الباحث القرآني
* (فائدة)
جعل سبحانه نار الدنيا وآلامها وغمومها وأحزانها تذكرة بنار الآخرة قال تعالى في هذه النار: ﴿نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً﴾
وأخبر النبي ﷺ:
"إن شدة الحر والبرد من أنفاس جهنم فلا بد أن يشهد عباده جنته وما يذكرهم بها"
والله المستعان.
* (فصل: الحكمة في خلق النار)
وكذلك الحكمة في خلق النار على ما هي عليه كامنة في حاملها، فإنها لو كانت ظاهرة كالهواء والماء والتراب لأحرقت العالم وما فيه، ولم يكن بد من ظهورها في الأحايين للحاجة إليها، فجعلت مخزونة في الأجسام توري عند الحاجة إليها فتمسك بالمادة والحطب ما احتيج إلى بقائها، ثم تخبوا إذا استغني عنها.
فجعلت على خلقة وتقدير وتدبير حصل به الاستمتاع بها والانتفاع مع السلامة من ضررها.
ثم في النار خلة أخرى وهي أنها مما خص به الإنسان دون سائر الحيوان فإن الحيوانات لا تستعمل النار ولا تستمتع بها.
ولما اقتضت الحكمة الباهرة ذلك اغتنت الحيوانات عنها في لباسها وأقواتها فأعطيت من الشعور والأوبار ما يغنيها عنها وجعلت أغذيتها بالمفردات التي لا تحتاج إلى طبخ وخبز ولما كانت الحاجة إليها شديدة جعل من الآلات والأسباب ما يتمكن به من إثارتها إذا شاء ومن إبطالها ومن حكمها هذه المصابيح التي يوقدها الناس فيتمكنون بها من كثير حاجاتهم، ولولاها لكان نصف أعمارهم بمنزلة أصحاب القبور.
وأما منافعها في إنضاج الأغذية والأدوية والدفء فلا يخفى.
وقد نبه تعالى على ذلك بقوله: ﴿أفَرَأيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ أأنْتُمْ أنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أمْ نَحْنُ المُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً ومَتاعًا لِلْمُقْوِينَ﴾
أي تذكر بنار الآخرة فيحترز منها ويستمتع بها المقوون وهم النازلون بالفيفاء وهي الأرض الخالية.
وخص هؤلاء بالذكر لشدة حاجتهم إليها في خبزهم وطبخهم حيث لا يجدون ما يشترونه فيغنيهم عن ما يصنعونه بالنار.
* (فصل)
* وقال في (طريق الهجرتين)
وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضًا من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يستدل بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النفسين الشتاء والصيف اللذين أذن الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما، فاقتضى ذانك النفسان آثارًا ظهرت في هذه الدار كانت دليلًا عليها وعبرة.
وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبه عليه بقوله في نار الدنيا: ﴿نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً ومَتاعًا لّلْمُقْوِينَ﴾ [الواقعة: ٧٣]، تذكرة تذكر بها الآخرة ومنفعة للنازلين بالقواءِ وهم المسافرون، يقال: أقوى الرجل إذا نزل بالقِى والقَوى وهي الأرض
الخالية، وخص المقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين تنبيهًا لعباده - والله أعلم بمراده من كلامه - على أنهم كلهم مسافرون وأنهم في هذه الدار على جناح سفر ليسوا هم مقيمين ولا مستوطنين وأنهم عابرو سبيل وأبناء سفر. والمقصود أنه سبحانه أشهد في هذه الدار ما أعد لأوليائه وأعدائه في دار القرار، وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خير وشر، وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن والبلايا سياطًا يسوق بها عباده المؤمنين.
فإذا رأوها حذروا كل الحذر واستدلوا بما رأوه منها وشاهدوه على ما في تلك الدار من المكروهات والعقوبات، وكان وجودها في هذه الدار وإشهادهم إياها وامتحانهم باليسير منها رحمة منه بهم وإحسانًا إليهم وتذكرة وتنبيهًا.
ولما كانت هذه الدار ممزوجًا خيرها بشرها وأذاها براحتها ونعيمها بعذابها اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن خلص خيرها من شرها وخصه بدار أخرى هي دار الخيرات المحضة ودار السرر المحضة، فكتب على هذه الدار حكم الامتزاج والاختلاط وخلط فيها بين الفريقين، وابتلى بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض فتنة، حكمة بالغة بهرت العقول وعزة قاهرة.
فقام بهذا الاختلاط سوق العبودية كما يحبه ويرضاه، ولم تكن تقوم عبوديته التي يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه، بل العبد الواحد جمع فيه بين أسباب الخير والشر، وسلط بعضه على بعض ليستخرج منه ما يحبه من العبودية التي لا تحصل إلا بذلك. فلما حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط أعقبه بالتمييز والتخليص، فميز بينهما بدارين ومحلين، وجعل لكل دار ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها، وخلق المؤمنين المتقين المخلصين لرحمته، وأعداءه الكافرين لنقمته، والمخلصين للأمرين: فهؤلاء أهل الرحمة وهؤلاء أهل النقمة، وهؤلاء أهل النقمة والرحمة.
وقسم آخر لا يستحقون ثوابًا ولا عقابًا.
ورتب على كل قسم من هذه الأقسام الخمسة حكمه اللائق به، وأظهر فيه حكمته الباهرة، ليعلم العباد كمال قدرته وحكمته وأنه يخلق ما يشاءُ، ويختار من خلقه من يصلح للاختيار، وأنه يضع ثوابه موضعه، ويجمع بينهما في المحل المقتضي لذلك، ولا يظلم أحدًا ولا يبخسه شيئًا من حقه ولا يعاقبه بغير جنايته.
هذا مع ما في ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحكم الراجعة إلى العبيد أنفسهم: من استخراج صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج كمالاتهم الكامنة في نفسهم من القوة إلى الفعل، ودفع الأسباب بعضها ببعض، وكسر كل شيء بمقابلة ومصادمته بضده، لتظهر عليه آثار القهر وسمات الضعف والعجز ويتيقن العبد أن القهار لا يكون إلا واحدًا، وأنه يستحيل أن يكون له شريك، بل القهر والوحدة متلازمان: فالملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله الواحد القهار، ومن سواه مربوب مقهور، له ضد ومناف ومشارك.
فخلق الرياح وسلط بعضها على بعض تصادمها وتكسر سورتها وتذهب بها، وخلق الماءَ وسلط عليه الرياح تصرفه وتكسره، وخلق النار وسلط عليها الماءَ يكسرها ويطفئها، وخلق الحديد وسلط عليه النار تذيبه وتكسر قوته، وخلق الحجارة وسلط عليها الحديد يكسرها ويفتتها، وخلق آدم وذريته وسلط عليهم إبليس وذريته، وخلق إبليس وذريته وسلط عليهم الملائكة يشردونهم كل مشرد ويطردونهم كل مطرد، وخلق الحر والبرد والشتاء والصيف وسلط كلا منها على الآخر يذهبه ويقهره، وخلق الليل والنهار وقهر كلا منهما بالآخر، وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر لكل منه مضاد ومغالب، فاستبان للعقول والفطر أن القاهر الغالب لذلك كله واحد وأن من تمام ملكه إيجاد العالم على هذا الوجه وربط بعضه على بعض وإحواج بعضه إلى بعض وقهر بعضه ببعض وابتلاءِ بعضه ببعض وامتزاج خيره بشره، وجعل شره لخيره الفداءِ، ولهذا يدفع إلى كل مؤمن يوم القيامة كافر فيقال له: هذا فداؤك من النار، وهكذا المؤمن في الدنيا يسلط عليه من الابتلاء والامتحان والمصائب ما يكون فداءه من عذاب الله، وقد تكون تلك الأسباب فداءً له من شرور أكثر منها في هذا العالم أيضًا، فليعط اللبيب هذا الموضع حقه من التدبر يتبين له حكمة اللطيف الخبير.
{"ayahs_start":71,"ayahs":["أَفَرَءَیۡتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِی تُورُونَ","ءَأَنتُمۡ أَنشَأۡتُمۡ شَجَرَتَهَاۤ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنشِـُٔونَ","نَحۡنُ جَعَلۡنَـٰهَا تَذۡكِرَةࣰ وَمَتَـٰعࣰا لِّلۡمُقۡوِینَ"],"ayah":"ءَأَنتُمۡ أَنشَأۡتُمۡ شَجَرَتَهَاۤ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنشِـُٔونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق