الباحث القرآني

* (فصل) وأما تضييق الصدر وجعله حرجا لا يقبل الإيمان فقال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ومَن يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماءِ﴾ والحرج هو الشديد الضيق في قول أهل اللغة جميعهم يقال رجل حرج وحرج أي ضيق الصدر قال الشاعر: لا حرج الصدر ولا عنيف. وقال عبيد بن عمير: قرأ ابن عباس هذه الآية فقال: "هل هنا أحد من بني بكر قال رجل نعم قال ما الحرجة فيكم قالوا الوادي الكثير الشجر الذي لا طريق فيه فقال ابن عباس: كذلك قلب الكافر". وقرأ عمر بن الخطاب الآية فقال: "ايتوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيا فأتوه به فقال عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم فقال الشجرة تحدق بها الأشجار الكثيرة فلا تصل إليها راعية ولا وحشية فقال عمر كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير" قال ابن عباس: "يجعل صدره ضيقا حرجا إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه وإن ذكر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك" ولما كان القلب محلا للمعرفة والعلم والمحبة والإنابة وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها فإذا أراد الله هداية عبد وسع صدره وشرحه فدخلت فيه وسكنته وإذا أراد ضلاله ضيق صدره وأحرجه فلم يجد محلا يدخل فيه فيعدل عنه ولا يساكنه وكل إناء فارغ إذا دخل فيه الشيء ضاق به وكلما أفرغت فيه الشيء ضاق إلا القلب اللين فكلما أفرغ فيه الإيمان والعلم اتسع وانفسح. وهذا من آيات قدرة الرب تعالى وفي الترمذي وغيره. عن النبي ﷺ: "إذا دخل النور قلبه انفسح وانشرح قالوا فما علامة ذلك يا رسول الله قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله" فشرح الصدر من أعظم أسباب الهدى وتضييقه من أسباب الضلال كما أن شرحه من أجل النعم وتضييقه من أعظم النقم فالمؤمن منشرح الصدر منفسحه في هذه الدار على ما ناله من مكروهها وإذا قوي الإيمان وخالطت بشاشته القلوب كان على مكارهها أشرح صدرا منه على شهوتها ومحابها فإذا فارقها كان انفساح روحه والشرح الحاصل له بفراقها أعظم بكثير كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له فإنها سجن المؤمن فإذا بعثه الله يوم القيامة رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه فشرح الصدر كما أنه سبب الهداية فهو أصل كل نعمة وأساس كل خير وقد سأل كليم الرحمن موسى بن عمران ربه أن يشرح له صدره لما علم أنه لا يتمكن من تبليغ رسالته والقيام بأعبائها إلا إذا شرح له صدره وقد عدد سبحانه من نعمه على خاتم أنبيائه ورسله شرح صدره له وأخبر عن أتباعه أنه شرح صدورهم للإسلام. فإن قلت فما الأسباب التي تشرح الصدور والتي تضيقه قلت السبب الذي يشرح الصدر النور الذي يقذفه الله فيه فإذا دخله ذلك النور اتسع بحسب قوة النور وضعفه وإذا فقد ذلك النور أظلم وتضايق. فإن قلت فهل يمكن اكتساب هذا النور أم هو وهبي؟ قلت هو وهبي وكسبي واكتسابه أيضا مجرد موهبة من الله تعالى فالأمر كله لله والحمد كله له والخير كله بيديه وليس مع العبد من نفسه شيء ألبتة بل الله واهب الأسباب ومسبباتها وجاعلها أسبابا ومانحها من يشاء ومانعها من يشاء إذا أراد بعبده خيرا وفقه لاستفراغ وسعه وبذل جهده في الرغبة والرهبة إليه فإنهما مادتا التوفيق فبقدر قيام الرغبة والرهبة في القلب يحصل التوفيق. فإن قلت فالرغبة والرهبة بيده لا بيد العبد؟ قلت نعم والله وهما مجرد فضله ومنته وإنما يجعلهما في المحل الذي يليق بهما ويحبسهما عمن لا يصلح لهما. فإن قلت فما ذنب من لا يصلح؟ قلت أكثر ذنوبه أنه لا يصلح لأن صلاحيته بما اختاره لنفسه وآثره وأحبه من الضلال والغي على بصيرة من أمره فآثر هواه على حق ربه ومرضاته واستحب العمى على الهدى، وكان كفر المنعم عليه بصنوف النعم وجحدا لهيئته والشرك به والسعي في مساخطه أحب إليه من شكره وتوحيده والسعي في مرضاته فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه ومالكه وأي ذنب فوق هذا فإذا أمسك الحكم العدل توفيقه عمن هذا شأنه كان قد عدل فيه وانسدت عليه أبواب الهداية وطرق الرشاد فأظلم قلبه فضاق عن دخول الإسلام والإيمان فيه، فلو جاءته كل آية لم تزده إلا ضلالا وكفرا. وإذا تأمل من شرح الله صدره للإسلام والإيمان هذه الآية وما تضمنته من أسرار التوحيد والعذر والعدل وعظمة شأن الربوبية صار لقلبه عبودية أخرى ومعرفة خاصة، وعلم أنه عبد من كل وجه وبكل اعتبار وأن الرب تعالى رب كل شيء وملكيه من الأعيان والصفات والأفعال والأمر كله بيده والحمد كله له وأزمة الأمور بيده ومرجعها كلها إليه، ولهذه الآية شأن فوق عقولنا وأجل من أفهامنا وأعظم مما قال فيها المتكلمون الذين ظلموها معناها ﴿وأنفسهم كانوا يظلمون﴾ تالله لقد غلظ عنها حجابهم وكثفت عنها أفهامهم ومنعتهم من الوصول إلى المراد بها أصولهم التي أصلوها وقواعدهم التي أسسوها فإنها تضمنت إثبات التوحيد والعدل الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه والعدل الذي يقوله معطلو الصفات ونفاة القدر. وتضمنت إثبات الحكمة والقدرة والشرع والقدر والسبب والحكم والذنب والعقوبة ففتحت للقلب الصحيح بابا واسعا من معرفة الرب تعالى بأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله وحكمته في شرعه وقدره وعدله في عقابه وفضله في ثوابه وتضمنت كمال توحيده وربوبيته وقيوميته وإلهيته وأن مصادر الأمور كلها عن محض إرادته ومردها إلى كمال حكمته وأن المهدي من خصه الله بهدايته وشرح صدره لدينه وشريعته وأن الضال من جعل صدره ضيقا حرجا عن معرفته ومحبته كأنما يتصاعد في السماء وليس ذلك في قدرته وأن ذلك عدل في عقوبته لمن لم يقدره حق قدره وجحد كمال ربوبيته وكفر بنعمته وآثر عبادة الشيطان على عبوديته فسد عليه باب توفيقه وهدايته وفتح عليه أبواب غيه وضلاله فضاق صدره وقسا قلبه وتعطلت من عبودية ربها جوارحه وامتلأت بالظلمة جوانحه والذنب له حيث أعرض عن الإيمان واستبدل به الكفر والفسوق والعصيان ورضي بموالاة الشيطان وهانت عليه معاداة الرحمن فلا يحدث نفسه بالرجوع إلى مولاه ولا يعزم يوما على إقلاعه عن هواه قد ضاد الله في أمره بحب ما يبغضه وببغض ما يحبه ويوالي من يعاديه ويعادي من يواليه يغضب إذا رضي الرب ويرضى إذا غضب هذا وهو يتقلب في إحسانه ويسكن في داره ويتغذى برزقه ويتقوى على معاصيه بنعمه فمن أعدل منه سبحانه عما يصفه به الجاهلون والظالمون إذا جعل الوحي على أمثال هذا من الذين لا يؤمنون.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب