الباحث القرآني
* (فصل)
قال أحمد في الرجل يعمل الخير ويجعل النصف لأبيه أو لأمه؟
"أرجو"
وقال: "الميت يصل إليه كل شيء من الخير لما روي عن النبي ﷺ أنه قال:
"إن من البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم مع صومك، وأن تتصدق لهما مع صدقتك" انتهى.
ولا يشترط تسمية المهدى إليه باسمه بل يكفي النية.
نص عليه في رواية ابنه عبد الله لا بأس أن يحج عن الرجل ولا يسميه.
* [فصل: وصول ثواب الصدقة]
وأما وصول ثواب الصدقة (ففي الصحيحين) عن عائشة رضي اللّه عنها أن رجلا أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه إن أمي افتلتت نفسها «١» ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟
قال: «نعم» «٢».
وفي صحيح البخاري: عن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها- فأتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم- فقال: يا رسول اللّه: إن أمي توفيت وأنا غائب عنها أينفعها إن تصدقت به عنها؟ قال:
} «نعم»، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها} «٣».
وفي صحيح مسلم: عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَجُلًا قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إنَّ أبِي ماتَ وتَرَكَ مالًا، ولَمْ يُوصِ، فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أنْ أتَصَدَّقَ عَنْهُ؟ قالَ: «نَعَمْ».
وفي السنن ومسند أحمد عن سعد بن عبادة أنه قال: يا رسول اللّه إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل؟ قال: «الماء» فحفر بئرا وقال: هذه لأم سعد.
وعن: عبد اللّه بن عمرو أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر خمسة وخمسين، وأن عمرا سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: «أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك». رواه الإمام أحمد.
* [فصل: وصول ثواب الصوم]
وأما وصول ثواب الصوم (ففي الصحيحين) عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» «١».
(وفي الصحيحين) أيضا عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: «لو كان على أمك دين أكنت قاضيه»؟
قال: نعم «٢» قال: «نعم فدين اللّه أحق أن يقضى» «٣».
وفي رواية: جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت:
يا رسول اللّه إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟
قال: «أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها»؟ قالت: نعم، قال: «فصومي عن أمك».
وهذا اللفظ للبخاري وحده تعليقا} «٤».
وعن بريدة رضي اللّه عنه: قال: بينما أنا جالس عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ أتته امرأة فقال: إني تصدقت على أمي بجارية وأنها ماتت؟
فقال: «وجب أجرك} «٥» وردها عليك الميراث» قالت: يا رسول اللّه أنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: «صومي عنها»، قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال: «حجي عنها». رواه مسلم. وفي لفظ: صوم شهرين.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجاها اللّه أن تصوم شهرا، فنجاها اللّه فلم تصم حتى ماتت، فجاءت ابنتها أو أختها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأمرها أن تصوم عنها.
رواه أهل السنن والإمام أحمد.
وكذلك روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم وصول ثواب بدل الصوم وهو الإطعام.
ففي السنن عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
«من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا».
رواه الترمذي وابن ماجه. قال الترمذي: ولا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه والصحيح عن ابن عمر من قوله موقوفا} «١».
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: إذا مرض الرجل في رمضان ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عنه قضاء، وإن كان عليه «٢» نذر قضى عنه وليه «٣».
* [فصل: وصول ثواب الحج]
وأما وصول ثواب الحج ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟
قال: «حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا اللّه، فاللّه أحق بالقضاء» «٤».
وقد تقدم حديث بريدة وفيه أن أمي لم تحج أفأحج عنها؟ قال حجي عنها.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: أمرت «٥» امرأة سنان بن سلمة
الجهني أن يسأل «١» رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن أمها ماتت ولم تحج، أفيجزئ أن تحج عنها؟
قال: «نعم لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يجزئ عنها فلتحج عن أمها «٢». رواه النسائي «٣».
وروي أيضا عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن امرأة سألت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن أبيها «٤» مات ولم يحج قال: «حجي عن أبيك» «٥».
وروي أيضا عنه قال: قال رجل: يا رسول اللّه إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه؟ قال: «أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه»؟ قال: نعم، قال: «فدين اللّه أحق» «٦». وأجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمته ولو كان من أجنبي أو من غير تركته، وقد دل عليه حديث أبي قتادة حيث ضمن الدينارين عن الميت، فلما قضاهما قال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الآن بردت جلدته».
وأجمعوا على أن الحي إذا كان له في ذمة الميت حق من الحقوق فأحله منه أن ينفعه ويبرأ منه كما يسقط من ذمة الحي.
فإذا سقط من ذمة الحي بالنص والإجماع مع إمكان أدائه له بنفسه، ولو لم يرض به بل رده، فسقوطه من ذمة الميت بالإبراء حيث لا يتمكن من أدائه أولى وأحرى، وإذا انتفع بالإبراء والإسقاط فكذلك ينتفع بالهبة والإهداء. ولا فرق بينهما، فإن ثواب العمل حق المهدي الواهب فإذا جعله للميت انتقل إليه، كما أن ما على الميت من الحقوق من الدين وغيره وهو محض حق الحي فإذا أبرأه وصل الابراء إليه وسقط من ذمته فكلاهما حق للحي، فأي نص أو قياس أو قاعدة من قواعد الشرع يوجب وصول أحدهما ويمنع وصول الآخر.
هذه النصوص متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه، وهذا محض القياس، فإن الثواب حق للعامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك، كما لم يمنع من هبة ماله في حياته وإبرائه له من بعد موته.
وقد نبه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بوصول ثواب الصوم الذي هو مجرد ترك ونية تقوم بالقلب لا يطلع عليه إلا اللّه وليس بعمل الجوارح، وعلى وصول ثواب القراءة التي هي عمل باللسان تسمعه الأذن وتراه العين بطريق الأولى.
ويوضحه أن الصوم نية محضة وكف النفس عن المفطرات، وقد أوصل اللّه ثوابه إلى الميت، فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية بل لا تفتقر إلى النية، فوصول ثواب الصوم إلى الميت فيه تنبيه على وصول سائر الأعمال.
والعبادات قسمان: مالية، وبدنية. وقد نبّه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول ثواب سائر العبادات المالية، ونبه بوصول ثواب الصوم على وصول سائر العبادات البدنية، وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية، فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار وباللّه التوفيق.
(أدلة المانعين)
قال المانعون من الوصول قال اللّه تعالى: ﴿وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ «١» وقال: ولا تُجْزَوْنَ إلّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} «٢» وقال: لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ} «٣». وقد ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعد} «٤». فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب إليه في الحياة وما لم يكن قد تسبب إليه فهو منقطع عنه.
وأيضا فحديث أبي هريرة رضي اللّه عنه المتقدم وهو قوله:
«إن مما يلحق الميت من عمله وحسناته بعد موته علما نشره». فالحديث يدل على أنه إنما ينتفع بما كان قد تسبب فيه.
وكذلك حديث أنس يرفعه: «سبع يجري على العبد أجرهم وهو في قبره بعد موته: من علّم علما، أو أكرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا صالحا يستغفر له بعد موته».
وهذا يدل على أن ما عدا ذلك لا يحصل له منه ثواب وإلا لم يكن لحصر معنى.
قالوا: والإهداء حوالة، والحوالة إنما تكون بحق لازم، والأعمال لا توجب الثواب، وإنما هو مجرد تفضل اللّه وإحسانه، فكيف يحيل العبد على مجرد الفضل الذي لا يجب على اللّه، بل إن شاء آتاه وإن لم يشأ لم يؤته، وهو نظير حوالة الفقير على من يرجو أن يتصدق عليه، ومثل هذا لا يصح إهداؤه وهبته، كصلة ترجى من ملك لا يتحقق حصولها.
قالوا: وأيضا فالإيثار بأسباب الثواب مكروه، وهو الإيثار بالقرب، فكيف الإيثار بنفس الثواب الذي هو غاية، فإذا كره الإيثار بالوسيلة فالغاية أولى وأحرى.
وكذلك كره الإمام أحمد التأخر عن الصف الأول، وإيثار القبر به، لما فيه من الرغبة عن سبب الثواب.
قال أحمد في رواية حنبل: وقد سئل عن الرجل يتأخر عن الصف الأول ويقدم أباه في موضعه قال: ما يعجبني، يقدر أن يبر أباه بغير هذا.
(قالوا) وأيضا لو ساغ الإهداء إلى الميت لساغ نقل الثواب والإهداء إلى الحي. وأيضا لو ساغ ذلك لساغ لهذا نصف الثواب وربعه وقيراط منه.
وأيضا لو ساغ ذلك لساغ إهداؤه بعد أن يعمله لنفسه، وقد قلتم: إنه لا بد أن ينوي حال الفعل إهداءه إلى الميت، وإلا لم يصل إليه، فإذا ساغ له نقل الثواب فأي فرق بين أن ينوي قبل الفعل أو بعده.
وأيضا لو ساغ الإهداء أساغ إهداء ثواب الواجبات على الحي، كما يسوغ إهداء ثواب التطوعات التي يتطوع بها.
قالوا: وإن التكاليف امتحان وابتلاء لا تقبل البدل، فإن المقصود منها عين المكلف العامل المأمور المنهي، فلا يبدل المكلف الممتحن بغيره، ولا ينوب غيره في ذلك، إذ المقصود طاعته هو نفسه وعبوديته، ولو كان ينتفع بإهداء غيره له من غير عمل منه لكان أكرم الأكرمين أولى بذلك، وقد حكم سبحانه أنه لا ينتفع إلا بسبعة وهذه سنته تعالى في خلقه وقضاؤه كما هي سنته في أمره وشرعه، فإن المريض لا ينوب عنه غيره في شراب الدواء، والجائع والظمآن والعاري لا ينوب عنه غيره في الأكل والشرب واللباس، قالوا: ولو نفعه عمل غيره لنفعه توبته عنه.
قالوا: ولهذا لا يقبل اللّه إسلام أحد عن أحد ولا صرته عن صرته فإذا كان رأس العبادات لا يصح إهداء ثوابه فكيف فروعها.
قال: وأما الدعاء فهو سؤال ورغبة إلى اللّه أن يتفضل على الميت ويسامحه ويعفو عنه، وهذا إهداء ثواب عمل الحي إليه.
قال المقتصرون على وصول العبادات التي تدخلها النيابة كالصدقة والحج والعبادات نوعان:
نوع لا تدخله النيابة بحال، كالإسلام والصلاة وقراءة القرآن والصيام، فهذا النوع يختص ثوابه بفاعله لا يتعداه ولا ينقل عنه، كما أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد، ولا ينوب فيه عن فاعله غيره.
ونوع تدخله النيابة كرد الودائع وأداء الديون وإخراج الصدقة والحج، فهذا يصل ثوابه إلى الميت، لأنه يقبل النيابة ويفعله العبد عن غيره في حياته، فبعد موته بالطريق الأولى والأخرى.
قالوا: وأما حديث من مات وعليه صيام صام عنه وليه. فجوابه من وجوه:
أحدهما: ما قاله مالك في موطئه قال: لا يصوم أحد عن أحد، قال: وهو أمر مجمع عليه عندنا لا خلاف فيه.
الثاني: إن ابن عباس رضي اللّه عنهما هو الذي روى حديث الصوم عن الميت، وقد روى عنه النسائي:
(أخبرنا) محمد بن عبد الأعلى، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حجاج الأحوال، حدثنا أيوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: «لا يصلي أحد عن أحد».
الثالث: أنه حديث اختلف في إسناده هكذا قال صاحب المفهم في شرح مسلم.
الرابع: أنه معارض بنص القرآن كما تقدم من قوله تعالى: ﴿وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾
الخامس: أنه معارض بما رواه النسائي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة».
السادس: أنه معارض بحديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من مات وعليه صوم رمضان يطعم عنه».
السابع: أنه معارض بالقياس الجلي عن الصلاة والإسلام والتوبة فإن أحدا لا يفعلها عن أحد.
قال الشافعي فيما تكلم به على خبر ابن عباس لم يسم ابن عباس: ما كان نذر أم سعد، فاحتمل أن يكون نذر حج أو عمرة أو صدقة فأمره بقضائه عنها، فأما من نذر صلاة أو صياما ثم مات فإنه يكفر عنه في الصوم ولا يصام عنه ولا يصلى عنه ولا يكفر عنه في الصلاة ثم قال: فإن قيل أفروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه أمر أحدا أن يصوم عن أحد؟ قيل: نعم، روى ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم. فإن قيل: فلم لا تأخذ به؟ قيل:
حديث الزهري عن عبيد اللّه عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نذرا ولم يسمه مع حفظ الزهري وطول مجالسة عبيد اللّه لابن عباس، فلما جاء غيره عن رجل عن ابن عباس بغير ما في حديث عبيد اللّه أشبه أن لا يكون محفوظا.
فإن قيل: فتعرف الرجل الذي جاء بهذا الحديث، فغلط عن ابن عباس، قيل نعم: روى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس أنه قال لابن الزبير: أن الزبير حل من متعة الحج، فروى هذا عن ابن عباس أنها متعة للنساء، وهذا غلط فاحش.
فهذا الجواب عن فعل الصوم. وأما فعل الحج فإنما يصل منه ثواب الإنفاق، وأما أفعال المناسك فهي كأفعال الصلاة إنما تقع فاعلها.
(قال) أصحاب الوصول: ليس في شيء مما ذكرتم ما يعارض أدلة الكتاب والسنّة، واتفاق سلف الأمة، ومقتضى قواعد الشرح، ونحن نجيب عن كل ما ذكرتموه بالعدل والإنصاف.
أما قوله تعالى: ﴿وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾
فقد اختلفت طرق الناس في المراد بالآية. فقالت طائفة المراد بالإنسان هاهنا الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له بالأدلة التي ذكرناها. قالوا وغاية ما في هذا التخصيص وهو جائز إذ دل عليه الدليل.
وهذا الجواب ضعيف جدا ومثل هذا العام لا يراد به الكافر وحده بل هو المسلم والكافر وهو كالعام الذي قبله وهو قوله تعالى ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى}.
والسياق كله من أوله إلى آخره كالصريح في إرادة العموم لقوله تعالى: ﴿وَأنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الجَزاءَ الأوْفى﴾
وهذا يعم الشر والخير قطعا، ويتناول البر والفاجر، والمؤمن والكافر، كقوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾
وكقوله في الحديث الإلهي: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» وهو كقوله تعالى: ﴿يا أيُّها الإنْسانُ إنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾
ولا تغتر بقول كثير من المفسرين في لفظ الإنسان في القرآن، الإنسان هاهنا أبو جهل، والإنسان هاهنا عقبة ابن أبي معيط، والإنسان هاهنا الوليد بن المغيرة، فالقرآن أجل من ذلك، بل الإنسان هو الإنسان من حيث هو من غير اختصاص بواحد بعينه، كقوله تعالى: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ﴾ و ﴿إنَّ الإنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ وإنَّ الإنْسانَ خُلِقَ هَلُوعًا} و ﴿إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى. أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ و (إنَّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ} ﴿وحَمَلَها الإنْسانُ إنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ فهذا شأن الإنسان من حيث ذاته ونفسه، وخروجه عن هذه الصفات بفضل ربه وتوفيقه له ومنته عليه، لا من ذاته، فليس له من ذاته إلا هذه الصفات، وما به من نعمة فمن اللّه وحده، فهو الذي حبب إلى عبده الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، وهو الذي كتب في قلبه الإيمان، وهو الذي يثبت أنبيائه ورسله وأولياءه على دينه، وهو الذي يصرف عنهم السوء والفحشاء.
وكان يرتجز بين يدي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
؎واللّه لو لا اللّه ما اهتدينا ∗∗∗ ولا تصدقنا ولا صلينا} «١»
وقد قال تعالى: ﴿وما كانَ لِنَفْسٍ أنْ تُؤْمِنَ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾
وقال تعالى وما يَذْكُرُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ}.
﴿وما تَشاؤُنَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ فهو رب جميع العالم ربوبية شاملة لجميع ما في العالم من ذوات وأفعال وأحوال.
وقالت طائفة: الآية إخبار بشرع من قبلنا، وقد دل شرعنا على أنه له ما سعى وما سعى له، وهذا أيضا أضعف من الأول أو من جنسه، فإن اللّه سبحانه أخبر بذلك إخبار مقرر له محتج به، لا إخبار مبطل له، ولهذا قال أمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما في صُحُفِ مُوسى}
فلو كان هذا باطلا في هذه الشريعة يخبر به إخبار مقرر له محتج به.
وقالت طائفة: اللام بمعنى على، أي: وليس على الإنسان إلا ما سعى.
وهذا أبطل من القولين الأولين، فإنه قلب موضوع الكلام إلى ضد معناه المفهوم منه، ولا يسوغ مثل هذا ولا تحتمله اللغة، وأما نحو: (ولهم اللعنة) فهي على بابها، أي نصيبهم وحظهم وأما أن العرب تعرف في لغاتها: لي درهم بمعنى علي درهم فكلا.
وقالت طائفة في الكلام حذف تقديره: ﴿وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ أو سُعي له وهذا أيضا من النمط الأول، فإنه حذف ما لا يدل السياق عليه بوجه وقول على اللّه وكتابه بلا علم.
وقالت طائفة أخرى: الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهم ذُرِّيَّتُهم بِإيمانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾
وهذا منقول عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، وهذا ضعيف أيضا، ولا يرفع حكم الآية بمجرد قول ابن عباس رضي اللّه عنهما ولا غيره أنها منسوخة، والجمع بين الآيتين غير متعذر ولا ممتنع، فإن الأبناء تبعوا الآباء في الآخرة كما كانوا تبعا لهم في الدنيا، وهذه التبعية هي من كرامة الآباء وثوابهم الذي نالوه بسعيهم، وأما كون الأبناء لحقوا بهم في الدرجة بلا سعي منهم، فهذا ليس هو لهم، وإنما هو للآباء، أقر اللّه أعينهم بإلحاق ذريتهم بهم في الجنة، وتفضل على الأبناء بشيء لم يكن لهم، كما تفضل بذلك على الولدان، والحور العين، والخلق الذين ينشئهم للجنة بغير أعمال، والقوم الذين يدخلهم الجنة بلا خير قدموه ولا عمل عملوه، فقوله تعالى: ﴿ألّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾
وقوله: ﴿وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾
آيتان محكمتان يقتضيهما عدل الرب تعالى وحكمته وكماله المقدس، والعقل والفطرة شاهدان بهما، فالأول يقتضي أنه لا يعاقب بجرم غيره، والثانية يقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله وسعيه، فالأولى تؤمن العبد من أخذه بجريرة غيره كما يفعله ملوك الدنيا، والثانية تقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب، فتأمل حسن اجتماع هاتين الآيتين.
ونظيره قوله تعالى: ﴿مَنِ اهْتَدى فَإنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾
فحكم سبحانه لأعدائه بأربعة أحكام هي غاية العدل والحكمة:
أحدها: إن هدى العباد بالإيمان والعمل الصالح لنفسه لا لغيره.
الثاني: إن ضلاله بفوات ذلك وتخلفه عنه على نفسه لا على غيره.
الثالث: أن أحدا لا يؤاخذ بجريرة غيره.
الرابع: أنه لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه برسله، فتأمل ما في ضمن هذه الأحكام الأربعة من حكمته تعالى وعدله وفضله، والرد على أهل الغرور والأطماع الكاذبة، وعلى أهل الجهل باللّه وأسمائه وصفاته.
قالت طائفة أخرى: المراد بالإنسان هاهنا الحي دون الميت، وهذا أيضا من النمط الأول في الفساد.
وهذا كله من سوء التصرف في اللفظ العام، وصاحب هذا التصرف لا ينقذ تصرفه في دلالات الألفاظ وحملها على خلاف موضوعها، وما يتبادر إلى الذهن منها، وهو تصرف فاسد قطعا يبطله السياق والاعتبار وقواعد الشرع وأدلته وعرفه، وسبب هذا التصرف السيئ أن صاحبه يعتقد قولا ثم يرد كلما دل على خلافه بأي طريق اتفقت له، فالأدلة المخالفة لما اعتقده عنده من باب الصائل لا يبالي بأي شيء دفعه، وأدلة الحق لا تتعارض ولا تتناقض بل يصدق بعضها بعضا.
وقالت طائفة أخرى: وهو جواب أبي الوفاء بن عقيل قال: الجواب الجيد عندي أن يقال: الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودد إلى الناس، فترحموا عليه وأهدوا له العبادات، وكان كذلك أثر سعيه، كما قال صلى اللّه عليه وآله وسلم:
«إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه».
ويدل عليه قوله في الحديث الآخر:
} «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به من بعده، وصدقة جارية عليه، أو ولد صالح يدعو له».
ومن هنا قول الشافعي: إذا بذل له ولده طاعة الحج كان ذلك سببا لوجوب الحج عليه، حتى كأنه في ماله زاد وراحلة، بخلاف بذل الأجنبي.
وهذا جواب متوسط يحتاج إلى تمام، فإن العبد بإيمانه وطاعته للّه ورسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين من عمله، كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله، فإن المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها، كالصلاة في جماعة، فإن كل واحد منهم تضاعف صلاته إلى سبعة وعشرين ضعفا لمشاركة غيره له في الصلاة، فعمل غيره كان سببا لزيادة أجره، كما أن عمله سبب لزيادة أجر الآخر، بل قد قيل: إن الصلاة يضاعف ثوابها بعود المصلين، وكذلك اشتراكهم في الجهاد والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وقد قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه} «١».
ومعلوم أن هذا بأمور الدين أولى منه بأمور الدنيا، فدخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم. وقد أخبر اللّه سبحانه عن حملة العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للمؤمنين ويدعون لهم. وأخبر عن دعاء رسله واستغفارهم للمؤمنين كنوح وإبراهيم ومحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ..
فالعبد بإيمانه قد تسبب إلى وصول هذا الدعاء إليه فكأنه من سعيه. يوضحه أن اللّه سبحانه جعل الإيمان سببا لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه، وقد دل على ذلك قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمرو بن العاص: «إن أباك لو كان أقر بالتوحيد نفعه ذلك» يعني العتق الذي فعل عنه بعد موته. فلو أتى بالسبب لكان قد سعى في عمل يوصل إليه ثواب العتق. وهذه طريقة لطيفة حسنة جدا.
وقالت طائفة أخرى: القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى، فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء أن يبقيه لنفسه، وهو سبحانه لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى، وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجحها.
* [فصل: نفي عقوبة العبد بعمل غيره]
وكذلك قوله تعالى ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾
وقوله ﴿ولا تُجْزَوْنَ إلّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
على أن هذه الآية أصرح في الدلالة على أن سياقها إنما ينفي عقوبة العبد بعمل غيره وأخذه بجريرته، فإن اللّه سبحانه قال فاليَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ولا تُجْزَوْنَ إلّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
فنفى أن يظلم بأن يزاد عليه في سيئاته أو ينقص من حسناته أو يعاقب بعمل غيره، ولم ينف أن ينتف بعمل غيره، ولا على وجه الجزاء، فإن انتفاعه بما يهدي إليه ليس جزاء على عمله، وإنما هي صدقة تصدق اللّه بها عليه وتفضل بها عليه من غير سعي منه، بل وهبه ذلك على يد بعض عباده لا على وجه الجزاء.
* [فصل: الرد على الاستدلال بانقطاع العمل]
وأما استدلالكم بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا مات العبد انقطع عمله» فاستدلال ساقط، فإنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يقل: انقطع انتفاعه، وإنما أخبر عن انقطاع عمله، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإن وهبه له فقد وصل إليه ثواب عمل العامل لا ثواب عمله، فالمنقطع شيء والواصل إليه شيء آخر، وكذلك الحديث الآخر وهو قوله: «إن مما يلحق الميت من حسناته وعمله» فلا ينفي أن يلحقه غير ذلك من عمل غيره وحسناته.
* [فصل: الرد على أن الإهداء حوالة]
وأما قولكم الإهداء حوالة، والحوالة إنما تكون بحق لازم، فهذه حوالة المخلوق على المخلوق.
وأما حوالة المخلوق على الخالق فأمر آخر لا يصح قياسها على حوالة العبيد بعضهم على بعض، وهل هذا إلا من أبطل القياس وأفسده، والذي يبطله إجماع الأمة على انتفاعه بأداء دينه وما عليه من الحقوق، وإبراء المستحق لذمته والصدقة والحج عنه، والنص الذي لا سبيل إلى رده ودفعه، وكذلك الصوم، وهذه الأقيسة الفاسدة لا تعارض نصوص الشرع وقواعده.
* [فصل: الرد على من قال أن الإيثار مكروه]
وأما قولكم الإيثار بسبب الثواب مكروه وهو مسألة للإيثار بالقرب، فكيف الإيثار بنفس الثواب الذي هو الغاية، فقد أجيب عنه بأجوبة:
أحدها: إن حال الحياة حال لا يوثق فيها بسلامة العاقبة، لجواز أن يرتد الحي، فيكون قد آثر بالقربة غير أهلها، وهذا قد آمن بالموت.
فإن قيل: والمهدى إليه أيضا، قد لا يكون مات على الإسلام باطنا فلا ينتفع بما يهدي إليه، وهذا سؤال في غاية البطلان، فإن الإهداء له من جنس الصلاة عليه، والاستغفار له، والدعاء له، فإن كان أهلا وإلا انتفع به الداعي وحده.
الجواب الثاني: إن الإيثار بالقرب يدل على قلة الرغبة فيها، والتأخر عن فعلها، فلو ساغ الإيثار بها لأفضى إلى التقاعد والتكاسل والتأخر، بخلاف إهداء
ثوابها فإن العامل يحرص عليها لأجل ثوابها لينتفع به أو ينفع به أخاه المسلم فبينهما فرق ظاهر.
الجواب الثالث: إن اللّه سبحانه يحب المبادرة والمسارعة إلى خدمته والتنافس فيها، فإن ذلك أبلغ في العبودية، فإن الملوك تحب المسارعة والمنافسة في طاعتها وخدمتها، فالإيثار بذلك مناف لمقصود العبودية، فإن اللّه سبحانه أمر عبده بهذه القربة إما إيجابا وإما استحبابا، فإذا آثر بها ترك ما أمره وولاه غيره، بخلاف ما إذا فعل ما أمر به طاعة وقربة ثم أرسل ثوابه إلى أخيه المسلم وقد قال تعالى: ﴿سابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكم وجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ والأرْضِ﴾
وقال: فاسْتَبِقُوا الخَيْراتِ}
ومعلوم أن الإيثار بها ينافي الاستباق إليها والمسارعة.
وقد كان الصحابة يسابق بعضهم بعضا بالقرب، ولا يؤثر الرجل منهم غيره بها، قال عمر: واللّه ما سابقني أبو بكر إلى خير إلا سبقني إليه- حتى قال: واللّه لا أسابقك إلى خير أبدا.
وقد قال تعالى: ﴿وفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ المُتَنافِسُونَ﴾
يقال: نافست في الشيء منافسة ونفاسا إذا رغبت فيه على وجه المباراة، ومن هذا قولهم شيء نفيس أي: هو أهل أن ينافس فيه ويرغب فيه، وهذا أنفس ما لي أي أحبه إلي، وأنفسني فلان في كذا، أي أرغبني فيه، وهذا كله ضد الإيثار به والرغبة عنه.
* [فصل: الرد على أنه لو ساغ الإهداء للميت لجاز للحي]
وأما قولكم لو ساغ الإهداء إلى الميت لساغ إلى الحي فجوابه من وجهين!
أحدهما: أنه قد ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، قال القاضي: وكلام أحمد لا يقتضي التخصيص بالميت، فإنه قال يفعل الخير ويجعل نصفه لأبيه وأمه لم يفرق. واعترض عليه أبو الوفاء بن عقيل وقال: هذا فيه بعد، وهو تلاعب بالشرع، وتصرف في أمانة اللّه، وإسجال على اللّه سبحانه بثواب على عمل يفعله إلى غيره، وبعد الموت قد جعل لنا طريقا إلى إيصال النفع كالاستغفار والصلاة على الميت.
ثم أورد على نفسه سؤالا وهو فإن قيل: أليس قضاء الدين وتحمل الكل حال الحياة كقضائه بعد الموت فقد استوى ضمان الحياة وضمان الموت في أنهما يزيلان المطالبة عنه، فإذا وصل قضاء الديون بعد الموت وحال الحياة فاجعلوا ثواب الإهداء واصلا حال الحياة بعد الموت.
وأجاب عنه بأنه: لو صح هذا وجب أن تكون الذنوب تكفر عن الحي بتوبة غيره عنه ويندفع عنه مآثم الآخرة بعمل غيره واستغفاره.
قلت: وهذا لا يلزم بل طرد لك انتفاع الحي بدعاء غيره له، واستغفاره له، وتصدقه عنه، وقضاء ديونه، وهذا حق، وقد أذن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في أداء فريضة الحج عن الحي المعضوب والعاجز وهما حيان.
وقد أجاب غيره من الأصحاب بأن حال الحياة لا نثق بسلامة العاقبة خوفا أن يرتد المهدى له فلا ينتفع بما يهدى إليه.
قال ابن عقيل: وهذا عذر باطل بإهداء الحي فإنه لا يؤمن أن يرتد ويموت فيحبط عمله كله ومن جملته ثواب ما أهدي إلى الميت.
قلت: هذا لا يلزمهم، وموارد النص والإجماع تبطله وترده، فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أذن في الحج والصوم عن الميت، وأجمع الناس على براءة ذمته من الدين إذا قضاه عنه الحي مع وجود ما ذكر من الاحتمال.
والجواب أن يقال: ما أهداه من أعمال البر إلى الميت فقد صار ملكا له، فلا يبطل بردة فاعله بعد خروجه عن ملكه، كالتصرفات التي تصرفها قبل الردة من عتق وكفارة، بل لو حج عن معضوب ثم ارتد بعد ذلك لم يلزم المعضوب أن يقيم غيره بحج، فإنه لا يؤمن في الثاني والثالث ذلك.
على أن الفرق بين الحي والميت أن الحي ليس بمحتاج كحاجة الميت إذ يمكنه إن يباشر ذلك العمل أو نظيره، فعليه اكتساب الثواب بنفسه وسعيه بخلاف الميت.
وأيضا فإنه يقضي إلى اتكال بعض الأحياء على بعض، وهذه مفسدة كبيرة، فإن أرباب الأموال إذا فهموا ذلك واستشعروه استأجروا من يفعل ذلك عنهم، فتصير الطاعات معاوضات، وذلك يفضي إلى إسقاط العبادات والنوافل، ويصير ما يتقربه به إلى اللّه يتقرب به إلى الآدميين، فيخرج عن الإخلاص، فلا يحصل الثواب لواحد منهما.
ونحن نمنع من أخذ الأجرة عن كل قربة، ونحبط بأخذ الأجر عليها كالقضاء، والفتيا، وتعليم العلم، والصلاة، وقراءة القرآن وغيرها، فلا يثبت اللّه عليها إلا المخلص الذي أخلص العمل لوجهه، فإذا فعله للأجرة لم يثب عليه الفاعل ولا المستأجر، فلا يليق بمحاسن الشرع أن تجعل العبادات الخالصة له معاملات يقصد بها المعاوضات والأكساب والدنيوية. وفارق قضاء الديون وضمانها فإنها حقوق الآدميين ينوب بعضهم فيها عن بعض، فلذلك جازت في الحياة وبعد الموت.
* [فصل: هل يسوغ إهداء نصف الثواب أو ربعه]
وأما قولكم لو ساغ ذلك لساغ إهداء نصف الثواب وربعه إلى الميت فالواجب من وجهين:
أحدهما: منع الملازمة فإنكم لم تذكروا عليها دليلا إلا مجرد الدعوى.
الثاني: التزام ذلك والقول به نص عليه للإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال، ووجه هذا أن الثواب ملك له، فله أن يهديه جميعه، وله أن يهدي بعضه. ويوضحه أنه لو أهداه إلى أربعة مثلا يحصل لكل منهم ربعه، فإذا أهدى الربع وأبقى لنفسه الباقي جاز كما لو أهداه إلى غيره.
* (فصل)
وأما قولكم لو ساغ ذلك لساغ إهداؤه بعد أن يعمله لنفسه وقد قلتم أنه لا بد أن ينوي حال الفعل إهداؤه إلى الميت وإلا لم يصل.
فالجواب: إن هذه المسألة غير منصوصة عن أحمد ولا هذا الشرط في كلام المتقدمين من أصحابه وإنما ذكره المتأخرون كالقاضي وأتباعه.
قال ابن عقيل: إذا فعل طاعة من صلاة وصيام وقراءة قرآن وأهداها بأن يجعل ثوابها للميت المسلم فإنه يصل إليه ذلك وينفعه بشرط أن يتقدم نية الهدية على الطاعة أو تقارنها.
وقال أبو عبد اللّه بن حمدان في رعايته ومن تطوع بقربة من صدقة وصلاة وصيام وحج وعمرة وقراءة وعتق وغير ذلك من عبادة بدنية تدخلها النيابة وعبادة مالية وجعل جميع ثوابها أو بعضه لميت مسلم، حتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ودعا له أو استغفر له أو قضى ما عليه من حق شرعي، أو واجب تدخله النيابة نفعه ذلك ووصل إليه أجره، وقيل إن نواه حال فعله أو قبله وصل إليه وإلا فلا.
وسر المسألة أن أوان شرط حصول الثواب أن يقع لمن أهدي له أولا ويجوز أن يقع العامل ثم ينتقل عنه إلى غيره، فمن شرط أن ينوي قبل الفعل أو الفراغ منه وصوله، قال: لو لم ينوه وقع الثواب للعامل فلا يقبل انتقاله عنه إلى غيره فإن الثواب يترتب على العمل ترتب أثر على مؤثرة، ولهذا لو أعتق عبدا عن نفسه كان ولاؤه له، فلو نقل ولاؤه إلى غيره بعد العتق لم ينتقل، بخلاف ما لو أعتقه عن الغير فإن ولاءه يكون للمعتق عنه، وكذلك لو أدى دينا عن نفسه ثم أراد بعد الأداء أن يجعله عن غيره لم يكن له ذلك، وكذلك لو حج أو صام أو صلى لنفسه ثم بعد ذلك أراد أن يجعل ذلك عن غيره لم يملك ذلك، ويؤيد هذا أن الذين سألوا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك لم يسألوه عن إهداء ثواب العمل بعده، وإنما سألوه عما يفعلونه عن الميت، كما قال سعيد: أينفعها إن تصدق عنها؟ ولم يقل أن أهدي لها ثواب ما تصدقت به عن نفسي، وكذلك قول المرأة الأخرى: أفأحج عنها؟ وقول الرجل الآخر: أفأحج عن أبي؟ فأجابهم بالإذن في الفعل عن الميت لا بإهداء ثواب ما عملوه لأنفسهم إلى موتاهم، فهذا لا يعرف أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عنه قط، ولا يعرف عن أحد من الصحابة أنه فعله وقال: اللهم أجعل لفلان ثواب عملي أو ثواب ما عملته لنفسي.
فهذا سر الاشتراط وهو أفقه، ومن لم يشترط ذلك يقول: الثواب للعامل، فإذا تبرع به وأهداه إلى غيره كان بمنزلة ما يهديه إليه من ماله.
* [فصل: الرد على جواز إهداء ثواب الواجبات]
وأما قولكم لو ساغ الإهداء لساغ إهداء ثواب الواجبات التي تجب على الحي، فالجواب أن هذا الإلزام محال على أصل من شرط في الوصول نية الفعل عن الميت، فإن الواجب لا يصح أن يفعله عن الغير، فإن هذا واجب على الفاعل يجب عليه أن ينوي به القربة إلى اللّه.
وأما من لم يشترط نية الفعل عن الغير، فهل يسوغ عنده أن يجعل للميت ثواب فرض من فروضه؟ فيه وجهان قال أبو عبد اللّه بن حمدان، وقيل: إن جعل له ثواب فرض من الصلاة أو صوم وغيرهما جاز وأجزأ فاعله.
قلت: وقد نقل عن جماعة أنهم جعلوا ثواب أعمالهم من فرض ونقل للمسلمين وقالوا: نلقى اللّه بالفقر والإفلاس المجرد والشريعة لا تمنع من ذلك، فالأجر ملك العامل، فإن شاء اللّه أن يجعله لغيره فلا حجر عليه في ذلك واللّه أعلم.
* [فصل: الرد على القول أن التكاليف امتحان وابتلاء]
وأما قولكم إن التكاليف امتحان وابتلاء لا تقبل البدن إذ المقصود منها عين المكلف العامل إلى آخره.
فالجواب عنه أن ذلك لا يمنع إذن الشارع للمسلم أن ينفع أخاه بشيء من عمله، بل هذا من تمام إحسان الرب ورحمته لعباده، ومن كمال هذه الشريعة التي شرعها لهم التي مبناها على العدل والإحسان والتعارف، والرب تعالى أقام ملائكته وحملة عرشه يدعون لعباده المؤمنين ويستغفرون لهم ويسألونه لهم أن يقيهم السيئات، وأمر خاتم رسله أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ويقيمه يوم القيامة مقاما محمودا ليشفع في العصاة من أتباعه وأهل سنته، وقد أمره تعالى أن يصلي على أصحابه في حياتهم وبعد مماتهم، وكان يقوم على قبورهم فيدعو لهم.
وقد استقرت الشريعة على أن المأثم الذي على الجميع بترك فروض الكفايات يسقط إذا فعله من يحصل المقصود بفعله ولو واحد. وأسقط سبحانه الارتهان وحرارة الجلود في القبر بضمان الحي دين الميت وأدائه عنه، وإن كان ذلك الوجوب امتحانا في حق المكلف، وأذن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحج والصيام عن الميت، وإن كان الوجوب امتحانا في حقه. وأسقط عن المأموم سجود السهو بصحة صلاة الإمام وخلوها من السهو، وقراءة الفاتحة بتحمل الإمام لها، فهو يتحمل عن المأموم سهوه وقراءته وسترته لقراءة الإمام وسترته قراءة لمن خلفه وسترة له، وهل الإحسان إلى المكلف بإهداء الثواب إليه إلا تأس بإحسان الرب تعالى واللّه يحب المحسنين.
والخلق عباد اللّه، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله، وإذ كان سبحانه يحب من ينفع عياله بشربة ماء ومذقة لبن وكسرة خبز فكيف من ينفعهم في حال ضعفهم وفقرهم وانقطاع أعمالهم وحاجتهم إلى شيء يهدى إليهم وأحوج ما كانوا إليه، فأحب الخلق إلى اللّه ما ينفع عياله في هذه الحال.
ولهذا جاء أثر عن بعض السلف أنه من قال كل يوم سبعين مرة: رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات حصل له من الأجر بعدد كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة، ولا تستبعد هذا فإنه إذا استغفر لإخوانه فقد أحسن إليهم واللّه لا يضيع أجر المحسنين.
* [فصل: الرد على القول بأنه لو نفعه العمل لنفعته التوبة]
وأما قولكم إنه لو نفعه عمل غيره لنفعه توبته عنه وإسلامه عنه.
فهذه الشبهة تورد على صورتين:
١ - صورة تلازم يدعى فيها اللزوم بين الأمرين، ثم يبين انتفاء اللازم فينتفي ملزومه، وصورتها هكذا: لو نفعه عمل الغير عنه إسلامه وتوبته عنه لكن لا ينفعه ذلك فلا ينفعه عمل الغير.
٢ - والصورة الثانية: أن يقال: لا ينتفع بإسلام الغير وتوبته عنه فلا ينتفع بصلاته وصيامه وقراءته عنه.
ومعلوم أن هذا التلازم والإقران باطل قطعا.
أما أولا: فلأنه قياس مصادم لما تظاهرت به النصوص واجتمعت عليه الأمة.
أما ثانيا: فلأنه جمع بين ما فرق اللّه بينه، فإن اللّه سبحانه فرق بين إسلام المرء عن غيره وبين صدقته وحجه وعتقه عنه، فالقياس المسوى بينهما من جنس قياس الذين قاسوا الميتة على المذكى والربا على البيع.
وأما ثالثا: فإن اللّه سبحانه جعل الإسلام سببا لنفع المسلمين بعضهم بعضا في الحياة وبعد الموت، فإذا لم يأت بسبب انتفاعه بعمل المسلمين لم يحصل له ذلك النفع، كما قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمرو: «إن أباك لو كان أقر بالتوحيد فصمت أو تصدقت عنه نفعه ذلك».
وهذا كما جعل سبحانه الإسلام سببا لانتفاع العبد مما عمل من خير. فإذا فاته هذا السبب لم ينفعه خير عمله ولم يقبل منه، كما جعل الإخلاص والمتابعة سببا لقبول الأعمال، فإذا فقد لم تقبل الأعمال، وكما جعل سائر شروط الصلاة سببا لصحتها، فإذا فقدت فقدت الصحة، وهذا شأن سائر الأسباب مع مسبباتها الشرعية والعقلية والحسية، فمن سوى بين محالين وجود السبب وعدمه فهو مبطل.
ونظير هذا الهوس أن يقال: لو قبلت الشفاعة في العصاة لقبلت في المشركين. ولو خرج أهل الكبائر من الموحدين من النار لخرج الكفار منها، وأمثال ذلك من الأقيسة التي هي من نجاسات معد أصحابها ورجيع أفواههم.
وبالجملة: فالأولى بأهل العلم الإعراض عن الاشتغال بدفع هذه الهذيانات لو لا أنهم قد سودوا بهما صحف الأعمال والصحف التي بين الناس.
* [فصل: الرد على القول بأن العبادات نوعان]
وأما قولكم العبادات نوعان:
نوع تدخله النيابة فيصل ثواب إهدائه إلى الميت، ونوع لا تدخله فلا يصل ثوابه.
فهذا هو نفس المذهب والدعوى، فكيف تحتجون به، ومن أين لكم هذا الفرق؟ فأي كتاب أم أي سنة، أم أي اعتبار دل عليه حتى يجب المصير إليه.
وقد شرع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الصوم عن الميت مع أن الصوم لا تدخله النيابة وشرع للأمة أن ينوب بعضهم عن بعض في أداء فرض الكفاية، فإذا فعله واحد تاب عن الباقين في فعله وسقط عنهم المأثم، وشرع لقيم الطفل الذي لا يعقل أن ينوب عنه في الإحرام وأفعال المناسك وحكم له بفعل نائبه.
وقد قال أبو حنيفة رحمه اللّه: يحرم الرفقة عن المغمى عليه، فجعلوا إحرام رفقته بمنزلة إحرامه. وجعل الشارع إسلام الأبوين بمنزلة إسلام أطفالهما، وكذلك إسلام السابي والمالك على القول المنصوص، فقد رأيت كيف عدت هذه الشريعة الكاملة أفعال البر من فاعلها إلى غيرهم، فكيف يليق بها أن تحتجر على العبد أن ينفع والديه ورحمة إخوانه من المسلمين في أعظم أوقات حاجاتهم بشيء من الخير والبر يفعله ويجعل ثوابه لهم، وكيف يتحجر العبد واسعا أو يحجر على من لم يحجر عليه الشارع في ثواب عمله أو يصرف منه ما شاء من المسلمين.
والذي أوصل ثواب الحج والصدقة والعتق هو بعينه الذي يوصل ثواب الصيام والصلاة والقراءة والاعتكاف، وهو إسلام المهدى إليه وتبرع المهدي وإحسانه وعدم حجر الشارع عليه في الإحسان، بل ندبه إلى الإحسان بكل طريق، وقد تواطأت رؤيا المؤمنين وتواترت أعظم تواتر على إخبار الأموات لهم بوصول ما يهدونه إليهم من قراءة وصلاة وصدقة وحج وغيره، ولو ذكرنا ما حكي لنا من أهل عصرنا وما بلغنا عمن قبلها من ذلك لطال جدا.
وقال قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر «١»»
فاعتبر صلى اللّه عليه وآله وسلم تواطؤ رؤيا المؤمنين وهذا كما يعتبر تواطؤ روايتهم لما شاهدوه، فهم لا يكذبون في روايتهم ولا في رؤياهم إذا تواطأت.
* [فصل: من مات وعليه صيام]
وأما رد حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو قوله: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»، بتلك الوجوه التي ذكرتموها، فنحن ننتصر لحديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ونبين موافقته للصحيح من تلك الوجوه، وأما الباطل فيكفينا بطلانه من معارضته للحديث الصحيح الصريح الذي لا تغمز قناته، ولا سبيل إلى مقابلته إلا بالسمع والطاعة والإذعان والقبول، وليس لنا بعده الخيرة، بل الخيرة وكل الخيرة في التسليم له والقول به ولو خالفه من بين المشرق والمغرب.
فأما قولكم: نرده بقول مالك في موطئه: لا يصوم أحد عن أحد. فمنازعوكم يقولون: بل نرد قول مالك هذا بقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، فأي الفريقين أحق بالصواب وأحسن ردا.
وأما قوله: وهو أمر مجمع عليه عندنا لا خلاف فيه. فمالك رحمه اللّه لم يحك إجماع الأمة من شرق الأرض وغربها، وإنما حكم قول أهل المدينة فيما بلغه، ولم يبلغه خلاف بينهم، وعدم اطلاعه رحمه اللّه على الخلاف في ذلك لا يكون مسقطا لحديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، بل لو أجمع عليه أهل المدينة كلهم لكان الأخذ بحديث المعصوم أولى من الأخذ بقول أهل المدينة الذين لم تضمن لنا العصمة في قولهم دون الأمة، ولم يجعل اللّه ورسوله أقوالهم حجة يجب الرد عند التنازع إليها، بل قال اللّه تعالى: ﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾.
وإن كان مالك وأهل المدينة قد قالوا: لا يصوم أحد عن أحد، فقد روى الحكم بن عيينة وسلمة بن كهيل عن سعد بن جبير عن ابن عباس أنه أفتى في قضاء رمضان أن يطعم عنه وفي النذر يصام عنه.
وهذا مذهب الإمام أحمد وكثير من أهل الحديث وهو قول أبي عبيد، وقال أبو ثور: يصام عنه النذر وغيره، وقال الحسن بن صالح في النذر: يصوم.
* [فصل: قول ابن عباس في حديث الصوم]
وأما قولكم أن ابن عباس هو راوي حديث الصوم عن الميت، وقد قال: لا يصوم أحد عن أحد، فغاية هذا أن يكون الصحابي قد أفتى بخلاف ما رواه، وهذا لا يقدح في روايته، فإن روايته معصومة وفتواه غير معصومة، ويجوز أن يكون نسي الحديث أو تأوله أو اعتقد له معارضا راجحا في ظنه أو لغير ذلك من الأسباب.
على أن فتوى ابن عباس غير معارضة للحديث، فإنه أفتى في رمضان أن لا يصوم أحد عن أحد، وأفتى في النذر أنه يصام عنه. وليس هذا بمخالف لروايته بل حمل الحديث على النذر.
ثم إن حديث: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»، هو ثابت من رواية عائشة رضي اللّه عنها، فهب أن ابن عباس خالفه فكان ما ذا؟ فخلاف ابن عباس لا يقدح في رواية أم المؤمنين، بل رد قول ابن عباس برواية عائشة رضي اللّه عنها أولى من رد روايتها بقوله.
وأيضا فإن ابن عباس رضي اللّه عنهما قد اختلف عنه في ذلك، وعنه روايتان، فليس إسقاط الحديث للرواية المخالفة له عنه أولى من إسقاطها بالرواية الأخرى بالحديث.
* [فصل: الزعم أن الحديث اختلف في إسناده]
وأما قولكم أنه حديث اختلف في إسناده فكلام مجازف لا يقبل قوله، فالحديث صحيح ثابت متفق على صحته رواه صاحبا الصحيح، ولم يختلف في إسناده.
قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه». وصححه الإمام أحمد وذهب إليه وعلق الشافعي القول به على صحته، وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في الصوم عن الميت شيء، فإن كان ثابتا صيم عنه كما يحج عنه. وقد ثبت بلا شك، فهو مذهب الشافعي، كذلك قال غير واحد من أئمة أصحابه، قال البيهقي بعد حكايته هذا اللفظ عن الشافعي: قد ثبت جواز القضاء عن الميت برواية سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء، وعن عكرمة عن ابن عباس، وفي رواية أكثرهم أن امرأة سألت فأشبه أن تكون غير قصة أم سعد، وفي رواية بعضهم: «صومي عن أمك» وسيأتي تقرير ذلك عند الجواب عن كلامه رحمه اللّه.
وقولكم أنه معارض بنص القرآن وهو قوله: وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى}
إساءة أدب في اللفظ وخطأ عظيم في المعنى، وقد أعاذ اللّه رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم أن تعارض سنته نصوص القرآن، بل تعاضدها وتؤيدها، وباللّه ما يصنع التعصب ونصرة التقليد.
وقد تقدم من الكلام على الآية ما فيه كفاية، وبينا أنها لا تعارض بينها وبين سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بوجه، وإنما يظن التعارض من سوى الفهم، وهذه طريقة وخيمة ذميمة وهي رد السنن الثابتة بما يفهم من ظاهر القرآن، والعلم كل العلم تنزيل السنن على القرآن، فإنها مشقة منه، ومأخوذة عمن جاء به، وهي بيان له لا أنها مناقضة له.
وقولكم إنه معارض بما رواه النسائي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه كل يوم مد من حنطة».
فخطأ قبيح، فإن النسائي رواه هكذا (أخبرنا) محمد بن عبد الأعلى، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حجاج الأحول، حدثنا أيوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: «لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مد من حنطة». هكذا رواه قول ابن عباس لا قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بقول ابن عباس، ثم يقدم عليه مع ثبوت الخلاف عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يقل هذا الكلام قط وكيف يقوله.
وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» وكيف يقوله وقد قال في حديث بريدة الذي رواه مسلم في صحيحه أن امرأة قالت له: أمي ماتت وعليها صوم شهر؟ قال: «صومي عن أمك».
وأما قولكم أنه معارض بحديث ابن عمر رضي اللّه عنهما، من مات وعليه صوم رمضان يطعم عنه. فمن هذا النمط فإنه حديث باطل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.
قال البيهقي: حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من مات وعليه صوم رمضان يطعم عنه». لا يصح، ومحمد بن الرحمن كثير الوهم، وإنما رواه أصحاب نافع عن نافع عن ابن عمر رضي اللّه عنهما من قوله.
وأما قولكم أنه معارض بالقياس الجلي على الصلاة والإسلام والتوبة فإن أحدا لا يفعلها عن أحد.
فلعمر اللّه أنه لقياس جلي البطلان والفساد لرد سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الصحيحة الصريحة له وشهادتها ببطلانه، وقد أوضحنا الفرق بين قبول الإسلام عن الكافر بعد موته، وبين انتفاع المسلم بما يهديه إليه أخوه المسلم من ثواب صيام أو صدقة أو صلاة، ولعمر اللّه أن الفرق بينهما أوضح من أن يخفى، وهل في القياس أفسد من قياس انتفاع المسلم بعد موته بما يهديه إليه أخوه المسلم من ثواب عمله على قبول الإسلام عن الكافر بعد موته أو قبول التوبة عن المجرم بعد موته.
* [فصل: جواز القضاء عن الميت]
وأما كلام الشافعي رحمه اللّه في تغليط راوي حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما أن نذر أم سعد كان صوما، فقد أجاب عنه أنصر الناس له هو البيهقي، ونحن نذكر كلامه بلفظه.
* قال في (كتاب المعرفة) بعد أن حكى كلامه:
قد ثبت جواز القضاء عن الميت برواية سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، وفي رواية أكثرهم أن امرأة سألت فأشبه أن تكون غير قصة أم سعد، وفي رواية بعضهم:
«صومي عن أمك»
قال: وتشهد له بالصحة رواية عبد اللّه بن عطاء المدني قال: حدثني عبد اللّه بن بريدة الأسلمي عن أبيه قال: كنت عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأتته امرأة فقال: يا رسول اللّه إني كنت تصدقت بوليدة على أمي فماتت وبقيت الوليدة قال:
«قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث»، قالت: فإنها ماتت وعليها صوم شهر؟ قال:
«صومي عن أمك»، قالت: وإنها ماتت ولم تحج؟ قال: «فحجي عن أمك».
رواه مسلم في صحيحه من أوجه عن عبد اللّه بن عطاء. انتهى.
قلت: وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه إن أمي ماتت وعليها صيام شهر أفأقضيه عنها؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لو كان عليها دين كنت أقاضيه عنها؟»
قال: نعم. قال: «فدين اللّه أحق أن يقضى».
ورواه أبو خيثمة حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن الأعمش. فذكره.
و رواه النسائي عن قتيبة بن سعد حدثنا عبثر عن الأعمش. فذكره.
فهذا غير حديث أم سعد إسنادا ومتنا: فإن قصة أم سعد رواها مالك عن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد بن عتبة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن سعد بن عبادة استفتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم اقضه عنها. هكذا أخرجاه في الصحيحين.
فهب أن هذا هو المحفوظ في هذا الحديث أنه نذر مطلق لم يسم فهل يكون هذا في حديث الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير على أن ترك استفصال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لسعد في النذر هل كان صلاة أو صدقة أو صياما مع أن الناذر قد ينذر هذا.
وهذا يدل على أنه لا فرق بين قضاء نذر الصيام والصلاة وإلا لقال له ما هو النذر فإن النذر إذا انقسم إلى قسمين نذر يقبل القضاء عن الميت ونذر لا يقبله، لم يكن من استفصال.
* [فصل: أقوال أهل العلم في الصوم عن الميت]
ونحن نذكر أقوال أهل العلم في الصوم عن الميت لئلا يتوهم أن في المسألة إجماعا بخلافه.
قال عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما: يصام عنه في النذر ويطعم عنه في قضاء رمضان، وهذا مذهب الإمام أحمد.
وقال أبو ثور: يصام عنه في النذر والفرض، وكذلك قال داود بن علي وأصحابه يصام عنه نذرا كان أو فرضا.
وقول الأوزاعي: يجعل وليه مكان الصوم صدقة، فإن لم يجد صام عنه، وهذا قول سفيان في إحدى الروايتين عنه.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: يصام عنه النذر ويطعم عنه في الفرض.
وقال الحسن: إذا كان عليه صيام شهر فصام عنه ثلاثون رجلا يوما واحدا جاز.
* [فصل: الرد على القول بأن ثواب النفقة بالحج يصل فقط]
وأما قولكم أنه يصل إليه في الحج ثواب النفقة دون أفعال المناسك فدعوى مجردة بلا برهان السنّة تردها، فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «حج عن أبيك»
وقال للمرأة: «حجي عن أمك»
فأخبر أن الحج نفسه عن الميت، ولم يقل أن الإنفاق هو الذي يقع عنه.
وكذلك قال للذي سمعه يلبي عن شبرمة:
«حج عن نفسك. ثم حج عن شبرمة».
ولما سألته المرأة عن الطفل الذي معها فقالت: ألهذا تحج؟
قال: «نعم»، ولم يقل إنما له ثواب الإنفاق، بل أخبر أن له حجا، مع أنه لم يفعل شيئا، بل وليه ينوب عنه في أفعال المناسك:
ثم إن النائب عن الميت قد لا ينفق شيئا في حجته غير نفقة معلقة، فما الذي يجعل نفقة ثواب نفقة مقامه للمحجوج عنه، وهو لم ينفقها على الحج بل تلك نفقة أقام أو سافر، فهذا القول ترده السنّة والقياس واللّه أعلم.
* [فصل: التلفظ بإهداء العمل]
فإن قيل: فهل تشترطون في وصول الثواب أن يهديه بلفظه أم يكفي في وصوله مجرد نية العامل أن يهديها إلى الغير.
قيل السنّة: لم تشترط التلفظ بالإهداء في حديث واحد بل أطلق صلى اللّه عليه وآله وسلم الفعل عن الغير كالصوم والحج والصدقة ولم يقل لفاعل ذلك وقل اللهم هذا عن فلان ابن فلان واللّه سبحانه يعلم نية العبد وقصده بعلمه فإن ذكره جاز وإن ترك ذكره واكتفى بالنية والقصد وصل إليه ولا يحتاج أن يقول اللهم إني صائم غدا عن فلان ابن فلان، ولهذا واللّه أعلم اشترط من اشترط نية الفعل عن الغير قبله ليكون واقعا بالقصد عن الميت.
فأما إذا فعله لنفسه ثم نوى أن يجعل ثوابه للغير لم يصر للغير بمجرد النية كما لو نوى أن يهب أو يعتق أو يتصدق لم يحصل ذلك بمجرد النية.
ومما يوضح ذلك أنه لو بنى مكانا أن يجعله مسجدا أو مدرسة أو ساقية ونحو ذلك صار وقفا بفعله مع النية ولم يحتج إلى لفظ.
وكذلك لو أعطى الفقير مالا بنية الزكاة سقطت عنه الزكاة وإن لم يتلفظ بها.
وكذلك لو أدى عن غيره دينا حيا كان أو ميتا سقط من ذمته وإن لم يقل هذا عن فلان.
فإن قيل: فهل يتعين عليه تعليق الإهداء بأن يقول: اللهم إن كنت قبلت هذا العمل وأثبتني عليه فاجعل ثوابه لفلان أم لا؟
قيل: لا يتعين ذلك لفظا ولا قصدا بل لا فائدة في الشرط فإن اللّه سبحانه إنما يفعل هذا، سواء شرطه أو لم يشرطه. فلو كان سبحانه يفعل غير هذا بدون الشرط كان في الشرط فائدة.
وأما قوله: اللهم إن كنت أثبتني على هذا فاجعل ثوابه لفلان، فهو بناء على أن الثواب يقع للعامل ثم ينتقل منه إلى من أهدى له، وليس كذلك بل إذا قوي حال الفعل أنه عن فلان وقع الثواب أولا عن المعمول له كما لو أعتق عبده عن غيره لا تقول إن الولاء يقع للمعتق ثم ينتقل منه إلى المعتق عنه فهكذا هذا.
وباللّه التوفيق.
فإن قيل: فما الأفضل أنه يهدي إلى الميت؟ قيل: الأفضل ما كان أنفع في نفسه، فالعتق عنه والصدقة أفضل من الصيام عنه، وأفضل الصدقة ما صادفت حاجة من المتصدق عليه وكانت دائمة مستمرة، ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أفضل الصدقة سقي الماء» وهذا موضع يقل فيه الماء ويكثر فيه العطش وإلا فسقي الماء على الأنهار لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند الحاجة، وكذلك الدعاء والاستغفار له إذا كان يصدق من الداعي وإخلاص وتضرع فهو في موضعه أفضل من الصدقة عنه، كالصلاة على الجنازة والوقوف لدعاء على قبره.
وبالجملة فأفضل ما يهدي إلى الميت العتق والصدقة والاستغفار له والدعاء له والحج عنه.
وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعا بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج.
فإن قيل: فهذا لم يكن معروفا في السلف ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصها على الخير ولا أرشدهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إليه، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه لكانوا يفعلونه.
فالجواب أن مردود هذا السؤال إن كان معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار.
قيل له ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القراءة واقتضت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات، وإن لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنّة والإجماع وقواعد الشرع.
وأما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويهدي إلى الموتى، ولا كانوا يعرفون ذلك البتة، وكانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم، ولا كان أحدهم يشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت بل ولا ثواب هذه الصدقة والصوم.
ثم يقال لهذا القائل: لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال: اللهم ثواب هذا الصوم لفلان لعجزت، فإن القوم كانوا أحرض شيء على كتمان أعمال البر فلم يكونوا ليشهدوا على اللّه بإيصال ثوابها إلى أمواتهم.
فإن قيل: فرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أرشدهم إلى الصوم والصدقة والحج دون القراءة.
قيل هو صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم فهذا سأله عن الحج عن ميتة فأذن له، وهذا سأله عن الصيام عنه فأذن له، وهذا سأله عن الصدقة فأذن له، ولم يمنعهم مما سوى ذلك.
وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك بين وصول ثواب القراءة والذكر.
والقائل أن أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما لا علم له به، فإن هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه، فما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه، بل يكفي اطلاع علّام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم لا سيما والتلفظ بنيّة الإهداء لا يشترط كما تقدم.
وسر المسألة أن الثواب ملك للعامل، فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله اللّه إليه، فما الذي خص من هذا ثواب قراءة القرآن، وحجر على العبد أن يوصله إلى أخيه، وهذا عمل سائر الناس حتى المنكر في سائر الأعصار والأمصار من غير نكير من العلماء.
فإن قيل: فما تقولون في الإهداء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم؟
قيل: من الفقهاء المتأخرين من استحبه ومنهم لم يستحبه ورآه بدعة، فإن الصحابة لم يكونوا يفعلونه، وأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم له أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شيء، لأنه هو الذي دل أمته على كل خير وأرشدهم ودعاهم إليه، ومن دعا إلى هدى فله من الأجر مثل من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وكل هدى وعلم فإنما نالته أمته على يده فله مثل أجر من اتبعه أهداه إليه أو لم يهده.
واللّه أعلم.
{"ayahs_start":39,"ayahs":["وَأَن لَّیۡسَ لِلۡإِنسَـٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ","وَأَنَّ سَعۡیَهُۥ سَوۡفَ یُرَىٰ","ثُمَّ یُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَاۤءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ"],"ayah":"وَأَن لَّیۡسَ لِلۡإِنسَـٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق