الباحث القرآني
(فائدة بديعة)
القاعدة: أن الشيء لا يعطف على نفسه لأن حروف العطف بمنزلة تكرار العامل لأنك إذا قلت قام زيد وعمرو فهي بمعنى قام زيد وقام عمرو والثاني غير الأول فإذا وجدت مثل قولهم كذبا ومينا فهو لمعنى زائد في اللفظ الثاني وإن خفي عنك ولهذا يبعد جدا أن يجيء في كلامهم جاءني عمر وأبو حفص ورضي الله عن أبي بكر وعتيقه فإن الواو إنما تجمع بين الشيئين لا بين الشيء الواحد فإذا كان في الاسم الثاني فائدة زائدة على معنى الاسم الأول كنت مخيرا في العطف وتركه فإن عطفت فمن حيث قصدت تعداد الصفات وهي متغايرة وإن لم تعطف فمن حيث كان في كل منهما ضمير هو الأول فعلى الوجه الأول تقول زيد فقيه شاعر كاتب وعلى الثاني فقيه وشاعر وكاتب كأنك عطفت بالواو الكتابة على الشعر وحيث لم تعطف أتبعت الثاني الأول لأنه هو من حيث اتحد الحامل للصفات.
وأما في أسماء الرب تبارك وتعالى فأكثر ما يجيء في القرآن الكريم بغير عطف نحو السميع العليم العزيز الحكيم الغفور الرحيم (الملك القدوس السلام) إلى آخرها.
وجاءت معطوفة في موضعين أحدهما في أربعة أسماء وهي (الأول والآخر والظاهر والباطن)
والثاني في بعض الصفات بالاسم الموصول مثل قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى والَّذِي قَدَّرَ فَهَدى والَّذِي أخْرَجَ المَرْعى﴾
ونظيره: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وجَعَلَ لَكم فِيها سُبُلًا لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ والَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ والَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها﴾
فأما ترك العطف في الغالب فلتناسب معاني تلك الأسماء وقرب بعضها من بعض، وشعور الذهن بالثاني منها شعوره بالأول.
ألا ترى أنك إذا شعرت بصفة المغفرة انتقل ذهنك منها إلى الرحمة، وكذلك إذا شعرت بصفة السمع انتقل الذهن إلى البصر
وكذلك: ﴿الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ﴾
وأما تلك الأسماء الأربعة فهي ألفاظ متباينة المعاني متضادة الحقائق في أصل موضوعها، وهي متفقة المعاني متطابقة في حق الرب تعالى لا يبقى منها معنى بغيره، بل هو (أول) كما أنه (آخر) و (ظاهر) كما أنه (باطن)
ولا يناقض بعضها بعضا في حقه.
فكان دخول الواو صرفا لوهم المخاطب قبل التفكر والنظر عن توهم المحال، واحتمال الأضداد لأن الشيء لا يكون ظاهرا باطنا من وجه واحد، وإنما يكون ذلك باعتبارين.
فكان العطف هاهنا أحسن من تركه لهذه الحكمة.
هذا جواب السهيلي.
وأحسن منه أن يقال لما كانت هذه الألفاظ دالة على معاني متباينة، وأن الكمال في الاتصاف بها على تباينها أتى بحرف العطف الدال على التغاير بين المعطوفات إيذانا بأن هذه المعاني مع تباينها فهي ثابتة للموصوف بها.
ووجه آخر وهو أحسن منها وهو أن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم وتقريره يكون في الكلام متضمنا لنوع مع التأكيد من مزيد التقرير.
وبيان ذلك بمثال نذكره مرقاة إلى فهم ما نحن فيه:
إذا كان لرجل مثلا أربع صفات هي عالم وجواد وشجاع وغني، وكان المخاطب لا يعلم ذلك أو لا يقر به ويعجب من اجتماع هذه الصفات في رجل
فإذا قلت: زيد عالم. وكأن ذهنه استبعد ذلك فتقول وجواد. أي وهو مع ذلك جواد.
فإذا قدرت استبعاده لذلك قلت وشجاع أي وهو مع ذلك شجاع وغني فيكون في العطف مزيد تقرير وتوكيد لا يحصل بدونه.
تدرأ به توهم الإنكار.
وإذا عرفت هذا فالوهم قد يعتريه إنكار لاجتماع هذه المقابلات في موصوف واحد.
فإذا قيل: هو الأول ربما سرى الوهم إلى أن كونه أولا يقتضي أن يكون الآخر غيره لأن الأولية والآخرية من المتضايفات وكذلك الظاهر والباطن إذا قيل هو ظاهر ربما سرى الوهم إلى أن الباطن مقابله، فقطع هذا الوهم بحرف العطف الدال على أن الموصوف بالأولية هو الموصوف بالآخرية فكأنه قيل: هو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن لا سواه.
فتأمل ذلك فإنه من لطيف العربية ودقيقها.
والذي يوضح لك ذلك أنه إذا كان للبلد مثلا قاض وخطيب وأمير فاجتمعت في رجل، حسن أن تقول زيد هو الخطيب والقاضي والأمير.
وكان للعطف هنا مزية ليست للنعت المجرد فعطف الصفات هاهنا أحسن قطعا لوهم متوهم أن الخطيب غيره وأن الأمير غيره.
* (فائدة)
«وَأرْشَدَ ﷺ مَن بُلِيَ بِشَيْءٍ مِن وسْوَسَةِ التَّسَلْسُلِ في الفاعِلِينَ، إذا قِيلَ لَهُ: هَذا اللَّهُ خَلَقَ الخَلْقَ، فَمَن خَلَقَ اللَّهَ؟ أنْ يَقْرَأ: ﴿هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: ٣]».
كَذَلِكَ «قالَ ابْنُ عَبّاسٍ لأبي زميل سماك بن الوليد الحنفي، وقَدْ سَألَهُ: ما شَيْءٌ أجِدُهُ في صَدْرِي؟ قالَ: ما هُوَ؟ قالَ: قُلْتُ: واللَّهِ لا أتَكَلَّمُ بِهِ. قالَ فَقالَ لِي: أشَيْءٌ مِن شَكٍّ؟ قُلْتُ: بَلى، فَقالَ لِي: ما نَجا مِن ذَلِكَ أحَدٌ، حَتّى أنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَإنْ كُنْتَ في شَكٍّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْألِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتابَ مِن قَبْلِكَ﴾ [يونس: ٩٤]
قالَ: فَقالَ لِي: فَإذا وجَدْتَ في نَفْسِكَ شَيْئًا، فَقُلْ: ﴿هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾»
فَأرْشَدَهم بِهَذِهِ الآيَةِ إلى بُطْلانِ التَّسَلْسُلِ الباطِلِ بِبَدِيهَةِ العَقْلِ، وأنَّ سِلْسِلَةَ المَخْلُوقاتِ في ابْتِدائِها تَنْتَهِي إلى أوَّلَ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، كَما تَنْتَهِي في آخِرِها إلى آخِرٍ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، كَما أنَّ ظُهُورَهُ هو العُلُوُّ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، وبُطُونَهُ هو الإحاطَةُ الَّتِي لا يَكُونُ دُونَهُ فِيها شَيْءٌ، ولَوْ كانَ قَبْلَهُ شَيْءٌ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ لَكانَ ذَلِكَ هو الرَّبَّ الخَلّاقَ، ولا بُدَّ أنْ يَنْتَهِيَ الأمْرُ إلى خالِقٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ وغَنِيٍّ عَنْ غَيْرِهِ، وكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إلَيْهِ قائِمٌ بِنَفْسِهِ، وكُلُّ شَيْءٍ قائِمٌ بِهِ مَوْجُودٌ بِذاتِهِ، وكُلُّ شَيْءٍ مَوْجُودٌ بِهِ. قَدِيمٌ لا أوَّلَ لَهُ، وكُلُّ ما سِواهُ فَوُجُودُهُ بَعْدَ عَدَمِهِ باقٍ بِذاتِهِ، وبَقاءُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ فَهو الأوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، والآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، الظّاهِرُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، الباطِنُ الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ.
وَقالَ ﷺ: «لا يَزالُ النّاسُ يَتَساءَلُونَ حَتّى يَقُولَ قائِلُهُمْ: هَذا اللَّهُ خَلَقَ الخَلْقَ فَمَن خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَن وجَدَ مِن ذَلِكَ شَيْئًا، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ ولْيَنْتَهِ)
وَقَدْ قالَ تَعالى: ﴿وَإمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [فصلت: ٣٦]».
* (فصل)
والمقصود أن التعبد باسمه (الظاهر) يجمع القلب على المعبود، ويجعل له ربًا يقصده وصمدًا يصمد إليه في حوائجه وملجأً يلجأُ إليه فإذا استقر ذلك في قلبه وعرف ربه باسمه الظاهر استقامت له عبوديته وصار له معقل وموئل يلجأُ إليه ويهرب إليه ويفر كل وقت إليه. وأما تعبده باسمه الباطن فأمر يضيق نطاق التعبير عن حقيقته، ويكلّ اللسان عن وصفه، وتصطلم الإشارة إليه وتجفو العبارة عنه، فإنه يستلزم معرفة بريئة من شوائب التعطيل مخلصة من فرث التشبيه، منزهة عن رجس الحلول والاتحاد وعبارة مؤدية للمعنى كاشفة عنه، وذوقًا صحيحًا سليمًا من أذواق أهل الانحراف. فمن رزق هذا فهم معنى اسمه الباطن وصح له التعبد به. وسبحان الله كم زلت في هذا المقام أقدام وضلت فيه أفهام، ونظم فيه الزنديق بلسان الصديق، فاشتبه فيه إخوان النصارى بالحنفاء المخلصين، لنبو الأفهام عنه وعزة تخلص الحق من الباطل فيه، والتباس ما في الذهن بما في الخارج إلا على من رزقه الله بصيرة في الحق، ونورًا يميز به بين الهدى والضلال، وفرقانًا يفرق به بين الحق والباطل، ورزق مع ذلك اطلاعًا على أسباب الخطأْ وتفرق الطرق ومثار الغلط، فكان له بصيرة في الحق والباطل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.
وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة الرب [تبارك وتعالى] بالعالم وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد، قال تعالى: ﴿وَإذْ قُلْنا لَكَ إنّ رَبّكَ أحاطَ بِالنّاسِ﴾ [الإسراء: ٦٠]، وقال: ﴿واللهُ مِن ورَآئِهِمْ مُحِيطُ﴾ [البروج: ٢٠]، ولهذا يقرن سبحانه بينَ هذين الاسمين الدالين على هذين المعنيين: اسم العلو الدال على أنه (الظاهر) وأنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإحاطة وأنه لا شيء دونه، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] وقال تعالى: ﴿وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ﴾ [سبأ: ٢٣]، وقال: ﴿وَللهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأيْنَما تُوَلّواْ فَثَمّ وجْهُ اللهِ إنّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١١٥]
هو تبارك وتعالى كما أنه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه وكل شيء في قبضته وليس شيء في قبضة نفسه، فهذا أقرب لإحاطة العامة.
وأما القرب المذكور في القرآن والسُّنَّة فقرب خاص من عابديه وسائليه وداعيه، وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن قال تعالى: ﴿وَإذا سَألَكَ عِبادِي عَنّي فَإنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذا دَعانِ﴾ [البقرة: ١٨٦]
فهذا قربه من داعيه، وقال تعالى: ﴿إنّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مّنَ المُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: ٥٦]
فوجد الخبر وهو قريب عن لفظ الرحمة وهي مؤنثة إيذانًا بقربه تعالى من المحسنين، فكأنه قال: إن الله برحمته قريب من المحسنين. وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال: "أقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ وهو ساجِدٌ"، و"أقْرَبُ ما يَكُونُ الرَّبُّ مِن عَبْدِهِ في جَوْفِ اللَّيْلِ"، فهذا قرب خاص غير قرب الإحاطة وقرب البطون.
وفي الصحيح من حديث أبي موسى أنهم كانوا مع النبي ﷺ في سفر، فارتفعت أصواتهم بالتكبير فقال:
"أيُّها النّاسُ ارْبَعُوا عَلى أنْفُسكم فإنكم لا تَدْعُونَ أصمَّ ولا غاَئِبًا، إنَّ الَّذِى تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أقْرَبُ إلى أحدِكم مِن عُنُقِ راحِلَتِهِ" فهذا قربه من داعيه وذاكره، يعني فأي حاجة بكم إلى رفع الأصوات وهو لقربه يسمعها وإن خفضت، كما يسمعها إذا رفعت، فإنه سميع قريب. وهذا القرب هو من لوازم المحبة فكلما كان الحب أعظم كان القرب أكثر، وقد استولت محبة المحبوب على قلب محبه بحيث يفنى بها عن غيرها، ويغلب محبوبه على قلبه حتى كأنه يراه ويشاهده.
إن لم يكن عنده معرفه صحيحة بالله وما يجب له ويستحيل عليه وإلا طرق باب الحلول إن لم يلجه، وسببه ضعف تمييزه وقوة سلطان المحبة، واستيلاءُ المحبوب على قلبه بحيث يغيب عن ملاحظة سواه، وفي مثل هذه الحال يقول: سبحانى، أو: ما في الجبة إلا الله. ونحو هذا من الشطحات التي نهايتها أن يغفر له ويعذر لسكره وعدم تمييزه في تلك الحال. فالتعبد بهذا الاسم هو التعبد بخالص المحبة وصفو الوداد، وأن يكون الإله أقرب إليه من كل شيء وأقرب إليه من نفسه، مع كونه ظاهرًا ليس فوقه شيء، ومن كيف ذهنه وغلظ طبعه عن فهم هذا فليضرب عنه صفحًا إلى ما هو أولى به، فقد قيل:
؎إذا لَمْ تَسْتَطعْ شَيئًا فَدَعْه ∗∗∗ وجاوزه إلى ما تستطيع
فمن لم يكن له ذوق من قرب المحبة، ومعرفة بقرب المحبوب من محبة غاية القرب، وإن كان بينهما غاية المسافة - ولا سيما إذا كانت المحبة من الطرفين، وهي محبة بريئة من العلل والشوائب والأعراض القادحة فيها - فإن المحب كثيرًا ما يستولى محبوبه على قلبه وذكره ويفنى عن غيره ويرق قلبه وتتجرد نفسه، فيشاهد محبوبه كالحاضر معه القريب إليه وبينهما من البعد ما بينهما، وفي هذه الحال يكون في قلبه وجوده العلمى، وفي لسانه وجوده اللفظى، فيستولى هذا الشهود عليه ويغيب به، فيظن أن في عينه وجوده الخارجى للغلبة حكم القلب والروح، كما قيل:
؎خيالك في عيني وذكرك في فمي ∗∗∗ ومثواك في قلبي فأين تغيب
هذا ويكون ذلك المحبوب بعينه بينه وبين عدوه من البعد وما بينهما وإن قربت الأبدان وتلاصقت الديار. والمقصود أن المثال العلمى غير الحقيقة الخارجية وإن كان مطابقًا لها لكن المثال العلمى محله القلب والحقيقة الخارجية محلها الخارج فمعرفة هذه الأسماءِ الأربعة وهي: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن هي أركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث ينتهى به قواه وفهمه.
واعلم أن لك أنت أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، بل كل شيء فله أول وآخر وظاهر وباطن، حتى الخطرة واللحظة والنفس وأدنى من ذلك وأكثر. فأولية الله عَزَّ وجَلَّ سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه فأوليته سبقه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه. وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه، هذا لون وهذا لون. فمدار هذه الأسماءِ الأربعة على الإحاطة وهي إحاطتان زمانيه ومكانيه فأحاطت أوليته وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إلى أوليته وكل آخر انتهى إلى آخريته فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه وما من أول إلا والله قبله وما من آخر إلا والله بعده فالأول قدمه، والآخر دوامه وبقاؤه والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه. فسبق كل شيء بأوليته وبقى بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه فلا توارى منه سماء سماء ولا أرض أرضا، ولا يحجب عنه ظاهر باطن بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية، فهذه الأسماءُ الأربعة تشتمل على أركان التوحيد، فهو الأول في آخريته والآخر في أوليته، والظاهر في بطونه والباطن في ظهوره، لم يزل أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
والتعبد بهذه الأسماءِ رتبتان: الرتبة الأولى أن تشهد الأولية منه تعالى في كل شيء والآخرية بعد كل شيء والعلو والفوقية فوق كل شيء والقرب والدنو دون كل شيء، فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب، والرب جل جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه والمرتبة الثانية من التعبد أن يعامل كل اسم بمقتضاه، فيعامل سبقه تعالى بأوليته لكل شيء وسبقه بفضله وإحسانه الأسباب كلها بما يقتضيه ذلك من إفراده وعدم الالتفات إلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على غيره، فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئًا مذكورًا حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بسمة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأعتقك من التزام الرق لمن له شكل ونديد، ثم وجه وجهة قلبك إليه تبارك وتعالى دون ما سواه، فاضرع إلى الذي عصمك من السجود للصنم، وقضى لك بقدم الصدق في القدم، أن يتم عليك نعمة هو ابتدأها وكانت أوليتها منه بلا سبب منك، واسمُ بهمتك عن ملاحظة الاختيار ولا تركنن إلى الرسوم والآثار، ولا تقنع بالخسيس الدون، وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التي لا تنال إلا بطاعة الله.
فإن الله عز وجل قضى أن لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد، فمن أقبل إليه تلقاه من بعيد ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد، ومن ترك لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد مراده الديني أراد ما يريد. ثم اسم بسرك إلى المطلب، واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله وإحسانه إليك كل سبب منك، بل هو الذي جاد عليك بالأسباب، وهيأ لك وصرف عنك موانعها وأوصلك بها إلى غايتك المحمودة.
فتوكل عليه وحده وعامله وحده وآثر رضاه وحده. وأجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفًا بها. مستلمًا لأركانها، واقفًا بملتزمها، فيا فوزك ويا سعادتك إن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك، ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه وخلع أفضاله: "اللَّهُمَّ لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد سبحانك وبحمدك" ثم تعبد له باسمه الآخر بأن تجعله وحده غايتك التي لا غاية لك سواه، ولا مطلوب لك وراءَه فكما انتهت إليه الأواخر، وكان بعد كل آخر فكذلك اجعل نهايتك إليه، فإن إلى ربك المنتهى، إليه انتهت الأسباب والغايات فليس وراءَه مرمى ينتهى إليه. وقد تقدم التنبيه على ذلك وعلى التعبد باسمه الظاهر. وأما التعبد باسمه الباطن، فإذا شهدت إحاطته بالعوالم وقرب العبيد منه وظهور البواطن له وبدوِّ السرائر له وأنه لا شيء بينه وبينها فعامله بمقتضى هذا الشهود، وطهر له سريرتك فإنها عنده علانية
وأصلح له غيبك فإنه عنده شهادة وزكِّ له باطنك فإنه عنده ظاهر.
فانظر كيف كانت هذه الأسماءُ الأربعة جماع المعرفة بالله، وجماع العبودية له. فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته فلا يرى لغيره شيئًا إلا به وبحوله وقوته، وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو مما كان يستند إليه أو يتحلى به أو يتخذه عقدة أو يراه ليوم فاقته أو يعتمد عليه في مهم من مهماته، فكل ذلك من قصور نظره وانعكاسه عن الحقائق والأصول إلى الأسباب والفروع كما هو شأن الطبيعة والهوى وموجب الظلم والجهل، والإنسان ظلوم جهول فمن جلى الله سبحانه صدأ بصيرته وكمَّل فطرته وأوقفه على مبادئ الأُمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها أصبح كمفلس حقًا من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه يقول: أستغفر الله من علمى ومن عملى، أي من انتسابى إليهما وغيبتى بهما عن فضل من ذكرنى بهما وابتدأنى بإعطائهما من غير تقدم سبب منى يوجب ذلك. فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبق منته ودوامه، فيثيبه مولاه على هذه الشهادة العالية بحقيقة الفقر الأوسط بين الفقرين الأدنى والأعلى ثوابين:
أحدهما الخلاص من رؤية الأعمال حيث كان يراها ويمتدح بها ويستكثرها فيستغرق بمطالعة الفضل غائبًا عنها ذاهبًا عنها فانيًا عن رؤيتها، الثواب الثاني أن يقطعه عن شهود الأحوال - أي عن شهود نفسه فيها متكثرة بها - فإن الحال محله الصدر والصدر بيت القلب والنفس، فإذا نزل العطاءُ في الصدر للقلب وثبتت النفس لتأْخذ نصيبها من العطاءِ فتتمدح به وتدل به وتزهو وتستطيل وتقرر إنيتها لأنها جاهلة ظالمة وهذا مقتضى الجهل والظلم.
فإذا وصل إلى القلب نور صفة المنة، وشهد معنى اسمه المنان، وتجلى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأول، ذهل القلب والنفس به وصار العبد فقيرًا إلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأول، فصار مقطوعًا عن شهود أمر أو حال ينسبه إلى نفسه بحيث يكون بشهادته لحاله مفصومًا مقطوعًا عن رؤية عزة مولاه وفاطره وملاحظة صفاته.
فصاحب شهود الأحوال منقطع عن رؤية منة خالقه وفضله ومشاهدة سبق الأولية للأسباب كلها، وغائب بمشاهدة عزة نفسه عن عزة مولاه، فينعكس هذا الأمر في حق هذا العبد الفقير وتشغله رؤية عزة مولاه ومنته ومشاهدة سبقه بالأولية عن حال يعتز بها العبد أو يشرف بها.
وكذلك الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل يمحص من أدناس مطالعات المقامات، فالمقام ما كان راسخًا فيه، والحال ما كان عارضًا لا يدوم. فمطالعات المقامات وشرفه بها وكونه يرى نفسه صاحب مقام قد حققه وكمله فاستحق أن ينسب إليه ويوصف به مثل أن يقال زاهد صابر خائف راج محب راض، فكونه يرى نفسه مستحقًا بأن تضاف المقامات إليه وبأن يوصف بها - على وجه الاستحقاق لها - خروج عن الفقر إلى الغنى، وتعد لطور العبودية، وجهل بحق الربوبية فالرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل يستغرق همة العبد ويمحصه ويطهره من مثل هذه الأدناس، فيصير مصفّى بنور الله - عز وجل - عن رذائل هذه الأرجاس.
{"ayah":"هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡـَٔاخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق