَ بْنِ أبِي نَمْلَةَ، عَنْ أبِيهِ قالَ: كانَتْ يَهُودُ بَنِي قُرَيْظَةَ يَدْرُسُونَ ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في كُتُبِهِمْ ويُعَلِّمُونَ الوِلْدانَ صِفَتَهُ واسْمَهُ ومُهاجَرَهُ، فَلَمّا ظَهَرَ حَسَدُوا وبَغَوْا ....
وَذَكَرَ أبُو نُعَيْمٍ في دَلائِلِ النُّبُوَّةِ مِن حَدِيثِ سُلَيْمانَ بْنِ سُحَيْمٍ، ورُمَيْحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كِلاهُما عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنْ أبِيهِ، قالَ: سَمِعْتُ أبا مالِكِ بْنَ سِنانٍ، يَقُولُ: جِئْتُ لِبَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ يَوْمًا لِأتَحَدَّثَ فِيهِمْ، ونَحْنُ يَوْمَئِذٍ في هُدْنَةٍ مِنَ الحَرْبِ، فَسَمِعْتُ يُوشَعَ اليَهُودِيَّ، يَقُولُ: أظَلَّ خُرُوجُ نَبِيٍّ يُقالُ لَهُ: أحْمَدُ يَخْرُجُ مِنَ الحَرَمِ، فَقالَ لَهُ خَلِيفَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الأشْهَلِيُّ كالمُسْتَهْزِئِ بِهِ: ما صِفَتُهُ؟ فَقالَ: رَجُلٌ لَيْسَ بِالقَصِيرِ ولا بِالطَّوِيلِ، في عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ، يَلْبَسُ الشَّمْلَةَ، ويَرْكَبُ الحِمارَ، وهَذا البَلَدُ مُهاجَرُهَ، قالَ: فَرَجَعْتُ إلى قَوْمِي بَنِي خُدْرَةَ، وأنا يَوْمَئِذٍ أتَعَجَّبُ مِمّا يَقُولُ يُوشَعُ، فَأسْمَعُ رَجُلًا مِنّا يَقُولُ: (هَذا وحْدَهُ يَقُولُهُ؟!) كُلُّ يَهُودِ يَثْرِبَ تَقُولُ هَذا، قالَ أبِي: فَخَرَجْتُ حَتّى جِئْتُ يَهُودَ بَنِي قُرَيْظَةَ فَتَذاكَرُوا النَّبِيَّ ﷺ، فَقالَ الزُّبَيْرُ بْنُ باطا: قَدْ طَلَعَ الكَوْكَبُ الأحْمَرُ الَّذِي لَمْ يَطْلُعُ إلّا بِخُرُوجِ نَبِيٍّ وظُهُورِهِ، ولَمْ يَبْقَ أحَدٌ إلّا أحْمَدَ هَذِهِ مُهاجَرُهُ.
قالَ أبُو سَعِيدٍ: فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ أخْبَرَهُ أبِي هَذا الخَبَرَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَوْ أسْلَمَ الزُّبَيْرُ وذَوُوهُ مِن رُؤَساءِ يَهُودَ لَأسْلَمَتْ يَهُودُ كُلُّها، إنَّما هم لَهم تَبَعٌ.
وَقالَ النَّضْرُ بْنُ سَلَمَةَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ إبْراهِيمَ، عَنْ صالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، ... عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قالَ: لَمْ يَكُنْ في بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ إلّا يَهُودِيٌّ واحِدٌ يُقالُ لَهُ يُوشَعُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وإنِّي لِغُلامٌ: قَدْ أظَلَّكم خُرُوجُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ مِن نَحْوِ هَذا البَيْتِ، ثُمَّ أشارَ بِيَدِهِ إلى نَحْوِ بَيْتِ اللَّهِ الحَرامِ، فَمَن أدْرَكَهُ فَلْيُصَدِّقْهُ، فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأسْلَمْنا وهو بَيْنَ أظْهُرِنا ولَمْ يُسْلِمْ حَسَدًا وبَغْيًا ....
قالَ النَّضْرُ: وحَدَّثَنا عَبْدُ الجَبّارِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ العامِرِيِّ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ يَسارٍ، عَنْ عُمارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثابِتٍ، قالَ: ما كانَ في الأوْسِ والخَزْرَجِ رَجُلٌ أوْصَفُ لِمُحَمَّدٍ مِن أبِي عامِرٍ الرّاهِبِ، كانَ يَأْلَفُهُ اليَهُودُ ويَسْألُهم عَنِ الدِّينِ ويُخْبِرُونَهُ بِصِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وأنَّ هَذِهِ دارُ هِجْرَتِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إلى يَهُودِ تَيْما فَأخْبَرُوهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ إلى الشّامِ فَسَألَ النَّصارى فَأخْبَرُوهُ بِصِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وأنَّ مُهاجَرَهُ يَثْرِبُ، فَرَجَعَ أبُو عامِرَ وهو يَقُولُ: أنا عَلى دِينِ الحَنِيفِيَّةِ، وأقامَ مُتَرَهِّبًا ولَبِسَ المُسُوحَ، وزَعَمَ أنَّهُ عَلى دِينِ إبْراهِيمَ وأنَّهُ يَنْتَظِرُ خُرُوجَ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمّا خَرَجَ وظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِ وأقامَ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ. فَلَمّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ المَدِينَةَ حَسَدَهُ وبَغى ونافَقَ، وأتى النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ بِمَ جِئْتَ؟ بِمَ بُعِثْتَ؟ قالَ: بِالحَنِيفِيَّةِ، قالَ: أنْتَ تَخْلِطُها بِغَيْرِها؟ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: أتَيْتُ بِها بَيْضاءَ، أيْنَ ما كانَ يُخْبِرُكَ بِهِ الأحْبارُ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى مِن وصْفِي؟ فَقالَ: لَسْتَ بِالَّذِي وصَفُوا، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: كَذَبْتَ، فَقالَ: ما كَذَبْتُ، فَقالَ الرَّسُولُ ﷺ: الكاذِبُ أماتَهُ اللَّهُ وحِيدًا طَرِيدًا، قالَ: آمِينَ، ثُمَّ رَجَعَ إلى مَكَّةَ وكانَ مَعَ قُرَيْشٍ يَتْبَعُ دِينَهم وتَرَكَ ما كانَ عَلَيْهِ، فَلَمّا أسْلَمْ أهْلُ الطّائِفِ لَحِقَ بِالشّامِ فَماتَ بِها طَرِيدًا غَرِيبًا وحِيدًا.
وَقالَ الواقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ في جَماعَةٍ، كُلٌّ حَدَّثَنِي بِطائِفَةٍ مِنَ الحَدِيثِ، ... عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أنَّهُ دَخَلَ عَلى المُقَوْقِسِ، وأنَّهُ قالَ لَهُ: إنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، ولَوْ أصابَ القِبْطُ والرُّومُ اتَّبَعُوهُ، قالَ المُغَيَّرَةُ: فَأقَمْتُ بِالإسْكَنْدَرِيَّةِ لا أدَعُ كَنِيسَةً إلّا دَخَلْتُها، وسَألْتُ أساقِفَتَها مِن قِبْطِها ورُومِها عَمّا يَجِدُ مِن صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ. وكانَ أُسْقُفٌّ مِنَ القِبْطِ وهو رَأْسُ كَنِيسَةِ أبِي مُحَيِّسٍ، كانُوا يَأْتُونَ بِمَرْضاهم فَيَدْعُو لَهُمْ، لَمْ أرَ أحَدًا لا يُصَلِّي الخَمْسَ أشَدَّ اجْتِهادًا مِنهُ، فَقُلْتُ: أخْبِرْنِي هَلْ بَقِيَ أحَدٌ مِنَ الأنْبِياءِ؟ قالَ: نَعَمْ وهو آخِرُهم لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَ عِيسى أحَدٌ، وهو نَبِيٌّ قَدْ أمَرَنا عِيسى بِاتِّباعِهِ، وهو النَّبِيُّ الأُمِّيُّ العَرَبِيُّ، اسْمُهُ أحْمَدُ، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ ولا بِالقَصِيرِ، في عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ، ولَيْسَ بِالأبْيَضِ ولا بِالآدَمِ يُعْفِي شَعْرَهُ، ويَلْبَسُ ما غَلُظَ مِنَ الثِّيابِ، ويَجْتَزُّ بِما لَقِيَ مِنَ الطَّعامِ، سَيْفُهُ عَلى عاتِقِهِ، ولا يُبالِي مَن لاقاهُ يُباشِرُ القِتالَ بِنَفْسِهِ، ومَعَهُ أصْحابُهُ يَفْدُونَهُ بِأنْفُسِهِمْ، هم لَهُ أشَدُّ حُبًّا مِن أوْلادِهِمْ وآبائِهِمْ، يَخْرُجُ مِن أرْضِ القَرَظِ، ومِن حَرَمٍ يَذْهَبُ إلى حَرَمٍ، يُهاجِرُ إلى أرْضِ سَبِخَةٍ ونَخْلٍ، يَدِينُ بِدِينِ إبْراهِيمَ، يَأْتَزِرُ عَلى وسَطِهِ، ويَغْسِلُ أطْرافَهُ، ويُخَصُّ بِما لَمْ يُخَصَّ بِهِ الأنْبِياءُ قَبْلَهُ، وكانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ وبُعِثَ إلى النّاسِ كافَّةً، وجُعِلَتْ لَهُ الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، أيْنَما أدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ تَيَمَّمَ وصَلّى، ومَن كانَ قَبْلَهم مُشْدُدٌ عَلَيْهِمْ، لا يُصَلُّونَ إلّا في الكَنائِسِ والبِيَعِ ....
وَقالَ الطَّبَرانِيُّ: حَدَّثَنا عَلَيُّ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجاءٍ، حَدَّثَنا المَسْعُودِيُّ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ هِشامِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أبِيهِ، ... عَنْ جَدِّهِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، أنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو، ووَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ خَرَجا يَلْتَمِسانِ الدِّينَ حَتّى انْتَهَيا إلى راهِبٍ بِالمَوْصِلِ، فَقالَ لِزَيْدٍ: مَن أيْنَ أقْبَلْتَ؟ قالَ: مِن بَيْتِ إبْراهِيمَ، قالَ: وما تَلْتَمِسُ؟ قالَ: ألْتَمِسُ الدِّينَ، قالَ: ارْجِعْ فَإنَّهُ يُوشِكُ أنْ يَظْهَرَ الَّذِي تُطالِبُ في أرْضِكَ، فَرَجَعَ وهو يَقُولُ: لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا، تَعَبُّدًا ورِقًّا.
وَقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ في كِتابِ الأعْلامِ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنا العَلاءُ بْنُ الفَضْلِ، حَدَّثَنِي أبِي، عَنْ أبِيهِ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ أبِي سَوِيَّةَ، ... عَنْ أبِيهِ خَلِيفَةَ بْنِ عَبْدَةَ المَنقِرِيِّ، قالَ: سَألْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَدِيٍّ: كَيْفَ سَمّاكَ أبُوكَ مُحَمَّدًا؟ قالَ: أما إنِّي قَدْ سَألْتُ أبِي عَمّا سَألْتَنِي عَنْهُ، فَقالَ: خَرَجْتُ رابِعَ أرْبَعَةٍ مِن بَنِي تَمِيمٍ أنا أحَدُهم وسُفْيانُ بْنُ مُجاشِعِ بْنِ دارِمٍ، ويَزِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ، وأُسامَةُ بْنُ مالِكِ بْنِ جُنْدُبٍ نُرِيدُ ابْنَ جَفْنَةَ الغَسّانِيَّ، فَلَمّا قَدِمْنا الشّامَ نَزَلْنا عَلى غَدِيرٍ فِيهِ شَجَراتٌ وقَرْيَةُ دِيرانِيٍّ فَأشْرَفَ عَلَيْنا، وقالَ: إنَّ هَذِهِ اللُّغَةَ ما هي لِأهْلِ هَذا البَلَدِ، قُلْنا: نَعَمْ نَحْنُ قَوْمٌ مِن مُضَرَ، قالَ: مِن أيِّ المُضَرِيِّينَ؟ قُلْنا: مِن خِنْدَفٍ، قالَ: أمّا إنَّهُ سَيُبْعَثُ مِنكم وشِيكًا نَبِيٌّ، فَسارِعُوا إلَيْهِ وخُذُوا بِحَظِّكم مِنهُ تَرْشُدُوا، فَإنَّهُ خاتَمُ النَّبِيِّينَ، واسْمُهُ مُحَمَّدٌ، فَلَمّا انْصَرَفْنا مِن عِنْدِ ابْنِ جَفْنَةَ الغَسّانِيِّ، وصِرْنا إلى أهْلِنا، وُلِدَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنّا غُلامٌ فَسَمّاهُ مُحَمَّدًا.
وَقالَ الإمامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنا رَوْحٌ، حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطاءِ بْنِ السّائِبِ، عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أبِيهِ، قالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الكَنِيسَةَ فَإذا هو بِيَهُودَ، وإذا يَهُودِيٌّ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ التَّوْراةَ، فَلَمّا أتَوْا عَلى صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ أمْسَكُوا، وفي ناحِيَتِها رَجُلٌ مَرِيضٌ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ما لَكم أمْسَكْتُمْ؟ قالَ المَرِيضُ: إنَّهم أتَوْا عَلى صِفَةِ نَبِيٍّ فَأمْسَكُوا، ثُمَّ جاءَ المَرِيضُ يَحْبُو حَتّى أخَذَ التَّوْراةَ، فَقَرَأ حَتّى أتى عَلى صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ: هَذِهِ صِفَتُكَ وصِفَةُ أُمَّتِكَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ ماتَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأصْحابِهِ: خُذُوا أخاكم.
وَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ بْنُ الحُصَيْنِ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ... عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قالَ: لَمّا قَدِمَ تُبَّعٌ المَدِينَةِ ونَزَلَ بِقُباءَ بَعَثَ إلى أحْبارِ اليَهُودِ فَقالَ: إنِّي مُخَرِّبٌ هَذا البَلَدَ حَتّى لا تَقُومَ بِهِ يَهُودِيَّةٌ، ويَرْجِعَ الأمْرُ إلى العَرَبِ، فَقالَ لَهُ شَمْوالُ اليَهُودِيُّ، وهو يَوْمَئِذٍ أعْلَمُهُمْ، أيُّها المَلِكُ! إنَّ هَذا بَلَدٌ يَكُونُ إلَيْهِ مُهاجَرَةُ نَبِيٍّ مِن بَنِي إسْماعِيلَ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، اسْمُهُ أحْمَدُ، وهَذِهِ دارُ هِجْرَتِهِ. وإنَّ مَنزِلَكَ هَذا الَّذِي أنْتَ بِهِ يَكُونُ بِهِ مِنَ القَتْلِ والجِراحِ كَثِيرٌ مِن أصْحابِهِ وفي عَدُوِّهِمْ، قالَ تُبَّعٌ: ومَن يُقاتِلُهُ يَوْمَئِذٍ وهو نَبِيٌّ كَما تَزْعُمُونَ؟ قالَ: يَسِيرُ إلَيْهِ قَوْمُهُ فَيَقْتَتِلُونَ هاهُنا، قالَ: فَأيْنَ قَبْرُهُ، قالَ: بِهَذا البَلَدِ، قالَ: فَإذا قُوتِلَ لِمَن تَكُونُ الدّائِرَةُ؟ قالَ: تَكُونُ لَهُ مَرَّةٌ وعَلَيْهِ مَرَّةٌ، وبِهَذا المَكانِ الَّذِي أنْتَ بِهِ يَكُونُ عَلَيْهِ وتُقْتَلُ أصْحابُهُ قَتْلًا لَمْ يُقْتُلُوهُ في مَوْطِنٍ، ثُمَّ تَكُونُ لَهُ العاقِبَةُ، ويَظْهَرُ فَلا يُنازِعُهُ في هَذا الأمْرِ أحَدٌ، قالَ: وما صِفَتُهُ؟ قالَ: رَجُلٌ لَيْسَ بِالقَصِيرِ ولا بِالطَّوِيلِ، في عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ، يَرْكَبُ البَعِيرَ، ويَلْبَسُ الشَّمْلَةَ، سَيْفُهُ عَلى عاتِقِهِ، لا يُبالِي مَن لاقى مِن أخٍ وابْنِ عَمٍّ أوْ عَمٍّ، حَتّى يَظْهَرَ أمْرُهُ، قالَ تُبَّعٌ: ما إلى هَذِهِ البَلَدِ مِن سَبِيلٍ، وما كانَ يَكُونُ خَرابُها عَلى يَدَيَّ، فَخَرَجَ تُبَّعٌ مُنْصَرِفًا إلى اليَمَنِ.
قالَ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ عَنْ أبِيهِ: ... لَمْ يَمُتْ تُبَّعٌ حَتّى صَدَّقَ بِالنَّبِيِّ ﷺ لِما كانَ يَهُودُ يَثْرِبَ يُخْبِرُونَهُ، وأنَّ تُبَّعَ ماتَ مُسْلِمًا ....
وَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنا عَبْدُ الحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أبِيهِ، قالَ: كانَ الزُّبَيْرُ بْنُ باطا أعْلَمَ اليَهُودِ وكانَ يَقُولُ: إنِّي وجَدْتُ سِفْرًا كانَ أبِي يَكْتُمُهُ عَلَيَّ، فِيهِ ذِكْرُ أحْمَدَ، نَبِيٌّ يَخْرُجُ بِأرْضِ القَرَظِ، صِفَتُهُ كَذا وكَذا، فَيُحَدِّثُ بِهِ الزُّبَيْرُ بَعْدَ أبِيهِ، والنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يُبْعَثْ بَعْدُ فَما هو إلّا أنْ سَمِعَ بِالنَّبِيِّ ﷺ قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ فَعَمَدَ إلى ذَلِكَ السِّفْرِ فَمَحاهُ وكَتَمَ شَأْنَ النَّبِيِّ ﷺ، وقالَ: لَيْسَ بِهِ.
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو: وحَدَّثَنِي الضَّحّاكُ بْنُ عُثْمانَ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمانَ، عَنْ كُرَيْبٍ، ... عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: كانَ يَهُودُ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ وفَدَكٍ وخَيْبَرَ يَجِدُونَ صِفَةَ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَهم قَبْلَ أنْ يُبْعَثَ، وإنَّ دارَ هِجْرَتِهِ بِالمَدِينَةِ، فَلَمّا وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قالَتْ أحْبارُ يَهُودَ: وُلِدَ أحْمَدُ اللَّيْلَةَ، هَذا الكَوْكَبُ قَدْ طَلَعَ، فَلَمّا تَنَبَّأ قالُوا تَنَبَّأ أحْمَدُ، قَدْ طَلَعَ الكَوْكَبُ، كانُوا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ ويُقِرُّونَ بِهِ ويَصِفُونَهُ، فَما مَنَعَهم إلّا الحَسَدُ والبَغْيُ ....
وَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أخْبَرَنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ وغَيْرِهِ، عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبِيهِ، ... عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: سَكَنَ يَهُودِيٌّ بِمَكَّةَ يَبِيعُ بِها تِجاراتٍ، فَلَمّا كانَتْ لَيْلَةُ وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قالَ في مَجْلِسٍ مِن مَجالِسِ قُرَيْشٍ: هَلْ كانَ فِيكم مِن مَوْلُودٍ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ قالُوا: لا نَعْلَمُهُ، قالَ: انْظُرُوا يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، احْصُوا ما أقُولُ لَكُمْ، ولِدَ نَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ أحْمَدُ، وبِهِ شامَةٌ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فِيها شَعَراتٌ، فَتَصَدَّعَ القَوْمُ مِن مَجالِسِهِمْ، وهم يَعْجَبُونَ مِن حَدِيثِهِ، فَلَمّا صارُوا في مَنازِلِهِمْ ذَكَرُوهُ لِأهالِيهِمْ، فَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: وُلِدَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ اللَّيْلَةَ غُلامٌ وسَمّاهُ مُحَمَّدًا، فَأتَوُا اليَهُودِيَّ في مَنزِلِهِ فَقالُوا لَهُ: أعَلِمْتَ أنَّهُ وُلِدَ فِينا اللَّيْلَةَ غُلامٌ؟ فَقالَ: أبَعْدَ خَبَرِي أمْ قَبْلَهُ؟ فَقالُوا: قَبْلَهُ، واسْمُهُ أحْمَدُ، فَقالَ: فاذْهَبُوا بِنا إلَيْهِ، فَخَرَجُوا مَعِي حَتّى أتَوْا أُمَّهُ، فَأخْرَجَتْهُ إلَيْهِمْ، فَرَأى الشّامَةَ في ظَهْرِهِ، فَغُشِيَ عَلَيْهِ - أيِ اليَهُودِيُّ -، فَلَمّا أفاقَ، قالُوا: ما لَكَ؟ ويْلَكَ! فَقالَ: ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، وخَرَجَ الكِتابُ مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ، وفازَتِ العَرَبُ بِالنُّبُوَّةِ، أفَرِحْتُمْ يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ؟ أما واللَّهِ لَيَسْطُوَنَّ بِكم سَطْوَةً يَخْرُجُ نَبَؤُها مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ ....
قالَ ابْنُ سَعْدٍ: وأخْبَرَنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُجاهِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ، عَنْ سالِمٍ مَوْلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: أتى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْتَ المِدْراسِ، فَقالَ: أخْرِجُوا إلَيَّ أعْلَمَكُمْ، فَقالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيا، فَخَلا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَناشَدَهُ بِدِينِهِ وبِما أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وأطْعَمَهم مِنَ المَنِّ والسَّلْوى، وظَلَّلَهم مِنَ الغَمامِ، أتَعْلَمُ أنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، وإنَّ القَوْمَ لَيَعْرِفُونَ ما أعْرِفُ، وإنَّ صِفَتَكَ ونَعْتَكَ لَبَيِّنٌ في التَّوْراةِ ولَكِنْ حَسَدُوكَ، قالَ: فَما يَمْنَعُكَ أنْتَ؟ قالَ: أكْرَهُ خِلافَ قَوْمِي عَسى أنْ يَتَّبِعُوكَ ويُسْلِمُوا فَأُسْلِمَ
وَقالَ أبُو الشَّيْخِ الأصْبَهانِيُّ: حَدَّثَنا أبُو يَحْيى الرّازِيُّ، حَدَّثَنا سُهَيْلُ بْنُ عُثْمانَ، حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ داوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قالَ: قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: كُنْتُ آتِي اليَهُودَ عِنْدَ دِراسَتِهِمُ التَّوْراةَ، فَأعْجَبُ مِن مُوافَقَةِ التَّوْراةِ القُرْآنَ، ومُوافَقَةِ القُرْآنَ لِلتَّوْراةِ، فَقالُوا: يا عُمَرُ، ما أحَدٌّ أحَبُّ إلَيْنا مِنكَ لِأنَّكَ تَغْشانا، قُلْتُ: إنَّما أجِيءُ لِأعْجَبَ مِن تَصْدِيقِ كِتابِ اللَّهِ بَعْضِهِ بَعْضًا، فَبَيْنا أنا عِنْدَهم ذاتَ يَوْمٍ إذْ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقالُوا: هَذا صاحَبُكَ، فَقُلْتُ: أنْشُدُكُمُ اللَّهَ وما أنْزَلَ عَلَيْكم مِنَ الكِتابِ، أتَعْلَمُونَ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقالَ سَيِّدُهُمْ: إنَّهُ قَدْ نَشَدَكُمُ اللَّهَ فَأخْبِرُوهُ، فَقالُوا: أنْتَ سَيِّدُنا فَأخْبِرْهُ، فَقالَ: إنّا نَعْلَمُ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، قَلَتْ: فَأنّى أهْلَكَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ تَتَّبِعُوهُ؟ قالُوا: إنَّ لَنا عَدُوًّا مِنَ المَلائِكَةِ وسِلْمًا مِنَ المَلائِكَةِ، عَدُوُّنا جِبْرِيلُ وهو مَلَكُ الفَظاظَةِ والغِلْظَةِ، وسِلْمُنا مِيكائِيلُ وهو مَلَكُ الرَّأْفَةِ والرَّحْمَةِ واللِّينِ. وجِبْرِيلُ صاحِبُهُ، قُلْتُ: فَإنِّي أشْهَدُ ما يَحِلُّ لِجِبْرِيلَ أنْ يُعادِيَ سِلْمَ مِيكائِيلَ، ولا لِمِيكائِيلَ أنْ يُعادِيَ سِلْمَ جِبْرِيلَ، ولا أنْ يُسالِمَ عَدُوَّهَ، ثُمَّ قُمْتُ فاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: ألا أُقْرِئُكَ آياتٍ نَزَلَتْ عَلَيَّ قُلْتُ: قُلْ، فَتَلا مَن كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ الآيَةَ، فَقُلْتُ: والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ نَبِيًّا ما جِئْتُ إلّا لِأُخْبِرُكَ بِقَوْلِ اليَهُودِ، قالَ عُمَرُ: فَلَقَدْ رَأيْتُنِي أشَدَّ في دِينِ اللَّهِ مِن حَجَرٍ.
وَذَكَرَ أبُو نُعَيْمٍ مِن ... حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، قالَ: رَغِبْتُ عَنْ آلِهَةِ قَوْمِي في الجاهِلِيَّةِ، ورَأيْتُ أنَّها عَلى الباطِلِ يَعْبُدُونَ الحَجَرَةَ وهي لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، فَلَقِيَتْ رَجُلًا مِن أهْلِ الكِتابِ فَسَألْتُهُ عَنْ أفْضَلِ الدِّينِ؟ فَقالَ: يَخْرُجُ رَجُلٌ مِن مَكَّةَ ويَرْغَبُ عَنْ آلِهَةِ قَوْمِهِ، ويَأْتِي بِأفْضَلِ الدَّيْنِ، فَإذا سَمِعْتَ بِهِ فاتَّبِعْهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِي هَمٌّ إلّا مَكَّةَ آتِيها فَأسْألُ: هَلْ حَدَثَ فِيها خَبَرٌ؟ فَيَقُولُونَ: لا، فَأنْصَرِفُ إلى أهْلِي، وأعْتَرِضُ الرُّكْبانَ فَأسْألُهم فَيَقُولُونَ: لا، فَإنِّي لَقاعِدٌ إذْ مَرَّ بِي راكِبٌ، فَقُلْتُ: مَن أيْنَ جِئْتَ؟ قالَ: مِن مَكَّةَ، قُلْتُ: هَلْ حَدَثَ حَدَثٌ فِيها؟ قالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ رَغِبَ عَنْ آلِهَةِ قَوْمِهِ ودَعا إلى غَيْرِها، قُلْتُ: صاحِبِي الَّذِي أُرِيدَ، فَشَدَدْتُ راحِلَتِي وجِئْتُ فَأسْلَمْتُ ....
وَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وعَنْ مُقاتِلٍ، عَنِ الضَّحّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أنَّ ثَمانِيَةً مِن أساقِفَةِ نَجْرانَ قَدِمُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنهُمُ العاقِبُ والسَّيِّدُ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: {فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أبْناءَنا وأبْناءَكم ونِساءَنا ونِساءَكم وأنْفُسَنا وأنْفُسَكم ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَقالُوا: أخِّرْنا ثَلاثَةَ أيّامٍ، فَذَهَبُوا إلى بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ وبَنِي قَيْنُقاعَ فاسْتَشارُوهم فَأشارُوا عَلَيْهِمْ أنْ يُصالِحُوهُ ولا يُلاعِنُوهُ، وهو النَّبِيُّ الَّذِي نَجِدُهُ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، فَصالَحُوا النَّبِيَّ ﷺ عَلى ألْفِ حُلَّةٍ في صَفَرٍ، وألْفِ حُلَّةٍ في رَجَبٍ ودَراهِمَ. وقالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أبِي سَلَمٍ، ... عَنْ عِكْرِمَةَ: أنَّ ناسًا مِن أهْلِ الكِتابِ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ قَبْلَ أنْ يُبْعَثَ، فَلَمّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: {فَأمّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهم أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكم فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.
وَقالَ ابْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْماعِيلَ بْنِ أبِي فُدَيْكٍ، عَنْ مُوسى بْنِ يَعْقُوبَ الزَّمَعِيِّ، ... عَنْ سَهْلٍ مَوْلى عَثْمَةَ أنَّهُ كانَ نَصْرانِيًّا، وكانَ يَتِيمًا في حِجْرِ عَمِّهِ وكانَ يَقْرَأُ الإنْجِيلَ، قالَ: فَأخَذْتُ مُصْحَفًا لِعَمِّي فَقَرَأْتُهُ حَتّى مَرَّتْ بِي ورَقَةٌ أنْكَرْتُ قِراءَتَها، فَإذا هي مُلْصَقَةٌ فَفَتَقْتُها فَوَجَدْتُ فِيها نَعْتَ مُحَمَّدٍ ﷺ أنَّهُ لا قَصِيرَ ولا طَوِيلَ، أبْيَضَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ خاتَمُ النُّبُوَّةِ، يُكْثِرُ الِاجْتِباءَ ولا يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ، ويَرْكَبُ الحِمارَ والبَعِيرَ، ويَحْتَلِبُ الشّاةَ، ويَلْبَسُ قَمِيصًا مَرْقُوعًا، وهو مِن ذُرِّيَّةِ إسْماعِيلَ اسْمُهُ أحْمَدُ، قالَ: فَجاءَ عَمِّي فَرَأى الوَرَقَةَ فَضَرَبَنِي، وقالَ: ما لَكَ وفَتْحِ هَذِهِ الوَرَقَةَ: فَقُلْتُ: فِيها نَعْتُ النَّبِيِّ أحْمَدَ، فَقالَ: إنَّهُ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ ....
وَقالَ وهْبٌ: أوْحى اللَّهُ إلى أشْعِيا أنِّي مُبْتَعِثٌ نَبِيًّا أفْتَحُ بِهِ آذانًا صُمًّا وقُلُوبًا غُلْفًا، أجْعَلُ السَّكِينَةَ لِباسَهُ، والبِرَّ شِعارَهُ، والتَّقْوى ضَمِيرَهُ، والحِكْمَةَ مَعْقُولَهُ، والوَقارَ والصِّدْقَ طَبِيعَتَهُ، والعَفْوَ والمَغْفِرَةَ والمَعْرُوفَ خُلُقَهُ، والعَدْلَ سِيرَتَهُ، والحَقَّ شَرِيعَتَهُ، والهُدى إمامَهُ، والإسْلامَ مِلَّتَهُ، وأحْمَدَ اسْمَهُ، أُهْدِي بِهِ بَعْدَ الضَّلالَةِ، وأُعَلِّمُ بِهِ بَعْدَ الجَهالَةِ، وأُكَثِّرُ بِهِ بَعْدَ القِلَّةِ، وأجْمَعُ بِهِ بَعْدَ الفُرْقَةِ، وأُؤَلِّفُ بِهِ بَيْنَ قُلُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وأهْواءٍ مُتَشَتِّتَةٍ وأُمَمٍ مُخْتَلِفَةٍ، وأجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ، وهم رُعاةُ الشَّمْسِ، طُوبى لِتِلْكَ القُلُوبِ ....
وَذَكَرَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا في حَدِيثِ عُثْمانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ... أنَّ رَجُلًا مِن أهْلِ الشّامِ مِنَ النَّصارى قَدِمَ مَكَّةَ، فَأتى عَلى نِسْوَةٍ قَدِ اجْتَمَعَتْ في يَوْمِ عِيدٍ مِن أعْيادِهِمْ، وقَدْ غابَ أزْواجُهُنَّ في بَعْضِ أُمُورِهِمْ، فَقالَ: يا نِساءَ تَيْماءَ إنَّهُ سَيَكُونُ فِيكم نَبِيٌّ يُقالُ لَهُ أحْمَدُ، وأيُّما امْرَأةٍ مِنكُنَّ اسْتَطاعَتْ أنْ تَكُونَ لَهُ فِراشًا فَلْتَفْعَلْ، فَحَفِظَتْ خَدِيجَةُ حَدِيثَهُ ....
وَقالَ عَبْدُ المُنْعِمِ بْنُ إدْرِيسَ، عَنْ أبِيهِ، ... عَنْ وهْبٍ، قالَ في قِصَّةِ داوُدَ، وما أوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ في الزَّبُورِ: يا داوُدُ، إنَّهُ سَيَأْتِي مِن بَعْدَكَ نَبِيٌّ يُسَمّى أحْمَدَ ومُحَمَّدًا، صادِقًا سَيِّدًا، لا أغْضَبُ عَلَيْهِ أبَدًا، ولا يُغْضِبُنِي أبَدًا، قَدْ غَفَرْتُ لَهُ قَبْلَ أنْ يُغْضِبَنِي ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأخَّرَ، وأُمَّتُهُ مَرْحُومَةٌ، أُعْطِيهِمْ مِنَ النَّوافِلِ مِثْلَ ما أعْطَيْتُ الأنْبِياءَ، وافْتَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الفَرائِضَ الَّتِي افْتَرَضْتُ عَلى الأنْبِياءِ والرُّسُلِ، حَتّى يَأْتُونِي يَوْمَ القِيامَةِ ونُورُهم مِثْلَ نُورِ الأنْبِياءِ قَبْلَهُمْ، وذَلِكَ أنِّي افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ أنْ يَتَطَهَّرُوا كُلَّ صَلاةٍ كَما افْتَرَضْتُ عَلى الأنْبِياءِ قَبْلَهُمْ، وأمَرْتُهم بِالحَجِّ كَما أمَرْتُ الأنْبِياءَ قَبْلَهُمْ، وأمَرْتُهم بِالجِهادِ كَما أمَرْتُ الرُّسُلَ قَبْلَهُمْ، يا داوُدُ إنِّي فَضَّلْتُ مُحَمَّدًا وأُمَّتَّهُ عَلى الأُمَمِ كَما أعْطَيْتُهم سِتَّ خِصالٍ لَمْ أُعْطِها غَيْرَهم مِنَ الأُمَمِ، لا أُؤاخِذُهم بِالخَطَأِ والنِّسْيانِ، وكُلُّ ذَنْبٍ رَكِبُوهُ عَلى غَيْرِ عَمْدٍ إذا اسْتَغْفَرُونِي مِنهُ غَفَرْتُهُ لَهُمْ، وما قَدَّمُوا لِآخِرَتِهِمْ مِن شَيْءٍ، طَيِّبَةٌ بِهِ أنْفُسُهُمْ، عَجَّلْتُ لَهم أضْعافًا مُضاعَفَةً، ولَهم عِنْدِي في المَدْخُورِ أضْعافًا مُضاعِفَةً، وأفْضَلُ مِن ذَلِكَ، وأعْطَيْتُهم عَلى المَصائِبِ إذا صَبَرُوا واسْتَرْجَعُوا الصَّلاةَ والرَّحْمَةَ والهُدى، وإنْ دَعَوْنِي اسْتَجَبْتُ لَهُمْ، يا داوُدُ، مَن لَقِيَنِي مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا أنا وحْدِي لا شَرِيكَ لِي صادِقًا بِها، فَهو مَعِي في جَنَّتِي وكَرامَتِي، ومَن لَقِيَنِي وقَدْ كَذَّبَ مُحَمَّدًا أوْ كَذَّبَ بِما جاءَ بِهِ، واسْتَهْزَأ بِكِتابِي، صَبَبْتُ عَلَيْهِ في قَبْرِهِ العَذابَ صَبًّا، وضَرَبَتِ المَلائِكَةُ وجْهَهُ ودُبُرَهُ عِنْدَ مَنشَرِهِ في قَبْرِهِ، ثُمَّ أُدْخِلُهُ الدَّرْكَ الأسْفَلَ مِنَ النّارِ ....
وَقالَ عَفّانُ: حَدَّثَنا هَمّامٌ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ زُراةَ بْنِ أوْفى، ... عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مالِكٍ أنَّهُ قالَ: شَهِدْتُ فَتْحَ تُسْتَرَ مَعَ الأشْعَرِيِّ فَأصَبْنا قَبْرَ دانْيالَ بِالسُّوَيْسِ، وكانُوا إذا اسْتَسْقَوْا خَرَجُوا فاسْتَسْقَوْا بِهِ فَوَجَدُوا مَعَهُ رُقْعَةً فَطَلَبَها نَصْرانِيٌّ مِنَ الحِيرَةِ يُسَمّى نُعَيْمًا فَقَرَأها، وفي أسْفَلِها: ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ وهو في الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ فَأسْلَمَ فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ اثْنانِ وأرْبَعُونَ حَبْرًا، وذَلِكَ في خِلافَةِ مُعاوِيَةَ فَأتْحَفَهم وأعْطاهم. قالَ هَمّامٌ: فَأخْبَرَنِي بِسْطامُ بْنُ مُسْلِمٍ أنَّ مُعاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ قالَ: تَذاكَرْنا الكِتابَ إلى ما صارَ، فَمَرَّ عَلَيْنا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ فَدَعَوْناهُ، فَقالَ: عَلى الخَبِيرِ سَقَطْتَ، إنَّ الكِتابَ كانَ عِنْدَ كَعْبٍ فَلَمّا احْتُضِرَ قالَ: ألا أئْتَمِنَهُ عَلى أمانَةٍ يُؤَدِّيها؟ قالَ شَهْرٌ: فَقالَ ابْنُ عَمٍّ لِي يُكَنّى أبا لَبِيدٍ: أنا، فَدَفَعَ إلَيْهِ الكِتابَ، فَقالَ: إذا بَلَغْتَ مَوْضِعَ كَذا وكَذا فارْكَبْ قَرَقُورامَ ثُمَّ اقْذِفْ بِهِ في البَحْرِ فَفَعَلَ، فانْفَرَجَ الماءُ فَقَذَفَهُ فِيهِ، ورَجَعَ إلى كَعْبٍ فَأخْبَرَهُ، فَقالَ: صَدَقْتَ إنَّهُ مِنَ التَّوْراةِ الَّتِي أنْزَلَها اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ.
* [فصل]
قالَ السّائِلُ:
فَإنْ قُلْتُمْ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ، وكَعْبَ الأحْبارِ، ونَحْوَهُما شَهِدُوا لَنا بِذَلِكَ مِن كُتُبِهِمْ، فَهَلّا أتى ابْنُ سَلامٍ وأصْحابُهُ الَّذِينَ أسْلَمُوا بِالنُّسَخِ الَّتِي لَهم كَيْ تَكُونَ شاهِدَةً عَلَيْنا؟ والجَوابُ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ شَواهِدَ النُّبُوَّةِ وآيَتَها لا تَنْحَصِرُ فِيما عِنْدَ أهْلِ الكِتابِ مِن نَعْتِ النَّبِيِّ وصِفَتِهِ، وشَواهِدُها مُتَنَوِّعَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ جِدًّا، ونَعْتُهُ في الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ فَرْدٌ مِن أفْرادِها.
وَجُمْهُورُ أهْلِ الأرْضِ لَمْ يَكُنْ إسْلامُهم عَنِ الشَّواهِدِ والأخْبارِ الَّتِي في كُتُبِكُمْ، وأكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَها ولا سَمِعُوها بَلْ أسْلَمُوا لِلشَّواهِدِ الَّتِي عايَنُوها، والآياتِ الَّتِي شاهَدُوها، وجاءَتْ تِلْكَ الشَّواهِدُ الَّتِي عِنْدَ أهْلِ الكِتابِ مُقَوِّيَةً وعاضِدَةً مِن بابِ تَقْوِيَةِ البِنْيَةِ، وقَدْ تَمَّ النِّصابُ بِدُونِها. فَهَؤُلاءِ العَرَبُ مِن أوَّلِهِمْ إلى آخِرِهِمْ لَمْ يَتَوَقَّفْ إسْلامُهم عَلى مَعْرِفَةِ ما عِنْدَ أهْلِ الكِتابِ مِنَ الشَّواهِدِ، وإنْ كانَ ذَلِكَ قَدْ بَلَغَ بَعْضَهم وسَمِعَهُ مِنهم قَبْلَ النُّبُوَّةِ وبَعْدَها، كَما كانَ الأنْصارُ يَسْمَعُونَ مِنَ اليَهُودِ صِفَةَ النَّبِيِّ ﷺ وبَعْثَهُ ومَخْرَجَهُ، فَلَمّا عايَنُوهُ وأبْصَرُوهُ عَرَفُوهُ بِالنَّعْتِ الَّذِي أخْبَرَهم بِهِ اليَهُودُ فَسَبَقُوهم إلَيْهِ، فَشَرِقَ أعْداءُ اللَّهِ بِرِيقِهِمْ وغُصُّوا بِمائِهِمْ، وقالُوا: لَيْسَ هو الَّذِي كُنّا نَعِدُهم بِهِ.
والعِلْمُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ والمَسِيحِ ومُوسى لا يَتَوَقَّفُ عَلى العِلْمِ بِأنَّ مَن قَبْلَهم أخْبَرَهم وبَشَّرَ بِنُبُوَّتِهِمْ، بَلْ طُرُقُ العِلْمِ بِها مُتَعَدِّدَةٌ، فَإذا عُرِفَتْ نُبُوَّةُ النَّبِيِّ ﷺ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ ووَجَبَ اتِّباعُهُ، وإنْ لَمْ يُعْلَمْ أنَّ مَن قَبْلَهُ بَشَّرَ بِهِ. وإذا عُلِمَتْ نُبُوَّتُهُ بِما قامَ عَلَيْها مِنَ البَراهِينِ، فَإمّا أنْ يَكُونَ تَبْشِيرُ مَن قَبْلُهُ بِهِ لازِمًا لِنُبُوَّتِهِ، وإمّا أنْ لا يَكُونَ لازِمًا، فَإنْ لَمْ يَكُنْ لازِمًا لَمْ يَجِبْ وُقُوعُهُ ولا يَتَوَقَّفْ تَصْدِيقُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ، بَلْ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ بِدُونِهِ، وإنْ كانَ لازِمًا عُلِمَ قَطْعًا أنَّهُ قَدْ وقَعَ، وعَدَمُ نَقْلِهِ إلَيْنا لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ وُقُوعِهِ، إذْ لا يَلْزَمُ مِن وُجُودِ الشَّيْءِ نَقْلُهُ العامِّ ولا الخاصِّ، ولَيْسَ كُلُّ ما أخْبَرَ بِهِ مُوسى والمَسِيحُ وغَيْرُهُما مِنَ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ وصَلَ إلَيْنا، وهَذا مِمّا عُلِمَ بِالِاضْطِرادِ. فَلَوْ قُدِّرَ أنَّ البِشارَةَ بِنُبُوَّتِهِ ﷺ لَيْسَتْ في الكُتُبِ المَوْجُودَةِ بِأيْدِيكُمْ، لَمْ يَلْزَمْ أنْ لا يَكُونَ غَيْرُهُ بَشَّرَ بِهِ، ولَمْ يَنْفَكَّ، ويُمْكِنْ أنْ يَكُونَ في كُتُبٍ غَيْرِ هَذِهِ المَشْهُورَةِ المُتَداوَلَةِ بَيْنَكُمْ، فَلَمْ تَزَلْ عِنْدَ كُلِّ أُمَّةٍ كُتُبٌ لا يَطَّلِعُ عَلَيْها إلّا بَعْضُ خاصَّتِهِمْ، فَضْلًا عَنْ جَمِيعِ عامَّتِهِمْ، ويُمَكِّنُ أنَّهُ كانَ في بَعْضِها فَأُزِيلَ مِنهُ وبُدِّلَ، ونُسِخَتِ النُّسَخُ مِن هَذِهِ الَّتِي قَدْ بُدِّلَتْ واشْتَهَرَتْ، بِحَيْثُ لا يُعْرَفُ غَيْرُها، واخْتَفى أمْرُ تِلْكَ النُّسَخِ الأُولى، وهَذا كُلُّهُ مُمْكِنٌ، لا سِيَّما مِنَ الأُمَّةِ الَّتِي تَواطَأتْ عَلى تَبْدِيلِ دِينِ نَبِيِّها وشَرِيعَتِهِ، هَذا كُلُّهُ عَلى تَقْدِيرِ عَدَمِ البِشارَةِ بِهِ في شَيْءٍ مِن كُتُبِهِمْ أصْلًا. ونَحْنُ قَدْ ذَكَرْنا مِنَ البِشاراتِ بِهِ في كُتُبِهِمْ ما لا يُمْكِنُ مِنهم جَحْدُهُ والمُكابَرَةُ فِيهِ، وإنْ أمْكَنَهُمُ المُغالَطَةُ بِالتَّأْوِيلِ عِنْدَ رَعاعِهِمْ وجُهّالِهِمْ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ قَدْ قابَلَ اليَهُودَ ووافَقَهم بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى أنَّ ذِكْرَهُ ونَعْتَهُ وصِفَتَهُ في كُتُبِهِمْ، وأنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وقَدْ شَهِدُوا بِأنَّهُ أعْلَمُهم وابْنُ أعْلَمِهِمْ، وخَيْرُهم وابْنُ خَيْرِهِمْ، فَلَمْ يَضُرَّ قَوْلَهم بَعْدَ ذَلِكَ أنَّهُ شَرُّهم وابْنُ شَرِّهِمْ، وجاهِلُهم وابْنُ جاهِلِهِمْ، كَما إذا شَهِدَ عَلى رَجُلٍ شاهِدٌ عِنْدَ الحاكِمِ فَسَألَهُ عَنْهُ فَعَدَّلَهُ وقالَ: إنَّهُ مَقْبُولُ الشَّهادَةِ عَدْلٌ رَضِيٌّ لا يَشْهَدُ إلّا بِالحَقِّ، وشَهادَتُهُ جائِزَةٌ عَلَيَّ، فَلَمّا أدّى الشَّهادَةَ قالَ: إنَّهُ كاذِبٌ شاهِدُ زُورٍ، ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا لا يَقْدَحُ في شَهادَتِهِ. وأمّا كَعْبُ الأحْبارِ فَقَدْ مَلَأ الدُّنْيا مِنَ الأخْبارِ بِما في النُّبُوّاتِ المُتَقَدِّمَةِ مِنَ البِشارَةِ بِهِ، وصَرَّحَ بِها بَيْنَ أظْهُرِ المُسْلِمِينَ واليَهُودَ والنَّصارى، وأذَّنَ بِها عَلى رُءُوسِ المَلَأِ، وصَدَّقَهُ مُسْلِمُو أهْلِ الكِتابِ عَلَيْها، وأخْبَرُوهُ عَلى ما أخْبَرَ بِهِ، فَإنَّهُ كانَ أوْسَعُهم عِلْمًا في كُتُبِ الأنْبِياءِ، وقَدْ كانَ الصَّحابَةُ يَمْتَحِنُونَ ما يَنْقُلُهُ ويُزِنُونَهُ بِما يَعْرِفُونَ صِحَّتَهُ فَيَعْلَمُونَ صِدْقَهُ، وشَهِدُوا لَهُ بِأنَّهُ أصْدَقُ مَن يَحْكُونَ لَهم عَنْ أهْلِ الكِتابِ أوْ مِن أصْدَقِهِمْ.
وَنَحْنُ اليَوْمُ نَنُوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وقَدْ وجَدْنا هَذِهِ البِشاراتِ في كُتُبِكُمْ، وهي شاهِدَةٌ لَنا عَلَيْكُمْ، والكُتُبُ بِأيْدِيكم فَأتُوا بِها فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
وَعِنْدَنا مِمَّنْ وفَّقَهُ اللَّهُ لِلْإسْلامِ مِنكم مَن يُوافِقُكم ويُقابِلُكم ويُحاقِقُكم عَلَيْها، وإلّا فاشْهَدُوا عَلى أنْفُسِكم بِما شَهِدَ اللَّهُ ومَلائِكَتُهُ وأنْبِياؤُهُ ورُسُلُهُ وعِبادُهُ المُؤْمِنُونَ بِهِ عَلَيْكم مِنَ الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ والجَحْدِ لِلْحَقِّ ومُعاداةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّهُ لَوْ أتاكم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ بِكُلِّ نُسْخَةٍ مُتَضَمِّنَةٍ لِغايَةِ البَيانِ والصَّراحَةِ لَكانَ في بَهَتَكم وعِنادِكم وكَذِبِكم ما يَدْفَعُ في وُجُوهِها ويُحَرِّفُها أنْواعَ التَّحْرِيفِ ما وجَدَ إلَيْهِ سَبِيلًا، فَإذا جاءَكم ما لا قِبَلَ لَكم بِهِ قُلْتُمْ لَيْسَ بِهِ، ولَمْ يَأْتِ بَعْدُ، وقُلْتُمْ: نَحْنُ لا نُفارِقُ حُكْمَ التَّوْراةِ، ولا نَتَّبِعُ نَبِيَّ الأُمِّيِّينَ، وقَدْ صَرَّحَ أسْلافُكُمُ الَّذِينَ شاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وعايَنُوهُ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وأنَّهُ المُبَشَّرُ بِهِ المَوْعُودُ بِهِ عَلى ألْسِنَةِ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ، وثُمَّ مَن قالَ لَهُ مِنهم في وجْهِهِ: نَشْهَدُ أنَّكَ نَبِيٌّ، فَقالَ: ما يَمْنَعُكُما مِنَ اتِّباعِي؟، قالَ: إنّا نَخافُ أنْ تَقْتُلَنا يَهُودُ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ولَوْ جاءَتْهم كُلُّ آيَةٍ حَتّى يَرَوُا العَذابَ الألِيمَ﴾.
وَقَدْ جاءَكم آياتٌ هي أعْظَمُ مِن بِشاراتِ الأنْبِياءِ بِهِ وأظْهَرُ، بِحَيْثُ إنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنها يَصْلُحُ أنْ يُؤْمِنَ عَلى مِثْلِها البَشَرُ، فَما زادَكم ذَلِكَ إلّا نُفُورًا وتَكْذِيبًا وإباءً لِقَبُولِ الحَقِّ، فَلَوْ أنْزَلَ إلَيْكم مَلائِكَتَهُ وكَلَّمَكُمُ المَوْتى وشَهِدَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ كُلُّ رَطْبٍ ويابِسٍ لَغَلَبَتْ عَلَيْكُمُ الشِّقْوَةُ وصِرْتُمْ إلى ما سَبَقَ لَكم في أُمِّ الكِتابِ. وقَدْ رَأى مَن كانَ أعْقَلَ مِنكم وأبْعَدَ مِنَ الحَسَدِ مِن آياتِ الأنْبِياءِ ما رَأوْا، وما زادَكم ذَلِكَ إلّا تَكْذِيبًا وعِنادًا، فَأسْلافُكم وقُدْوَتُكم في تَكْذِيبِ الأنْبِياءِ مِنَ الأُمَمِ لا يُحْصِيهِمْ إلّا اللَّهُ، حَتّى كَأنَّكم تَواصَيْتُمْ بِذَلِكَ، أوْصى بِهِ الأوَّلُ لِلْآخِرِ واقْتَدى فِيهِ الآخِرُ بِالأوَّلِ، قالَ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ ما أتى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِن رَسُولٍ إلّا قالُوا ساحِرٌ أوْ مَجْنُونٌ أتَواصَوْا بِهِ بَلْ هم قَوْمٌ طاغُونَ﴾، وهَبْنا أنّا ضَرَبْنا مِن أخْبارِ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ بِهِ صَفْحًا، أفَلَيَسَ في الآياتِ والبَراهِينِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلى يَدَيْهِ ما يَشْهَدُ لِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ؟! وسَنَذْكُرُ مِنها بَعْدَ الفَراغِ مِنَ الأجْوِبَةِ طَرَفًا يَقْطَعُ المَعْذِرَةَ، ويُقِيمُ الحُجَّةَ، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
{"ayah":"وَإِذۡ قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ إِنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُم مُّصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولࣲ یَأۡتِی مِنۢ بَعۡدِی ٱسۡمُهُۥۤ أَحۡمَدُۖ فَلَمَّا جَاۤءَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ قَالُوا۟ هَـٰذَا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق