الباحث القرآني

* [فَصْلٌ: الحِكْمَةُ في جَعْلِ ذَبِيحَةِ غَيْرِ الكِتابِيِّ مِثْلَ المَيْتَةِ] وَأمّا جَمْعُها بَيْنَ المَيْتَةِ وذَبِيحَةِ غَيْرِ الكِتابِيِّ في التَّحْرِيمِ، وبَيْنَ مَيْتَةِ الصَّيْدِ وذَبِيحَةِ المُحْرِمِ لَهُ، فَأيُّ تَفاوُتٍ في ذَلِكَ؟ وكَأنَّ السّائِلَ رَأى أنَّ الدَّمَ لَمّا احْتَقَنَ في المَيِّتَةِ كانَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِها، وما ذَبَحَهُ المُحْرِمُ أوْ الكافِرُ غَيْرُ الكِتابِيِّ لَمْ يَحْتَقِنْ دَمُهُ؛ فَلا وجْهَ لِتَحْرِيمِهِ، وهَذا غَلَطٌ وجَهْلٌ؛ فَإنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ لَوْ انْحَصَرَتْ في احْتِقانِ الدَّمِ لَكانَ لِلسُّؤالِ وجْهٌ، فَأمّا إذا تَعَدَّدَتْ عِلَلُ التَّحْرِيمِ لَمْ يَلْزَمْ مِن انْتِفاءِ بَعْضِها انْتِفاءَ الحُكْمِ إذا خَلَفَهُ عِلَّةٌ أُخْرى، وهَذا أمْرٌ مُطَّرِدٌ في الأسْبابِ والعِلَلِ العَقْلِيَّةِ. فَما الَّذِي يُنْكِرُ مِنهُ في الشَّرْعِ؟ فَإنْ قِيلَ: ألَيْسَ قَدْ سَوَّتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَهُما في كَوْنِهِما مَيْتَةً، وقَدْ اخْتَلَفا في سَبَبِ المَوْتِ، فَتَضَمَّنَتْ جَمْعَها بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ وتَفْرِيقَها بَيْنَ مُتَماثِلَيْنِ؛ فَإنَّ الذَّبْحَ واحِدٌ صُورَةً وحِسًّا وحَقِيقَةً؛ فَجُعِلَتْ بَعْضُ صُوَرِهِ مَخْرَجًا لِلْحَيَوانِ عَنْ كَوْنِهِ مَيْتَةً وبَعْضُ صُوَرِهِ مُوجِبًا لِكَوْنِهِ مَيْتَةً مِن غَيْرِ فَرْقٍ. قِيلَ: الشَّرِيعَةُ لَمْ تُسَوِّ بَيْنَهُما في اسْمِ المَيْتَةِ لُغَةً، وإنَّما سَوَّتْ بَيْنَهُما في الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ؛ فَصارَ اسْمُ المَيْتَةِ في الشَّرْعِ أعَمَّ مِنهُ في اللُّغَةِ، والشّارِعُ يَتَصَرَّفُ في الأسْماءِ اللُّغَوِيَّةِ بِالنَّقْلِ تارَةً وبِالتَّعْمِيمِ تارَةً وبِالتَّخْصِيصِ تارَةً، وهَكَذا يَفْعَلُ أهْلُ العُرْفِ؛ فَهَذا لَيْسَ بِمُنْكَرٍ شَرْعًا ولا عُرْفًا. وَأمّا الجَمْعُ بَيْنَهُما في التَّحْرِيمِ فَلِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ حَرَّمَ عَلَيْنا الخَبائِثَ، والخُبْثُ المُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ قَدْ يَظْهَرُ لَنا وقَدْ يَخْفى، فَما كانَ ظاهِرًا لَمْ يُنَصِّبْ عَلَيْهِ الشّارِعُ عَلامَةً غَيْرَ وصْفِهِ، وما كانَ خَفِيًّا نَصَّبَ عَلَيْهِ عَلامَةً تَدُلُّ عَلى خُبْثِهِ؛ فاحْتِقانُ الدَّمِ في المَيْتَةِ سَبَبٌ ظاهِرٌ، وأمّا ذَبِيحَةُ المَجُوسِيِّ والمُرْتَدِّ وتارِكِ التَّسْمِيَةِ ومَن أهَلَّ بِذَبِيحَتِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَنَفْسُ ذَبِيحَةِ هَؤُلاءِ أكْسَبَتْ المَذْبُوحَ خُبْثًا أوْجَبَ تَحْرِيمَهُ، ولا يُنْكِرُ أنْ يَكُونَ ذِكْرُ اسْمِ الأوْثانِ والكَواكِبِ والجِنِّ عَلى الذَّبِيحَةِ يُكْسِبُها خُبْثًا، وذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ وحْدَهُ يُكْسِبُها طِيبًا، إلّا مَن قَلَّ نَصِيبُهُ مِن حَقائِقِ العِلْمِ والإيمانِ وذَوْقِ الشَّرِيعَةِ، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ ما لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِن الذَّبائِحِ فِسْقًا وهو الخَبِيثُ، ولا رَيْبَ أنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ عَلى الذَّبِيحَةِ يُطَيِّبُها ويَطْرُدُ الشَّيْطانَ عَنْ الذّابِحِ والمَذْبُوحِ، فَإذا أخَلَّ بِذِكْرِ اسْمِهِ لابَسَ الشَّيْطانُ الذّابِحَ والمَذْبُوحَ، فَأثَّرَ ذَلِكَ خُبْثًا في الحَيَوانِ، والشَّيْطانُ يَجْرِي في مَجارِي الدَّمِ مِن الحَيَوانِ، والدَّمُ مَرْكَبُهُ وحامِلُهُ، وهو أخْبَثُ الخَبائِثِ، فَإذا ذَكَرَ الذّابِحُ اسْمَ اللَّهِ خَرَجَ الشَّيْطانُ مَعَ الدَّمِ فَطابَتْ الذَّبِيحَةُ، فَإذا لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ لَمْ يَخْرُجْ الخُبْثُ. وَأمّا إذا ذَكَرَ اسْمَ عَدُوِّهِ مِن الشَّياطِينِ والأوْثانِ فَإنَّ ذَلِكَ يُكْسِبُ الذَّبِيحَةَ خُبْثًا آخَرَ. يُوَضِّحُهُ أنَّ الذَّبِيحَةَ تَجْرِي مَجْرى العِبادَةِ، ولِهَذا يَقْرِنُ اللَّهُ سُبْحانَهُ بَيْنَهُما كَقَوْلِهِ: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ﴾ [الكوثر: ٢] وقَوْلُهُ: ﴿قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢] وقالَ تَعالى: ﴿والبُدْنَ جَعَلْناها لَكم مِن شَعائِرِ اللَّهِ لَكم فِيها خَيْرٌ فاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإذا وجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنها وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْناها لَكم لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ [الحج: ٣٦] ﴿لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها ولا دِماؤُها ولَكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنكُمْ﴾ [الحج: ٣٧] فَأخْبَرَ أنَّهُ إنّما سَخَّرَها لِمَن يَذْكُرُ اسْمَهُ عَلَيْها، وأنَّهُ إنّما يَنالُهُ التَّقْوى - وهو التَّقَرُّبُ إلَيْهِ بِها وذِكْرِ اسْمِهِ عَلَيْها - فَإذا لَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ عَلَيْها كانَ مَمْنُوعًا مِن أكْلِها، وكانَتْ مَكْرُوهَةً لِلَّهِ، فَأكْسَبَتْها كَراهِيَتَهُ لَها - حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ عَلَيْها اسْمَهُ أوْ ذَكَرَ عَلَيْها اسْمَ غَيْرِهِ - وصْفَ الخُبْثِ فَكانَتْ بِمَنزِلَةِ المَيِّتَةِ، وإذا كانَ هَذا في مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ وما ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ فَما ذَبَحَهُ عَدُوُّهُ المُشْرِكُ بِهِ الَّذِي هو مِن أخْبَثِ البَرِيَّةِ أوْلى بِالتَّحْرِيمِ؛ فَإنْ فِعْلَ الذّابِحِ وقَصْدِهِ وخُبْثِهِ لا يُنْكَرُ أنْ يُؤَثِّرَ في المَذْبُوحِ، كَما أنَّ خَبُثَ النّاكِحِ ووَصْفِهِ وقَصْدِهِ يُؤَثِّرُ في المَرْأةِ المَنكُوحَةِ، وهَذِهِ أُمُورٌ إنّما يُصَدِّقُ بِها مَن أشْرَقَ فِيهِ نُورُ الشَّرِيعَةِ وضِياؤُها، وباشَرَ قَلْبُهُ بَشاشَةَ حِكَمِها وما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِن المَصالِحِ في القُلُوبِ والأبَدانِ، وتَلَقّاها صافِيَةً مِن مِشْكاةِ النُّبُوَّةِ، وأحْكَمَ العَقْدَ بَيْنَها وبَيْنَ الأسْماءِ والصِّفاتِ الَّتِي لَمْ يَطْمِسْ نُورَ حَقائِقِها ظُلْمَةُ التَّأْوِيلِ والتَّحْرِيفِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب