الباحث القرآني
* (لطيفة)
وَقد أخبر سُبْحانَهُ في كِتابه بِرَفْع الدَّرَجات في أربعة مَواضِع:
أحدها هَذا [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ].
والثّانِي قَوْله ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهم وإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهم إيمانًا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ (٣) أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهم دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ومَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)﴾
والثّالِث قوله تَعالى: ﴿وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ العُلى (٧٥)﴾
والرّابِع قوله تَعالى: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ المُجاهِدِينَ عَلى القاعِدِينَ أجْرًا عَظِيمًا (٩٥) دَرَجاتٍ مِنهُ ومَغْفِرَةً ورَحْمَةً﴾
فَهَذِهِ أربعة مَواضِع في ثَلاثَة مِنها الرّفْعَة بالدرجات لأهل الإيمان الَّذِي هو العلم النافع والعَمَل الصّالح.
والرّابِع الرّفْعَة بِالجِهادِ، فَعادَت رفْعَة الدَّرَجات كلها إلى العلم والجهاد اللَّذين بهما قوام الدّين.
* (فصل)
وَمِن طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنّ الإسْلامَ بَدَأ غَرِيبًا، وسَيَعُودُ غَرِيبًا كَما بَدَأ، فَطُوبى لِلْغُرَباءِ قِيلَ لَهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، وما الغُرَباءُ؟ قالَ: الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي ويُعَلِّمُونَها عِبادَ اللَّهِ» وكانَ يُقالُ: العُلَماءُ غُرَباءُ لِكَثْرَةِ الجُهّالِ. ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ مالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ في قَوْلِهِ: ﴿نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ﴾ [الأنعام: ٨٣] قالَ: بِالعِلْمِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ في قَوْلِ اللَّهِ تَعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ﴾
قالَ: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن المُؤْمِنِينَ عَلى الَّذِينَ لَمْ يُؤْتَوْا العِلْمَ دَرَجاتٍ.
* وقال في (مفتاح دار السعادة)
قالَ التِّرْمِذِيّ حَدثنا مُحَمَّد بن عبد الأعلى حَدثنا سَلمَة بن رَجاء حَدثنا الوَلِيد بن حميد حَدثنا القاسِم عَن أبي أمامة الباهِلِيّ قالَ ذكر لرَسُول الله رجلانِ أحدهما عالم والآخر عابِد فَقالَ رَسُول الله فصل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"
ثمَّ قالَ رَسُول الله:
"إن الله ومَلائِكَته واهل السَّماوات والأرض حَتّى النملة في جحرها وحَتّى الحُوت في البَحْر ليصلون على معلمي النّاس الخَيْر"
قالَ التِّرْمِذِيّ هَذا حَدِيث حسن غَرِيب.
سَمِعت أبا عمار الحُسَيْن ابْن حُرَيْث الخُزاعِيّ قالَ سَمِعت الفضيل بن عِياض يَقُول
"عالم عامل معلم يدعى كَبِيرا في ملكوت السَّماوات"
وَهَذا مروي عَن الصَّحابَة.
قالَ ابْن عَبّاس عُلَماء هَذِه الأمة رجلانِ فَرجل أعطاه الله علما فبذله للنّاس ولم يَأْخُذ عَلَيْهِ صفدا ولم يشتر بِهِ ثمنا أولئك يصلي عَلَيْهِم طير السَّماء وحيتان البَحْر ودواب الأرض والكرام الكاتبون.
وَرجل آتاهُ الله علما فضن بِهِ عَن عباده وأخذ بِهِ صفدا واشْترى بِهِ ثمنا فَذَلِك يأتي يَوْم القِيامَة يلجم بلجام من نار"
ذكره ابْن عبد البر مَرْفُوعا، وفي رَفعه نظر.
وَقَوله "إن الله ومَلائِكَته وأهل السَّماوات والأرض يصلونَ على معلم النّاس الخَيْر"
لما كانَ تَعْلِيمه للنّاس الخَيْر سَببا لنجاتهم وسعادتهم وزَكاة نُفُوسهم جازاه الله من جنس عمله بأن جعل عَلَيْهِ من صلاته وصَلاة مَلائكَته وأهل الأرض ما يكون سَببا لنجاته وسعادته وفلاحه.
وأيضا فَإن معلم النّاس الخَيْر لما كانَ مظْهرا لدين الرب وأحكامه ومعرفا لَهُم بأسمائه وصِفاته جعل الله من صلاته وصَلاة أهل سماواته وأرضه عَلَيْهِ ما يكون تنويها بِهِ وتشريفا لَهُ وإظهارا للثناء عَلَيْهِ بَين أهل السماء والأرض.
ورَوى أبو داوُد والتِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي الدَّرْداء رضى الله عَنهُ قالَ سَمِعت رَسُول الله يَقُول:
«مَن سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ، وإنَّ المَلائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَها رِضاءً لِطالِبِ العِلْمِ، وإنَّ العالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَن في السَّمَواتِ ومَن في الأرْضِ حَتّى الحِيتانُ في الماءِ، وفَضْلُ العالِمِ عَلى العابِدِ، كَفَضْلِ القَمَرِ عَلى سائِرِ الكَواكِبِ، إنَّ العُلَماءَ ورَثَةُ الأنْبِياءِ، إنَّ الأنْبِياءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينارًا ولا دِرْهَمًا إنَّما ورَّثُوا العِلْمَ، فَمَن أخَذَ بِهِ أخَذَ بِحَظٍّ وافِرٍ»
وَقد رَواهُ الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَن خالِدٍ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُثْمانَ بْنِ أيْمَنَ، عَنْ أبِي الدَّرْداءِ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «مَن غَدا لِعِلْمٍ يَتَعَلَّمُهُ فَتَحَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ، وفَرَشَتْ لَهُ المَلائِكَةُ أكْنافَها، وصَلَّتْ عَلَيْهِ مَلائِكَةُ السَّماءِ، وحِيتانُ البَحْرِ، ولِلْعالِمِ مِنَ الفَضْلِ عَلى العابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلى سائِرِ الكَواكِبِ، والعُلَماءُ ورَثَةُ الأنْبِياءِ، إنَّ الأنْبِياءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينارًا ولا دِرْهَمًا، إنَّما ورَّثُوا العِلْمَ، فَمَن أخَذَ العِلْمَ أخَذَ بِحَظِّهِ، ومَوْتُ العالِمِ مُصِيبَةٌ لا تُجْبَرُ، وثُلْمَةٌ لا تُسَدُّ، ونَجْمٌ طُمِسَ، ومَوْتُ قَبِيلَةٍ أيْسَرُ مِن مَوْتِ عالِمٍ»
وَهَذا حَدِيث حسن والطَّرِيق الَّتِي يسلكها إلى الجنَّة جَزاء على سلوكه في الدُّنْيا طَرِيق العلم الموصلة إلى رضا ربه، ووضع المَلائِكَة أجنحتها لَهُ تواضعا لَهُ وتوقيرا وإكراما لما يحملهُ من مِيراث النُّبُوَّة ويطلبه، وهو يدل على المحبَّة والتعظيم فَمن محبَّة المَلائِكَة لَهُ وتعظيمه تضع أجنحتها لَهُ لِأنَّهُ طالب لما بِهِ حَياة العالم ونجاته، فَفِيهِ شبه من المَلائِكَة، وبَينه وبينهمْ تناسب فإن المَلائِكَة أنصح خلق الله وأنفعهم لبني آدم، وعَلى أيديهم حصل لَهُم كل سَعادَة وعلم وهدى، ومن نفعهم لبني آدم ونصحهم أنهم يَسْتَغْفِرُونَ لمسيئهم ويثنون على مؤمنيهم ويعينونهم على أعدائهم من الشَّياطِين، ويحرصون على مصالح العَبْد أضعاف حرصه على مصلحَة نَفسه، بل يُرِيدُونَ لَهُ من خير الدُّنْيا والآخرة ما لا يُريدهُ العَبْد ولا يخْطر بِبالِهِ، كَما قالَ بعض التّابِعين وجدنا المَلائِكَة أنصح خلق الله لِعِبادِهِ ووجدنا الشَّياطِين أغش الخلق للعباد وقالَ تَعالى ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ومَن حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويُؤْمِنُونَ بِهِ ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا فاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وقِهِمْ عَذابَ الجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وأدْخِلْهم جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدْتَهم ومَن صَلَحَ مِن آبائِهِمْ وأزْواجِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (٨) وقِهِمُ السَّيِّئاتِ ومَن تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ (٩)﴾
فَأي نصح للعباد مثل هَذا إلا نصح الأنبياء.
فَإذا طلب العَبْد العلم فقد سعى في أعظم ما ينصح بِهِ عباد الله فَلذَلِك تحبه المَلائِكَة وتعظمه حَتّى تضع أجنحتها لَهُ رضا ومحبة وتعظيما.
وَقالَ أبو حاتِم الرّازِيّ سَمِعت ابْن أبي أويس يَقُول سَمِعت مالك بن أنس يَقُول معنى قَول رَسُول الله "تضع أجنحتها"
يَعْنِي تبسطها بِالدُّعاءِ لطالب العلم بَدَلا من الأيدي.
وَقالَ أحْمَد بن مَرْوان المالِكِي في كتاب المجالسة لَهُ حَدثنا زَكَرِيّا بن عبد الرَّحْمَن البَصْرِيّ قالَ سَمِعت أحْمَد بن شُعَيْب يَقُول كُنّا عند بعض المُحدثين بِالبَصْرَةِ فحدثنا بِحَدِيث النَّبِي أن المَلائِكَة لتَضَع أجنحتها لطالب العلم، وفي المجْلس مَعنا رجل من المُعْتَزلَة فَجعل يستهزئ بِالحَدِيثِ فَقالَ والله لأطرقن غَدا نَعْلي بمسامير فأطأ بها أجْنِحَة المَلائِكَة، فَفعل ومَشى في النَّعْلَيْنِ فجفت رِجْلاهُ جَمِيعًا ووَقعت فيهما الأكلة.
وَقالَ الطَّبَرانِيّ سَمِعت أبا يحيى زَكَرِيّا بن يحيى السّاجِي قالَ كُنّا نمشي في بعض أزقة البَصْرَة إلى باب بعض المُحدثين فأسرعنا المَشْي وكانَ مَعنا رجل ماجن مِنهُم في دينه فَقالَ ارْفَعُوا أرجلكم عَن أجنحة المَلائِكَة لا تكسروها كالمستهزئ فَما زالَ من مَوْضِعه حَتّى جَفتْ رِجْلاهُ وسقط.
وَفِي السّنَن والمَسانِيد من حَدِيث صَفْوان ابْن عَسّال بعسال قالَ قلت:
"يا رَسُول الله إنِّي جِئْت أطلب العلم قالَ
"مرْحَبًا بطالب العلم إن طالب العلم لتحف بِهِ المَلائِكَة وتظله بأجنحتها، فيركب بَعضهم بَعْضًا حَتّى تبلغ السَّماء الدنيا من حبهم لما يطْلب"
(فائِدَة عَظِيمَة)
أفضل ما اكتسبته النُّفُوس وحصلته القُلُوب العَبْد ونال بِهِ العَبْد الرّفْعَة في الدُّنْيا والآخِرَة هو العلم والإيمان ولِهَذا قرن بَينهما سُبْحانَهُ في قَوْله ﴿وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ والأِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ في كِتابِ اللَّهِ إلى يَوْم البَعْث﴾
وَقَوله ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجات﴾
وهؤلا هم خُلاصَة الوُجُود ولبه والمؤهلون للمراتب العالِيَة ولَكِن أكثر النّاس غالطون في حَقِيقَة مُسَمّى العلم والإيمان اللَّذين بهما السَّعادَة والرفقة، وفي حقيقتهما حَتّى أن كل طائِفَة تظن أن ما مَعها من العلم والإيمان هو هَذا الَّذِي بِهِ تنال السَّعادَة، ولَيْسَ كَذَلِك بل أكْثَرهم لَيْسَ مَعَهم إيمان يُنجي ولا علم يرفع بل قد سدوا على نُفُوسهم طرق العلم والإيمان اللَّذين جاءَ بهما الرَّسُول ودعا إلَيْهِما الأمة، وكانَ عَلَيْهِما هو وأصْحابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم
فَكل طائِفَة اعتقدت أن العلم ما مَعها وفرحت و ﴿تقطعوا أمْرَهم بَيْنَهم زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لديهم فَرِحُونَ﴾
وَأكْثر ما عِنْدهم كَلام وآراء وخرص والعلم وراء الكَلام، كَما قالَ حمّاد بن زيد:
قلت لأيوب: العلم اليَوْم أكثر أو فِيما تقدّم؟
فَقالَ الكَلام اليَوْم أكثر والعلم فِيما تقدم أكثر.
فَفرق هَذا الراسخ بَين العلم والكَلام، فالكتب كَثِيرَة جدا، والكَلام والجدال والمقدرات الذهنية كَثِيرَة، والعلم بمعزل عَن أكْثَرها وهو ما جاءَ بِهِ الرَّسُول عَن الله قالَ تَعالى ﴿فَمَن حاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ ما جاءَكَ من العلم﴾
وَقالَ ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْواءَهم بَعْدَ الَّذِي جاءَك من العلم﴾ وقالَ في القُرْآن ﴿أنزلهُ بِعِلْمِهِ﴾ أي وفِيه علمه
وَلما بعد العَهْد بِهَذا العلم آل الأمر بِكَثِير من النّاس إلى أن اتَّخذُوا هواجس الأفكار وسوانح الخواطر والآراء علما، ووَضَعُوا فِيها الكتب، وأنفقوا فِيها الأنفاس فضيعوا فِيها الزَّمان وملأوا بها الصُّحُف مدادا، والقلوب سوادا حَتّى صرح كثير مِنهُم أنه لَيْسَ في القُرْآن والسّنة علم، وأن أدلتها لفظية لا تفِيد يَقِينا ولا علما، وصرخ الشَّيْطان بِهَذِهِ الكَلِمَة فيهم، وأذَّن بها بَين أظهرهم حَتّى أسمعها دانيهم لقاصيهم، فانسلخت بها القُلُوب من العلم والإيمان كانسلاخ الحَيَّة من قشرها، والثَّوْب عَن لابسه.
قالَ الإمام العَلامَة شمس الدّين ابْن القيم ولَقَد أخْبرنِي بعض أصْحابنا عَن بعض أتباع أتباع تلاميذ هَؤُلاءِ أنه رَآهُ يشْتَغل في بعض كتبهمْ ولم يحفظ القُرْآن فَقالَ لَهُ لَو حفظت القُرْآن أولا كانَ أولى فَقالَ وهل في القُرْآن علم؟
قالَ ابْن القيم: وقالَ لي بعض أئِمَّة هَؤُلاءِ إنَّما نسْمع الحَدِيث لأجل البركَة لا لنستفيد مِنهُ العلم، لِأن غَيرنا قد كفانا هَذِه المؤونة فعمدتنا على ما فهموه قرروه ولا شكّ أن من كانَ هَذا مبلغه من العلم فَهو كَما قالَ القائِل
؎نزلُوا بِمَكَّة في قبائل هاشم ∗∗∗ ونزلت بالبطحاء أبعد منزل
قالَ: وقالَ لي شَيخنا مرّة في وصف هَؤُلاءِ أنهم طافوا على أرْباب المذاهب ففازوا بأخس المطالب ويَكْفِيك دَلِيلا على أن هَذا الَّذِي عِنْدهم لَيْسَ من عند الله ما ترى فِيهِ من التنقائض والِاخْتِلاف ومصادمة بعضه لبَعض قالَ تَعالى ﴿وَلَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كثيرا﴾ وهَذا يدل على أن ما كانَ من عِنْده سُبْحانَهُ لا يخْتَلف وأن ما اخْتلف وتناقض فَلَيْسَ من عِنْده وكَيف تكون الآراء والخيالات وسوانح الأفكار دينا يدان بِهِ ويحكم بِهِ على الله ورَسُوله سُبْحانَكَ هَذا بهتان عَظِيم
وَقد كانَ علم الصَّحابَة الَّذِي يتذاكرون فِيهِ غير عُلُوم هَؤُلاءِ المُخْتَلِفين الخرّاصين كَما حكى الحاكِم في تَرْجَمَة أبي عبد الله البُخارِيّ قالَ كانَ أصْحاب رَسُول الله إذا اجْتَمعُوا إنَّما يتذاكرون كتاب رَبهم وسنة نَبِيّهم لَيْسَ بَينهم رَأْي ولا قِياس ولَقَد أحسن القائِل
؎العلم قالَ الله قالَ رَسُوله ∗∗∗ قالَ الصَّحابَة لَيْسَ بالتمويه
؎ما العلم نصبك للْخلاف سفاهة ∗∗∗ بَين الرَّسُول وبَين رَأْي فَقِيه
؎كلا ولا جحد الصِّفات ونفيها ∗∗∗ حذرا من التَّمْثِيل والتشبيه فصل
وَأما الإيمان فَأكْثر النّاس أو كلهم يَدعُونَهُ ﴿وَما أكْثَرُ النّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بمؤمنين﴾
وَأكْثر المُؤمنِينَ إنَّما عِنْدهم إيمان مُجمل.
وَأما الإيمان المفصل بِما جاءَ بِهِ الرَّسُول معرفَة وعلما وإقرارا ومحبة ومَعْرِفَة بضده وكراهيته وبغضه، فَهَذا إيمان خَواص الأمة وخاصة الرَّسُول وهو إيمان الصدّيق وحزبه وكثير من النّاس حظهم من الإيمان الإقْرار بِوُجُود الصّانِع وأنه وحده الَّذِي خلق السَّماوات والأرْض وما بَينهما، وهَذا لم يكن يُنكره عبّاد الأصْنام من قُرَيْش ونَحْوهم.
وَآخَرُونَ الإيمان عِنْدهم هو التَّكَلُّم بِالشَّهادَتَيْنِ سَواء كانَ مَعَه عمل أو لم يكن وسَواء وافق تَصْدِيق القلب أو خالفه وآخَرُونَ عِنْدهم الإيمان مُجَرّد تَصْدِيق القلب بِأن الله سُبْحانَهُ خالق السَّماوات والأرْض، وأن مُحَمَّدًا عَبده ورَسُوله وإن لم يقر بِلِسانِهِ ولم يعْمل شَيْئا، بل ولَو سبّ الله ورَسُوله وأتى بِكُل عَظِيمَة وهو يعْتَقد وحدانية الله ونبوة رَسُوله فَهو مُؤمن.
وَآخَرُونَ عِنْدهم الإيمان هو جحد صِفات الرب تَعالى من علوه على عَرْشه وتكلمه بكلماته وكتبه وسَمعه وبصره ومشيئته وقدرته وإرادته وحبه وبغضه وغير ذَلِك مِمّا وصف بِهِ نَفسه ووَصفه بِهِ رَسُوله.
فالإيمان عِنْدهم إنْكار حقائق ذَلِك كُله وجحده، والوُقُوف مَعَ ما تَقْتَضِيه آراء المتهوكين وأفكار المخرصين الَّذين يرد بَعضهم على بعض وينقض بَعضهم قَول بعض، الَّذين هم كَما قالَ عمر بن الخطاب والإمام أحْمد:
مُخْتَلفُونَ في الكتاب مخالفون للْكتاب متفقون على مُفارقَة الكتاب.
وَآخَرُونَ عِنْدهم الإيمان عبادَة الله بِحكم أذواقهم ومواجيدهم وما تهواه نُفُوسهم من غير تَقْيِيد بِما جاءَ بِهِ الرَّسُول.
وَآخَرُونَ الإيمان عِنْدهم ما وجدوا عَلَيْهِ آباءَهُم وأسلافهم بِحكم الِاتِّفاق كائِنا ما كانَ بل إيمانهم مَبْنِيّ على مقدمتين:
إحْداهما أن هَذا قَول أسلافنا وآبائِنا.
والثّانية أن ما قالُوهُ فَهو الحق.
وَآخَرُونَ عِنْدهم الإيمان مَكارِم الأخْلاق وحسن المُعامَلَة وطلاقة الوَجْه وإحسان الظَّن بِكُل أحد وتخلية النّاس وغفلاتهم.
وَآخَرُونَ عِنْدهم الإيمان التجرد من الدُّنْيا وعلائقها وتفريغ القلب مِنها والزهد فِيها، فَإذا رَأوْا رجلا هَكَذا جَعَلُوهُ من سادات أهل الإيمان وإن كانَ منسلخا من الإيمان علما وعَملا، وأعْلى من هَؤُلاءِ من جعل الإيمان هو مُجَرّد العلم وإن لم يقارنه عمل.
وكل هَؤُلاءِ لم يعرفوا حَقِيقَة الإيمان ولا قامُوا بِهِ ولا قامَ بهم وهم أنْواع مِنهُم من جعل الإيمان ما يضاد الإيمان.
وَمِنهُم من جعل الإيمان ما لا يعْتَبر في الإيمان ومِنهُم من جعله ما هو شَرط فِيهِ ولا يَكْفِي في حُصُوله.
وَمِنهُم من اشْترط في ثُبُوته ما يناقضه ويضاده.
وَمِنهُم من اشْترط فِيهِ ما لَيْسَ مِنهُ بِوَجْه الإيمان.
والإيمان وراء ذَلِك كُله وهو حَقِيقَة مركبة من معرفَة ما جاءَ بِهِ الرَّسُول علما والتصديق بِهِ عقدا، والإقْرار بِهِ نطقا، والانقياد لَهُ محبَّة وخضوعا، والعَمَل بِهِ باطِنا وظاهرا، وتنفيذه والدعوة إلَيْهِ بِحَسب الإمْكان، وكماله في الحبّ في الله، والبغض في الله والعطاء لله، والمَنع لله، وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده.
والطَّرِيق إلَيْهِ تَجْرِيد مُتابعَة رَسُوله ظاهرا وباطنا، وتغميض عين القلب عَن الِالتِفات إلى سوى الله ورَسُوله.
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا قِیلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُوا۟ فِی ٱلۡمَجَـٰلِسِ فَٱفۡسَحُوا۟ یَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِیلَ ٱنشُزُوا۟ فَٱنشُزُوا۟ یَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَـٰتࣲۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق