الباحث القرآني

أي ابتلينا واختبرنا بعضهم ببعض فابتلى الرؤساء والسادة بالأتباع والموالي والضعفاء فإذا نظر الرئيس والمطاع إلى المولى والضعيف أنفة وأنف أن يسلم وقال هذا يمن الله عليه بالهدى والسعادة دوني قال الله تعالى: ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِأعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ﴾ وهم الذين يعرفون النعمة وقدرها ويشكرون الله عليها بالاعتراف والذل والخضوع والعبودية، فلو كانت قلوبكم مثل قلوبهم تعرفون قدر نعمتي وتشكروني عليها وتذكروني بها وتخضعون لي كخضوعهم وتحبوني كحبهم لمننت عليكم كما مننت عليهم ولكن لمنني ونعمي محالّ لا تليق إلا بها ولا تحسن إلا عندها ولهذا يقرن كثيرا بين التخصيص والعلم كقوله هاهنا: ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِأعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ﴾ وقوله: ﴿وَإذا جاءَتْهم آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ وقوله: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ ورَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهم وما يُعْلِنُونَ﴾. * (فصل) وقد أعلمنا سبحانه أن أفعال عباده كلها واقعة بقضائه وقدره وأما قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنا﴾ فلا ريب أن هذا تعليل لفعله المذكور وهو امتحان بعض خلقه ببعض كما امتحن السادات والأشراف بالعبيد والضعفاء والموالي فإذا نظر الشريف والسيد إلى العبد والضعيف والمسكين قد أسلم أنف وحمى أن يسلم معه أو بعده ويقول هذا يسبقني إلى الخير والفلاح وأتخلف أنا فلو كان ذلك خيرا وسعادة ما سبقنا هؤلاء إليه فهذا القول منهم هو بعض الحكم والغاية المطلوبة بهذا الامتحان فإن هذا القول دال على إباء واستكبار وترك الانقياد للحق بعد المعرفة التامة به وهذا وإن كان علة فهو مطلوب لغيره والعلل الغائية تارة تطلب لنفسها وتارة تطلب لغيرها فتكون وسيلة إلى مطلوب لنفسه وقول هؤلاء ما قالوه وما يترتب عليه هذا القول موجب لآثار مطلوبة للفاعل من إظهار عدله وحكمته وعزه وقهره وسلطانه وعطائه من يستحق عطاءه ويحسن وضعه عنده ومنعه من يستحق المنع ولا يليق به غيره ولهذا قال تعالى: ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِأعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ﴾ الذين يعرفون قدر النعمة ويشكرون المنعم عليهم فيما من عليهم من بين من لا يعرفها ولا يشكر ربه عليها وكانت فتنة بعضهم ببعض لحصول هذا التمييز الذي ترتب عليه شكر هؤلاء وكفر هؤلاء. * (فصل) كم لله سبحانه من حكمة وحمد وأمر ونهي وقضاء وقدر في جعل بعض عباده فتنة لبعض كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ﴾ وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنا بَعْضَكم لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ﴾ فهو سبحانه جعل أوليائه فتنة لأعدائه وأعداءه فتنته لأوليائه والملوك فتنة للرعية والرعية فتنة لهم والرجال فتنة للنساء وهن فتنة لهم والأغنياء فتنة للفقراء والفقراء فتنة لهم وابتلى كل أحد بضد جعله متقابلا فما استقرت أقدام الأبوين على الأرض إلا وضدهما مقابلهما واستمر الأمر في الذرية كذلك إلى أن يطوي الله الدنيا ومن عليها وكم له سبحانه في مثل هذا الابتلاء والامتحان من حكمة بالغة ونعمة سابغة وحكم نافذ وأمر ونهي وتصريف دال على ربوبيته وإلهيته وملكه وحمده وكذلك ابتلاء عباده بالخير والشر في هذه الدار هو من كمال حكمته ومقتضى حمده التام. * (فصل) ولولا هذا الابتلاء والامتحان لما ظهر فضل الصبر والرضا والتوكل والجهاد والعفة والشجاعة والحلم والعفو والصفح والله سبحانه يحب أن يكرم أوليائه بهذه الكمالات ويحب ظهورها عليهم ليثني بها عليهم هو وملائكته وينالوا باتصافهم بها غاية الكرامة واللذة والسرور وإن كانت مرة المبادئ فلا أحلى من عواقبها ووجود الملزم بدون لازمه ممتنع وقد أجرى الله سبحانه حكمته بأن كمال الغايات تابعة لقوة أسبابها وكمالها ونقصانها لنقصانها فمن كمل أسباب النعيم واللذة كملت له غاياتها ومن حرمها حرمها ومن نقصها نقص له من غاياتها وعلى هذا قام الجزاء بالقسط والثواب والعقاب، وكفى بهذا العالم شاهدا لذلك فرب الدنيا والآخرة واحد وحكمته مطردة فيهما وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب