الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأنْساهم أنْفُسَهُمْ﴾ فهؤلاء نسوا نفوسهم لا من جميع الوجوه بل من الوجه الذي به مصالحها وكمالها وسعاداتها، وإن لم ينسوها من الوجه الذي منه شهوتها وحظها وإراداتها فأنساهم مصالح نفوسهم أن يفعلوها ويطلبوها، وعيوبها ونقائصها أن يزيلوها ويجتنبوها وكمالها الذي خلقت له أن يعرفوه ويطلبوه، فهم جاهلون بحقائق أنفسهم من هذه الوجهة، وإن كانوا عالمين بها من وجوه. * (فائدة) قوله تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأنْساهم أنْفُسَهُمْ﴾ عاقبهم على نسيانهم له بأن أنساهم أنفسهم فنسوا مصالحها أن يفعلوها وعيوبها أن يصلحوها وحظوظها أن يتناولوها ومن أعظم مصالحها وأنفع حظوظها ذكرها لربها وفاطرها وهي لا نعيم لها ولا سرور ولا فلاح ولا صلاح إلا بذكره وحبه وطاعته والإقبال عليه والإعراض عما سواه فأنساهم ذلك لما نسوه وأحدث لهم هذا النسيان نسيانا آخر وهذا ضد حال الذين ذكروه ولم ينسوه فذكرهم مصالح نفوسهم ففعلوها وأوقفهم على عيوبها فأصلحوها وعرفهم حظوظها العالية فبادروا إليها فجازى أولئك على نسيانهم بأن أنساهم الإيمان ومحبته وذكره وشكره، فلما خلت قلوبهم من ذلك لم يجدوا عن ضده محيصا. وهذا يبين لك كمال عدله سبحانه في تقدير الكفر والذنوب عليها، وإذا كان قضاؤه عليها بالكفر والذنوب عدلا منه عليها فقضاؤه عليها بالعقوبة أعدل وأعدل، فهو سبحانه ماض في عبده حكمه عدل فيه قضاؤه. وله فيها قضاآن قضاء السبب وقضاء المسبب، وكلاهما عدل فيه، فإنه لما ترك ذكره وترك فعل ما يحبه عاقبه بنسيان نفسه فأحدث له هذا النسيان ارتكاب ما يبغضه ويسخطه بقضائه الذي هو عدل فترتب له على هذا الفعل والترك عقوبات وآلام لم يكن له منها بد، بل هي مترتبة عليه ترتب المسببات على أسبابها فهو عدل محض من الرب تعالى، فعدل في العبد أولا وآخرا فهو محسن في عدله محبوب عليه محمود فيه يحمده من عدل فيه طوعا وكرها. قال الحسن: "لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا" * (فائدة) وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: ١٨]. يقول تعالى: لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصالحات التي تنجيه، أم من السيئات التي توبقه؟ قال قتادة: "ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد". والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها. * (فائدة) وَأمّا الِاعْتِرافُ بِالخالِقِ فَإنَّهُ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ لازِمٌ لِلْإنْسانِ لا يَغْفُلُ عَنْهُ أحَدٌ بِحَيْثُ لا يَعْرِفُهُ، بَلْ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهُ، وإنْ قُدِّرَ أنَّهُ نَسِيَهُ. ولِهَذا يُسَمّى التَّعْرِيفُ بِذَلِكَ تَذْكِيرًا، فَإنَّهُ تَذْكِيرٌ بِعُلُومٍ فِطْرِيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ، وقَدْ يَنْساها العَبْدُ كَما قالَ تَعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأنْساهم أنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: ١٩] وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَقُولُ اللَّهُ لِلْكافِرِ: فاليَوْمَ أنْساكَ كَما نَسِيتَنِي». * (فصل) وهاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن الرب تعالى شهد بصحة ما أخبر به وهو أصدق الصادقين وأقسم عليه وهو أبر المقسمين وأكده بتشبيهه بالواقع الذي لا يقبل الشك بوجه وأقام عليه من الأدلة العيانية والبرهانية ما جعله معاينًا مشاهدًا بالبصائر وإن لم يعاين بالأبصار، ومع ذلك فأكثر النفوس في غفلة عنه لا تستعد له ولا تأخذ له أهبة والمستعد له الآخذ له أهبة لا يعطيه حقه منهم إلا الفرد بعد الفرد، فأكثر الخلق لا ينظرون في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدار، ولا يتفكرون في قلة مقامهم في دار الغرور، ولا في رحيلهم وانتقالهم عنها، ولا إلى أين يرحلون وأين يستقرون، قد ملكهم الحس وقل نصيبهم من العقل وشملتهم الغفلة، وغرتهم الأماني التي هي كالسراب، وخدعهم طول الأمل، وكأن المقيم لا يرحل وكأن أحدهم لا يبعث ولا يسأل وكأن مع كل مقيم توقيع من الله لفلان بن فلان بالأمان من عذابه والفوز بجزيل ثوابه فأما اللذات الحسية والشهوات النفسية كيفما حصلت فإنهم حصلوها ومن أي وجه لاحت أخذوها غافلين عن المطالبة آمنين من العاقبة يسعون لما يدركون ويتركون ماهم به مطالبون ويعمرون ما هم عنه منتقلون ويخربون ما هم إليه صائرون وهم عن الآخرة هم غافلون ألهتهم شهوات نفوسهم فلا ينظرون في مصالحها ولا يأخذون في جمع زادها في سفرها ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأنْساهم أنْفُسَهم أُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ والعجب كل العجب من غفلة من تعد عليه لحظاته وتحصى عليه أنفاسه ومطايا الليل والنهار تسرع به ولا يتفكر إلى أين يحمل ولا إلى أي منزل ينقل: ؎وكيف تنام العين وهي قريرة ∗∗∗ ولم تدر في أي المحلين تنزل وإذا نزل بأحدهم الموت قلق لخراب ذاته وذهاب لذاته لا لما سبق من جناياته ولا لسوء منقلبه بعد مماته فإن خطرت على أحدهم خطرة من ذلك اعتمد العفو أو الرحمة وكان يتيقن أن ذلك نصيبه ولا بد فلو أن العاقل أحضر ذهنه ما استحضر عقله وسار بفكره وأمعن النظر وتأمل الآيات لفهم المراد من إيجاده ولنظرت عين الراحل إلى الطريق، ولأخذ المسافر في التزود، والمريض في التداوي، والحازم ما يجوز أن يأتي. فما الظن بأمر متيقن كما أنه لصدق إيمانه وقوة إيقانهم وكأنهم يعاينون الأمر، فأضحت ربوع الأيمان من أهلها خالية، ومعالمه على عروشها خاوية. قال ابن وهب أخبرني مسلم بن علي عن الأوزاعي قال: " كان السلف إذا طلع الفجر أو قبله كأنما على رؤسهم الطير مقبلين على أنفسهم حتى لو أن حبيبا لأحدهم غاب عنه حينًا ثم قدم لما التفت إليه، فلا يزالون كذلك إلى طلوع الشمس، ثم يقوم بعضهم إلى بعض فيتخلفون بأول ما يقتضون فيه أمر معادهم وما هم صائرون إليه ثم يأخذون في الفقه". * (فصل) اعلم أن دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، فإن نسيان الرب سبحانه وتعالى يوجب نسيان نفسه ومصالحها، قال تعالى: ﴿ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون﴾ وإذا نسي العبد نفسه أعرض عن مصالحها ونسيها، واشتغل عنها فهلكت وفسدت ولا بد، كمن له زرع أو بستان أو ماشية أو غير ذلك، ومما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه، فأهمله ونسيه واشتغل عنه بغيره، وضيع مصالحه، فإنه يفسد ولا بد. هذا مع إمكان قيام غيره مقامه فيه، فكيف الظن بفساد نفسه وهلاكها وشقائها إذا أهملها ونسيها، واشتغل عن مصالحها، وعطل مراعاتها، وترك القيام عليها بما يصلحها، فما شئت من فساد وهلاك وخيبة وحرمان. وهذا هو الذي صار أمره كله فرطًا، فانفرط عليه أمره وضاعت مصالحه، وأحاطت به أسباب القطوع والخيبة والهلاك. ولا سبيل إلى الأمان من ذلك إلا بدوام ذكر الله تعالى واللهج به، وأن لا يزال اللسان رطبًا به، وأن يتولى منزلة حياته التي لا غنى له عنها، ومنزلة غذائه الذي إذا فقده فسد جسمه وهلك، وبمنزلة الماء عند شدة العطش، وبمنزلة اللباس في الحر والبرد، وبمنزلة الكن في شدة الشتاء والسموم. فحقيق بالعبد أن ينزل ذكر الله منه بهذه المنزلة وأعظم، فأين هلاك الروح والقلب وفسادهما من هلاك البدن وفساده؟ هذا هلاك لا بد منه وقد يعقبه صلاح لا بد، وأما هلاك القلب والروح فهلاك لا يرجى معه صلاح ولا فلاح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. * [فَصْلٌ: المَعاصِي تُنْسِي اللَّهَ] وَمِن عُقُوباتِها: أنَّها تَسْتَدْعِي نِسْيانَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ، وتَرْكَهُ وتَخْلِيَتَهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ نَفْسِهِ وشَيْطانِهِ، وهُنالِكَ الهَلاكُ الَّذِي لا يُرْجى مَعَهُ نَجاةٌ، قالَ اللَّهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ - ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأنْساهم أنْفُسَهم أُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ [الحشر: ١٨-١٩]. فَأمَرَ بِتَقْواهُ ونَهى أنْ يَتَشَبَّهَ عِبادُهُ المُؤْمِنُونَ بِمَن نَسِيَهُ بِتَرْكِ تَقْواهُ، وأخْبَرَ أنَّهُ عاقَبَ مَن تَرَكَ التَّقْوى بِأنْ أنْساهُ نَفْسَهُ، أيْ أنْساهُ مَصالِحَها، وما يُنْجِيها مِن عَذابِهِ، وما يُوجِبُ لَهُ الحَياةَ الأبَدِيَّةَ، وكَمالَ لَذَّتِها وسُرُورِها ونَعِيمِها، فَأنْساهُ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ جَزاءً لِما نَسِيَهُ مِن عَظَمَتِهِ وخَوْفِهِ، والقِيامِ بِأمْرِهِ، فَتَرى العاصِيَ مُهْمِلًا لِمَصالِحِ نَفْسِهِ مُضَيِّعًا لَها، قَدْ أغْفَلَ اللَّهُ قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِهِ، واتَّبَعَ هَواهُ وكانَ أمْرُهُ فُرُطًا، قَدِ انْفَرَطَتْ عَلَيْهِ مَصالِحُ دُنْياهُ وآخِرَتِهِ، وقَدْ فَرَّطَ في سَعادَتِهِ الأبَدِيَّةِ، واسْتَبْدَلَ بِها أدْنى ما يَكُونُ مِن لَذَّةٍ، إنَّما هي سَحابَةُ صَيْفٍ، أوْ خَيالُ طَيْفٍ كَما قِيلَ: ؎أحْلامُ نَوْمٍ أوْ كَظِلٍّ زائِلٍ ∗∗∗ إنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِها لا يُخْدَعُ وَأعْظَمُ العُقُوباتِ نِسْيانُ العَبْدِ لِنَفْسِهِ، وإهْمالُهُ لَها، وإضاعَتُهُ حَظَّها ونَصِيبَها مِنَ اللَّهِ، وبَيْعُها ذَلِكَ بِالغَبْنِ والهَوانِ وأبْخَسِ الثَّمَنِ، فَضَيَّعَ مَن لا غِنى لَهُ عَنْهُ، ولا عِوَضَ لَهُ مِنهُ، واسْتَبْدَلَ بِهِ مَن عَنْهُ كُلُّ الغِنى أوْ مِنهُ كُلُّ العِوَضِ: ؎مِن كُلِّ شَيْءٍ إذا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ ∗∗∗ وما مِنَ اللَّهِ إنْ ضَيَّعْتَ مِن عِوَضِ فاللَّهُ سُبْحانَهُ يُعَوِّضُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ ما سِواهُ ولا يُعَوِّضُ مِنهُ شَيْءٌ، ويُغْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ ولا يُغْنِي عَنْهُ شَيْءٌ، ويُجِيرُ مِن كُلِّ شَيْءٍ ولا يُجِيرُ مِنهُ شَيْءٌ، ويَمْنَعُ مِن كُلِّ شَيْءٍ ولا يَمْنَعُ مِنهُ شَيْءٌ، كَيْفَ يَسْتَغْنِي العَبْدُ عَنْ طاعَةِ مَن هَذا شَأْنُهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ؟ وَكَيْفَ يَنْسى ذِكْرَهُ ويُضَيِّعُ أمْرَهُ حَتّى يُنْسِيَهُ نَفْسَهُ، فَيَخْسَرُها ويَظْلِمُها أعْظَمَ الظُّلْمِ؟ فَما ظَلَمَ العَبْدُ رَبَّهُ ولَكِنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وما ظَلَمَهُ رَبُّهُ ولَكِنْ هو الَّذِي ظَلَمَ نَفْسَهُ. * [فَصْلٌ: المَعْصِيَةُ تُنْسِي العَبْدَ نَفْسَهُ] وَمِن عُقُوباتِها: أنَّها تُنْسِي العَبْدَ نَفْسَهُ، وإذا نَسِيَ نَفْسَهُ أهْمَلَها وأفْسَدَها وأهْلَكَها، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَنْسى العَبْدُ نَفْسَهُ؟ وإذا نَسِيَ نَفْسَهُ فَأيُّ شَيْءٍ يَذْكُرُ؟ وما مَعْنى نِسْيانِهِ نَفْسَهُ؟ قِيلَ: نَعَمْ يَنْسى نَفْسَهُ أعْظَمَ نِسْيانٍ، قالَ تَعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأنْساهم أنْفُسَهم أُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ [الحشر: ١٩]. فَلَمّا نَسُوا رَبَّهم سُبْحانَهُ نَسِيَهم وأنْساهم أنْفُسَهُمْ، كَما قالَ تَعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧]. فَعاقَبَ سُبْحانَهُ مَن نَسِيَهُ عُقُوبَتَيْنِ: إحْداهُما: أنَّهُ سُبْحانَهُ نَسِيَهُ. والثّانِيَةُ: أنَّهُ أنْساهُ نَفْسَهُ. وَنِسْيانُهُ سُبْحانَهُ لِلْعَبْدِ: إهْمالُهُ، وتَرْكُهُ، وتَخَلِّيهِ عَنْهُ، وإضاعَتُهُ، فالهَلاكُ أدْنى إلَيْهِ مِنَ اليَدِ لِلْفَمِ، وأمّا إنْساؤُهُ نَفْسَهُ، فَهُوَ: إنْساؤُهُ لِحُظُوظِها العالِيَةِ، وأسْبابِ سَعادَتِها وفَلاحِها، وإصْلاحِها، وما تَكْمُلُ بِهِ بِنَسْيِهِ ذَلِكَ كُلِّهِ جَمِيعِهِ فَلا يَخْطُرُ بِبالِهِ، ولا يَجْعَلُهُ عَلى ذِكْرِهِ، ولا يَصْرِفُ إلَيْهِ هِمَّتَهُ فَيَرْغَبُ فِيهِ، فَإنَّهُ لا يَمُرُّ بِبالِهِ حَتّى يَقْصِدَهُ ويُؤْثِرَهُ. وَأيْضًا فَيُنْسِيهِ عُيُوبَ نَفْسِهِ ونَقْصَها وآفاتِها، فَلا يَخْطُرُ بِبالِهِ إزالَتُها. وَأيْضًا فَيُنْسِيهِ أمْراضَ نَفْسِهِ وقَلْبِهِ وآلامَها، فَلا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ مُداواتُها، ولا السَّعْيُ في إزالَةِ عِلَلِها وأمْراضِها الَّتِي تَئُولُ بِها إلى الفَسادِ والهَلاكِ، فَهو مَرِيضٌ مُثْخَنٌ بِالمَرَضِ، ومَرَضُهُ مُتَرامٍ بِهِ إلى التَّلَفِ، ولا يَشْعُرُ بِمَرَضِهِ، ولا يَخْطُرُ بِبالِهِ مُداواتُهُ، وهَذا مِن أعْظَمِ العُقُوبَةِ العامَّةِ والخاصَّةِ. فَأيُّ عُقُوبَةٍ أعْظَمُ مِن عُقُوبَةِ مَن أهْمَلَ نَفْسَهُ وضَيَّعَها، ونَسِيَ مَصالِحَها وداءَها ودَواءَها، وأسْبابَ سَعادَتِها وفَلاحِها وصَلاحِها وحَياتِها الأبَدِيَّةِ في النَّعِيمِ المُقِيمِ؟ ومَن تَأمَّلَ هَذا المَوْضِعَ تَبَيَّنَ لَهُ أنَّ أكْثَرَ هَذا الخَلْقِ قَدْ نَسُوا حَقِيقَةَ أنْفُسِهِمْ وضَيَّعُوها وأضاعُوا حَظَّها مِنَ اللَّهِ، وباعُوها رَخِيصَةً بِثَمَنٍ بَخْسٍ بَيْعَ الغَبْنِ، وإنَّما يَظْهَرُ لَهم هَذا عِنْدَ المَوْتِ، ويَظْهَرُ هَذا كُلَّ الظُّهُورِ يَوْمَ التَّغابُنِ، يَوْمَ يَظْهَرُ لِلْعَبْدِ أنَّهُ غُبِنَ في العَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ لِنَفْسِهِ في هَذِهِ الدّارِ، والتِّجارَةِ الَّتِي اتَّجَرَ فِيها لِمَعادِهِ، فَإنَّ كُلَّ أحَدٍ يَتَّجِرُ في هَذِهِ الدُّنْيا لِآخِرَتِهِ. فالخاسِرُونَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أنَّهم أهْلُ الرِّبْحِ والكَسْبِ اشْتَرَوُا الحَياةَ الدُّنْيا وحَظَّهم فِيها ولَذّاتِهِمْ، بِالآخِرَةِ وحَظِّهِمْ فِيها، فَأذْهَبُوا طَيِّباتِهِمْ في حَياتِهِمُ الدُّنْيا، واسْتَمْتَعُوا بِها، ورَضُوا بِها، واطْمَأنُّوا إلَيْها، وكانَ سَعْيُهم لِتَحْصِيلِها، فَباعُوا واشْتَرَوْا واتَّجَرُوا وباعُوا آجِلًا بِعاجِلٍ، ونَسِيئَةً بِنَقْدٍ، وغائِبًا بِناجِزٍ، وقالُوا: هَذا هو الحَزْمُ، ويَقُولُ أحَدُهُمْ: خُذْ ما تَراهُ ودَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ فَكَيْفَ أبِيعُ حاضِرًا نَقْدًا مُشاهَدًا في هَذِهِ الدّارِ بِغائِبٍ نَسِيئَةً في دارٍ أُخْرى غَيْرِ هَذِهِ؟ ويَنْضَمُّ إلى ذَلِكَ ضَعْفُ الإيمانِ وقُوَّةُ داعِي الشَّهْوَةِ، ومَحَبَّةُ العاجِلَةِ والتَّشَبُّهُ بِبَنِي الجِنْسِ، فَأكْثَرُ الخَلْقِ في هَذِهِ التِّجارَةِ الخاسِرَةِ الَّتِي قالَ اللَّهُ في أهْلِها: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَياةَ الدُّنْيا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: ٨٦] وَقالَ فِيهِمْ: ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهم وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: ١٦] فَإذا كانَ يَوْمُ التَّغابُنِ ظَهَرَ لَهُمُ الغَبْنُ في هَذِهِ التِّجارَةِ، فَتَتَقَطَّعُ عَلَيْهِمُ النُّفُوسُ حَسَراتٍ. وَأمّا الرّابِحُونَ فَإنَّهم باعُوا فانِيًا بِباقٍ، وخَسِيسًا بِنَفِيسٍ، وحَقِيرًا بِعَظِيمٍ، وقالُوا: ما مِقْدارُ هَذِهِ الدُّنْيا مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، حَتّى نَبِيعَ حَظَّنا مِنَ اللَّهِ تَعالى والدّارِ الآخِرَةِ بِها؟ فَكَيْفَ يَنالُ العَبْدُ مِنها في هَذا الزَّمَنِ القَصِيرِ الَّذِي هو في الحَقِيقَةِ كَغَفْوَةِ حُلْمٍ، لا نِسْبَةَ لَهُ إلى دّارِ القَرارِ ألْبَتَّةَ: قالَ تَعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهم كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ [يونس: ٤٥]. وَقالَ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أيّانَ مُرْساها - فِيمَ أنْتَ مِن ذِكْراها - إلى رَبِّكَ مُنْتَهاها - إنَّما أنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشاها - كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إلّا عَشِيَّةً أوْ ضُحاها﴾ [النازعات: ٤٢-٤٦]. وَقالَ تَعالى: ﴿كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِن نَهارٍ بَلاغٌ﴾ [الأحقاف: ٣٥]. وَقالَ تَعالى: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ في الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ - قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْألِ العادِّينَ - قالَ إنْ لَبِثْتُمْ إلّا قَلِيلًا لَوْ أنَّكم كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [المؤمنين: ١١٢-١١٤]. وَقالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ ونَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا - يَتَخافَتُونَ بَيْنَهم إنْ لَبِثْتُمْ إلّا عَشْرًا - نَحْنُ أعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إذْ يَقُولُ أمْثَلُهم طَرِيقَةً إنْ لَبِثْتُمْ إلّا يَوْمًا﴾ [طه: ١٠٢-١٠٤]. فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الدُّنْيا عِنْدَ مُوافاةِ يَوْمِ القِيامَةِ، فَلَمّا عَلِمُوا قِلَّةَ لُبْثِهِمْ فِيها، وأنَّ لَهم دارًا غَيْرَ هَذِهِ الدّارِ، هي دارُ الحَيَوانِ ودارُ البَقاءِ - رَأوْا مِن أعْظَمِ الغَبْنِ بَيْعَ دارِ البَقاءِ بِدارِ الفَناءِ، فاتَّجَرُوا تِجارَةَ الأكْياسِ، ولَمْ يَغْتَرُّوا بِتِجارَةِ السُّفَهاءِ مِنَ النّاسِ، فَظَهَرَ لَهم يَوْمَ التَّغابُنِ رِبْحُ تِجارَتِهِمْ ومِقْدارُ ما اشْتَرَوْهُ، وكُلُّ أحَدٍ في هَذِهِ الدُّنْيا بائِعٌ مُشْتَرٍ مُتَّجِرٌ، وكُلُّ النّاسِ يَغْدُو فَبائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها أوْ مَوْبِقُها. ﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهم وأمْوالَهم بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ والقُرْآنِ ومَن أوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [التوبة: ١١١]. فَهَذا أوَّلُ نَقْدٍ مِن ثَمَنِ هَذِهِ التِّجارَةِ، فَتاجِرُوا أيُّها المُفْلِسُونَ، ويا مَن لا يَقْدِرُ عَلى هَذا الثَّمَنِ، هُنا ثَمَنٌ آخَرُ، فَإنْ كُنْتَ مِن أهْلِ هَذِهِ التِّجارَةِ فَأعْطِ هَذا الثَّمَنَ: ﴿التّائِبُونَ العابِدُونَ الحامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ والنّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ والحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ١١٢]. ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِكم وأنْفُسِكم ذَلِكم خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الصف: ١٠-١١]. والمَقْصُودُ أنَّ الذُّنُوبَ تُنْسِي العَبْدَ حَظَّهُ مِن هَذِهِ التِّجارَةِ الرّابِحَةِ، وتَشْغَلُهُ بِالتِّجارَةِ الخاسِرَةِ، وكَفى بِذَلِكَ عُقُوبَةً، واللَّهُ المُسْتَعانُ. * [فَصْلٌ مَنزِلَةُ المُحاسَبَةِ] [مِن مَنزِلَةِ المُحاسَبَةِ يَصِحُّ لَهُ نُزُولُ مَنزِلَةِ التَّوْبَةِ] * فَصْلٌ مَنزِلَةُ المُحاسَبَةِ فَلْنَرْجِعْ إلى ذِكْرِ مَنازِلِ " ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ " الَّتِي لا يَكُونُ العَبْدُ مِن أهْلِها حَتّى يَنْزِلَ مَنازِلَها. فَذَكَرْنا مِنها اليَقَظَةَ والبَصِيرَةَ والفِكْرَةَ والعَزْمَ. وَهَذِهِ المَنازِلُ الأرْبَعَةُ لِسائِرِ المَنازِلِ كالأساسِ لِلْبُنْيانِ، وعَلَيْها مَدارُ مَنازِلِ السَّفَرِ إلى اللَّهِ، ولا يُتَصَوَّرُ السَّفَرُ إلَيْهِ بِدُونِ نُزُولِها ألْبَتَّةَ، وهي عَلى تَرْتِيبِ السَّيْرِ الحِسِّيِّ، فَإنَّ المُقِيمَ في وطَنِهِ لا يَتَأتّى مِنهُ السَّفَرُ حَتّى يَسْتَيْقِظَ مِن غَفْلَتِهِ عَنِ السَّفَرِ، ثُمَّ يَتَبَصَّرَ في أمْرِ سَفَرِهِ وخَطَرِهِ، وما فِيهِ مِنَ المَنفَعَةِ لَهُ والمَصْلَحَةِ، ثُمَّ يُفَكِّرُ في أُهْبَةِ السَّفَرِ والتَّزَوُّدِ وإعْدادِ عُدَّتِهِ، ثُمَّ يَعْزِمُ عَلَيْهِ، فَإذا عَزَمَ عَلَيْهِ وأجْمَعَ قَصْدَهُ انْتَقَلَ إلى مَنزِلَةِ المُحاسِبَةِ وهي التَّمْيِيزُ بَيْنَ ما لَهُ وعَلَيْهِ، فَيَسْتَصْحِبُ ما لَهُ، ويُؤَدِّي ما عَلَيْهِ، لِأنَّهُ مُسافِرٌ سَفَرَ مَن لا يَعُودُ. وَمِن مَنزِلَةِ المُحاسَبَةِ يَصِحُّ لَهُ نُزُولُ مَنزِلَةِ التَّوْبَةِ لِأنَّهُ إذا حاسَبَ نَفْسَهُ، عَرَفَ ما عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ، فَخَرَجَ مِنهُ، وتَنَصَّلُ مِنهُ إلى صاحِبِهِ، وهي حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ فَكانَ تَقْدِيمُ المُحاسَبَةِ عَلَيْها لِذَلِكَ أوْلى. وَلِتَأْخِيرِها عَنْها وجْهٌ أيْضًا، وهو أنَّ المُحاسَبَةَ لا تَكُونُ إلّا بَعْدَ تَصْحِيحِ التَّوْبَةِ. والتَّحْقِيقُ أنْ التَّوْبَةَ بَيْنَ مُحاسَبَتَيْنِ، مُحاسَبَةٍ قَبْلَها، تَقْتَضِي وُجُوبَها، ومُحاسَبَةٍ بَعْدَها، تَقْتَضِي حِفْظَها، فالتَّوْبَةُ مَحْفُوفَةٌ بِمُحاسَبَتَيْنِ، وقَدْ دَلَّ عَلى المُحاسَبَةِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: ١٨] فَأمَرَ سُبْحانَهُ العَبْدَ أنْ يَنْظُرَ ما قَدَّمَ لِغَدٍ، وذَلِكَ يَتَضَمَّنُ مُحاسَبَةَ نَفْسِهِ عَلى ذَلِكَ، والنَّظَرَ هَلْ يَصْلُحُ ما قَدَّمَهُ أنْ يَلْقى اللَّهَ بِهِ أوْ لا يَصْلُحُ؟ والمَقْصُودُ مِن هَذا النَّظَرِ ما يُوجِبُهُ ويَقْتَضِيهِ، مِن كَمالِ الِاسْتِعْدادِ لِيَوْمِ المَعادِ، وتَقْدِيمِ ما يُنْجِيهِ مِن عَذابِ اللَّهِ، ويُبَيِّضُ وجْهَهُ عِنْدَ اللَّهِ، وقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حاسِبُوا أنْفُسَكم قَبْلَ أنْ تُحاسَبُوا، وزِنُوا أنْفُسَكم قَبْلَ أنْ تُوزَنُوا، وتُزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأكْبَرِ ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنكم خافِيَةٌ﴾ [الحاقة: ١٨] أوْ قالَ: عَلى مَن لا تَخْفى عَلَيْهِ أعْمالُكم. [أرْكانُ المُحاسَبَةِ] [الرُّكْنُ الأوَّلُ المُقايَسَةُ بَيْنَ ما لِلْعَبْدِ وما لِلَّهِ] قالَ صاحِبُ المَنازِلِ: المُحاسَبَةُ لَها ثَلاثَةُ أرْكانٍ: أحَدُها: أنْ تُقايِسَ بَيْنَ نِعْمَتِهِ وجِنايَتِكَ. يَعْنِي تُقايِسَ بَيْنَ ما مِنَ اللَّهِ وما مِنكَ، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لَكَ التَّفاوُتُ، وتَعْلَمُ أنَّهُ لَيْسَ إلّا عَفْوُهُ ورَحْمَتُهُ، أوِ الهَلاكُ والعَطَبُ. وَبِهَذِهِ المُقايَسَةِ تَعْلَمُ أنَّ الرَّبَّ رَبٌّ والعَبْدَ عَبْدٌ، ويَتَبَيَّنُ لَكَ حَقِيقَةُ النَّفْسِ وصِفاتُها، وعَظْمَةُ جَلالِ الرُّبُوبِيَّةِ، وتَفَرُّدِ الرَّبِّ بِالكَمالِ والإفْضالِ، وأنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ مِنهُ فَضْلٌ، وكُلَّ نِقْمَةٍ مِنهُ عَدْلٌ، وأنْتَ قَبْلَ هَذِهِ المُقايَسَةِ جاهِلٌ بِحَقِيقَةِ نَفْسِكَ، وبِرُبُوبِيَّةِ فاطِرِها وخالِقِها، فَإذا قايَسْتَ ظَهَرَ لَكَ أنَّها مَنبَعُ كُلِّ شَرٍّ، وأساسُ كُلِّ نَقْصٍ، وأنَّ حَدَّها الجاهِلَةُ الظّالِمَةُ، وأنَّهُ لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ ورَحْمَتُهُ بِتَزْكِيَتِهِ لَها ما زَكَتْ أبَدًا، ولَوْلا هُداهُ ما اهْتَدَتْ، ولَوْلا إرْشادُهُ وتَوْفِيقُهُ لَما كانَ لَها وُصُولٌ إلى خَيْرٍ ألْبَتَّةَ، وأنَّ حُصُولَ ذَلِكَ لَها مِن بارِئِها وفاطِرِها، وتَوَقُّفَهُ عَلَيْهِ كَتَوَقُّفِ وُجُودِها عَلى إيجادِهِ، فَكَما أنَّها لَيْسَ لَها مِن ذاتِها وُجُودٌ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ لَها مِن ذاتِها كَمالُ الوُجُودِ، فَلَيْسَ لَها مِن ذاتِها إلّا العَدَمُ - عَدَمُ الذّاتِ، وعَدَمُ الكَمالِ - فَهُناكَ تَقُولُ حَقًّا «أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وأبُوءُ بِذَنْبِي». ثُمَّ تُقايِسُ بَيْنَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ، فَتَعْلَمُ بِهَذِهِ المُقايَسَةِ أيُّهُما أكْثَرُ وأرْجَحُ قَدْرًا وصِفَةً. وَهَذِهِ المُقايَسَةُ الثّانِيَةُ مُقايَسَةٌ بَيْنَ أفْعالِكَ وما مِنكَ خاصَّةً. قالَ: وهَذِهِ المُقايَسَةُ تَشُقُّ عَلى مَن لَيْسَ لَهُ ثَلاثَةُ أشْياءَ: نُورُ الحِكْمَةِ، وسُوءُ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ، وتَمْيِيزُ النِّعْمَةِ مِنَ الفِتْنَةِ. يَعْنِي أنَّ هَذِهِ المُقايَسَةَ والمُحاسَبَةَ تَتَوَقَّفُ عَلى نُورِ الحِكْمَةِ، وهو النُّورُ الَّذِي نَوَّرَ اللَّهُ بِهِ قُلُوبَ أتْباعِ الرُّسُلِ، وهو نُورُ الحِكْمَةِ، فَبِقَدْرِهِ تَرى التَّفاوُتَ، وتَتَمَكَّنُ مِنَ المُحاسَبَةِ. وَنُورُ الحِكْمَةِ هاهُنا: هو العِلْمُ الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ العَبْدُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، والهُدى والضَّلالِ، والضّارِّ والنّافِعِ، والكامِلِ والنّاقِصِ، والخَيْرِ والشَّرِّ، ويُبْصِرُ بِهِ مَراتِبَ الأعْمالِ، راجِحَها ومَرْجُوحَها، ومَقْبُولَها ومَرْدُودَها، وكُلَّما كانَ حَظُّهُ مِن هَذا النُّورِ أقْوى كانَ حَظُّهُ مِنَ المُحاسَبَةِ أكْمَلَ وأتَمَّ. وَأمّا سُوءُ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ فَإنَّما احْتاجَ إلَيْهِ؛ لِأنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ يَمْنَعُ مِن كَمالِ التَّفْتِيشِ ويُلَبِّسُ عَلَيْهِ، فَيَرى المَساوِئَ مَحاسِنَ، والعُيُوبَ كَمالًا، فَإنَّ المُحِبَّ يَرى مَساوِئَ مَحْبُوبِهِ وعُيُوبَهُ كَذَلِكَ. ؎فَعَيْنُ الرِّضى عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ∗∗∗ كَما أنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَساوِيا وَلا يُسِيءُ الظَّنَّ بِنَفْسِهِ إلّا مَن عَرَفَها، ومَن أحْسَنَ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ فَهو مِن أجْهَلِ النّاسِ بِنَفْسِهِ. وَأمّا تَمْيِيزُ النِّعْمَةِ مِنَ الفِتْنَةِ: فَلْيُفَرِّقْ بَيْنَ النِّعْمَةِ الَّتِي يُرى بِها الإحْسانُ واللُّطْفُ، ويُعانُ بِها عَلى تَحْصِيلِ سَعادَتِهِ الأبَدِيَّةِ، وبَيْنَ النِّعْمَةِ الَّتِي يُرى بِها الِاسْتِدْراجُ، فَكَمْ مِن مُسْتَدْرَجٍ بِالنِّعَمِ وهو لا يَشْعُرُ، مَفْتُونٍ بِثَناءِ الجُهّالِ عَلَيْهِ، مَغْرُورٍ بِقَضاءِ اللَّهِ حَوائِجَهُ وسَتْرِهِ عَلَيْهِ! وأكْثَرُ الخَلْقِ عِنْدَهم أنَّ هَذِهِ الثَّلاثَةَ عَلامَةُ السَّعادَةِ والنَّجاحِ، ذَلِكَ مَبْلَغُهم مِنَ العِلْمِ. فَإذا كَمَلَتْ هَذِهِ الثَّلاثَةُ فِيهِ عَرَفَ حِينَئِذٍ أنَّ ما كانَ مِن نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِجَمْعِهِ عَلى اللَّهِ فَهو نِعْمَةٌ حَقِيقَةٌ، وما فَرَّقَهُ عَنْهُ وأخَذَهُ مِنهُ فَهو البَلاءُ في صُورَةِ النِّعْمَةِ، والمِحْنَةُ في صُورَةِ المِنحَةِ، فَلْيَحْذَرْ فَإنَّما هو مُسْتَدْرَجٌ، ويُمَيِّزْ بِذَلِكَ أيْضًا بَيْنَ المِنَّةِ والحُجَّةِ، فَكَمْ تَلْتَبِسُ إحْداهُما عَلَيْهِ بِالأُخْرى!. فَإنَّ العَبْدَ بَيْنَ مِنَّةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وحُجَّةٍ مِنهُ عَلَيْهِ، ولا يَنْفَكُّ عَنْهُما، فالحُكْمُ الدِّينِيُّ مُتَضَمِّنٌ لِمِنَّتِهِ وحُجَّتِهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِن أنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٤] وقالَ ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكم أنْ هَداكم لِلْإيمانِ﴾ [الحجرات: ١٧] وقالَ ﴿فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ [الأنعام: ١٤٩]. والحُكْمُ الكَوْنِيُّ أيْضًا مُتَضَمِّنٌ لِمِنَّتِهِ وحُجَّتِهِ، فَإذا حَكَمَ لَهُ كَوْنًا حُكْمًا مَصْحُوبًا بِاتِّصالِ الحُكْمِ الدِّينِيِّ بِهِ فَهو مِنَّةٌ عَلَيْهِ، وإنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الدِّينِيُّ فَهو حُجَّةٌ مِنهُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ الدِّينِيُّ إذا اتَّصَلَ بِهِ حُكْمُهُ الكَوْنِيُّ، فَتَوْفِيقُهُ لِلْقِيامِ بِهِ مِنَّةٌ مِنهُ عَلَيْهِ، وإنْ تَجَرَّدَ عَنْ حُكْمِهِ الكَوْنِيِّ صارَ حُجَّةً مِنهُ عَلَيْهِ، فالمِنَّةُ بِاقْتِرانِ أحَدِ الحُكْمَيْنِ بِصاحِبِهِ، والحُجَّةُ في تَجَرُّدِ أحَدِهِما عَنِ الآخَرِ، فَكُلُّ عِلْمٍ صَحِبَهُ عَمَلٌ يُرْضِي اللَّهَ سُبْحانَهُ فَهو مِنَّةٌ، وإلّا فَهو حُجَّةٌ. وَكُلُّ قُوَّةٍ ظاهِرَةٍ وباطِنَةٍ صَحِبَها تَنْفِيذٌ لِمَرْضاتِهِ وأوامِرِهِ فَهي مِنَّةٌ، وإلّا فَهي حُجَّةٌ. وَكُلُّ حالٍ صَحِبَهُ تَأْثِيرٌ في نُصْرَةِ دِينِهِ، والدَّعْوَةِ إلَيْهِ فَهو مِنَّةٌ مِنهُ، وإلّا فَهو حُجَّةٌ. وَكُلُّ مالٍ اقْتَرَنَ بِهِ إنْفاقٌ في سَبِيلِ اللَّهِ وطاعَتِهِ، لا لِطَلَبِ الجَزاءِ ولا الشَّكُورِ، فَهو مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وإلّا فَهو حُجَّةٌ. وَكُلُّ فَراغٍ اقْتَرَنَ بِهِ اشْتِغالٌ بِما يُرِيدُ الرَّبُّ مِن عَبْدِهِ فَهو مِنَّةٌ عَلَيْهِ، وإلّا فَهو حُجَّةٌ. وَكُلُّ قَبُولٍ في النّاسِ، وتَعْظِيمٍ ومَحَبَّةٍ لَهُ، اتَّصَلَ بِهِ خُضُوعٌ لِلرَّبِّ، وذُلٌّ وانْكِسارٌ، ومَعْرِفَةٌ بِعَيْبِ النَّفْسِ والعَمَلِ، وبَذْلِ النَّصِيحَةِ لِلْخَلْقِ فَهو مِنَّةٌ، وإلّا فَهو حُجَّةٌ. وَكُلُّ بَصِيرَةٍ ومَوْعِظَةٍ، وتَذْكِيرٍ وتَعْرِيفٍ مِن تَعْرِيفاتِ الحَقِّ سُبْحانَهُ إلى العَبْدِ، اتَّصَلَ بِهِ عِبْرَةٌ ومَزِيدٌ في العَقْلِ، ومَعْرِفَةٌ في الإيمانِ فَهي مِنَّةٌ، وإلّا فَهي حُجَّةٌ. وَكُلُّ حالٍ مَعَ اللَّهِ تَعالى، أوْ مَقامٍ اتَّصَلَ بِهِ السَّيْرُ إلى اللَّهِ، وإيثارُ مُرادِهِ عَلى مُرادِ العَبْدِ، فَهو مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ، وإنْ صَحِبَهُ الوُقُوفُ عِنْدَهُ والرِّضى بِهِ، وإيثارُ مُقْتَضاهُ، مِن لَذَّةِ النَّفْسِ بِهِ وطُمَأْنِينَتِها إلَيْها، ورُكُونِها إلَيْهِ، فَهو حُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَلْيَتَأمَّلِ العَبْدُ هَذا المَوْضِعَ العَظِيمَ الخَطَرِ، ويُمَيِّزْ بَيْنَ مَواقِعِ المِنَنِ والمِحَنِ، والحُجَجِ والنِّعَمِ، فَما أكْثَرَ ما يَلْتَبِسُ ذَلِكَ عَلى خَواصِّ النّاسِ وأرْبابِ السُّلُوكِ، واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. * [فَصْلٌ الرُّكْنُ الثّانِي التَّمْيِيزُ بَيْنَ ما لِلْعَبْدِ وما عَلَيْهِ] * فَصْلٌ الرُّكْنُ الثّانِي مِن أرْكانِ المُحاسَبَةِ: وَهِيَ أنْ تُمَيِّزَ ما لِلْحَقِّ عَلَيْكَ وبَيْنَ ما لَكَ وما عَلَيْكَ مِن وُجُوبِ العُبُودِيَّةِ، والتِزامِ الطّاعَةِ، واجْتِنابِ المَعْصِيَةِ، وبَيْنَ ما لَكَ وما عَلَيْكَ، فالَّذِي لَكَ: هو المُباحُ الشَّرْعِيُّ، فَعَلَيْكَ حَقٌّ، ولَكَ حَقٌّ، فَأدِّ ما عَلَيْكَ يُؤْتِكَ ما لَكَ. وَلابُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ ما لَكَ وما عَلَيْكَ، وإعْطاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. وَكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ يَجْعَلُ كَثِيرًا مِمّا عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ مِن قَسْمِ ما لَهُ، فَيَتَحَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهِ وتَرْكِهِ، وإنْ فَعَلَهُ رَأى أنَّهُ فَضْلٌ قامَ بِهِ لا حَقٌّ أدّاهُ. وَبِإزاءِ هَؤُلاءِ مَن يَرى كَثِيرًا مِمّا لَهُ فِعْلُهُ وتَرْكُهُ مِن قَسْمِ ما عَلَيْهِ فِعْلُهُ أوْ تَرْكُهُ، فَيَتَعَبَّدُ بِتَرْكِ ما لَهُ فِعْلُهُ، كَتَرْكِ كَثِيرٍ مِنَ المُباحاتِ، ويَظُنُّ ذَلِكَ حَقًّا عَلَيْهِ، أوْ يَتَعَبَّدُ بِفِعْلِ ما لَهُ تَرْكُهُ ويَظُنُّ ذَلِكَ حَقًّا عَلَيْهِ. مِثالُ الأوَّلِ: مَن يَتَعَبَّدُ بِتَرْكِ النِّكاحِ، أوْ تَرْكِ أكْلِ اللَّحْمِ، أوِ الفاكِهَةِ مَثَلًا، أوِ الطَّيِّباتِ مِنَ المَطاعِمِ والمَلابِسِ، ويَرى - لِجَهْلِهِ - أنَّ ذَلِكَ مِمّا عَلَيْهِ، فَيُوجِبُ عَلى نَفْسِهِ تَرْكَهُ، أوْ يَرى تَرْكَهُ مِن أفْضَلِ القُرَبِ، وأجَلِّ الطّاعاتِ، وقَدْ أنْكَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَلى مَن زَعَمَ ذَلِكَ، فَفي الصَّحِيحِ «أنَّ نَفَرًا مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ سَألُوا عَنْ عِبادَتِهِ في السِّرِّ فَكَأنَّهم تَقالُّوها، فَقالَ أحَدُهُمْ: أمّا أنا فَلا آكُلُ اللَّحْمَ، وقالَ الآخَرُ: أمّا أنا فَلا أتَزَوَّجُ النِّساءَ، وقالَ الآخَرُ: أمّا أنا فَلا أنامُ عَلى فِراشٍ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ مَقالَتُهُمْ، فَخَطَبَ، وقالَ: ما بالُ أقْوامٍ يَقُولُ أحَدُهُمْ: أمّا أنا فَلا آكُلُ اللَّحْمَ، ويَقُولُ الآخَرُ: أمّا أنا فَلا أتَزَوَّجُ، ويَقُولُ الآخَرُ: أمّا أنا فَلا أنامُ عَلى فِراشٍ؟ لَكِنِّي أتَزَوَّجُ النِّساءَ، وآكُلُ اللَّحْمَ، وأنامُ وأقُومُ، وأصُومُ وأُفْطِرُ، فَمَن رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» فَتَبَرَّأ مِمَّنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ، وتَعَبَّدَ لِلَّهِ بِتَرْكِ ما أباحَهُ لِعِبادِهِ مِنَ الطَّيِّباتِ، رَغْبَةً عَنْهُ، واعْتِقادًا أنَّ الرَّغْبَةَ عَنْهُ وهَجْرَهُ عِبادَةٌ، فَهَذا لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ ما عَلَيْهِ وما لَهُ. وَمِثالُ الثّانِي: مَن يَتَعَبَّدُ بِالعِباداتِ البِدْعِيَّةِ الَّتِي يَظُنُّها جالِبَةً لِلْحالِ، والكَشْفِ والتَّصَرُّفِ، ولِهَذِهِ الأُمُورِ لَوازِمُ لا تَحْصُلُ بِدُونِها ألْبَتَّةَ، فَيَتَعَبَّدُ بِالتِزامِ تِلْكَ اللَّوازِمِ فِعْلًا وتَرْكًا، ويَراها حَقًّا عَلَيْهِ، وهي حَقٌّ لَهُ، ولَهُ تَرْكُها، كَفِعْلِ الرِّياضاتِ، والأوْضاعِ الَّتِي رَسَمَها كَثِيرٌ مِنَ السّالِكِينَ بِأذْواقِهِمْ ومَواجِيدِهِمْ واصْطِلاحاتِهِمْ، مِن غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ ما فِيها مِن حَظِّ العَبْدِ والحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَهَذا لَوْنٌ وهَذا لَوْنٌ. * [فَصْلٌ الرُّكْنُ الثّالِثُ الرِّضا بِالطّاعَةِ والتَّعْيِيرُ بِالمَعْصِيَةِ] وَمِن أرْكانِ المُحاسَبَةِ ما ذَكَرَهُ صاحِبُ المَنازِلِ، فَقالَ: الثّالِثُ: أنْ تَعْرِفَ أنَّ كُلَّ طاعَةٍ رَضِيتَها مِنكَ فَهي عَلَيْكَ، وكُلَّ مَعْصِيَةٍ عَيَّرْتَ بِها أخاكَ فَهي إلَيْكَ. رِضاءُ العَبْدِ بِطاعَتِهِ دَلِيلٌ عَلى حُسْنِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، وجَهْلِهِ بِحُقُوقِ العُبُودِيَّةِ، وعَدَمِ عَمَلِهِ بِما يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلالُهُ ويَلِيقُ أنْ يُعامَلَ بِهِ. وَحاصِلُ ذَلِكَ أنَّ جَهْلَهُ بِنَفْسِهِ وصِفاتِها وآفاتِها وعُيُوبِ عَمَلِهِ، وجَهْلَهُ بِرَبِّهِ وحُقُوقِهِ وما يَنْبَغِي أنْ يُعامَلَ بِهِ، يَتَوَلَّدُ مِنهُما رِضاهُ بِطاعَتِهِ، وإحْسانُ ظَنِّهِ بِها، ويَتَوَلَّدُ مِن ذَلِكَ مِنَ العَجَبِ والكِبْرِ والآفاتِ ما هو أكْبَرُ مِنَ الكَبائِرِ الظّاهِرَةِ مِنَ الزِّنا، وشُرْبِ الخَمْرِ، والفِرارِ مِنَ الزَّحْفِ ونَحْوِها. فالرِّضا بِالطّاعَةِ مِن رَعُوناتِ النَّفْسِ وحَماقَتِها. وَأرْبابُ العَزائِمِ والبَصائِرِ أشَدُّ ما يَكُونُونَ اسْتِغْفارًا عُقَيْبَ الطّاعاتِ، لِشُهُودِهِمْ تَقْصِيرَهم فِيها، وتَرْكَ القِيامِ لِلَّهِ بِها كَما يَلِيقُ بِجَلالِهِ وكِبْرِيائِهِ، وأنَّهُ لَوْلا الأمْرُ لَما أقْدَمَ أحَدُهم عَلى مَثَلِ هَذِهِ العُبُودِيَّةِ، ولا رَضِيَها لِسَيِّدِهِ. وَقَدْ أمَرَ اللَّهُ تَعالى وفْدَهُ وحُجّاجَ بَيْتِهِ بِأنْ يَسْتَغْفِرُوهُ عُقَيْبَ إفاضَتِهِمْ مِن عَرَفاتٍ، وهو أجَلُّ المَواقِفِ وأفْضَلُها، فَقالَ ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ واذْكُرُوهُ كَما هَداكم وإنْ كُنْتُمْ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ - ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٩٨-١٩٩] وَقالَ تَعالى ﴿والمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحارِ﴾ [آل عمران: ١٧] قالَ الحَسَنُ: مَدُّوا الصَّلاةَ إلى السَّحَرِ، ثُمَّ جَلَسُوا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ، وفي الصَّحِيحِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «كانَ إذا سَلَّمَ مِنَ الصَّلاةِ اسْتَغَفْرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ أنْتَ السَّلامُ، ومِنكَ السَّلامُ، تَبارَكْتَ يا ذا الجَلالِ والإكْرامِ» وأمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِالِاسْتِغْفارِ بَعْدَ أداءِ الرِّسالَةِ، والقِيامِ بِما عَلَيْهِ مِن أعْبائِها، وقَضاءِ فَرْضِ الحَجِّ، واقْتِرابِ أجَلِهِ، فَقالَ في آخِرِ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ - ورَأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كانَ تَوّابًا﴾ [النصر: ١-٣]. وَمِن هاهُنا فَهِمَ عُمَرُ، وابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أنَّ هَذا أجَلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أعْلَمَهُ بِهِ، فَأمَرَهُ أنْ يَسْتَغْفِرَهُ عُقَيْبَ أداءِ ما كانَ عَلَيْهِ، فَكَأنَّهُ إعْلامٌ بِأنَّكَ قَدْ أدَّيْتَ ما عَلَيْكَ، ولَمْ يَبْقَ عَلَيْكَ شَيْءٌ، فاجْعَلْ خاتِمَتَهُ الِاسْتِغْفارَ، كَما كانَ خاتِمَةَ الصَّلاةِ والحَجِّ وقِيامِ اللَّيْلِ، وخاتِمَةُ الوُضُوءِ أيْضًا أنْ يَقُولَ بَعْدَ فَراغِهِ " «سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا أنْتَ، أسْتَغْفِرُكَ وأتُوبُ إلَيْكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوّابِينَ، واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ» ". فَهَذا شَأْنُ مَن عَرَفَ ما يَنْبَغِي لِلَّهِ، ويَلِيقُ بِجَلالِهِ مِن حُقُوقِ العُبُودِيَّةِ وشَرائِطِها، لا جَهْلَ أصْحابِ الدَّعاوِي وشَطَحاتِهِمْ. وَقالَ بَعْضُ العارِفِينَ: مَتى رَضِيتَ نَفْسَكَ وعَمَلَكَ لِلَّهِ، فاعْلَمْ أنَّهُ غَيْرُ راضٍ بِهِ، ومَن عَرَفَ أنَّ نَفْسَهُ مَأْوى كُلِّ عَيْبٍ وشَرٍّ، وعَمَلَهُ عُرْضَةٌ لِكُلِّ آفَةٍ ونَقْصٍ، كَيْفَ يَرْضى لِلَّهِ نَفْسَهُ وعَمَلَهُ؟ وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّيْخِ أبِي مَدْيَنَ حَيْثُ يَقُولُ: مَن تَحَقَّقَ بِالعُبُودِيَّةِ نَظَرَ أفْعالَهُ بِعَيْنِ الرِّياءِ، وأحْوالَهُ بِعَيْنِ الدَّعْوى، وأقْوالَهُ بِعَيْنِ الِافْتِراءِ، وكُلَّما عَظُمَ المَطْلُوبُ في قَلْبِكَ، صَغُرَتْ نَفْسُكَ عِنْدَكَ، وتَضاءَلَتِ القِيمَةُ الَّتِي تَبْذُلُها في تَحْصِيلِهِ، وكُلَّما شَهِدْتَ حَقِيقَةَ الرُّبُوبِيَّةِ وحَقِيقَةَ العُبُودِيَّةِ، وعَرَفْتَ اللَّهَ، وعَرَفْتَ النَّفْسَ، وتَبَيَّنَ لَكَ أنَّ ما مَعَكَ مِنَ البِضاعَةِ لا يَصْلُحُ لِلْمَلِكِ الحَقِّ، ولَوْ جِئْتَ بِعَمَلِ الثَّقَلَيْنِ خَشِيتَ عاقِبَتَهُ وإنَّما يَقْبَلُهُ بِكَرَمِهِ وجُودِهِ وتَفَضُّلِهِ، ويُثِيبُكَ عَلَيْهِ أيْضًا بِكَرَمِهِ وجُودِهِ وتَفَضُّلِهِ. وَقَوْلُهُ: وكُلُّ مَعْصِيَةٍ عَيَّرْتَ بِها أخاكَ فَهي إلَيْكَ. يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ: أنَّها صائِرَةٌ إلَيْكَ ولا بُدَّ أنْ تَعْمَلَها، وهَذا مَأْخُوذٌ مِنَ الحَدِيثِ الَّذِي رَواهُ التِّرْمِذِيُّ في جامِعِهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «مَن عَيَّرَ أخاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتّى يَعْمَلَهُ» قالَ الإمامُ أحْمَدُ في تَفْسِيرِ هَذا الحَدِيثِ: مِن ذَنْبٍ قَدْ تابَ مِنهُ. وَأيْضًا فَفي التَّعْيِيرِ ضَرْبٌ خَفِيٌّ مِنَ الشَّماتَةِ بِالمُعَيَّرِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ أيْضًا مَرْفُوعًا «لا تُظْهِرِ الشَّماتَةَ لِأخِيكَ، فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ ويَبْتَلِيَكَ». وَيَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ: أنَّ تَعْيِيرَكَ لِأخِيكَ بِذَنْبِهِ أعْظَمُ إثْمًا مِن ذَنْبِهِ وأشَدُّ مِن مَعْصِيَتِهِ، لِما فِيهِ مِن صَوْلَةِ الطّاعَةِ، وتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وشُكْرِها، والمُناداةِ عَلَيْها بِالبَراءَةِ مِنَ الذَّنْبِ، وأنَّ أخاكَ باءَ بِهِ، ولَعَلَّ كَسْرَتَهُ بِذَنْبِهِ، وما أحْدَثَ لَهُ مِنَ الذِّلَّةِ والخُضُوعِ، والإزْراءِ عَلى نَفْسِهِ، والتَّخَلُّصِ مِن مَرَضِ الدَّعْوى، والكِبْرِ والعُجْبِ، ووُقُوفَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ناكِسَ الرَّأْسِ، خاشِعَ الطَّرْفِ، مُنْكَسِرَ القَلْبِ أنْفَعُ لَهُ، وخَيْرٌ مِن صَوْلَةِ طاعَتِكَ، وتَكَثُّرِكَ بِها والِاعْتِدادِ بِها، والمِنَّةِ عَلى اللَّهِ وخَلْقِهِ بِها، فَما أقْرَبَ هَذا العاصِيَ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ! وما أقْرَبَ هَذا المُدِلَّ مِن مَقْتِ اللَّهِ، فَذَنْبٌ تَذِلُّ بِهِ لَدَيْهِ، أحَبُّ إلَيْهِ مِن طاعَةٍ تُدِلُّ بِها عَلَيْهِ، وإنَّكَ أنْ تَبِيتَ نائِمًا وتُصْبِحَ نادِمًا، خَيْرٌ مِن أنْ تَبِيتَ قائِمًا وتُصْبِحَ مُعْجَبًا، فَإنَّ المُعْجَبَ لا يَصْعَدُ لَهُ عَمَلٌ، وإنَّكَ إنْ تَضْحَكْ وأنْتَ مُعْتَرِفٌ، خَيْرٌ مِن أنْ تَبْكِيَ وأنْتَ مُدِلٌّ، وأنِينُ المُذْنِبِينَ أحَبُّ إلى اللَّهِ مِن زَجَلِ المُسَبِّحِينَ المُدِلِّينَ، ولَعَلَّ اللَّهَ أسْقاهُ بِهَذا الذَّنْبِ دَواءً اسْتَخْرَجَ بِهِ داءً قاتِلًا هو فِيكَ ولا تَشْعُرُ. فَلِلَّهِ في أهْلِ طاعَتِهِ ومَعْصِيَتِهِ أسْرارٌ لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ، ولا يُطالِعُها إلّا أهْلُ البَصائِرِ، فَيَعْرِفُونَ مِنها بِقَدْرِ ما تَنالُهُ مَعارِفُ البَشَرِ، ووَراءَ ذَلِكَ ما لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الكِرامُ الكاتِبُونَ، وقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ «إذا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ، فَلْيُقِمْ عَلَيْها الحَدَّ ولا يُثَرِّبْ» أيْ لا يُعَيِّرْ، مِن قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِإخْوَتِهِ ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ﴾ [يوسف: ٩٢] فَإنَّ المِيزانَ بِيَدِ اللَّهِ، والحُكْمَ لِلَّهِ، فالسَّوْطُ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ هَذا العاصِي بِيَدِ مُقَلِّبِ القُلُوبِ، والقَصْدُ إقامَةُ الحَدِّ لا التَّعْيِيرُ والتَّثْرِيبُ، ولا يَأْمَنُ كَرّاتِ القَدَرِ وسَطْوَتَهُ إلّا أهْلُ الجَهْلِ بِاللَّهِ، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى لِأعْلَمِ الخَلْقِ بِهِ، وأقْرَبِهِمْ إلَيْهِ وسِيلَةً ﴿وَلَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٤] وقالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ ﴿وَإلّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ [يوسف: ٣٣] وَكانْتَ عامَّةُ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «لا، ومُقَلِّبِ القُلُوبِ» وَقالَ: «ما مِن قَلْبٍ إلّا وهو بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِن أصابِعِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وجَلَّ، إنْ شاءَ أنْ يُقِيمَهُ أقامَهُ، وإنْ شاءَ أنْ يُزِيغَهُ أزاغَهُ» ثُمَّ قالَ: «اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنا عَلى دِينِكَ، اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنا عَلى طاعَتِكَ».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب