الباحث القرآني

إنَّ المُشْرِكِينَ قالُوا تَعَنُّتًا في كُفْرِهِمْ ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ يَعْنُونَ: مَلَكًا نُشاهِدُهُ ونَراهُ، يَشْهَدُ لَهُ ويُصَدِّقُهُ، وإلّا فالمَلَكُ كانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالوَحْيِ مِنَ اللَّهِ، فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْ هَذا، وبَيَّنَ الحِكْمَةَ في عَدَمِ إنْزالِ المَلَكِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ بِأنَّهُ لَوْ أنْزَلَ مَلَكًا - كَما اقْتَرَحُوا ولَمْ يُؤْمِنُوا ويُصَدِّقُوهُ - لَعُوجِلُوا بِالعَذابِ، كَما جَرَتْ واسْتَمَرَّتْ بِهِ سُنَّتُهُ تَعالى مَعَ الكُفّارِ في آياتِ الِاقْتِراحِ، إذا جاءَتْهم ولَمْ يُؤْمِنُوا بِها، فَقالَ ﴿وَلَوْ أنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهُ لَوْ أنْزَلَ مَلَكًا - كَما اقْتَرَحُوا - لَما حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُمْ؛ لِأنَّهُ إنْ أنْزَلَهُ في صُورَتِهِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلى التَّلَقِّي عَنْهُ، إذِ البَشَرُ لا يَقْدِرُونَ عَلى مُخاطَبَةِ المَلَكِ ومُباشَرَتِهِ وقَدْ كانَ النَّبِيُّ ﷺ وهو أقْوى الخَلْقِ - إذا نَزَلَ عَلَيْهِ المَلَكُ كَرَبَ لِذَلِكَ، وأخَذَهُ البُرَحاءُ «١»، وتَحَدَّرَ مِنهُ العَرَقُ في اليَوْمِ الشّاتِي، وإنْ جَعَلَهُ في صُورَةِ رَجُلٍ؛ حَصَلَ لَهم لَبْسٌ؛ هَلْ هو رَجُلٌ، أمْ مَلَكٌ؟ فَقالَ تَعالى ﴿وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ولَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ﴾ في هَذِهِ الحالِ ﴿ما يَلْبِسُونَ﴾ عَلى أنْفُسِهِمْ حِينَئِذٍ، فَإنَّهم يَقُولُونَ - إذا رَأوُا المَلَكَ في صُورَةِ الإنْسانِ - هَذا إنْسانٌ، ولَيْسَ بِمَلَكٍ، فَهَذا مَعْنى الآيَةِ. * [فَصْلٌ غَلَطُ السّالِكِينَ في الفَرْقِ الطَّبِيعِيِّ والشَّرْعِيِّ] * فَصْلٌ وأمّا غَلَطُ مَن غَلِطَ مِن أرْبابِ السُّلُوكِ والإرادَةِ في هَذا البابِ فَحَيْثُ ظَنُّوا أنَّ شُهُودَ الحَقِيقَةِ الكَوْنِيَّةِ، والفِناءَ في تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، مِن مَقاماتِ العارِفِينَ، بَلْ أجَلُّ مَقاماتِهِمْ، فَسارُوا شائِمِينَ لِبَرْقِ هَذا الشُّهُودِ، سالِكِينَ لِأوْدِيَةِ الفَناءِ فِيهِ، وحَثَّهم عَلى هَذا السَّيْرِ، ورَغَّبَهم فِيهِ ما شَهِدُوهُ مِن حالِ أرْبابِ الفَرْقِ الطَّبْعِيِّ فَأنِفُوا مِن صُحْبَتِهِمْ في الطَّرِيقِ، ورَأوْا مُفارَقَتَهم فَرْضَ عَيْنٍ لا بُدَّ مِنهُ، فَلَمّا عَرَضَ لَهُمُ الفَرْقُ الشَّرْعِيُّ في طَرِيقِهِمْ، ورَدَ عَلَيْهِمْ مِنهُ أعْظَمُ وارِدٍ فَرَّقَ جَمْعِيَّتَهُمْ، وقَسَّمَ وحْدَةَ عَزِيمَتِهِمْ، وحالَ بَيْنَهم وبَيْنَ عَيْنِ الجَمْعِ، الَّذِي هو نِهايَةُ مَنازِلِ سِيَرِهِمْ، فافْتَرَقَتْ طُرُقُهم في هَذا الوارِدِ العَظِيمِ. فَمِنهم مَنِ اقْتَحَمَهُ ولَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ، وقالَ: الِاشْتِغالُ بِالأوْرادِ عَنْ عَيْنِ المَوْرُودِ انْقِطاعٌ عَنِ الغايَةِ، والقَصْدُ مِنَ الأوْرادِ الجَمْعِيَّةُ عَلى الآخَرِ، فَما الِاشْتِغالُ عَنِ المَقْصُودِ بِالوَسِيلَةِ بَعْدَ الوُصُولِ إلَيْهِ، والرُّجُوعِ مِن حَضْرَتِهِ إلى مَنازِلِ السَّفَرِ إلَيْهِ؟ ورُبَّما أنْشَدَ بَعْضُهُمْ: ؎يُطالَبُ بِالأوْرادِ مَن كانَ غافِلًا ∗∗∗ فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أوْقاتِهِ وِرْدُ فَإذا اضْطُرَّ أحَدُهم إلى التَّفْرِقَةِ بِوارِدِ الأمْرِ، قالَ: يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الفَرْقُ عَلى اللِّسانِ مَوْجُودًا، والجَمْعُ في القَلْبِ مَشْهُودًا. ثُمَّ مِن هَؤُلاءِ مَن يُسْقِطُ الأوامِرَ والنَّواهِيَ جُمْلَةً، ويَرى القِيامَ بِها مِن بابِ ضَبْطِ نامُوسِ الشَّرْعِ، ومَصْلَحَةِ العُمُومِ، ومَبادِئِ السَّيْرِ، فَهي الَّتِي تَحُثُّ أهْلَ الغَفْلَةِ عَلى التَّشْمِيرِ لِلسَّيْرِ، فَإذا جَدَّ في المَسِيرِ اسْتَغْنى بِقُرْبِهِ وجَمْعِيَّتِهِ عَنْها. وَمِنهم مَن لا يَرى سُقُوطَها إلّا عَمَّنْ شَهِدَ الحَقِيقَةَ الكَوْنِيَّةَ، ووَصَلَ إلى مَقامِ الفَناءِ فِيها، فَمَن كانَ هَذا مَشْهَدَهُ سَقَطَ عَنْهُ الأمْرُ والنَّهْيُ عِنْدَهم. وَقَدْ يَقُولُونَ: شُهُودُ الإرادَةِ يُسْقِطُ الأمْرَ، وفي هَذا المَشْهَدِ يَقُولُونَ: العارِفُ لا يَسْتَقْبِحُ قَبِيحَةً، ولا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً. وَيَقُولُ قائِلُهُمُ: العارِفُ لا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، لِاسْتِبْصارِهِ بِسِرِّ اللَّهِ في القَدَرِ. وَيَقُولُونَ: القِيامُ بِالعِبادَةِ مَقامُ التَّلْبِيسِ، ويَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩]. وَهَذا مِن أقْبَحِ الجَهْلِ، فَإنَّ هَذا داخِلٌ في جَوابِ لَوِ الَّتِي يَنْتَفِي بِها المَلْزُومُ - وهو المُقَدَّمُ - لِانْتِفاءِ اللّازِمِ، وهو الجَوابُ، وهو التّالِي، فانْتِفاءُ جَعْلِ الرَّسُولِ مَلِكًا - كَما اقْتَرَحُوهُ - لِانْتِفاءِ التَّلْبِيسِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، والكُفّارُ كانُوا قَدْ قالُوا ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ [الأنعام: ٨] أيْ نُعايِنُهُ ونَراهُ، وإلّا فالمَلَكُ لَمْ يَزَلْ يَأْتِيهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ بِأمْرِهِ ونَهْيِهِ، فَهُمُ اقْتَرَحُوا نُزُولَ مَلَكٍ يُعايِنُونَهُ، فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ عَنِ الحِكْمَةِ الَّتِي لِأجْلِها لَمْ يُجْعَلْ رَسُولُهُ إلَيْهِمْ مِنَ المَلائِكَةِ، ولا أُنْزِلَ مَلَكًا يَرَوْنَهُ، فَقالَ ﴿وَلَوْ أنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ﴾ [الأنعام: ٨] أيْ لَوَجَبَ العَذابُ وفُرِغَ مِنَ الأمْرِ، ثُمَّ لا يُمْهَلُونَ إنْ أقامُوا عَلى التَّكْذِيبِ. وَهَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ في سُورَةِ الحِجْرِ ﴿وَقالُوا ياأيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ [الحجر: ٦] قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ﴿ما نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إلّا بِالحَقِّ وما كانُوا إذًا مُنْظَرِينَ﴾ [الحجر: ٨] والحَقُّ هاهُنا العَذابُ، ثُمَّ قالَ ﴿وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا﴾ [الأنعام: ٩] أيْ لَوْ أنْزَلْنا عَلَيْهِمْ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ في صُورَةِ آدَمِيٍّ، إذْ لا يَسْتَطِيعُونَ التَّلَقِّيَ عَنِ المَلَكِ في صُورَتِهِ الَّتِي هو عَلَيْها، وحِينَئِذٍ فَيَقَعُ اللَّبْسُ مِنّا عَلَيْهِمْ، لِأنَّهم لا يَدْرُونَ أرَجُلٌ هُوَ، أمْ مَلَكٌ؟ ولَوْ جَعَلْناهُ رَجُلًا لَخَلَّطْنا عَلَيْهِمْ، وشَبَّهْنا عَلَيْهِمُ الَّذِي طَلَبُوهُ بِغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: ما يَلْبِسُونَ، فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ جَزاءٌ لَهم عَلى لُبْسِهِمْ عَلى ضُعَفائِهِمْ، والمَعْنى أنَّهم شَبَّهُوا عَلى ضُعَفائِهِمْ، ولَبَّسُوا عَلَيْهِمُ الحَقَّ بِالباطِلِ، فَشُبِّهَ عَلَيْهِمْ، وتَلَبَّسَ عَلَيْهِمُ المَلَكُ بِالرَّجُلِ. والثّانِي: أنّا نَلْبَسُ عَلَيْهِمْ ما لَبِسُوا عَلى أنْفُسِهِمْ، وأنَّهم خَلَّطُوا عَلى أنْفُسِهِمْ، ولَمْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ مِنهُمْ، بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ صِدْقَهُ، وطَلَبُوا رَسُولًا مَلَكِيًّا يُعايِنُونَهُ، وهَذا تَلْبِيسٌ مِنهم عَلى أنْفُسِهِمْ، فَلَوْ أجَبْناهم إلى ما اقْتَرَحُوهُ لَمْ يُؤْمِنُوا عِنْدَهُ، ولَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ لُبْسَهم عَلى أنْفُسِهِمْ. وَأيُّ تَعَلُّقٍ لِهَذا بِالتَّلْبِيسِ الَّذِي ذَكَرَتْهُ هَذِهِ الطّائِفَةُ مِن تَعْلِيقِ الكائِناتِ والمُثَوَّباتِ والعُقُوباتِ بِالأسْبابِ، وتَعْلِيقِ المَعارِفِ بِالوَسائِطِ، والقَضايا بِالحُجَجِ، والأحْكامِ والعِلَلِ، والِانْتِقامِ بِالجِناياتِ، والمُثَوَّباتِ بِالطّاعاتِ، مِمّا هو مَحْضُ الحِكْمَةِ ومُوجَبُها. وَأثَرُ اسْمِهِ الحَكِيمِ في الخَلْقِ والأمْرِ إنَّما قامَ بِالأسْبابِ، وكَذَلِكَ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وكَذَلِكَ الثَّوابِ والعِقابِ، فَجَعْلُ الأسْبابِ مَنصُوبَةً لِلتَّلْبِيسِ مِن أعْظَمِ الباطِلِ شَرْعًا وقَدَرًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب