* (فصل)
وقوله تعالى ﴿ما زاغَ البَصَرُ وما طَغى﴾
قال ابن عباس ما زاغ البصر يمينًا ولا شمالًا ولا جاوز ما أمر به وعلى هذا المفسرون فنفى عن نبيه ما يعرض للرائي الذي لا أدب له بين يدي الملوك والعظماء من التفاتة يمينًا وشمالًا ومجاوزة بصره لما بين يديه
وأخبر عنه بكمال الأدب في ذلك المقام وفي تلك الحضرة إذ لم يلتفت جانبًا ولم يمد بصره إلى غير ما أرى من الآيات وما هناك من العجائب بل قام مقام العبد الذي أوجب أدبه وإطراقه وإقباله على ما أرى دون التفاته إلى غيره ودون تطلعه إلى ما لم يره مع ما في ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته وهذا غاية الكمال وزيغ البصر التفاته جانبًا وطغيانه مده أمامه إلى حيث ينتهي فنزه في هذه السورة علمه عن الضلال وقصده وعمله عن الغي ونطقه عن الهوى وفؤاده عن تكذيب بصره وبصره عن الزيغ والطغيان وهكذا يكون المدح:
؎تلك المكارم لا قعبان من لبن ∗∗∗ شيبًا بماء فعادا بعد أبوالا
* (فائدة)
وفي حديث ابن مسعود في قوله عز وجل ﴿لَقَدْ رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى﴾
قال رأى رفرفا أخضر سد الأفق.
وهو في الصحيحين.
* (فصل)
ومن علامات المحبة إغضاؤه عند نظر محبوبه إليه ورميه بطرفه نحو الأرض وذلك من مهابته له وحيائه منه وعظمته في صدره ولهذا يستهجن الملوك من يخاطبهم وهو يحد النظر إليهم بل يكون خافض الطرف إلى الأرض قال الله تعالى مخبرا عن كمال أدب رسوله في ليلة الإسراء ﴿ما زاغَ البَصَرُ وما طَغى﴾
وهذا غاية الأدب فإن البصر لم يزغ يمينا ولا شمالا ولا طمح متجاوزا إلى ما هو رائيه ومقبل عليه كالمتشارف إلى ما وراء ذلك.
ولهذا اشتد نهي النبي ﷺ للمصلي أن يزيغ بصره إلى السماء، وتوعدهم على ذلك بخطف أبصارهم إذ هذا من كمال الأدب مع مَن المصلي واقفٌ بين يديه، بل ينبغي له أن يقف ناكس الرأس مطرقا إلى الأرض، ولولا أن عظمة رب العالمين سبحانه فوق سماواته على عرشه لم يكن فرق بين النظر إلى فوق أو إلى أسفل.
* [فَصْلٌ: وصْفٌ لِأدَبِهِ ﷺ]
وَجَرَتْ عادَةُ القَوْمِ: أنْ يَذْكُرُوا في هَذا المَقامِ قَوْلَهُ تَعالى عَنْ نَبِيِّهِ ﷺ، حِينَ أراهُ ما أراهُ: ﴿ما زاغَ البَصَرُ وما طَغى﴾ [النجم: ١٧]
وَأبُو القاسِمِ القُشَيْرِيُّ صَدَّرَ بابُ الأدَبِ بِهَذِهِ الآيَةِ. وكَذَلِكَ غَيْرُهُ.
وَكَأنَّهم نَظَرُوا إلى قَوْلِ مَن قالَ مِن أهْلِ التَّفْسِيرِ: إنَّ هَذا وصْفٌ لِأدَبِهِ ﷺ في ذَلِكَ المَقامِ. إذْ لَمْ يَلْتَفِتْ جانِبًا. ولا تَجاوَزَ ما رَآهُ. وهَذا كَمالُ الأدَبِ. والإخْلالُ بِهِ: أنْ يَلْتَفِتَ النّاظِرُ عَنْ يَمِينِهِ وعَنْ شِمالِهِ، أوْ يَتَطَلَّعَ أمامَ المَنظُورِ. فالِالتِفاتُ زَيْغٌ. والتَّطَلُّعُ إلى ما أمامَ المَنظُورِ: طُغْيانٌ ومُجاوَزَةٌ.
فَكَمالُ إقْبالِ النّاظِرِ عَلى المَنظُورِ: أنْ لا يَصْرِفَ بَصَرَهُ عَنْهُ يَمْنَةً ولا يَسْرَةً. ولا يَتَجاوَزَهُ.
هَذا مَعْنى ما حَصَّلْتُهُ عَنْ شَيْخِ الإسْلامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ.
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ أسْرارٌ عَجِيبَةٌ. وهي مِن غَوامِضِ الآدابِ اللّائِقَةِ بِأكْمَلِ البَشَرِ ﷺ: تَواطَأ هُناكَ بَصَرُهُ وبَصِيرَتُهُ. وتَوافَقا وتَصادَقا فِيما شاهَدَهُ بَصَرُهُ. فالبَصِيرَةُ مُواطِئَةٌ لَهُ. وما شاهَدَتْهُ بَصِيرَتُهُ فَهو أيْضًا حَقٌّ مَشْهُودٌ بِالبَصَرِ. فَتَواطَأ في حَقِّهِ مَشْهَدُ البَصَرِ والبَصِيرَةِ.
وَلِهَذا قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأى - أفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى﴾ [النجم: ١١-١٢]
أيْ ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَآهُ بِبَصَرِهِ.
وَلِهَذا قَرَأها أبُو جَعْفَرٍ: ما كَذَّبَ الفُؤادُ ما رَأى - بِتَشْدِيدِ الذّالِ - أيْ لَمْ يُكَذِّبِ الفُؤادُ البَصَرَ.
بَلْ صَدَّقَهُ وواطَأهُ. لِصِحَّةِ الفُؤادِ والبَصَرِ.
أوِ اسْتِقامَةِ البَصِيرَةِ والبَصَرِ. وكَوْنُ المَرْئِيِّ المُشاهَدِ بِالبَصَرِ والبَصِيرَةِ حَقًّا.
وَقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ﴾ [النجم: ١١] بِالتَّخْفِيفِ. وهو مُتَعَدٍّ. و: ما رَأى مَفْعُولَهُ: أيْ ما كَذَبَ قَلْبُهُ ما رَأتْهُ عَيْناهُ. بَلْ واطَأهُ ووافَقَهُ.
فَلِمُواطَأةِ قَلْبِهِ لِقالَبِهِ، وظاهِرِهِ لِباطِنِهِ. وبَصَرِهِ لِبَصِيرَتِهِ: لَمْ يَكْذِبِ الفُؤادُ البَصَرَ.
وَلَمْ يَتَجاوَزِ البَصَرُ حَدَّهُ فَيَطْغى.
وَلَمْ يَمِلْ عَنِ المَرْئِيِّ فَيَزِيغَ، بَلِ اعْتَدَلَ البَصَرُ نَحْوَ المَرْئِيِّ. ما جاوَزَهُ ولا مالَ عَنْهُ، كَما اعْتَدَلَ القَلْبُ في الإقْبالِ عَلى اللَّهِ، والإعْراضِ عَمّا سِواهُ. فَإنَّهُ أقْبَلَ عَلى اللَّهِ بِكُلِّيَّتِهِ. ولِلْقَلْبِ زَيْغٌ وطُغْيانٌ. وكِلاهُما مُنْتَفٍ عَنْ قَلْبِهِ وبَصَرِهِ. فَلَمْ يَزِغْ قَلْبُهُ التِفاتًا عَنِ اللَّهِ إلى غَيْرِهِ. ولَمْ يَطْغَ بِمُجاوَزَتِهِ مَقامِهِ الَّذِي أُقِيمَ فِيهِ.
وَهَذا غايَةُ الكَمالِ والأدَبِ مَعَ اللَّهِ الَّذِي لا يَلْحَقُهُ فِيهِ سِواهُ.
فَإنَّ عادَةَ النُّفُوسِ، إذا أُقِيمَتْ في مَقامٍ عالٍ رَفِيعٍ: أنْ تَتَطَلَّعَ إلى ما هو أعْلى مِنهُ وفَوْقَهُ. ألا تَرى أنَّ مُوسى ﷺ لَمّا أُقِيمَ في مَقامِ التَّكْلِيمِ والمُناجاةِ: طَلَبَتْ نَفْسُهُ الرُّؤْيَةَ؟ ونَبِيُّنا ﷺ لَمّا أُقِيمَ في ذَلِكَ المَقامِ، وفّاهُ حَقَّهُ: فَلِمَ يَلْتَفِتْ بَصَرُهُ ولا قَلْبُهُ إلى غَيْرِ ما أُقِيمَ فِيهِ ألْبَتَّةَ؟
وَلِأجْلِ هَذا ما عاقَهُ عائِقٌ. ولا وقْفَ بِهِ مُرادٌ، حَتّى جاوَزَ السَّماواتِ السَّبْعِ حَتّى عاتَبَ مُوسى رَبَّهُ فِيهِ. وقالَ: يَقُولُ بَنُو إسْرائِيلَ: إنِّي كَرِيمُ الخُلُقِ عَلى اللَّهِ. وهَذا قَدْ جاوَزَنِي وخَلَّفَنِي عُلُوًّا. فَلَوْ أنَّهُ وحْدَهُ؟ ولَكِنْ مَعَهُ كُلُّ أُمَّتِهِ. وفي رِوايَةِ البُخارِيِّ «فَلَمّا جاوَزْتُهُ بَكى. قِيلَ: ما يُبْكِيكَ؟ قالَ: أبْكِي أنَّ غُلامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتِهِ أكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُها مِن أُمَّتِي». ثُمَّ جاوَزَهُ عُلُوًّا فَلَمْ تَعُقْهُ إرادَةٌ. ولَمْ تَقِفْ بِهِ دُونَ كَمالِ العُبُودِيَّةِ هِمَّةٌ.
وَلِهَذا كانَ مَرْكُوبُهُ في مَسْراهُ يَسْبِقُ خَطْوَهُ الطَّرْفَ. فَيَضَعُ قَدَمَهُ عِنْدَ مُنْتَهى طَرْفِهِ، مُشاكِلًا لِحالِ راكِبِهِ، وبُعْدِ شَأْوِهِ، الَّذِي سَبَقَ العالَمَ أجْمَعَ في سَيْرِهِ، فَكانَ قَدَمُ البُراقِ لا يَخْتَلِفُ عَنْ مَوْضِعِ نَظَرِهِ.
كَما كانَ قَدَمُهُ ﷺ لا يَتَأخَّرُ عَنْ مَحَلِّ مَعْرِفَتِهِ.
فَلَمْ يَزَلْ ﷺ في حَفارَةِ كَمالِ أدَبِهِ مَعَ اللَّهِ سُبْحانَهُ، وتَكْمِيلِ مَراتِبِ عُبُودِيَّتِهِ لَهُ، حَتّى خَرَقَ حُجُبَ السَّماواتِ، وجاوَزَ السَّبْعَ الطِّباقَ. وجاوَزَ سِدْرَةَ المُنْتَهى. ووَصَلَ إلى مَحَلٍّ مِنَ القُرْبِ سَبَقَ بِهِ الأوَّلِينَ والآخَرِينَ.
فانْصَبَّتْ إلَيْهِ هُناكَ أقْسامُ القُرْبِ انْصِبابًا. وانْقَشَعَتْ عَنْهُ سَحائِبُ الحُجُبِ ظاهِرًا وباطِنًا حِجابًا حِجابًا.
وَأُقِيمَ مَقامًا غَبَطَهُ بِهِ الأنْبِياءُ والمُرْسَلُونَ. فَإذا كانَ في المَعادِ أُقِيمَ مَقامًا مِنَ القُرْبِ ثانِيًا، يَغْبِطُهُ بِهِ الأوَّلُونَ والآخِرُونَ. واسْتَقامَ هُناكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مِن كَمالِ أدَبِهِ مَعَ اللَّهِ، ما زاغَ البَصَرُ عَنْهُ وما طَغى. فَأقامَهُ في هَذا العالَمِ عَلى أقْوَمَ صِراطٍ مِنَ الحَقِّ والهُدى. وأقْسَمَ بِكَلامِهِ عَلى ذَلِكَ في الذِّكْرِ الحَكِيمِ، فَقالَ تَعالى: ﴿يس - والقُرْآنِ الحَكِيمِ - إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ - عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يس: ١-٤]
فَإذا كانَ يَوْمُ المَعادِ أقامَهُ عَلى الصِّراطِ يَسْألُهُ السَّلامَةَ لِأتْباعِهِ وأهْلِ سُنَّتِهِ، حَتّى يَجُوزُوهُ إلى جَنّاتِ النَّعِيمِ. وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ.
واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.
* [فَصْلُ: مَنزِلَةِ الهِمَّةِ]
وَمِن مَنازِلِ " ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ الهِمَّةِ
وَقَدْ صَدَّرَها صاحِبُ المَنازِلِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿ما زاغَ البَصَرُ وما طَغى﴾
وَقَدْ تَقَدَّمَ: أنَّهُ صَدَّرَ بِها بابَ الأدَبِ، وذَكَرْنا وجْهَهُ.
وَأمّا وجْهُ تَصْدِيرِ " الهِمَّةِ " بِها: فَهو الإشارَةُ إلى أنَّ هِمَّتَهُ ﷺ ما تَعَلَّقَتْ بِسِوى مَشْهُودِهِ، وما أُقِيمَ فِيهِ. ولَوْ تَجاوَزَتْهُ هِمَّتُهُ لِتَبِعَها بَصَرُهُ.
والهِمَّةُ فِعْلَةٌ مِنَ الهَمِّ. وهو مَبْدَأُ الإرادَةِ. ولَكِنْ خَصُّوها بِنِهايَةِ الإرادَةِ.
فالهَمُّ مَبْدَؤُها. والهِمَّةُ نِهايَتُها.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: في بَعْضِ الآثارِ الإلَهِيَّةِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعالى: «إنِّي لا أنْظُرُ إلى كَلامِ الحَكِيمِ. وإنَّما أنْظُرُ إلى هِمَّتِهِ».
قالَ: والعامَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ ما يُحْسِنُ. والخاصَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ ما يَطْلُبُ.
يُرِيدُ: أنَّ قِيمَةَ المَرْءِ هِمَّتُهُ ومَطْلَبُهُ.
قالَ صاحِبُ المَنازِلِ:
الهِمَّةُ: ما يَمْلِكُ الِانْبِعاثَ لِلْمَقْصُودِ صِرْفًا. لا يَتَمالَكُ صاحِبُها. ولا يَلْتَفِتُ عَنْها.
قَوْلُهُ " يَمْلِكُ الِانْبِعاثَ لِلْمَقْصُودِ " أيْ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ كاسْتِيلاءِ المالِكِ عَلى المَمْلُوكِ، وصِرْفًا أيْ خالِصًا صِرْفًا.
والمُرادُ: أنَّ هِمَّةَ العَبْدِ إذا تَعَلَّقَتْ بِالحَقِّ تَعالى طَلَبًا صادِقًا خالِصًا مَحْضًا.
فَتِلْكَ هي الهِمَّةُ العالِيَةُ، الَّتِي لا يَتَمالَكُ صاحِبُها أيْ: لا يَقْدِرُ عَلى المُهْلَةِ. ولا يَتَمالَكُ صَبْرَهُ؛ لِغَلَبَةِ سُلْطانِهِ عَلَيْهِ. وشِدَّةِ إلْزامِها إيّاهُ بِطَلَبِ المَقْصُودِ، ولا يَلْتَفِتُ عَنْها إلى ما سِوى أحْكامِها. وصاحِبُ هَذِهِ الهِمَّةِ: سَرِيعٌ وُصُولُهُ وظَفَرُهُ بِمَطْلُوبِهِ. ما لَمْ تَعُقْهُ العَوائِقُ، وتَقْطَعْهُ العَلائِقُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ دَرَجاتُ الهِمَّةِ]
[الدَّرَجَةُ الأُولى هِمَّةٌ تَصُونُ القَلْبَ عَنْ وحْشَةِ الرَّغْبَةِ في الفانِي]
* فَصْلٌ
قالَ: وهي عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ الدَّرَجَةُ الأُولى: هِمَّةٌ تَصُونُ القَلْبَ عَنْ وحْشَةِ الرَّغْبَةِ في الفانِي، وتَحْمِلُهُ عَلى الرَّغْبَةِ في الباقِي، وتُصَفِّيهِ مِن كَدَرِ التَّوانِي.
الفانِي الدُّنْيا وما عَلَيْها.
أيْ يَزْهَدُ القَلْبُ فِيها وفي أهْلِها.
وَسَمّى الرَّغْبَةَ فِيها وحْشَةً لِأنَّها وأهْلَها تُوحِشُ قُلُوبَ الرّاغِبِينَ فِيها، وقُلُوبَ الزّاهِدِينَ فِيها.
أمّا الرّاغِبُونَ فِيها: فَأرْواحُهم وقُلُوبُهم في وحْشَةٍ مِن أجْسامِهِمْ. إذْ فاتَها ما خُلِقَتْ لَهُ. فَهي في وحْشَةٍ لِفَواتِهِ.
وَأمّا الزّاهِدُونَ فِيها: فَإنَّهم يَرَوْنَها مُوحِشَةً لَهم. لِأنَّها تَحُولُ بَيْنَهم وبَيْنَ مَطْلُوبِهِمْ ومَحْبُوبِهِمْ.
وَلا شَيْءَ أوْحَشُ عِنْدَ القَلْبِ مِمّا يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَطْلُوبِهِ ومَحْبُوبِهِ.
وَلِذَلِكَ كانَ مَن نازَعَ النّاسَ أمْوالَهُمْ، وطَلَبَها مِنهم أوْحَشَ شَيْءٍ إلَيْهِمْ وأبْغَضَهُ.
وَأيْضًا: فالزّاهِدُونَ فِيها: إنَّما يَنْظُرُونَ إلَيْها بِالبَصائِرِ.
والرّاغِبُونَ يَنْظُرُونَ إلَيْها بِالأبْصارِ فَيَسْتَوْحِشُ الزّاهِدُ مِمّا يَأْنَسُ بِهِ الرّاغِبُ.
كَما قِيلَ:
؎وَإذا أفاقَ القَلْبُ وانْدَمَلَ الهَوى ∗∗∗ رَأتِ القُلُوبُ ولَمْ تَرَ الأبْصارُ
وَكَذَلِكَ هَذِهِ الهِمَّةُ تَحْمِلُهُ عَلى الرَّغْبَةِ في الباقِي لِذاتِهِ. وهو الحَقُّ سُبْحانَهُ.
والباقِي بِإبْقائِهِ: هو الدّارُ الآخِرَةُ.
وَتُصَفِّيهِ مِن كَدَرِ التَّوانِي أيْ تُخَلِّصُهُ وتُمَحِّصُهُ مِن أوْساخِ الفُتُورِ والتَّوانِي، الَّذِي هو سَبَبُ الإضاعَةِ والتَّفْرِيطِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ هِمَّةٌ تُورِثُ أنَفَةً مِنَ المُبالاةِ بِالعِلَلِ]
* فَصْلٌ
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: هِمَّةٌ تُورِثُ أنَفَةً مِنَ المُبالاةِ بِالعِلَلِ، والنُّزُولِ عَلى العَمَلِ والثِّقَةِ بِالأمَلِ.
العِلَلُ هاهُنا: هي عِلَلُ الأعْمالِ مِن رُؤْيَتِها، أوْ رُؤْيَةِ ثَمَراتِها وإرادَتِها. ونَحْوِ ذَلِكَ. فَإنَّها عِنْدَهم عِلَلٌ.
فَصاحِبُ هَذِهِ الهِمَّةِ: يَأْنَفُ عَلى هِمَّتِهِ، وقَلْبِهِ مِن أنْ يُبالِيَ بِالعِلَلِ. فَإنَّ هِمَّتَهُ فَوْقَ ذَلِكَ.
فَمُبالاتُهُ بِها، وفِكْرَتُهُ فِيها: نُزُولٌ مِنَ الهِمَّةِ.
وَعَدَمُ هَذِهِ المُبالاةِ: إمّا لِأنَّ العِلَلَ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ؛ لِأنَّ عُلُوَّ هِمَّتِهِ حالَ بَيْنَهُ وبَيْنَها.
فَلا يُبالِي بِما لَمْ يَحْصُلْ لَهُ. وإمّا لِأنَّ هِمَّتَهُ وسِعَتْ مَطْلُوبَهُ، وعُلُوُّهُ يَأْتِي عَلى تِلْكَ العِلَلِ، ويَسْتَأْصِلُها. فَإنَّهُ إذا عَلَّقَ هِمَّتَهُ بِما هو أعْلى مِنها تَضَمَّنَتْها الهِمَّةُ العالِيَةُ. فانْدَرَجَ حُكْمُها في حُكْمِ الهِمَّةِ العالِيَةِ.
وَهَذا مَوْضِعٌ غَرِيبٌ عَزِيزٌ جِدًّا. وما أدْرِي قَصَدَهُ الشَّيْخُ أوْ لا؟
وَأمّا أنَفَتُهُ مِنَ النُّزُولِ عَلى العَمَلِ: فَكَلامٌ يَحْتاجُ إلى تَقْيِيدٍ وتَبْيِينٍ. وهو أنَّ العالِيَ الهِمَّةِ مَطْلَبُهُ فَوْقَ مَطْلَبِ العُمّالِ والعُبّادِ. وأعْلى مِنهُ. فَهو يَأْنَفُ أنْ يَنْزِلَ مِن سَماءِ مَطْلَبِهِ العالِي، إلى مُجَرَّدِ العَمَلِ والعِبادَةِ، دُونَ السَّفَرِ بِالقَلْبِ إلى اللَّهِ، لِيَحْصُلَ لَهُ ويَفُوزَ بِهِ. فَإنَّهُ طالِبٌ لِرَبِّهِ تَعالى طَلَبًا تامًّا بِكُلِّ مَعْنًى واعْتِبارٍ في عَمَلِهِ، وعِبادَتِهِ ومُناجاتِهِ، ونَوْمِهِ ويَقَظَتِهِ، وحَرَكَتِهِ وسُكُونِهِ، وعُزْلَتِهِ وخُلْطَتِهِ، وسائِرِ أحْوالِهِ. فَقَدِ انْصَبَغَ قَلْبُهُ بِالتَّوَجُّهِ إلى اللَّهِ تَعالى أيُّما صِبْغَةٍ.
وَهَذا الأمْرُ إنَّما يَكُونُ لِأهْلِ المَحَبَّةِ الصّادِقَةِ. فَهم لا يَقْنَعُونَ بِمُجَرَّدِ رُسُومِ الأعْمالِ، ولا بِالِاقْتِصارِ عَلى الطَّلَبِ حالَ العَمَلِ فَقَطْ.
وَأمّا أنَفَتُهُ مِنَ الثِّقَةِ بِالأمَلِ: فَإنَّ الثِّقَةَ تُوجِبُ الفُتُورَ والتَّوانِيَ. وصاحِبُ هَذِهِ الهِمَّةِ: لَيْسَ مِن أهْلِ ذَلِكَ، كَيْفَ؟ وهو طائِرٌ لا سائِرٌ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ"}