الباحث القرآني
وقد أنكر الله سبحانه على من احتج على محبته بمشيئته في ثلاثة مواضع من كتابه في سورة الأنعام والنحل والزخرف فقال تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وإنْ أنْتُمْ إلاَّ تَخْرُصُونَ﴾
وكذلك حكى عنهم في النحل ثم قال: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلى الرُّسُلِ إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ﴾
وقال في الزخرف: ﴿وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما عَبَدْناهم ما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ إنْ هم إلاَّ يَخْرُصُونَ﴾
فاحتجوا على محبته لشركهم ورضاه به بكونه أقرهم عليه وأنه لولا محبته له ورضاه به لما شاءه منهم وعارضوا بذلك أمره ونهيه ودعوة الرسل قالوا كيف يأمر بالشيء قد شاء منا خلافه وكيف يكره منا شيئا قد شاء وقوعه ولو كرهه لم يمكنا منه ولحال بيننا وبينه فكذبهم سبحانه في ذلك وأخبر أن هذا تكذيب منهم لرسله وأن رسله متفقون على أنه سبحانه يكره شركهم ويبغضه ويمقته وأنه لولا بغضه وكراهته لما أذاق المشركين بالله عذابه فإنه لا يعذب عبده على ما يحبه ثم طالبهم بالعلم على صحة مذهبهم بأن الله أذن فيه وأنه يحبه ويرضى به ومجرد إقراره لهم قدرا لا يدل على ذلك عند أحد من العقلاء وإلا كان الظلم والفواحش والسعي في الأرض بالفساد والبغي محبوبا له مرضيا ثم أخبر سبحانه أن مستندهم في ذلك إنما هو الظن وهو أكذب الحديث وأنهم لذلك كانوا أهل الخرص والكذب ثم أخبر سبحانه أن له الحجة عليهم من جهتين إحداهما ما ركبّه فيهم من العقول التي يفرقون بها بين الحسن والقبيح والباطل والأسماع والأبصار التي هي آلة إدراك الحق والتي يفرق بها بينه وبين الباطل والثانية إرسال رسله وإنزال كتبه وتمكينهم من الإيمان والإسلام ولم يؤاخذهم بأحد الأمرين بل بمجموعها لكمال عدله وقطعا لعذرهم من جميع الوجوه ولذلك سمى حجته عليهم بالغة أي قد بلغت غاية البيان وأقصاه بحيث لم يبق معها مقال لقائل ولا عذر لمعتذر ومن اعتذر إليه سبحانه بعذر صحيح قبله ثم ختم الآية بقوله: ﴿فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ وأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته وهذا من تمام حجته البالغة فإنه إذا امتنع الشيء لعدم مشيئته لزم وجوده عند مشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن كان هذا من أعظم أدلة التوحيد ومن أبين أدلة بطلان ما أنتم عليه من الشرك واتخاذ الأنداد من دونه، فما احتججتم به من المشيئة على ما أنتم عليه من الشرك هو من أظهر الأدلة على بطلانه وفساده فلو أنهم ذكروا القدر والمشيئة توحيدا له وافتقارا والتجاء إليه وبراءة من الحول والقوة إلا به ورغبة إليه أن يقيلهم مما لو شاء أن لا يقع منهم لما وقع لنفعهم ذلك ولفتح لهم باب الهداية ولكن ذكروه معارضين به أمره ومبطلين به دعوة الرسل فما ازدادوا به إلا ضلالا.
والمقصود أنه سبحانه قد فرق بين حجته ومشيئته وقد حكى أبو الحسن الأشعري في مقالاته اتفاق أهل السنة والحديث على ذلك والذي حكى عنه ابن فورك في كتاب تجريده لمقالاته أنه كان يفرق بين ذلك قال: "وكان لا يفرق بين الود والحب والإرادة والمشيئة والرضا وكان لا يقول إن شيئا منها يخص بعض المردات دون بعض بل كان يقول إن كل واحد منها بمعنى صاحبه على جهة التقييد الذي يزول معه الإبهام، وهو أن المؤمن محبوب لله أن يكون مؤمنا من أهل الخير كما علم، والكافر أيضا مراد أن يكون كافرا كما علم من أهل الشر ويحب أن يكون ذلك كذلك كما علم "
وكذلك كان يقول في الرضا والاصطفاء والاختيار ويقيد اللفظ بذلك حتى لا يتوهم فيه الخطأ" انتهى والذي عليه أهل الحديث والسنة قاطبه والفقهاء كلهم وجمهور المتكلمين والصوفية أنه سبحانه يكره بعض الأعيان والأفعال والصفات وإن كانت واقعة بمشيئته فهو يبغضها ويمقتها كما يبغض ذات إبليس وذوات جنوده ويبغض أعمالهم ولا يحب ذلك وإن وجد بمشيئته قال الله تعالى: ﴿واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ﴾ وقال: ﴿واللَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ﴾ وقال: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ﴾ وقال: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ﴾ وقال: ﴿وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ وقال: ﴿إنْ تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكم ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ﴾
فهذا إخبار عن عدم محبته لهذه الأمور ورضاه بها بعد وقوعها فهذا صريح في إبطال قول من تأول النصوص على أنه لا يحبها ممن لم تقع منه ويحبها إذا وقعت فهو يحبها ممن وقعت منه ولا يحبها ممن لم تقع منه وهذا من أعظم الباطل والكذب على الله بل هو سبحانه يكرهها ويبغضها قبل وقوعها وحال وقوعها وبعد وقوعها فإنها قبائح وخبائث والله منزه عن محبة القبيح والخبيث بل هو أكره شيء إليه قال الله تعالى: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾
وقد أخبر سبحانه أنه يكره طاعات المنافقين ولأجل ذلك يثبطهم عنها فكيف يحب نفاقهم ويرضاه ويكون أهله محبوبين له مصطفين عنده مرضيين ومن هذا الأصل الباطل نشأ قولهم باستواء الأفعال بالنسبة إلى الرب سبحانه وأنها لا تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح فلا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين الشكر والكفر ولذلك قالوا لا يجب شكره على نعمه عقلا فعن هذا الأصل قالوا إن مشيئته هي عين محبته وإن كل ما شاءه فهو محبوب له ومرضى له ومصطفى ومختار فلم يمكنهم بعد تأصل هذا الأصل أن يقولوا أنه يبغض الأعيان والأفعال التي خلقها ويحب بعضها بل كل ما فعله وخلقه فهو محبوب له والمكروه المبغوض ما لم يشأه ولم يخلقه وإنما أصلوا هذا الأصل محافظة منهم على القدر فحثوا به على الشرع والقدر والتزموا لأجله لوازم شوشوا بها على القدر والحكمة وكابروا لأجلها صريح العقل وسووا بين أقبح القبائح وأحسن الحسنات في نفس الأمر وقالوا هما سواء لا فرق بينهما إلا بمجرد الأمر والنهي فالكذب عندهم والظلم والبغي والعدوان مساو للصدق والعدل والإحسان في نفس الأمر ليس في هذا ما يقتضي حسنه ولا في هذا ما يقتضي قبحه وجعلوا هذا المذهب شعارا لأهل السنة والقول بخلافه قول أهل البدع من المعتزلة وغيرهم ولعمر الله إنه لمن أبطل الأقوال وأشدها منافاة للعقل والشرع ولفطرة الله التي فطر عليها خلقه وقد بينا بطلانه من أكثر من خمسين وجها في كتاب المفتاح والمقصود أنه لما انضم القول به إلى القول بأنه سبحانه لا يحب شيئا ويبغض شيئا بل كل موجود فهو محبوب له وكل معدوم فهو مكروه له وانضم إلى هذين الآخرين إنكار الحكم والغايات المطلوبة في أفعاله سبحانه وأنه لا يفعل شيئا لمعنى ألبتة وانضم إلى ذلك إنكار الأسباب وأنه لا يفعل شيئا بشيء وإنكار القوى والطبائع والغرائز وأن تكون أسبابا أو يكون لها أثر انسد عليهم باب الصواب في مسائل القدر والتزموا لهذه الأصول الباطلة لوازم هي أظهر بطلانا وفسادا وهي من أول شيء على فساد هذه الأصول وبطلانها فإن فساد اللازم من فساد ملزومه.
* [فصل الحَثُّ عَلى التَّداوِي ورَبْطِ الأسْبابِ بِالمُسَبَّباتِ]
رَوى مسلم في " صَحِيحِهِ ": مِن حَدِيثِ أبي الزبير، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أنَّهُ قالَ: «لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ، فَإذا أُصِيبَ دَواءُ الدّاءِ، بَرَأ بِإذْنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ».
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": عَنْ عطاء، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما أنْزَلَ اللَّهُ مِن داءٍ إلّا أنْزَلَ لَهُ شِفاءً».
وَفِي " مُسْنَدِ الإمامِ أحْمَدَ ": مِن حَدِيثِ زِيادِ بْنِ عِلاقَةَ، «عَنْ أسامة بن شريك، قالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، وجاءَتِ الأعْرابُ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ أنَتَداوى؟ فَقالَ " نَعَمْ يا عِبادَ اللَّهِ تَداوَوْا، فَإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَضَعْ داءً إلّا وضَعَ لَهُ شِفاءً غَيْرَ داءٍ واحِدٍ "، قالُوا: ما هُوَ؟ قالَ " الهَرَمُ».
وَفِي لَفْظٍ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ داءً إلّا أنْزَلَ لَهُ شِفاءً، عَلِمَهُ مَن عَلِمَهُ وجَهِلَهُ مَن جَهِلَهُ».
وَفِي " المُسْنَدِ ": مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لَمْ يُنْزِلْ داءً إلّا أنْزَلَ لَهُ شِفاءً، عَلِمَهُ مَن عَلِمَهُ وجَهِلَهُ مَن جَهِلَهُ».
وَفِي " المُسْنَدِ " و" السُّنَنِ": «عَنْ أبي خزامة، قالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ أرَأيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيها، ودَواءً نَتَداوى بِهِ، وتُقاةً نَتَّقِيها، هَلْ تَرُدُّ مِن قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقالَ: " هي مِن قَدَرِ اللَّهِ».
فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الأحادِيثُ إثْباتَ الأسْبابِ والمُسَبَّباتِ، وإبْطالَ قَوْلِ مَن أنْكَرَها، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: «لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ»، عَلى عُمُومِهِ حَتّى يَتَناوَلَ الأدْواءَ القاتِلَةَ، والأدْواءَ الَّتِي لا يُمْكِنُ لِطَبِيبٍ أنْ يُبْرِئَها، ويَكُونُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ قَدْ جَعَلَ لَها أدْوِيَةً تُبْرِئُها، ولَكِنْ طَوى عِلْمَها عَنِ البَشَرِ، ولَمْ يَجْعَلْ لَهم إلَيْهِ سَبِيلًا؛ لِأنَّهُ لا عِلْمَ لِلْخَلْقِ إلّا ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ، ولِهَذا عَلَّقَ النَّبِيُّ ﷺ الشِّفاءَ عَلى مُصادَفَةِ الدَّواءِ لِلدّاءِ، فَإنَّهُ لا شَيْءَ مِنَ المَخْلُوقاتِ إلّا لَهُ ضِدٌّ، وكُلُّ داءٍ لَهُ ضِدٌّ مِنَ الدَّواءِ يُعالَجُ بِضِدِّهِ، فَعَلَّقَ النَّبِيُّ ﷺ البُرْءَ بِمُوافَقَةِ الدّاءِ لِلدَّواءِ، وهَذا قَدْرٌ زائِدٌ عَلى مُجَرَّدِ وجُودِهِ، فَإنَّ الدَّواءَ مَتى جاوَزَ دَرَجَةَ الدّاءِ في الكَيْفِيَّةِ، أوْ زادَ في الكَمِّيَّةِ عَلى ما يَنْبَغِي نَقَلَهُ إلى داءٍ آخَرَ، ومَتى قَصَرَ عَنْها لَمْ يَفِ بِمُقاوَمَتِهِ، وكانَ العِلاجُ قاصِرًا، ومَتى لَمْ يَقَعِ المُداوِي عَلى الدَّواءِ، أوْ لَمْ يَقَعِ الدَّواءُ عَلى الدّاءِ، لَمْ يَحْصُلِ الشِّفاءُ، ومَتى لَمْ يَكُنِ الزَّمانُ صالِحًا لِذَلِكَ الدَّواءِ لَمْ يَنْفَعْ، ومَتى كانَ البَدَنُ غَيْرَ قابِلٍ لَهُ أوِ القُوَّةُ عاجِزَةً عَنْ حَمْلِهِ، أوْ ثَمَّ مانِعٌ يَمْنَعُ مِن تَأْثِيرِهِ، لَمْ يَحْصُلِ البُرْءُ لِعَدَمِ المُصادَفَةِ، ومَتى تَمَّتِ المُصادَفَةُ حَصَلَ البُرْءُ بِإذْنِ اللَّهِ ولا بُدَّ، وهَذا أحْسَنُ المَحْمِلَيْنِ في الحَدِيثِ.
والثّانِي: أنْ يَكُونَ مِنَ العامِّ المُرادِ بِهِ الخاصُّ، لا سِيَّما والدّاخِلُ في اللَّفْظِ أضْعافُ أضْعافِ الخارِجِ مِنهُ، وهَذا يُسْتَعْمَلُ في كُلِّ لِسانٍ ويَكُونُ المُرادُ أنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ داءً يَقْبَلُ الدَّواءَ إلّا وضَعَ لَهُ دَواءً، فَلا يَدْخُلُ في هَذا الأدْواءُ الَّتِي لا تَقْبَلُ الدَّواءَ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى في الرِّيحِ الَّتِي سَلَّطَها عَلى قَوْمِ عادٍ: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأمْرِ رَبِّها﴾ [الأحقاف: ٢٥] أيْ: كُلُّ شَيْءٍ يَقْبَلُ التَّدْمِيرَ، ومِن شَأْنِ الرِّيحِ أنْ تُدَمِّرَهُ، ونَظائِرُهُ كَثِيرَةٌ.
وَمَن تَأمَّلَ خَلْقَ الأضْدادِ في هَذا العالَمِ ومُقاوَمَةَ بَعْضِها لِبَعْضٍ، ودَفْعَ بَعْضِها بِبَعْضٍ، وتَسْلِيطَ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ، تَبَيَّنَ لَهُ كَمالُ قُدْرَةِ الرَّبِّ تَعالى، وحِكْمَتُهُ، وإتْقانُهُ ما صَنَعَهُ، وتَفَرُّدُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، والوَحْدانِيَّةِ، والقَهْرِ، وأنَّ كُلَّ ما سِواهُ فَلَهُ ما يُضادُّهُ ويُمانِعُهُ كَما أنَّهُ الغَنِيُّ بِذاتِهِ وكُلُّ ما سِواهُ مُحْتاجٌ بِذاتِهِ.
وَفِي الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ الأمْرُ بِالتَّداوِي وأنَّهُ لا يُنافِي التَّوَكُّلَ، كَما لا يُنافِيهِ دَفْعُ داءِ الجَوْعِ والعَطَشِ، والحَرِّ، والبَرْدِ بِأضْدادِها، بَلْ لا تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ إلّا بِمُباشَرَةِ الأسْبابِ الَّتِي نَصَبَها اللَّهُ مُقْتَضَياتٍ لِمُسَبَّباتِها قَدَرًا وشَرْعًا، وأنَّ تَعْطِيلَها يَقْدَحُ في نَفْسِ التَّوَكُّلِ، كَما يَقْدَحُ في الأمْرِ والحِكْمَةِ ويُضْعِفُهُ مِن حَيْثُ يَظُنُّ مُعَطِّلُها أنَّ تَرْكَها أقْوى في التَّوَكُّلِ، فَإنَّ تَرْكَها عَجْزًا يُنافِي التَّوَكُّلَ الَّذِي حَقِيقَتُهُ اعْتِمادُ القَلْبِ عَلى اللَّهِ في حُصُولِ ما يَنْفَعُ العَبْدَ في دِينِهِ ودُنْياهُ، ودَفْعِ ما يَضُرُّهُ في دِينِهِ ودُنْياهُ، ولا بُدَّ مَعَ هَذا الِاعْتِمادِ مِن مُباشَرَةِ الأسْبابِ وإلّا كانَ مُعَطِّلًا لِلْحِكْمَةِ والشَّرْعِ فَلا يَجْعَلُ العَبْدُ عَجْزَهُ تَوَكُّلًا ولا تَوَكُّلَهُ عَجْزًا.
وَفِيها رَدٌّ عَلى مَن أنْكَرَ التَّداوِي، وقالَ: إنْ كانَ الشِّفاءُ قَدْ قُدِّرَ فالتَّداوِي لا يُفِيدُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدِّرَ فَكَذَلِكَ. وأيْضًا فَإنَّ المَرَضَ حَصَلَ بِقَدَرِ اللَّهِ، وقَدَرُ اللَّهِ لا يُدْفَعُ ولا يُرَدُّ، وهَذا السُّؤالُ هو الَّذِي أوْرَدَهُ الأعْرابُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وأمّا أفاضِلُ الصِّحابَةِ فَأعْلَمُ بِاللَّهِ وحِكْمَتِهِ وصِفاتِهِ مِن أنْ يُورِدُوا مِثْلَ هَذا، وقَدْ أجابَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِما شَفى وكَفى، فَقالَ: هَذِهِ الأدْوِيَةُ والرُّقى والتُّقى هي مِن قَدَرِ اللَّهِ فَما خَرَجَ شَيْءٌ عَنْ قَدَرِهِ، بَلْ يُرَدُّ قَدَرُهُ بِقَدَرِهِ وهَذا الرَّدُّ مِن قَدَرِهِ)، فَلا سَبِيلَ إلى الخُرُوجِ عَنْ قَدَرِهِ بِوَجْهٍ ما، وهَذا كَرَدِّ قَدَرِ الجُوعِ والعَطَشِ والحَرِّ والبَرْدِ بِأضْدادِها، وكَرَدِّ قَدَرِ العَدُوِّ بِالجِهادِ وكُلٌّ مِن قَدَرِ اللَّهِ الدّافِعُ والمَدْفُوعُ والدَّفْعُ.
وَيُقالُ لِمُورِدِ هَذا السُّؤالِ: هَذا يُوجِبُ عَلَيْكَ أنْ لا تُباشِرَ سَبَبًا مِنَ الأسْبابِ الَّتِي تَجْلِبُ بِها مَنفَعَةً أوْ تَدْفَعُ بِها مَضَرَّةً؛ لِأنَّ المَنفَعَةَ والمَضَرَّةَ إنْ قُدِّرَتا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِن وُقُوعِهِما، وإنْ لَمْ تُقَدَّرا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلى وُقُوعِهِما، وفي ذَلِكَ خَرابُ الدِّينِ والدُّنْيا وفَسادُ العالَمِ وهَذا لا يَقُولُهُ إلّا دافِعٌ لِلْحَقِّ مُعانِدٌ لَهُ، فَيَذْكُرُ القَدَرَ لِيَدْفَعَ حُجَّةَ المُحِقِّ عَلَيْهِ كالمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قالُوا: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا﴾ [الأنعام: ١٤٨] و﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَحْنُ ولا آباؤُنا﴾ [النحل: ٣٥] فَهَذا قالُوهُ دَفْعًا لِحُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ.
وَجَوابُ هَذا السّائِلِ أنْ يُقالَ: بَقِيَ قِسْمٌ ثالِثٌ لَمْ تَذْكُرْهُ، وهو أنَّ اللَّهَ قَدَّرَ كَذا وكَذا بِهَذا السَّبَبِ، فَإنْ أتَيْتَ بِالسَّبَبِ حَصَلَ المُسَبَّبُ وإلّا فَلا، فَإنْ قالَ: إنْ كانَ قَدَّرَ لِي السَّبَبَ، فَعَلْتُهُ، وإنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ لِي لَمْ أتَمَكَّنْ مِن فِعْلِهِ.
قِيلَ: فَهَلْ تَقْبَلُ هَذا الِاحْتِجاجَ مِن عَبْدِكَ، ووَلَدِكَ، وأجِيرِكَ إذا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْكَ فِيما أمَرْتَهُ بِهِ، ونَهَيْتَهُ عَنْهُ فَخالَفَكَ؟ فَإنْ قَبِلْتَهُ، فَلا تَلُمْ مَن عَصاكَ، وأخَذَ مالَكَ، وقَذَفَ عِرْضَكَ، وضَيَّعَ حُقُوقَكَ، وإنْ لَمْ تَقْبَلْهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَقْبُولًا مِنكَ في دَفْعِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَيْكَ؟ وقَدْ رُوِيَ في أثَرٍ إسْرائِيلِيٍّ أنَّ إبْراهِيمَ الخَلِيلَ قالَ: يا رَبِّ مِمَّنِ الدّاءُ؟ قالَ: " مِنِّي ". قالَ: فَمِمَّنِ الدَّواءُ "؟ قالَ " مِنِّي ". قالَ فَما بالُ الطَّبِيبِ؟ قالَ " رَجُلٌ أُرْسِلُ الدَّواءَ عَلى يَدَيْهِ ".
وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: «لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ» تَقْوِيَةٌ لِنَفْسِ المَرِيضِ والطَّبِيبِ، وحَثٌّ عَلى طَلَبِ ذَلِكَ الدَّواءِ والتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ، فَإنَّ المَرِيضَ إذا اسْتَشْعَرَتْ نَفْسُهُ أنَّ لِدائِهِ دَواءً يُزِيلُهُ، تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِرُوحِ الرِّجاءِ، وبَرَدَتْ عِنْدَهُ حَرارَةُ اليَأْسِ، وانْفَتَحَ
لَهُ بابُ الرَّجاءِ، ومَتى قَوِيَتْ نَفْسُهُ انْبَعَثَتْ حَرارَتُهُ الغَرِيزِيَّةُ، وكانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقُوَّةِ الأرْواحِ الحَيَوانِيَّةِ والنَّفْسانِيَّةِ والطَّبِيعِيَّةِ، ومَتى قَوِيَتْ هَذِهِ الأرْواحُ قَوِيَتِ القُوى الَّتِي هي حامِلَةٌ لَها، فَقَهَرَتِ المَرَضَ ودَفَعَتْهُ.
وَكَذَلِكَ الطَّبِيبُ إذا عَلِمَ أنَّ لِهَذا الدّاءِ دَواءً أمْكَنَهُ طَلَبُهُ والتَّفْتِيشُ عَلَيْهِ. وأمْراضُ الأبْدانِ عَلى وِزانِ أمْراضِ القُلُوبِ، وما جَعَلَ اللَّهُ لِلْقَلْبِ مَرَضًا إلّا جَعَلَ لَهُ شِفاءً بِضَدِّهِ، فَإنْ عَلِمَهُ صاحِبُ الدّاءِ واسْتَعْمَلَهُ وصادَفَ داءَ قَلْبِهِ أبْرَأهُ بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"سَیَقُولُ ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ لَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَاۤ أَشۡرَكۡنَا وَلَاۤ ءَابَاۤؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَیۡءࣲۚ كَذَ ٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُوا۟ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمࣲ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَاۤۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق