الباحث القرآني

* (فصل: المشرق والمغرب بين الجمع والتثنية والإفراد) ومن هذا المعنى مجيء المشرق والمغرب في القرآن تارة مجموعين وتارة مثنيين وتارة مفردين لاختصاص كل محل بما يقتضيه من ذلك فالأول كقوله: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشارِقِ والمَغارِبِ﴾ والثاني كقوله: ﴿رَبُّ المَشْرِقَيْنِ ورَبُّ المَغْرِبَيْنِ فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ والثالث كقوله: ﴿رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ لا إلَهَ إلاّ هو فاتَّخِذْهُ وكِيلًا﴾ فتأمل هذه الحكمة البالغة في تغاير هذه المواضع في الإفراد والجمع والتثنية بحسب موادها يطلعك على عظمة القرآن الكريم وجلالته وأنه تنزيل من حكيم حميد فحيث جمعت كان المراد بها مشارق الشمس ومغاربها في أيام السنة وهي متعددة وحيث أفردت كان المراد أفقي المشرق والمغرب وحيث ثنيا كان المراد مشرقي صعودها وهبوطها ومغربيهما فإنها تبتدئ صاعدة حتى تنتهي إلى غاية أوجها وارتفاعها فهذا مشرق صعودها وينشأ منه فصلا الخريف والشتاء: فجعل مشرق صعودها بجملته مشرقا واحدا ومشرق هبوطها بجملته مشرقا واحدا، ويقابلها مغرباها فهذا وجه اختلاف هذه في الإفراد والتثنية والجمع. وأما وجه اختصاص كل موضع بما وقع فيه فلم أر أحدا تعرض له ولا فتح بابه وهو بحمد الله بين من السياق. فتأمل وروده مثنى في سورة الرحمن لما كان مساق السورة مساق المثاني المزدوجات فذكر أولا نوعي الإيجاد وهما الخلق والتعظيم، ثم ذكر سراجي العالم ومظهري نوره وهما الشمس والقمر، ثم ذكر نوعي النبات ما قام منه على ساق وما انبسط منه على وجه الأرض وهما النجم والشجر، ثم ذكر نوعي السماء المرفوعة والأرض الموضوعة، وأخبر أنه رفع هذه ووضع هذه، ووسط بينهما ذكر الميزان، ثم ذكر العدل والظلم في الميزان، فأمر بالعدل ونهى عن الظلم، ذكر نوعي الخارج من الأرض وهما الحبوب والثمار، ثم ذكر خلق نوعي المكلفين وهما نوع الإنسان ونوع الجان، ثم ذكر نوعي المشرقين ونوعي المغربين، ثم ذكر بعد ذلك البحرين الملح والعذب، فتأمل حسن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة وجلالة ورودهما لذلك، وقدر موضعهما اللفظ مفردا ومجموعا تجد السمع ينبو عنه ويشهد العقل بمنافرته للنظم. ثم تأمل ورودهما مفردين في سورة المزمل لما تقدمهما ذكر الليل والنهار، فأمر رسوله علي الصلاة والسلام بقيام الليل، ثم أخبره أن له في النهار سبحا طويلا، فلما تقدم ذكر الليل وما أمر به فيه، وذكر النهار وما يكون منه فيه عقب ذلك بذكر المشرق والمغرب اللذين هما مظهر الليل والنهار فكان ورودهما مفردين في هذا السياق أحسن من التثنية والجمع، لأن ظهور الليل والنهار هما واحد، فالنهار أبدا يظهر من المشرق، والليل أبدا يظهر من المغرب. ثم تأمل مجيئهما مجموعين في سورة المعارج في قوله: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشارِقِ والمَغارِبِ إنّا لَقادِرُونَ عَلى أنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنهم وما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ لما كان هذا القسم في سياق سعة ربوبيته وإحاطة قدرته والمقسم عليه أرباب هؤلاء والإتيان بخير منهم ذكر المشارق والمغارب لتضمنهما انتقال الشمس التي هي أحد آياته العظيمة الكبيرة ونقله سبحانه لها وتصريفها كل يوم في مشرق ومغرب فمن فعل هذا كيف يعجزه أن يبدل هؤلاء وينقل إلى أمكنتهم خيرا منهم وأيضا فإن تأثير مشارق الشمس ومغاربها في اختلاف أحوال النبات والحيوان أمر مشهور وقد جعل الله تعالى ذلك بحكمته سببا لتبدل أجسام النبات وأحوال الحيوانات وانتقالها من حال إلى غيره ويبدل الحر بالبرد والبرد بالحر والصيف بالشتاء والشتاء بالصيف إلى سائر تبدل أحوال الحيوان والنبات والرياح والأمطار والثلوج وغير ذلك من التبدلات والتغيرات الواقعة في العالم بسبب اختلاف مشارق الشمس ومغاربها كان ذلك تقدير العزيز العليم فكيف لا يقدر مع ما يشهدونه من ذلك على أن يبدل خيرا منهم، وأكد هذا المعنى بقوله ﴿وما نحن بمسبوقين﴾ فلا يليق بهذا الموضع سوى لفظة الجمع. ثم تأمل كيف جاءت أيضا في سورة الصافات مجموعة في قوله: ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما ورَبُّ المَشارِقِ﴾ لما جاءت مع جملة المربوبات المتعددة وهي السماوات والأرض وما بينهما كان الأحسن مجيئها مجموعة لينتظم مع ما تقدم من الجمع والتعدد ثم تأمل كيف اقتصر على المشارق دون المغارب لاقتضاء الحال لذلك فإن المشارق مظهر الأنوار وأسباب انتشار الحيوان وحياته وتصرفه ومعاشه وانبساطه، فهو إنشاء مشهود فقدمه بين يدي الرد على منكري البعث، ثم ذكر تعجب بنيه من تكذيبهم واستبعادهم البعث بعد الموت ثم قدر الموت وحالهم فيه وكان الاقتصار على ذكر المشارق هاهنا في غاية المناسبة للغرض المطلوب والله أعلم ... * (فصل) * وقال في (التبيان في أقسام القرآن) قوله تعالى: ﴿رَبُّ المَشْرِقَيْنِ ورَبُّ المَغْرِبَيْنِ﴾ قيل هما مشرقا الصيف والشتاء وجاء في كل موضع ما يناسبه فجاء في سورة الرحمن ﴿رَبُّ المَشْرِقَيْنِ ورَبُّ المَغْرِبَيْنِ﴾ لأنها سورة ذكرت فيها المزدوجات، فذكر فيها الخلق والتعليم، والشمس والقمر، والنجوم والشجر، والسماء والأرض، والحب والثمر، والجن والإنس، ومادة أبي البشر، وأبي الجن، والبحرين، والجنة والنار، وقسم الجنة إلى جنتين عاليتين، وجنتين دونهما. وأخبر أن في كل جنة عينين. فناسب كل المناسبة أن يذكر المشرقين والمغربين. * (فصل) وذكر الترمذي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "خرج رسول الله على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن ردا منكم كنت كلما أتيت على قوله ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد"
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب