الباحث القرآني

* (فائدة) قوله تعالى: ﴿فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها﴾ أنث عدد الأمثال لتأويلها بحسنات. ومثله قراءة أبي العالية: ﴿لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها﴾ بالتاء والفعل مسند إلى الإيمان لكنه طاعة وإثابة في المعنى. * [فَصْلٌ دَرَجاتُ الرِّضا] [الدَّرَجَةُ الأُولى رِضا العامَّةِ] قالَ: وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ. الدَّرَجَةُ الأُولى: رِضا العامَّةِ. وهو الرِّضا بِاللَّهِ رَبًّا، وتَسَخُّطُ عِبادَةِ ما دُونِهِ، وهَذا قُطْبُ رَحى الإسْلامِ. وهو يُطَهِّرُ مِنَ الشِّرْكِ الأكْبَرِ. الرِّضا بِاللَّهِ رَبًّا: أنْ لا يَتَّخِذَ رَبًّا غَيْرَ اللَّهِ تَعالى يَسْكُنُ إلى تَدْبِيرِهِ. ويُنْزِلُ بِهِ حَوائِجَهُ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُلْ أغَيْرَ اللَّهِ أبْغِي رَبًّا وهو رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٦٤] قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: سَيِّدًا وإلَهًا. يَعْنِي فَكَيْفَ أطْلُبُ رَبًّا غَيْرَهُ، وهو رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ؟ وقالَ في أوَّلِ السُّورَةِ ﴿قُلْ أغَيْرَ اللَّهِ أتَّخِذُ ولِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الأنعام: ١٤] يَعْنِي مَعْبُودًا وناصِرًا ومُعِينًا ومَلْجَأً. وهو مِنَ المُوالاةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الحُبَّ والطّاعَةَ. وقالَ في وسَطِها ﴿أفَغَيْرَ اللَّهِ أبْتَغِي حَكَمًا وهو الَّذِي أنْزَلَ إلَيْكُمُ الكِتابَ مُفَصَّلًا﴾ [الأنعام: ١١٤] أيْ: أفَغَيْرَ اللَّهِ أبْتَغِي مَن يَحْكُمُ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ، فَنَتَحاكَمَ إلَيْهِ فِيما اخْتَلَفْنا فِيهِ؟ وهَذا كِتابُهُ سَيِّدُ الحُكّامِ، فَكَيْفَ نَتَحاكَمُ إلى غَيْرِ كِتابِهِ؟ وقَدْ أنْزَلَهُ مُفَصَّلًا، مُبَيَّنًا كافِيًا شافِيًا. وَأنْتَ إذا تَأمَّلْتَ هَذِهِ الآياتِ الثَّلاثَ حَقَّ التَّأمُّلِ، رَأيْتَها هي نَفْسَ الرِّضا بِاللَّهِ رَبًّا، وبِالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ ﷺ رَسُولًا، ورَأيْتَ الحَدِيثَ يُتَرْجِمُ عَنْها، ومُشْتَقًّا مِنها. فَكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ يَرْضى بِاللَّهِ رَبًّا، ولا يَبْغِي رَبًّا سِواهُ، لَكِنَّهُ لا يَرْضى بِهِ وحْدَهُ ولِيًّا وناصِرًا. بَلْ يُوالِي مِن دُونِهِ أوْلِياءَ. ظَنًّا مِنهُ أنَّهم يُقَرِّبُونَهُ إلى اللَّهِ، وأنَّ مُوالاتَهم كَمُوالاةِ خَواصِّ المَلِكِ. وهَذا عَيْنُ الشِّرْكِ. بَلِ التَّوْحِيدُ: أنْ لا يَتَّخِذَ مِن دُونِهِ أوْلِياءَ. والقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِن وصْفِ المُشْرِكِينَ بِأنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ. وَهَذا غَيْرُ مُوالاةِ أنْبِيائِهِ ورُسُلِهِ، وعِبادِهِ المُؤْمِنِينَ فِيهِ. فَإنَّ هَذا مِن تَمامِ الإيمانِ ومِن تَمامِ مُوالاتِهِ. فَمُوالاةُ أوْلِيائِهِ لَوْنٌ واتِّخاذُ الوَلِيِّ مِن دُونِهِ لَوْنٌ. ومَن لَمْ يَفْهَمِ الفُرْقانَ بَيْنَهُما فَلْيَطْلُبِ التَّوْحِيدَ مِن أساسِهِ. فَإنَّ هَذِهِ المَسْألَةَ أصْلُ التَّوْحِيدِ وأساسُهُ. وَكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ يَبْتَغِي غَيْرَهُ حَكَمًا، يَتَحاكَمُ إلَيْهِ، ويُخاصِمُ إلَيْهِ، ويَرْضى بِحُكْمِهِ. وهَذِهِ المَقاماتُ الثَّلاثُ هي أرْكانُ التَّوْحِيدِ: أنْ لا يَتَّخِذَ سِواهُ رَبًّا، ولا إلَهًا، ولا غَيْرَهُ حَكَمًا. وَتَفْسِيرُ الرِّضا بِاللَّهِ رَبًّا: أنْ يَسْخَطَ عِبادَةَ ما دُونَهُ. هَذا هو الرِّضا بِاللَّهِ رَبًّا. وهو مِن تَمامِ الرِّضا بِاللَّهِ رَبًّا. فَمَن أُعْطِيَ الرِّضا بِهِ رَبًّا حَقُّهُ سُخْطُ عِبادَةِ ما دُونَهُ قَطْعًا. لِأنَّ الرِّضا بِتَجْرِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ يَسْتَلْزِمُ تَجْرِيدَ عِبادَتِهِ، كَما أنَّ العِلْمَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ العِلْمَ بِتَوْحِيدِ الإلَهِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وهو قُطْبُ رَحى الإسْلامِ يَعْنِي أنَّ مَدارَ رَحى الإسْلامِ عَلى أنْ يَرْضى العَبْدُ بِعِبادَةِ رَبِّهِ وحْدَهُ، وأنْ يَسْخَطَ عِبادَةَ غَيْرِهِ. وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ العِبادَةَ هي الحُبُّ مَعَ الذُّلِّ. فَكُلُّ مَن ذَلَلْتَ لَهُ وأطَعْتَهُ وأحْبَبْتَهُ دُونَ اللَّهِ، فَأنْتَ عابِدٌ لَهُ. وَقَوْلُهُ: وهو يُطَهِّرُ مِنَ الشِّرْكِ الأكْبَرِ. يَعْنِي أنَّ الشِّرْكَ نَوْعانِ: أكْبَرُ، وأصْغَرُ، فَهَذا الرِّضا يُطَهِّرُ صاحِبَهُ مِنَ الأكْبَرِ. وأمّا الأصْغَرُ: فَيُطَهِّرُ مِنهُ نُزُولُهُ مَنزِلَةَ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]. * (فَصْلٌ) قالَ وهو يَصِحُّ بِثَلاثَةِ شُرُوطٍ: أنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أحَبَّ الأشْياءِ إلى العَبْدِ. وأوْلى الأشْياءِ بِالتَّعْظِيمِ، وأحَقَّ الأشْياءِ بِالطّاعَةِ. يَعْنِي أنَّ هَذا النَّوْعَ مِنَ الرِّضا إنَّما يَصِحُّ بِثَلاثَةِ أشْياءَ أيْضًا. أحَدُها: أنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أحَبَّ شَيْءٍ إلى العَبْدِ. وهَذِهِ تُعْرَفُ بِثَلاثَةِ أشْياءَ أيْضًا. أحَدُها: أنْ تَسْبِقَ مَحَبَّتُهُ إلى القَلْبِ كُلَّ مَحَبَّةٍ. فَتَتَقَدَّمَ مَحَبَّتُهُ المَحابَّ كُلَّها. الثّانِي: أنْ تَقْهَرَ مَحَبَّتُهُ كُلَّ مَحَبَّةٍ. فَتَكُونَ مَحَبَّتُهُ إلى القَلْبِ سابِقَةً قاهِرَةً، ومَحَبَّةُ غَيْرِهِ مُتَخَلِّفَةً مَقْهُورَةً مَغْلُوبَةً مُنْطَوِيَةً في مَحَبَّتِهِ. الثّالِثُ: أنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ غَيْرِهِ تابِعَةً لِمَحَبَّتِهِ. فَيَكُونَ هو المَحْبُوبَ بِالذّاتِ والقَصْدَ الأوَّلَ. وغَيْرُهُ مَحُبُوبًا تَبَعًا لِحُبِّهِ. كَما يُطاعُ تَبَعًا لِطاعَتِهِ. فَهو في الحَقِيقَةِ المُطاعُ المَحْبُوبُ. وَهَذِهِ الثَّلاثَةُ في كَوْنِهِ أوْلى الأشْياءِ بِالتَّعْظِيمِ والطّاعَةِ أيْضًا. فالحاصِلُ: أنْ يَكُونَ اللَّهُ وحْدَهُ المَحْبُوبَ المُعَظَّمَ المُطاعَ. فَمَن لَمْ يُحِبَّهُ ولَمْ يُطِعْهُ. ولَمْ يُعَظِّمْهُ: فَهو مُتَكَبِّرٌ عَلَيْهِ. ومَتى أحَبَّ مَعَهُ سِواهُ، وعَظَّمَ مَعَهُ سِواهُ، وأطاعَ مَعَهُ سِواهُ: فَهو مُشْرِكٌ. ومَتى أفْرَدَهُ وحْدَهُ بِالحُبِّ والتَّعْظِيمِ والطّاعَةِ فَهو عَبْدٌ مُوَحِّدٌ. واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ. * [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ الرِّضا عَنِ اللَّهِ] قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: الرِّضا عَنِ اللَّهِ. وبِهَذا نَطَقَتْ آياتُ التَّنْزِيلِ. وهو الرِّضا عَنْهُ في كُلِّ ما قَضى وقَدَّرَ. وهَذا مِن أوائِلِ مَسالِكِ أهْلِ الخُصُوصِ. وَفِي الحَدِيثِ الإلَهِيِّ الصَّحِيحِ «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أداءِ ما افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» فَدَلَّ عَلى أنَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ سُبْحانَهُ بِأداءِ فَرائِضِهِ أفْضَلُ وأعْلى مِنَ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِالنَّوافِلِ. وَأيْضًا: فَإنَّ الرِّضا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ الرِّضا عَنْهُ، ويَسْتَلْزِمُهُ. فَإنَّ الرِّضا بِرُبُوبِيَّتِهِ: هو رِضا العَبْدِ بِما يَأْمُرُهُ بِهِ، ويَنْهاهُ عَنْهُ، ويَقْسِمُهُ لَهُ ويُقَدِّرُهُ عَلَيْهِ، ويُعْطِيهِ إيّاهُ، ويَمْنَعُهُ مِنهُ. فَمَتى لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَضِيَ بِهِ رَبًّا مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ. وإنْ كانَ راضِيًا بِهِ رَبًّا مِن بَعْضِها. فالرِّضا بِهِ رَبًّا مِن كُلِّ وجْهٍ: يَسْتَلْزِمُ الرِّضا عَنْهُ، ويَتَضَمَّنُهُ بِلا رَيْبٍ. وَأيْضًا: فالرِّضا بِهِ رَبًّا مُتَعَلِّقٌ بِذاتِهِ، وصِفاتِهِ وأسْمائِهِ، ورُبُوبِيَّتِهِ العامَّةِ والخاصَّةِ، فَهو الرِّضا بِهِ خالِقًا ومُدَبِّرًا، وآمِرًا وناهِيًا، ومَلِكًا، ومُعْطِيًا ومانِعًا، وحَكَمًا، ووَكِيلًا ووَلِيًّا، وناصِرًا ومُعِينًا، وكافِيًا وحَسِيبًا ورَقِيبًا، ومُبْتَلِيًا ومُعافِيًا، وقابِضًا وباسِطًا، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن صِفاتِ رُبُوبِيَّتِهِ. وَأمّا الرِّضا عَنْهُ: فَهو رِضا العَبْدِ بِما يَفْعَلُهُ بِهِ، ويُعْطِيهِ إيّاهُ، ولِهَذا لَمْ يَجِئْ إلّا في الثَّوابِ والجَزاءِ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [الفجر: ٢٧] فَهَذا بِرِضاها عَنْهُ لِما حَصَلَ لَها مِن كَرامَتِهِ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خالِدِينَ فِيها أبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: ٨]. والرِّضا بِهِ: أصْلُ الرِّضا عَنْهُ، والرِّضا عَنْهُ: ثَمَرَةُ الرِّضا بِهِ. وَسِرُّ المَسْألَةِ: أنَّ الرِّضا بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ. والرِّضا عَنْهُ: مُتَعَلِّقٌ بِثَوابِهِ وجَزائِهِ. وَأيْضًا: فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّقَ ذَوْقَ طَعْمِ الإيمانِ بِمَن رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا. ولَمْ يُعَلِّقْهُ بِمَن رَضِيَ عَنْهُ، كَما قالَ ﷺ «ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَن رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وبِالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ ﷺ رَسُولًا.». فَجَعَلَ الرِّضا بِهِ قَرِينَ الرِّضا بِدِينِهِ ونَبِيِّهِ. وهَذِهِ الثَّلاثَةُ هي أُصُولُ الإسْلامِ، الَّتِي لا يَقُومُ إلّا بِها وعَلَيْها. وَأيْضًا: فالرِّضا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَهُ وعِبادَتَهُ، والإنابَةَ إلَيْهِ، والتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وخَوْفَهُ ورَجاءَهُ ومَحَبَّتَهُ، والصَّبْرَ لَهُ وبِهِ. والشُّكْرُ عَلى نِعَمِهِ: يَتَضَمَّنُ رُؤْيَةَ كُلِّ ما مِنهُ نِعْمَةً وإحْسانًا، وإنْ ساءَ عَبْدُهُ. فالرِّضا بِهِ يَتَضَمَّنُ شَهادَةَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ والرِّضا بِمُحَمَّدٍ رَسُولًا يَتَضَمَّنُ شَهادَةَ أنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ والرِّضا بِالإسْلامِ دِينًا: يَتَضَمَّنُ التِزامَ عُبُودِيَّتِهِ، وطاعَتَهُ وطاعَةَ رَسُولِهِ. فَجَمَعَتْ هَذِهِ الثَّلاثَةُ الدِّينَ كُلَّهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب