الباحث القرآني
* (فصل)
وأما اللمم فهو طرف من الجنون ورجل ملموم أي به لمم ويقال أيضا أصابت فلانا من الجن لمة وهو المس والشيء القليل قاله الجوهري قلت وأصل اللفظة من المقاربة ومنه قوله تعالى ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الأِثْمِ والفَواحِشَ إلّا اللَّمَمَ﴾ وهي الصغائر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما
"ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة رضي الله عنه: إن العين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها البطش، والرِّجل تزني وزناها المشي، والفرج يزني وزناه القُبَل "
ومنه ألم بكذا أي قاربه ودنا منه، وغلام ملم أي قارب البلوغ.
وفي الحديث "إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم"
أي يقرب من ذلك.
وبالجملة فلا يستبين كون اللمم من أسماء الحب، وإن كان قد ذكره جماعة إلا أن يقال إن المحبوب قد ألم بقلب المحب أي نزل به، ومنه ألمم بنا أي انزل بنا.
ومنه قوله
؎متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ∗∗∗ تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
* [فَصْلٌ الذُّنُوبُ صَغائِرُ وكَبائِرُ]
والذُّنُوبُ تَنْقَسِمُ إلى صَغائِرَ وكَبائِرَ بِنَصِّ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، وإجْماعِ السَّلَفِ وبِالِاعْتِبارِ، قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكُمْ﴾ [النساء: ٣١]
وَقالَ تَعالى ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَواحِشَ إلّا اللَّمَمَ﴾ [النجم: ٣٢]
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
أنَّهُ قالَ «الصَّلَواتُ الخَمْسُ، والجُمُعَةُ إلى الجُمُعَةِ، ورَمَضانُ إلى رَمَضانَ - مُكَفِّراتٌ لِما بَيْنَهُنَّ، إذا اجْتُنِبَتِ الكَبائِرُ».
وَأمّا ما يُحْكى عَنْ أبِي إسْحاقَ الإسْفَرايِينِيِّ أنَّهُ قالَ: الذُّنُوبُ كُلُّها كَبائِرُ، ولَيْسَ فِيها صَغائِرُ، فَلَيْسَ مُرادَهُ أنَّها مُسْتَوِيَةٌ في الإثْمِ، بِحَيْثُ يَكُونُ إثْمُ النَّظَرِ المُحَرَّمِ، كَإثْمِ الوَطْءِ في الحَرامِ، وإنَّما المُرادُ أنَّها بِالنِّسْبَةِ إلى عَظَمَةِ مَن عُصِيَ بِها كُلَّها كَبائِرُ، ومَعَ هَذا فَبَعْضُها أكْبَرُ مِن بَعْضٍ، ومَعَ هَذا فالأمْرُ في ذَلِكَ لَفْظِيٌّ لا يَرْجِعُ إلى مَعْنًى.
والَّذِي جاءَ في لَفْظِ الشّارِعِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ لَمَمًا ومُحَقَّراتٍ كَما في الحَدِيثِ «إيّاكم ومُحَقَّراتِ الذُّنُوبِ»
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ اللَّمَمَ المَذْكُورَ في الآيَةِ مِنَ الكَبائِرِ، حَكاهُ البَغَوِيُّ وغَيْرُهُ.
قالُوا: ومَعْنى الِاسْتِثْناءِ أنْ يُلِمَّ بِالكَبِيرَةِ مَرَّةً، ثُمَّ يَتُوبَ مِنها، ويَقَعُ فِيها ثُمَّ يَنْتَهِي عَنْها، لا يَتَّخِذُها دَأْبَهُ، وعَلى هَذا يَكُونُ اسْتِثْناءُ اللَّمَمِ مِنَ الِاجْتِنابِ إذْ مَعْناهُ لا يَصْدُرُ مِنهُمْ، ولا تَقَعُ مِنهُمُ الكَبائِرُ إلّا لَمَمًا.
والجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مِنَ الكَبائِرِ، وهو مُنْقَطِعٌ، أيْ لَكِنْ يَقَعُ مِنهُمُ اللَّمَمُ.
وَحَسُنَ وُقُوعُ الِانْقِطاعِ بَعْدَ الإيجابِ - والغالِبُ خِلافُهُ - أنَّهُ إنَّما يَقَعُ حَيْثُ يَقَعُ التَّفْرِيغُ، إذْ في الإيجابِ هُنا مَعْنى النَّفْيِ صَرِيحًا، فالمَعْنى: لا يَأْتُونَ ولا يَفْعَلُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَواحِشَ، فَحَسُنَ اسْتِثْناءُ اللَّمَمِ.
وَلَعَلَّ هَذا الَّذِي شَجَّعَ أبا إسْحاقَ عَلى أنْ قالَ: الذُّنُوبُ كُلُّها كَبائِرُ، إذِ الأصْلُ في الِاسْتِثْناءِ الِاتِّصالُ، ولا سِيَّما وهو مِن مُوجَبٍ.
وَلَكِنَّ النُّصُوصَ وإجْماعَ السَّلَفِ عَلى انْقِسامِ الذُّنُوبِ إلى صَغائِرَ وكَبائِرَ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا في فَصْلَيْنِ، أحَدُهُما: في اللَّمَمِ ما هُوَ؟ والثّانِي: في الكَبائِرِ وهَلْ لَها عَدَدٌ يَحْصُرُها، أوْ حَدٌّ يَحُدُّها؟ فَلْنَذْكُرْ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِالفَصْلَيْنِ.
* [فَصْلُ اللَّمَمِ]
فَأمّا اللَّمَمُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أنَّهُ الإلْمامُ بِالذَّنْبِ مَرَّةً، ثُمَّ لا يَعُودُ إلَيْهِ، وإنْ كانَ كَبِيرًا، قالَ البَغَوِيُّ: هَذا قَوْلُ أبِي هُرَيْرَةَ، ومُجاهِدٍ، والحَسَنِ، ورِوايَةُ عَطاءٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاصِ: اللَّمَمُ ما دُونَ الشِّرْكِ قالَ السُّدِّيُّ: قالَ أبُو صالِحٍ: سُئِلْتُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿إلّا اللَّمَمَ﴾؟
فَقُلْتُ: هو الرَّجُلُ يُلِمُّ بِالذَّنْبِ ثُمَّ لا يُعاوِدُهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبّاسٍ فَقالَ: لَقَدْ أعانَكَ عَلَيْها مَلَكٌ كَرِيمٌ.
والجُمْهُورُ عَلى أنَّ اللَّمَمَ ما دُونَ الكَبائِرِ، وهو أصَحُّ الرِّوايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، كَما في صَحِيحِ البُخارِيِّ مِن حَدِيثِ طاوُوسٍ عَنْهُ قالَ: ما رَأيْتُ أشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمّا قالَ أبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنا، أدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحالَةَ، فَزِنا العَيْنِ النَّظَرُ، وزِنا اللِّسانِ النُّطْقُ، والنَّفْسُ تَمَنّى وتَشْتَهِي، والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أوْ يُكَذِّبُهُ» رَواهُ مُسْلِمٌ مِن حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أبِي صالِحٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، وفِيهِ
«والعَيْنانِ زِناهُما النَّظَرُ، والأُذُنانِ زِناهُما الِاسْتِماعُ، واللِّسانُ زِناهُ الكَلامُ، واليَدُ زِناها البَطْشُ، والرِّجْلُ زِناها الخُطى».
وَقالَ الكَلْبِيُّ: اللَّمَمُ عَلى وجْهَيْنِ، كُلُّ ذَنْبٍ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَلَيْهِ حَدًّا في الدُّنْيا، ولا عَذابًا في الآخِرَةِ، فَذَلِكَ الَّذِي تُكَفِّرُهُ الصَّلَواتُ الخَمْسُ، ما لَمْ يَبْلُغِ الكَبائِرَ والفَواحِشَ، والوَجْهُ الآخَرُ هو الذَّنْبُ العَظِيمُ، يُلِمُّ بِهِ المُسْلِمُ المَرَّةَ بَعْدَ المَرَّةِ، فَيَتُوبُ مِنهُ.
قالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: هو ما ألَمَّ بِالقَلْبِ، أيْ ما خَطَرَ عَلَيْهِ.
قالَ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: اللَّمَمُ النَّظَرُ مِن غَيْرِ تَعَمُّدٍ، فَهو مَغْفُورٌ، فَإنْ أعادَ النَّظَرَ فَلَيْسَ بِلَمَمٍ، وهو ذَنْبٌ، وقَدْ رَوى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
؎«إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمّا ∗∗∗ وأيُّ عَبْدٍ لَكَ لا ألَمّا»
وَذَهَبَتْ طائِفَةٌ ثالِثَةٌ إلى أنَّ اللَّمَمَ ما فَعَلُوهُ في الجاهِلِيَّةِ قَبْلَ إسْلامِهِمْ، فاللَّهُ لا يُؤاخِذُهم بِهِ، وذَلِكَ أنَّ المُشْرِكِينَ قالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: أنْتُمْ بِالأمْسِ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَعَنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، وهَذا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، وزَيْدِ بْنِ أسْلَمَ.
والصَّحِيحُ قَوْلُ الجُمْهُورِ أنَّ اللَّمَمَ صَغائِرُ الذُّنُوبِ، كالنَّظْرَةِ، والغَمْزَةِ، والقُبْلَةِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، هَذا قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحابَةِ ومَن بَعْدَهُمْ، وهو قَوْلُ أبِي هُرَيْرَةَ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ عَبّاسٍ، ومَسْرُوقٍ، والشَّعْبِيِّ، ولا يُنافِي هَذا قَوْلُ أبِي هُرَيْرَةَ، وابْنِ عَبّاسٍ في الرِّوايَةِ الأُخْرى: إنَّهُ يُلِمُّ بِالكَبِيرَةِ ثُمَّ لا يَعُودُ إلَيْها، فَإنَّ اللَّمَمَ إمّا أنَّهُ يَتَناوَلُ هَذا وهَذا، ويَكُونُ عَلى وجْهَيْنِ، كَما قالَ الكَلْبِيُّ، أوْ أنَّ أبا هُرَيْرَةَ، وابْنَ عَبّاسٍ ألْحَقا مَنِ ارْتَكَبَ الكَبِيرَةَ مَرَّةً واحِدَةً - ولَمْ يُصِرَّ عَلَيْها، بَلْ حَصَلَتْ مِنهُ فَلْتَةٌ في عُمْرِهِ - بِاللَّمَمِ، ورَأيا أنَّها إنَّما تَتَغَلَّظُ وتَكْبُرُ وتَعْظُمُ في حَقِّ مَن تَكَرَّرَتْ مِنهُ مِرارًا عَدِيدَةً، وهَذا مِن فِقْهِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وغَوْرِ عُلُومِهِمْ، ولا رَيْبَ أنَّ اللَّهَ يُسامِحُ عَبْدَهُ المَرَّةَ والمَرَّتَيْنِ والثَّلاثَ، وإنَّما يُخافُ العَنَتُ عَلى مَنِ اتَّخَذَ الذَّنْبَ عادَتَهُ، وتَكَرَّرَ مِنهُ مِرارًا كَثِيرَةً، وفي ذَلِكَ آثارٌ سَلَفِيَّةٌ، والِاعْتِبارُ بِالواقِعِ يَدُلُّ عَلى هَذا، ويُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ دُفِعَ إلَيْهِ سارِقٌ، فَأمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ، فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، واللَّهِ ما سَرَقْتُ غَيْرَ هَذِهِ المَرَّةِ، فَقالَ: كَذَبْتَ، فَلَمّا قُطِعَتْ يَدُهُ قالَ: اصْدُقْنِي، كَمْ لَكَ بِهَذِهِ المَرَّةِ؟ فَقالَ: كَذا وكَذا مَرَّةً؟ فَقالَ: صَدَقْتَ، إنَّ اللَّهَ لا يُؤاخِذُ بِأوَّلِ ذَنْبٍ، أوْ كَما قالَ، فَأوَّلُ ذَنْبٍ إنْ لَمْ يَكُنْ هو اللَّمَمَ، فَهو مِن جِنْسِهِ ونَظِيرُهُ، فالقَوْلانِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، وابْنِ عَبّاسٍ مُتَّفِقانِ غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ فِيها مَعْنى المُقارَبَةِ والإعْتابِ بِالفِعْلِ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، فَإنَّهُ يُقالُ: ألَمَّ بِكَذا، إذا قارَبَهُ ولَمْ يَغْشَهُ، ومِن هَذا سُمِّيَتِ القُبْلَةُ والغَمْزَةُ لَمَمًا، لِأنَّها تُلِمُّ بِما بَعْدَها، ويُقالُ: فُلانٌ لا يَزُورُنا إلّا لِمامًا، أيْ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، فَمَعْنى اللَّفْظَةِ ثابِتٌ في الوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ فَسَّرَ الصَّحابَةُ بِهِما الآيَةَ، ولَيْسَ مَعْنى الآيَةِ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَواحِشَ إلّا اللَّمَمَ فَإنَّهم لا يَجْتَنِبُونَهُ، فَإنَّ هَذا يَكُونُ ثَناءً عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ اجْتِنابِ اللَّمَمِ، وهَذا مُحالٌ، وإنَّما هَذا اسْتِثْناءٌ مِن مَضْمُونِ الكَلامِ ومَعْناهُ، فَإنَّ سِياقَ الكَلامِ في تَقْسِيمِ النّاسِ إلى مُحْسِنٍ ومُسِيءٍ، وأنَّ اللَّهَ يَجْزِي هَذا بِإساءَتِهِ وهَذا بِإحْسانِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ المُحْسِنِينَ ووَصْفَهم بِأنَّهم يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَواحِشَ، ومَضْمُونُ هَذا أنَّهُ لا يَكُونُ مُحْسِنًا مَجْزِيًّا بِإحْسانِهِ، ناجِيًا مِن عَذابِ اللَّهِ، إلّا مَنِ اجْتَنَبَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَواحِشَ، فَحَسُنَ حِينَئِذٍ اسْتِثْناءُ اللَّمَمِ، وإنْ لَمْ يَدْخُلْ في الكَبائِرِ، فَإنَّهُ داخِلٌ في جِنْسِ الإثْمِ والفَواحِشِ.
وَضابِطُ الِانْقِطاعِ أنْ يَكُونَ لَهُ دُخُولٌ في جِنْسِ المُسْتَثْنى مِنهُ، وإنْ لَمْ يَدْخُلْ في نَفْسِهِ، ولَمْ يَتَناوَلْهُ لَفْظُهُ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا إلّا سَلامًا﴾ [مريم: ٦٢]
فَإنَّ السَّلامَ داخِلٌ في الكَلامِ الَّذِي هو جِنْسُ اللَّغْوِ والسَّلامِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدًا ولا شَرابًا إلّا حَمِيمًا وغَسّاقًا﴾ [النبأ: ٢٤]
فَإنَّ الحَمِيمَ والغَسّاقَ داخِلٌ في جِنْسِ الذَّوْقِ المُنْقَسِمِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ في الأوَّلِ: لا يَسْمَعُونَ فِيها شَيْئًا إلّا سَلامًا، وفي الثّانِي: لا يَذُوقُونَ فِيها شَيْئًا إلّا حَمِيمًا وغَسّاقًا، ونَصَّ عَلى فَرْدٍ مِن أفْرادِ الجِنْسِ تَصْرِيحًا، لِيَكُونَ نَفْيُهُ بِطَرِيقِ التَّصْرِيحِ والتَّنْصِيصِ، لا بِطْرِيقِ العُمُومِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَخْصِيصُ هَذا الفَرْدِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ما لَهم بِهِ مِن عِلْمٍ إلّا اتِّباعَ الظَّنِّ﴾ [النساء: ١٥٧]
فَإنَّ الظَّنَّ داخِلٌ في الشُّعُورِ الَّذِي هو جِنْسُ العِلْمِ والظَّنِّ.
وَأدَقُّ مِن هَذا دُخُولُ الِانْقِطاعِ فِيما يُفْهِمُهُ الكَلامُ بِلازِمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ إلّا ما قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢]
إذْ مَفْهُومُ هَذا أنَّ نِكاحَ مَنكُوحاتِ الآباءِ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ إلّا ما قَدْ سَلَفَ مِنهُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَإنَّهُ عَفْوٌ، وكَذَلِكَ ﴿وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلّا ما قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٣]
وَإنْ كانَ المُرادُ بِهِ ما كانَ في شَرْعِ مَن تَقَدَّمَ فَهو اسْتِثْناءٌ مِنَ القُبْحِ المَفْهُومِ مِن ذَلِكَ التَّحْرِيمِ والذَّمِّ لِمَن فَعَلَهُ، فَحَسُنَ أنْ يُقالَ: إلّا ما قَدْ سَلَفَ.
فَتَأمَّلْ هَذا فَإنَّهُ مِن فِقْهِ العَرَبِيَّةِ.
وَأمّا قَوْلُهُ: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيها المَوْتَ إلّا المَوْتَةَ الأُولى﴾ [الدخان: ٥٦]
فَهَذا الِاسْتِثْناءُ هو لِتَحْقِيقِ دَوامِ الحَياةِ وعَدَمِ ذَوْقِ المَوْتِ، وهو يَجْعَلُ النَّفْيَ الأوَّلَ العامَّ بِمَنزِلَةِ النَّصِّ الَّذِي لا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ اسْتِثْناءٌ ألْبَتَّةَ، إذْ لَوْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ اسْتِثْناءُ فَرْدٍ مِن أفْرادِهِ لَكانَ أوْلى بِذِكْرِهِ مِنَ العُدُولِ عَنْهُ إلى الِاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ، فَجَرى هَذا الِاسْتِثْناءُ مَجْرى التَّأْكِيدِ، والتَّنْصِيصِ عَلى حِفْظِ العُمُومِ، وهَذا جارٍ في كُلِّ مُنْقَطِعٍ، فَتَأمَّلْهُ فَإنَّهُ مِن أسْرارِ العَرَبِيَّةِ.
فَقَوْلُهُ: وما بِالرَّبْعِ مِن أحَدٍ إلّا الأوارِيَّ، يُفْهَمُ مِنهُ لَوْ وجَدْتُ فِيها أحَدًا لاسْتَثْنَيْتُهُ ولَمْ أعْدِلْ إلى الأوارِيِّ الَّتِي لَيْسَتْ بِأحَدٍ.
وَقَرِيبٌ مِن هَذا لَفْظَةُ " أوْ " في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكم مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَهي كالحِجارَةِ أوْ أشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤]
وَقَوْلِهِ: ﴿وَأرْسَلْناهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧]
هُوَ كالتَّنْصِيصِ عَلى أنَّ المُرادَ بِالأوَّلِ الحَقِيقَةُ لا المُبالَغَةُ، فَإنَّها إنْ لَمْ تَزِدْ قَسْوَتُها عَلى الحِجارَةِ فَهي كالحِجارَةِ في القَسْوَةِ لا دُونَها، وأنَّهُ إنْ لَمْ يَزِدْ عَدَدُهم عَلى مِائَةِ ألْفٍ لَمْ يَنْقُصْ عَنْها، فَذِكْرُ " أوْ " هاهُنا كالتَّنْصِيصِ عَلى حِفْظِ المِائَةِ الألْفِ، وأنَّها لَيْسَتْ مِمّا أُرِيدَ بِها المُبالَغَةُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ الكَبائِرُ]
وَأمّا الكَبائِرُ فاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيها اخْتِلافًا لا يَرْجِعُ إلى تَبايُنٍ وتَضادٍّ، وأقْوالُهم مُتَقارِبَةٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ:
«الكَبائِرُ الإشْراكُ بِاللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، واليَمِينُ الغَمُوسُ».
وَفِيهِما عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرَةَ عَنْ أبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «ألا أُنَبِّئُكم بِأكْبَرِ الكَبائِرِ؟ - ثَلاثًا - قالُوا: بَلى، يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: الإشْراكُ بِاللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ - وجَلَسَ وكانَ مُتَّكِئًا - فَقالَ: ألا وقَوْلُ الزُّورِ، فَما زالَ يُكَرِّرُها حَتّى قُلْنا: لَيْتَهُ سَكَتَ».
وَفِي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ أبِي وائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قُلْتُ «يا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ؟ قالَ: أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ، قالَ قُلْتُ: ثُمَّ أيْ؟ قالَ: أنْ تَقْتُلَ ولَدَكَ مَخافَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قالَ قُلْتُ: ثُمَّ أيْ؟ قالَ: أنْ تُزانِيَ بِحَلِيلَةِ جارِكَ» فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى تَصْدِيقَ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ﴾ [الفرقان: ٦٨].
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتَ، قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وما هُنَّ؟ قالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ، وأكْلُ الرِّبا، وأكْلُ مالِ اليَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ».
وَرَوى شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْراهِيمَ سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ «مِن أكْبَرِ الكَبائِرِ أنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ والِدَيْهِ، قالُوا: وكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ والِدَيْهِ؟
قالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أبا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أباهُ، ويَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ».
وَفِي حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «إنَّ مِن أكْبَرِ الكَبائِرِ اسْتِطالَةَ الرَّجُلِ في عِرْضِ أخِيهِ المُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ».
وَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أكْبَرُ الكَبائِرِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، والأمْنُ مِن مَكْرِ اللَّهِ، والقُنُوطُ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ، واليَأْسُ مِن رَوْحِ اللَّهِ».
قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَألَ رَجُلٌ ابْنَ عَبّاسٍ عَنِ الكَبائِرِ أسَبْعٌ هُنَّ؟ قالَ: هُنَّ إلى السَّبْعِمِائَةِ أقْرَبُ، إلّا أنَّهُ لا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفارِ، ولا صَغِيرَةَ مَعَ الإصْرارِ، وقالَ: كُلُّ شَيْءٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهو كَبِيرَةٌ، مَن عَمِلَ شَيْئًا مِنها فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، فَإنَّ اللَّهَ لا يُخَلِّدُ في النّارِ مِنَ الأُمَّةِ إلّا مَن كانَ راجِعًا عَنِ الإسْلامِ، أوْ جاحِدًا فَرِيضَةً، أوْ مُكَذِّبًا بِالقَدَرِ.
وَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ما نَهى اللَّهُ عَنْهُ في سُورَةِ النِّساءِ مِن أوَّلِها إلى قَوْلِهِ: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكُمْ﴾ [النساء: ٣١]
فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ: هي كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللَّهُ بِنارٍ، أوْ غَضَبٍ، أوْ لَعْنَةٍ، أوْ عَذابٍ.
وَقالَ الضَّحّاكُ: هي ما أوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ حَدًّا في الدُّنْيا، أوْ عَذابًا في الآخِرَةِ.
وَقالَ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: ما سَمّاهُ اللَّهُ في القُرْآنِ كَبِيرًا، أوْ عَظِيمًا، نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ كانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: ٢]، ﴿إنَّ قَتْلَهم كانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٣١]، ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]، ﴿إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٨]، ﴿سُبْحانَكَ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٦]، ﴿إنَّ ذَلِكم كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٣].
قالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: الكَبائِرُ ما كانَ فِيهِ مِنَ المَظالِمِ بَيْنَكَ وبَيْنَ العِبادِ، والصَّغائِرُ ما كانَ بَيْنَكَ وبَيْنَ اللَّهِ، لِأنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يَعْفُو، واحْتَجَّ بِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هارُونَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «يُنادِي مُنادٍ مِن قِبَلِ بُطْنانِ العَرْشِ يَوْمَ القِيامَةِ يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قَدْ عَفا عَنْكم جَمِيعِكُمْ، المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتَ، فَتَواهَبُوا المَظالِمَ بَيْنَكُمْ، وادْخُلُوا الجَنَّةَ بِرَحْمَتِي».
قُلْتُ: مُرادُ سُفْيانَ: أنَّ الذُّنُوبَ الَّتِي بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ اللَّهِ أسْهَلُ أمْرًا مِن مَظالِمِ العِبادِ، فَإنَّها تَزُولُ بِالِاسْتِغْفارِ، والعَفْوِ والشَّفاعَةِ وغَيْرِها، وأمّا مَظالِمُ العِبادِ فَلا بُدَّ مِنِ اسْتِيفائِها، وفي المُعْجَمِ لَلطَّبَرانِيِّ: الظُّلْمُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيامَةِ ثَلاثَةُ دَواوِينَ:
دِيوانٌ لا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنهُ شَيْئًا، وهو الشِّرْكُ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَرَأ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨] ودِيوانٌ لا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنهُ شَيْئًا، وهو مَظالِمُ العِبادِ بَعْضُهم بَعْضًا، ودِيوانٌ لا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، وهو ظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ.
وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذا الدِّيوانَ مُشْتَمِلٌ عَلى الكَبائِرِ والصَّغائِرِ، لَكِنَّ مُسْتَحِقَّهُ أكْرَمُ الأكْرَمِينَ، وما يَعْفُو عَنْهُ مِن حَقِّهِ ويَهَبُهُ أضْعافُ أضْعافِ ما يَسْتَوْفِيهِ، فَأمْرُهُ أسْهَلُ مِنَ الدِّيوانِ الَّذِي لا يَتْرُكُ مِنهُ شَيْئًا لِعَدْلِهِ، وإيصالِ كُلِّ حَقٍّ إلى صاحِبِهِ.
وَقالَ مالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ: الكَبائِرُ ذُنُوبُ أهْلِ البِدَعِ، والسَّيِّئاتُ ذُنُوبُ أهْلِ السُّنَّةِ.
قُلْتُ: يُرِيدُ أنَّ البِدْعَةَ مِنَ الكَبائِرِ، وأنَّها أكْبَرُ مِن كَبائِرِ أهْلِ السُّنَّةِ، فَكَبائِرُ أهْلِ السُّنَّةِ صَغائِرُ بِالنِّسْبَةِ إلى البِدَعِ، وهَذا مَعْنى قَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ: البِدْعَةُ أحَبُّ إلى إبْلِيسَ مِنَ المَعْصِيَةِ، لِأنَّ البِدْعَةَ لا يُتابُ مِنها، والمَعْصِيَةُ يُتابُ مِنها.
وَقِيلَ: الكَبائِرُ ذُنُوبُ العَمْدِ، والسَّيِّئاتُ الخَطَأُ والنِّسْيانُ، وما أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وحَدِيثُ النَّفْسِ، المَرْفُوعَةُ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ.
قُلْتُ: هَذا مِن أضْعَفِ الأقْوالِ طَرْدًا وعَكْسًا، فَإنَّ الخَطَأ والنِّسْيانَ والإكْراهَ لا يَدْخُلُ تَحْتَ جِنْسِ المَعاصِي، حَتّى يَكُونَ أحَدَ قِسْمَيْها.
والعَمْدُ نَوْعانِ: نَوْعُ كَبائِرَ، ونَوْعُ صَغائِرَ، ولَعَلَّ صاحِبَ هَذا القَوْلِ يَرى أنَّ الذُّنُوبَ كُلَّها كَبائِرُ، وأنَّ الصَّغائِرَ ما عَفا اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَنْهُ، ولَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وهَذا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإنَّ الكَبائِرَ والصَّغائِرَ نَوْعانِ تَحْتَ جِنْسِ المَعْصِيَةِ، ويَسْتَحِيلُ وُجُودُ النَّوْعِ بِدُونِ جِنْسِهِ.
وَقِيلَ: الكَبائِرُ ذُنُوبُ المُسْتَحِلِّينَ، مِثْلَ ذَنْبِ إبْلِيسَ، والصَّغائِرُ ذُنُوبُ المُسْتَغْفِرِينَ، مِثْلَ ذَنْبِ آدَمَ.
قُلْتُ: أمّا المُسْتَحِلُّ فَذَنْبُهُ دائِرٌ بَيْنَ الكُفْرِ والتَّأْوِيلِ، فَإنَّهُ إنْ كانَ عالِمًا بِالتَّحْرِيمِ فَكافِرٌ، وإنْ لَمْ يَكُنْ عالِمًا بِهِ فَمُتَأوِّلٌ أوْ مُقَلِّدٌ، وأمّا المُسْتَغْفِرُ فَإنَّ اسْتِغْفارَهُ الكامِلَ يَمْحُو كَبائِرَهُ وصَغائِرَهُ، فَلا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفارِ.
فَهَذا الفَرْقُ ضَعِيفٌ أيْضًا، إلّا أنْ يَكُونَ مُرادَ صاحِبِهِ أنَّ ما يَفْعَلُهُ المُسْتَحِلُّ مِنَ الذَّنْبِ أعْظَمُ عُقُوبَةً مِمّا يَفْعَلُهُ المُعْتَرِفُ بِالتَّحْرِيمِ، النّادِمُ عَلى الذَّنْبِ، المُسْتَغْفِرُ مِنهُ، وهَذا صَحِيحٌ.
وَقالَ السُّدِّيُّ: الكَبائِرُ ما نَهى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ الكِبارِ، والسَّيِّئاتُ مُقَدِّماتُها، وتَوابِعُها مِمّا يَجْتَمِعُ فِيهِ الصّالِحُ والفاسِقُ، مِثْلَ النَّظْرَةِ واللَّمْسَةِ والقُبْلَةِ وأشْباهِها، واحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ
«العَيْنانِ تَزْنِيانِ، والرِّجْلانِ تَزْنِيانِ، ويُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ الفَرْجُ أوْ يُكَذِّبُهُ».
وَقِيلَ: الكَبائِرُ ما يَسْتَصْغِرُهُ العِبادُ، والصَّغائِرُ ما يَسْتَعْظِمُونَهُ، فَيَخافُونَ مُواقَعَتَهُ، واحْتَجَّ أرْبابُ هَذِهِ المَقالَةِ بِما رَوى البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: إنَّكم لَتَعْمَلُونَ أعْمالًا، هي أدَقُّ في أعْيُنِكم مِنَ الشَّعْرِ، كُنّا نَعُدُّها عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ المُوبِقاتِ.
قُلْتُ: أمّا قَوْلُ السُّدِّيِّ: الكَبائِرُ ما نَهى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ الكِبارِ، فَبَيانٌ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، فَإنَّ الذُّنُوبَ الكِبارَ هي الكَبائِرُ، وإنَّما مُرادُهُ أنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ قِسْمانِ، أحَدُهُما: ما هو مُشْتَمِلٌ عَلى المَفْسَدَةِ بِنَفْسِهِ، ونَفْسُ فِعْلِهِ مَنشَأُ المَفْسَدَةِ، فَهَذا كَبِيرَةٌ، كَقَتْلِ النَّفْسِ والسَّرِقَةِ، والقَذْفِ والزِّنا.
الثّانِي: ما كانَ مِن مُقَدِّماتِ ذَلِكَ ومَبادِيهِ، كالنَّظَرِ واللَّمْسِ، والحَدِيثِ والقُبْلَةِ، الَّذِي هو مُقَدِّمَةُ الزِّنا، فَهو مِنَ الصَّغائِرِ، فالصَّغائِرُ مِن جِنْسِ المُقَدِّماتِ، والكَبائِرُ مِن جِنْسِ المَقاصِدِ والغاياتِ.
وَأمّا مَن قالَ: ما يَسْتَصْغِرُهُ العِبادُ فَهو كَبائِرُ، وما يَسْتَكْبِرُونَهُ فَهو صَغائِرُ، فَإنْ أرادَ أنَّ الفَرْقَ راجِعٌ إلى اسْتِكْبارِهِمْ واسْتِصْغارِهِمْ، فَهو باطِلٌ، فَإنَّ العَبْدَ يَسْتَصْغِرُ النَّظْرَةَ، ويَسْتَكْبِرُ الفاحِشَةَ.
وَإنْ أرادَ أنَّ اسْتِصْغارَهم لِلذَّنْبِ يُكَبِّرُهُ عِنْدَ اللَّهِ، واسْتِعْظامَهم لَهُ يُصَغِّرُهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَهَذا صَحِيحٌ، فَإنَّ العَبْدَ كُلَّما صَغُرَتْ ذُنُوبُهُ عِنْدَهُ كَبُرَتْ عِنْدَ اللَّهِ، وكُلَّما كَبُرَتْ عِنْدَهُ صَغُرَتْ عِنْدَ اللَّهِ، والحَدِيثُ إنَّما يَدُلُّ عَلى هَذا المَعْنى، فَإنَّ الصَّحابَةَ - لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وكَمالِهِمْ - كانُوا يَعُدُّونَ تِلْكَ الأعْمالَ مُوبِقاتٍ، ومَن بَعْدَهم - لِنُقْصانِ مَرْتَبَتِهِمْ عَنْهُمْ، وتَفاوُتِ ما بَيْنَهم - صارَتْ تِلْكَ الأعْمالُ في أعْيُنِهِمْ أدَقَّ مِنَ الشَّعْرِ.
وَإذا أرَدْتَ فَهْمَ هَذا فانْظُرْ هَلْ كانَ في الصَّحابَةِ مَن إذا سَمِعَ نَصَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عارَضَهُ بِقِياسِهِ، أوْ ذَوْقِهِ، أوْ وجْدِهِ، أوْ عَقْلِهِ، أوْ سِياسَتِهِ؟ وهَلْ كانَ قَطُّ أحَدٌ مِنهم يُقَدِّمُ عَلى نَصِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَقْلًا أوْ قِياسًا، أوْ ذَوْقًا، أوْ سِياسَةً، أوْ تَقْلِيدَ مُقَلِّدٍ؟ فَلَقَدْ أكْرَمَ اللَّهُ أعْيُنَهم وصانَها أنْ تَنْظُرَ إلى وجْهِ مَن هَذا حالُهُ، أوْ يَكُونَ في زَمانِهِمْ، ولَقَدْ حَكَمَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلى مَن قَدَّمَ حُكْمَهُ عَلى نَصِّ الرَّسُولِ بِالسَّيْفِ، وقالَ: هَذا حُكْمِي فِيهِ، فَيالَلَّهُ! كَيْفَ لَوْ رَأى ما رَأيْنا، وشاهَدَ ما بُلِينا بِهِ مِن تَقْدِيمِ رَأْيِ كُلِّ فُلانٍ وفُلانٍ عَلى قَوْلِ المَعْصُومِ ﷺ، ومُعاداةُ مَنِ اطَّرَحَ آراءَهُمْ، وقَدَّمَ عَلَيْها قَوْلَ المَعْصُومِ؟ فاللَّهُ المُسْتَعانُ، وهو المُوعِدُ، وإلَيْهِ المَرْجِعُ.
وَقِيلَ: الكَبائِرُ الشِّرْكُ وما يُؤَدِّي إلَيْهِ، والصَّغائِرُ ما عَدا الشِّرْكَ مِن ذُنُوبِ أهْلِ التَّوْحِيدِ.
واحْتَجَّ أرْبابُ هَذِهِ المَقالَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨].
واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ ﷺ فِيما يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالى -
«ابْنَ آدَمَ، لَوْ أتَيْتَنِي بِقُرابِ الأرْضِ خَطايا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا أتَيْتُكَ بِقُرابِها مَغْفِرَةً».
واحْتَجُّوا أيْضًا بِالحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ مَرْفُوعًا ومَوْقُوفًا «الظُّلْمُ ثَلاثُ دَواوِينَ، دِيوانٌ لا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنهُ شَيْئًا، وهو الشِّرْكُ، ودِيوانٌ لا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنهُ شَيْئًا، وهو ظُلْمُ العِبادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، ودِيوانٌ لا يَعْبَأُ بِهِ اللَّهُ شَيْئًا، وهو ظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ رَبِّهِ».
فَهَذا جُمْلَةُ ما احْتَجَّ بِهِ أرْبابُ هَذِهِ المَقالَةِ، ولا حُجَّةَ لَهم في شَيْءٍ مِنهُ.
أمّا الآيَةُ: فَإنَّ غايَتَها التَّفْرِيقُ بَيْنَ الشِّرْكِ وغَيْرِهِ، لِأنَّ الشِّرْكَ لا يُغْفَرُ إلّا بِالتَّوْبَةِ مِنهُ، وأمّا ما دُونَ الشِّرْكِ فَهو مَوْكُولٌ إلى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المَعاصِيَ دُونَ الشِّرْكِ وهَذا حَقٌّ، فَإنْ أرادَ أرْبابُ هَذا القَوْلِ هَذا فَلا نِزاعَ فِيهِ، وإنْ أرادُوا أنَّ كُلَّ ما دُونَ الشِّرْكِ فَهو صَغِيرَةٌ في نَفْسِهِ، فَباطِلٌ.
فَإنْ قِيلَ: فَإذا كانَ الشِّرْكُ وغَيْرُهُ مِمّا تَأْتِي عَلَيْهِ التَّوْبَةُ، فَما وجْهُ الفَرْقِ بَيْنَ الشِّرْكِ وما دُونَهُ؟ وهَلْ هُما في حَقِّ التّائِبِ، أمْ غَيْرِ التّائِبِ؟ أمْ أحَدُهُما في حَقِّ التّائِبِ والآخَرُ في حَقِّ غَيْرِهِ؟ وما الفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: ٥٣]؟
فالجَوابُ أنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنَ الآيَتَيْنِ لِطائِفَةٍ، فَآيَةُ النِّساءِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨] هي لِغَيْرِ التّائِبِينَ في القِسْمَيْنِ.
والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الشِّرْكِ وغَيْرِهِ في المَغْفِرَةِ، ومِنَ المَعْلُومِ بِالِاضْطِرارِ مِن دِينِ الإسْلامِ أنَّ الشِّرْكَ يُغْفَرُ بِالتَّوْبَةِ، وإلّا لَمْ يَصِحَّ إسْلامُ كافِرٍ أبَدًا.
وَأيْضًا فَإنَّهُ خَصَّصَ مَغْفِرَةَ ما دُونَ الشِّرْكِ بِمَن يَشاءُ، ومَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ لِلتّائِبِينَ عامَّةٌ لا تَخْصِيصَ فِيها، فَخَصَّصَ وقَيَّدَ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ حُكْمُ غَيْرِ التّائِبِ.
وَأمّا آيَةُ الزُّمَرِ ﴿إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: ٥٣] فَهي في حَقِّ التّائِبِ، لِأنَّهُ أطْلَقَ وعَمَّمَ، فَلَمْ يَخُصَّها بِأحَدٍ، ولَمْ يُقَيِّدْها بِذَنْبٍ، ومِنَ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أنَّ الكُفْرَ لا يَغْفِرُهُ، وكَثِيرٌ مِنَ الذُّنُوبِ لا يَغْفِرُها، فَعُلِمَ أنَّ هَذا الإطْلاقَ والتَّعْمِيمَ في حَقِّ التّائِبِ، فَكُلُّ مَن تابَ مِن أيِّ ذَنْبٍ كانَ غُفِرَ لَهُ.
وَأمّا الحَدِيثُ الآخَرُ «لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرابِ الأرْضِ خَطايا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، أتَيْتُكَ بِقُرابِها مَغْفِرَةً» فَلا يَدُلُّ عَلى أنَّ ما عَدا الشِّرْكَ كُلَّهُ صَغائِرُ، بَلْ يَدُلُّ عَلى أنَّ مَن لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا فَذُنُوبُهُ مَغْفُورَةٌ كائِنَةً ما كانَتْ، ولَكِنْ يَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ ارْتِباطُ إيمانِ القُلُوبِ بِأعْمالِ الجَوارِحِ، وتَعَلُّقُها بِها، وإلّا لَمْ يُفْهَمْ مُرادُ الرَّسُولِ ﷺ، ويَقَعُ الخَلْطُ والتَّخْبِيطُ.
فاعْلَمْ أنَّ هَذا النَّفْيَ العامَّ لِلشِّرْكِ - أنْ لا يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا ألْبَتَّةَ - لا يَصْدُرُ مِن مُصِرٍّ عَلى مَعْصِيَةٍ أبَدًا، ولا يُمْكِنُ مُدْمِنُ الكَبِيرَةِ والمُصِرُّ عَلى الصَّغِيرَةِ أنْ يَصْفُوَ لَهُ التَّوْحِيدُ، حَتّى لا يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، هَذا مِن أعْظَمِ المُحالِ، ولا يُلْتَفَتُ إلى جَدَلِيٍّ لا حَظَّ لَهُ مِن أعْمالِ القُلُوبِ، بَلْ قَلْبُهُ كالحَجَرِ أوْ أقْسى، يَقُولُ: وما المانِعُ؟ وما وجْهُ الإحالَةِ؟
وَلَوْ فُرِضَ ذَلِكَ واقِعًا لَمْ يَلْزَمْ مِنهُ مُحالٌ لِذاتِهِ!.
فَدَعْ هَذا القَلْبَ المَفْتُونَ بِجَدَلِهِ وجَهْلِهِ، واعْلَمْ أنَّ الإصْرارَ عَلى المَعْصِيَةِ يُوجِبُ مِن خَوْفِ القَلْبِ مِن غَيْرِ اللَّهِ، ورَجائِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وحُبِّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وذُلِّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وتَوَكُّلِهِ عَلى غَيْرِ اللَّهِ ما يَصِيرُ بِهِ مُنْغَمِسًا في بِحارِ الشِّرْكِ، والحاكِمُ في هَذا ما يَعْلَمُهُ الإنْسانُ مِن نَفْسِهِ، إنْ كانَ لَهُ عَقْلٌ، فَإنَّ ذُلَّ المَعْصِيَةِ لا بُدَّ أنْ يَقُومَ بِالقَلْبِ فَيُورِثَهُ خَوْفًا مِن غَيْرِ اللَّهِ، وذَلِكَ شِرْكٌ، ويُورِثُهُ مَحَبَّةً لِغَيْرِ اللَّهِ، واسْتِعانَةً بِغَيْرِهِ في الأسْبابِ الَّتِي تُوصِلُهُ إلى غَرَضِهِ، فَيَكُونُ عَمَلُهُ لا بِاللَّهِ ولا لِلَّهِ، وهَذا حَقِيقَةُ الشِّرْكِ.
نَعَمْ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ تَوْحِيدُ أبِي جَهْلٍ، وعُبّادُ الأصْنامِ، وهو تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وهو الِاعْتِرافُ بِأنَّهُ لا خالِقَ إلّا اللَّهُ، ولَوْ أنْجى هَذا التَّوْحِيدُ وحْدَهُ، لِأنْجى عُبّادَ الأصْنامِ، والشَّأْنُ في تَوْحِيدِ الإلَهِيَّةِ الَّذِي هو الفارِقُ بَيْنَ المُشْرِكِينَ والمُوَحِّدِينَ.
والمَقْصُودُ أنَّ مَن لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا يَسْتَحِيلُ أنْ يَلْقى اللَّهَ بِقُرابِ الأرْضِ خَطايا، مُصِرًّا عَلَيْها، غَيْرَ تائِبٍ مِنها، مَعَ كَمالِ تَوْحِيدِهِ الَّذِي هو غايَةُ الحُبِّ والخُضُوعِ، والذُّلِّ والخَوْفِ والرَّجاءِ لِلرَّبِّ تَعالى.
وَأمّا حَدِيثُ الدَّواوِينِ فَإنَّما فِيهِ أنَّ حَقَّ الرَّبِّ تَعالى لا يَئُودُهُ أنْ يَهَبَهُ ويُسْقِطَهُ، ولا يَحْتَفِلَ بِهِ ويَعْتَنِي بِهِ كَحُقُوقِ عِبادِهِ، ولَيْسَ مَعْناهُ: أنَّهُ لا يُؤاخِذُ بِهِ ألْبَتَّةَ، أوْ أنَّهُ كُلَّهُ صَغائِرُ، وإنَّما مَعْناهُ أنَّهُ يَقَعُ فِيهِ مِنَ المُسامَحَةِ والمُساهَلَةِ والإسْقاطِ والهِبَةِ ما لا يَقَعُ مِثْلُهُ في حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ.
فَظَهَرَ أنَّهُ لا حُجَّةَ لَهم في شَيْءٍ مِمّا احْتَجُّوا بِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
وَقالَتْ فِرْقَةٌ: الصَّغائِرُ ما دُونَ الحَدَّيْنِ، والكَبائِرُ ما تَعَلَّقَ بِها أحَدُ الحَدَّيْنِ.
وَمُرادُهم بِالحَدَّيْنِ عُقُوبَةُ الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَكُلُّ ذَنْبٍ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ مَحْدُودَةٌ في الدُّنْيا، كالزِّنا وشُرْبِ الخَمْرِ، والسَّرِقَةِ والقَذْفِ، أوْ عَلَيْهِ وعِيدٌ في الآخِرَةِ، كَأكْلِ مالِ اليَتِيمِ، والشُّرْبِ في آنِيَةِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ، وقَتْلِ الإنْسانِ نَفْسَهُ، وخِيانَتِهِ أمانَتَهُ، ونَحْوِ ذَلِكَ، فَهو مِنَ الكَبائِرِ، وصَدَقَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في قَوْلِهِ: هي إلى السَّبْعِمِائَةِ أقْرَبُ مِنها إلى السَّبْعِ.
* [فَصْلٌ الأحْوالُ الَّتِي تَكُونُ مَعَها الكَبِيرَةُ صَغِيرَةً وبِالعَكْسِ]
وَهاهُنا أمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وهو أنَّ الكَبِيرَةَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِها - مِنَ الحَياءِ والخَوْفِ، والِاسْتِعْظامِ لَها - ما يُلْحِقُها بِالصَّغائِرِ، وقَدْ يَقْتَرِنُ بِالصَّغِيرَةِ - مِن قِلَّةِ الحَياءِ، وعَدَمِ المُبالاةِ، وتَرْكِ الخَوْفِ، والِاسْتِهانَةِ بِها - ما يُلْحِقُها بِالكَبائِرِ، بَلْ يَجْعَلُها في أعْلى رُتَبِها.
وَهَذا أمْرٌ مَرْجِعُهُ إلى ما يَقُومُ بِالقَلْبِ، وهو قَدْرٌ زائِدٌ عَلى مُجَرَّدِ الفِعْلِ، والإنْسانُ يَعْرِفُ ذَلِكَ مِن نَفْسِهِ ومِن غَيْرِهِ.
وَأيْضًا فَإنَّهُ يُعْفى لِلْمُحِبِّ، ولِصاحِبِ الإحْسانِ العَظِيمِ، ما لا يُعْفى لِغَيْرِهِ، ويُسامَحُ بِما لا يُسامَحُ بِهِ غَيْرُهُ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَقُولُ: انْظُرْ إلى مُوسى - صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ - رَمى الألْواحَ الَّتِي فِيها كَلامُ اللَّهِ الَّذِي كَتَبَهُ بِيَدِهِ فَكَسَرَها، وجَرَّ بِلِحْيَةِ نَبِيٍّ مِثْلِهِ، وهو هارُونُ، ولَطَمَ عَيْنَ مَلَكِ المَوْتِ فَفَقَأها، وعاتَبَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الإسْراءِ في مُحَمَّدٍ ﷺ ورَفَعَهُ عَلَيْهِ، ورَبُّهُ تَعالى يَحْتَمِلُ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، ويُحِبُّهُ ويُكْرِمُهُ ويُدَلِّلُهُ، لِأنَّهُ قامَ لِلَّهِ تِلْكَ المَقاماتِ العَظِيمَةَ في مُقابَلَةِ أعْدى عَدُوٍّ لَهُ، وصَدَعَ بِأمْرِهِ، وعالَجَ أُمَّتَيِ القِبْطِ وبَنِي إسْرائِيلَ أشَدَّ المُعالَجَةِ، فَكانَتْ هَذِهِ الأُمُورُ كالشَّعْرَةِ في البَحْرِ.
وانْظُرْ إلى يُونُسَ بْنِ مَتّى حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذِهِ المَقاماتُ الَّتِي لِمُوسى، غاضَبَ رَبَّهُ مَرَّةً، فَأخَذَهُ وسَجَنَهُ في بَطْنِ الحُوتِ، ولَمْ يَحْتَمِلْ لَهُ ما احْتَمَلَ لِمُوسى، وفَرْقٌ بَيْنَ مَن إذا أتى بِذَنْبٍ واحِدٍ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الإحْسانِ والمَحاسِنِ ما يَشْفَعُ لَهُ، وبَيْنَ مَن إذا أتى بِذَنْبٍ جاءَتْ مَحاسِنُهُ بِكُلِّ شَفِيعٍ، كَما قِيلَ:
؎وَإذا الحَبِيبُ أتى بِذَنْبٍ واحِدٍ ∗∗∗ جاءَتْ مَحاسِنُهُ بِألْفِ شَفِيعِ
فالأعْمالُ تَشْفَعُ لِصاحِبِها عِنْدَ اللَّهِ، وتُذَكِّرُ بِهِ إذا وقَعَ في الشَّدائِدِ، قالَ تَعالى عَنْ ذِي النُّونِ ﴿فَلَوْلا أنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ - لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: ١٤٣-١٤٤]
وَفِرْعَوْنُ لَمّا لَمْ تَكُنْ لَهُ سابِقَةُ خَيْرٍ تَشْفَعُ لَهُ وقالَ ﴿آمَنتُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ﴾ [يونس: ٩٠]
قالَ لَهُ جِبْرِيلُ ﴿آلْآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ﴾ [يونس: ٩١].
وَفِي المُسْنَدِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ «إنَّ ما تَذْكُرُونَ مِن جَلالِ اللَّهِ - مِنَ التَّسْبِيحِ، والتَّكْبِيرِ، والتَّحْمِيدِ - يَتَعاطَفْنَ حَوْلَ العَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يُذَكِّرْنَ بِصاحِبِهِنَّ، أفَلا يُحِبُّ أحَدُكم أنْ يَكُونَ لَهُ مَن يُذَكِّرُ بِهِ؟» ولِهَذا مَن رَجَحَتْ حَسَناتُهُ عَلى سَيِّئاتِهِ أفْلَحَ ولَمْ يُعَذَّبْ، ووُهِبَتْ لَهُ سَيِّئاتُهُ لِأجْلِ حَسَناتِهِ، ولِأجْلِ هَذا يُغْفَرُ لِصاحِبِ التَّوْحِيدِ ما لا يُغْفَرُ لِصاحِبِ الإشْراكِ، لِأنَّهُ قَدْ قامَ بِهِ مِمّا يُحِبُّهُ اللَّهُ ما اقْتَضى أنْ يَغْفِرَ لَهُ، ويُسامِحَهُ ما لا يُسامِحُ بِهِ المُشْرِكَ، وكَما كانَ تَوْحِيدُ العَبْدِ أعْظَمَ، كانَتْ مَغْفِرَةُ اللَّهِ لَهُ أتَمَّ، فَمَن لَقِيَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ألْبَتَّةَ غَفَرَ لَهُ ذُنُوبَهُ كُلَّها، كائِنَةً ما كانَتْ، ولَمْ يُعَذِّبْ بِها.
وَلَسْنا نَقُولُ: إنَّهُ لا يَدْخُلُ النّارَ أحَدٌ مِن أهْلِ التَّوْحِيدِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنهم يَدْخُلُ بِذُنُوبِهِ، ويُعَذَّبُ عَلى مِقْدارِ جُرْمِهِ، ثُمَّ يُخْرَجُ مِنها، ولا تَنافِيَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ لِمَن أحاطَ عِلْمًا بِما قَدَّمْناهُ.
وَنَزِيدُ هاهُنا إيضاحًا لِعِظَمِ هَذا المَقامِ مِن شِدَّةِ الحاجَةِ إلَيْهِ: اعْلَمْ أنَّ أشِعَّةَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ تُبَدِّدُ مِن ضَبابِ الذُّنُوبِ وغُيُومِها بِقَدْرِ قُوَّةِ ذَلِكَ الشُّعاعِ وضَعْفِهِ، فَلَها نُورٌ، وتَفاوُتُ أهْلِها في ذَلِكَ النُّورِ - قُوَّةً، وضَعْفًا - لا يُحْصِيهِ إلّا اللَّهُ تَعالى.
فَمِنَ النّاسِ مَن نُورُ هَذِهِ الكَلِمَةِ في قَلْبِهِ كالشَّمْسِ.
وَمِنهم مَن نُورُها في قَلْبِهِ كالكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ.
وَمِنهم مَن نُورُها في قَلْبِهِ كالمَشْعَلِ العَظِيمِ.
وَآخَرُ كالسِّراجِ المُضِيءِ، وآخَرُ كالسِّراجِ الضَّعِيفِ.
وَلِهَذا تَظْهَرُ الأنْوارُ يَوْمَ القِيامَةِ بِأيْمانِهِمْ، وبَيْنَ أيْدِيهِمْ، عَلى هَذا المِقْدارِ، بِحَسَبِ ما في قُلُوبِهِمْ مِن نُورِ هَذِهِ الكَلِمَةِ، عِلْمًا وعَمَلًا، ومَعْرِفَةً وحالًا.
وَكُلَّما عَظُمَ نُورُ هَذِهِ الكَلِمَةِ واشْتَدَّ أحْرَقَ مِنَ الشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ وشِدَّتِهِ، حَتّى إنَّهُ رُبَّما وصَلَ إلى حالٍ لا يُصادِفُ مَعَها شُبْهَةً ولا شَهْوَةً، ولا ذَنْبًا، إلّا أحْرَقَهُ، وهَذا حالُ الصّادِقِ في تَوْحِيدِهِ، الَّذِي لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا، فَأيُّ ذَنْبٍ أوْ شَهْوَةٍ أوْ شُبْهَةٍ دَنَتْ مِن هَذا النُّورِ أحْرَقَها، فَسَماءُ إيمانِهِ قَدْ حُرِسَتْ بِالنُّجُومِ مِن كُلِّ سارِقٍ لِحَسَناتِهِ، فَلا يَنالُ مِنها السّارِقُ إلّا عَلى غِرَّةٍ وغَفْلَةٍ لا بُدَّ مِنها لِلْبَشَرِ، فَإذا اسْتَيْقَظَ وعَلِمَ ما سُرِقَ مِنهُ اسْتَنْقَذَهُ مِن سارِقِهِ، أوْ حَصَّلَ أضْعافَهُ بِكَسْبِهِ، فَهو هَكَذا أبَدًا مَعَ لُصُوصِ الجِنِّ والإنْسِ، لَيْسَ كَمَن فَتَحَ لَهم خِزانَتَهُ، ووَلّى البابَ ظَهْرَهُ.
وَلَيْسَ التَّوْحِيدُ مُجَرَّدَ إقْرارِ العَبْدِ بِأنَّهُ لا خالِقَ إلّا اللَّهُ، وأنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ومَلِيكُهُ، كَما كانَ عُبّادُ الأصْنامِ مُقِرِّينَ بِذَلِكَ وهم مُشْرِكُونَ، بَلِ التَّوْحِيدُ يَتَضَمَّنُ - مِن مَحَبَّةِ اللَّهِ، والخُضُوعِ لَهُ، والذُّلِّ لَهُ، وكَمالِ الِانْقِيادِ لِطاعَتِهِ، وإخْلاصِ العِبادَةِ لَهُ، وإرادَةِ وجْهِهِ الأعْلى بِجَمِيعِ الأقْوالِ والأعْمالِ، والمَنعِ، والعَطاءِ، والحُبِّ، والبُغْضِ - ما يَحُولُ بَيْنَ صاحِبِهِ وبَيْنَ الأسْبابِ الدّاعِيَةِ إلى المَعاصِي، والإصْرارِ عَلَيْها، ومَن عَرَفَ هَذا عَرَفَ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلى النّارِ مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وجْهَ اللَّهِ» وقَوْلَهُ: «لا يَدْخُلُ النّارَ مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ» وما جاءَ مِن هَذا الضَّرْبِ مِنَ الأحادِيثِ الَّتِي أشْكَلَتْ عَلى كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ، حَتّى ظَنَّها بَعْضُهم مَنسُوخَةً، وظَنَّها بَعْضُهم قِيلَتْ قَبْلَ وُرُودِ الأوامِرِ والنَّواهِي واسْتِقْرارِ الشَّرْعِ، وحَمَلَها بَعْضُهم عَلى نارِ المُشْرِكِينَ والكُفّارِ، وأوَّلَ بَعْضُهُمُ الدُّخُولَ بِالخُلُودِ، وقالَ: المَعْنى لا يَدْخُلُها خالِدًا، ونَحْوَ ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلاتِ المُسْتَكْرَهَةِ.
والشّارِعُ - صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ - لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حاصِلًا بِمُجَرَّدِ قَوْلِ اللِّسانِ فَقَطْ، فَإنَّ هَذا خِلافُ المَعْلُومِ بِالِاضْطِرارِ مِن دِينِ الإسْلامِ، فَإنَّ المُنافِقِينَ يَقُولُونَها بِألْسِنَتِهِمْ، وهم تَحْتَ الجاحِدِينَ لَها في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ، فَلا بُدَّ مِن قَوْلِ القَلْبِ، وقَوْلِ اللِّسانِ، وقَوْلُ القَلْبِ يَتَضَمَّنُ مِن مَعْرِفَتِها، والتَّصْدِيقِ بِها، ومَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ ما تَضَمَّنَتْهُ - مِنَ النَّفْيِ والإثْباتِ، ومَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الإلَهِيَّةِ المَنفِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، المُخْتَصَّةِ بِهِ، الَّتِي يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُها لِغَيْرِهِ، وقِيامُ هَذا المَعْنى بِالقَلْبِ عِلْمًا ومَعْرِفَةً ويَقِينًا، وحالًا - ما يُوجِبُ تَحْرِيمَ قائِلِها عَلى النّارِ، وكُلُّ قَوْلٍ رَتَّبَ الشّارِعُ ما رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوابِ، فَإنَّما هو القَوْلُ التّامُّ، كَقَوْلِهِ ﷺ «مَن قالَ في يَوْمٍ: سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ عَنْهُ خَطاياهُ - أوْ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ - ولَوْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ»
وَلَيْسَ هَذا مُرَتَّبًا عَلى مُجَرَّدِ قَوْلِ اللِّسانِ.
نَعَمْ مَن قالَها بِلِسانِهِ، غافِلًا عَنْ مَعْناها، مُعْرِضًا عَنْ تَدَبُّرِها، ولَمْ يُواطِئْ قَلْبُهُ لِسانَهُ، ولا عَرَفَ قَدْرَها وحَقِيقَتَها، راجِيًا مَعَ ذَلِكَ ثَوابَها، حَطَّتْ مِن خَطاياهُ بِحَسَبِ ما في قَلْبِهِ، فَإنَّ الأعْمالَ لا تَتَفاضَلُ بِصُوَرِها وعَدَدِها، وإنَّما تَتَفاضَلُ بِتَفاضُلِ ما في القُلُوبِ، فَتَكُونُ صُورَةُ العَمَلَيْنِ واحِدَةً، وبَيْنَهُما في التَّفاضُلِ كَما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، والرَّجُلانِ يَكُونُ مَقامُهُما في الصَّفِّ واحِدًا، وبَيْنَ صَلاتَيْهِما كَما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ.
وَتَأمَّلْ حَدِيثَ البِطاقَةِ الَّتِي تُوضَعُ في كِفَّةٍ، ويُقابِلُها تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِنها مَدُّ البَصَرِ، فَتَثْقُلُ البِطاقَةُ وتَطِيشُ السِّجِلّاتُ، فَلا يُعَذَّبُ.
وَمَعْلُومٌ أنَّ كُلَّ مُوَحِّدٍ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ البِطاقَةِ، وكَثِيرٌ مِنهم يَدْخُلُ النّارَ بِذُنُوبِهِ، ولَكِنَّ السِّرَّ الَّذِي ثَقَلَ بِطاقَةَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وطاشَتْ لِأجْلِهِ السِّجِلّاتُ لَمّا لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ مِن أرْبابِ البِطاقاتِ، انْفَرَدَتْ بِطاقَتُهُ بِالثِّقَلِ والرَّزانَةِ.
وَإذا أرَدْتَ زِيادَةَ الإيضاحِ لِهَذا المَعْنى، فانْظُرْ إلى ذِكْرِ مَن قَلْبُهُ مَلْآنٌ بِمَحَبَّتِكَ، وذِكْرِ مَن هو مُعْرِضٌ عَنْكَ غافِلٌ ساهٍ، مَشْغُولٌ بِغَيْرِكَ، قَدِ انْجَذَبَتْ دَواعِي قَلْبِهِ إلى مَحَبَّةِ غَيْرِكَ، وإيثارِهِ عَلَيْكَ، هَلْ يَكُونُ ذِكْرُهُما واحِدًا؟ أمْ هَلْ يَكُونُ ولَداكَ اللَّذانِ هُما بِهَذِهِ المَثابَةِ، أوْ عَبْداكَ، أوْ زَوْجَتاكَ، عِنْدَكَ سَواءً؟
وَتَأمَّلْ ما قامَ بِقَلْبِ قاتِلِ المِائَةِ مِن حَقائِقِ الإيمانِ الَّتِي لَمْ تَشْغَلْهُ عِنْدَ السِّياقِ عَنِ السَّيْرِ إلى القَرْيَةِ، وحَمَلَتْهُ - وهو في تِلْكَ الحالِ - عَلى أنْ جَعَلَ يَنُوءُ بِصَدْرِهِ، ويُعالِجُ سَكَراتِ المَوْتِ، فَهَذا أمْرٌ آخَرُ، وإيمانٌ آخَرُ، ولا جَرَمَ أنْ أُلْحِقَ بِالقَرْيَةِ الصّالِحَةِ، وجُعِلَ مِن أهْلِها.
وَقَرِيبٌ مِن هَذا ما قامَ بِقَلْبِ البَغِيِّ الَّتِي رَأتْ ذَلِكَ الكَلْبَ - وقَدِ اشْتَدَّ بِهِ العَطَشُ يَأْكُلُ الثَّرى - فَقامَ بِقَلْبِها ذَلِكَ الوَقْتَ - مَعَ عَدَمِ الآلَةِ، وعَدَمِ المُعِينِ وعَدَمِ مَن تُرائِيهِ بِعَمَلِها - ما حَمَلَها عَلى أنْ غَرَّرَتْ بِنَفْسِها في نُزُولِ البِئْرِ، ومَلْءِ الماءِ في خُفِّها، ولَمْ تَعْبَأْ بِتَعَرُّضِها لِلتَّلَفِ، وحَمْلِها خُفَّها بِفِيها، وهو مَلْآنٌ، حَتّى أمْكَنَها الرُّقِيُّ مِنَ البِئْرِ، ثُمَّ تَواضُعُها لِهَذا المَخْلُوقِ الَّذِي جَرَتْ عادَةُ النّاسِ بِضَرْبِهِ، فَأمْسَكَتْ لَهُ الخُفَّ بِيَدِها حَتّى شَرِبَ، مِن غَيْرِ أنْ تَرْجُوَ مِنهُ جَزاءً ولا شُكُورًا، فَأحْرَقَتْ أنْوارُ هَذا القَدْرِ مِنَ التَّوْحِيدِ ما تَقَدَّمَ مِنها مِنَ البِغاءِ، فَغُفِرَ لَها.
فَهَكَذا الأعْمالُ والعُمّالُ عِنْدَ اللَّهِ، والغافِلُ في غَفْلَةٍ مِن هَذا الإكْسِيرِ الكِيماوِيِّ، الَّذِي إذا وُضِعَ مِنهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ عَلى قَناطِيرَ مِن نُحاسِ الأعْمالِ قَلَبَها ذَهَبًا، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
{"ayah":"ٱلَّذِینَ یَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰۤىِٕرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَ ٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَ ٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةࣱ فِی بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوۤا۟ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰۤ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











