الباحث القرآني

قالَ الله تَعالى في حق نبيه يذكر ما منَّ بِهِ عَلَيْهِ من نزاهته وطهارته مِمّا يلْحق غَيره من ذَلِك ﴿والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكُم وما غوى﴾ فَـ (ما ضل) دَلِيل على كَمال علمه ومعرفته وأنه على الحق المُبين (وَما غوى) دَلِيل على كَمال رشده وأنه أبر العالمين فَهو الكامِل في علمه وفي عمله، وقد وصف بذلك خلفاءه من بعده وأمر باتباعهمْ على سنتهمْ فَقالَ: "عَلَيْكُم بِسنتي وسنة الخُلَفاء الرّاشِدين المهديين من بعدِي" رَواهُ التِّرْمِذِيّ وغَيره. فالراشد ضد الغاوي، والمهْدِي ضد الضال. * (فصل) ومن ذلك قوله تعالى ﴿والنَّجْمِ إذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكم وما غَوى وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ أقسم سبحانه بالنجم عند هويه على تنزيه رسوله وبراءته مما نسبه إليه أعداؤه من الضلال والغي واختلف الناس في المراد بالنجم فقال الكلبي عن ابن عباس أقسم بالقرآن إذا نزل نجما على رسوله أربع آيات وثلاثًا والسورة وكان بين أوله وآخره عشرون سنة وكذلك روى عطاء عنه وهو قول مقاتل والضحاك ومجاهد واختاره الفراء. وعلى هذا فسمي القرآن منجما لتفرقه في النزول والعرب تسمي التفرق تنجمًا والمفرق نجمًا ونجوم الكتاب أقساطها ويقول جعلت مالي على فلان نجومًا منجمة كل نجم كذا وكذا وأصل هذا أن العرب كانت تجعل مطالع القمر ومساقطها مواقيت لحلول ديونها وآجالها فيقولون إذا طلع النجم يريدون الثريا حل عليك الدين ومنه قول زهير في دية جعلت نجومًا على العاقل: ؎ينجمها قوم لقوم غرامة ∗∗∗ ولم يهرقوا ما بينهم ملء مجحم ثم جعل كل تنجم تفريقًا وإن لم يكن موقتًا بطلوع نجم وقوله هوى على هذا القول أي نزل من على إلى أسفل قال أبو زيد هوت العقاب تهوي هويًا بفتح الهاء إذا انقضت على صيد أو غيره وكذلك قال ابن الأعرابي وفرق بين الهوى لقوله: والدلو في اصعادها عجل الهوى ... وقال الليث العامة تقول الهوى بالضم في مصد هوى يهوى وكذلك قال الأصمعي هوى يهوى هو بفتح الهاء إذا سقط إلى أسفل قال وكذلك الهوي في السير إذا مضى وهاهنا أمر يجب التنبيه عليه غلط فيه أبو محمد بن حزم أقبح غلط فذكر في السماء الرب تعالى الهوى بفتح الهاء واحتج بما في الصحيح من حديث عائشة أن رسول الله ﷺ كان يقول في سجوده "سبحان ربي الأعلى" الهوى فظن أبو محمد أن الهوى صفة للرب وهذا من غلطه رحمه الله وإنما الهوى على وزن فعيل اسم لقطعة من الليل يقال مضى هوى من الليل على وزن فعيل ومضى هزيع منه أي طرف وجانب وكان يقول "سبحان ربي الأعلى" في قطعة من الليل وجانب منه وقد صرحت بذلك في اللفظ الآخر فقالت كان يقول "سبحان ربي الأعلى" الهوى من الليل عدنا إلى قوله ﴿والنجم إذا هوى﴾ وقال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وعطية يعني الثريا إذا سقطت وغابت وهو الرواية الأخرى عن مجاهد والعرب إذا أطلقت النجم تعني به الثريا قال فباتت تعد النجم وقال أبو حمزة اليماني يعني النجوم إذا انتشرت يوم القيامة وقال ابن عباس في رواية عكرمة يعني النجوم التي ترمى بها الشياطين إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع وهذا قول الحسن وهو أظهر الأقوال ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التي نصبها الله سبحانه آية وحفظًا للوحي من استراق الشياطين له على أن ما أتى به رسوله حق وصدق لا سبيل للشيطان ولا طريق له إليه بل قد أحرس بالنجم إذا هوى رصدًا بين يدي الوحي وحرسًا له. وعلى هذا فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه في غاية الظهور وفي المقسم به دليل على المقسم عليه وليس بالبين تسمية القرآن عند نزوله بالنجم إذا هوى ولا تسمية نزوله هويًا ولا عهد في القرآن ذلك فيحمل هذا اللفظ عليه وليس بالبين تخصيص هذا القسم بالثريا وحدها إذا غابت وليس بالبين أيضًا القسم بالنجوم عند انتشارها يوم القيامة بل هذا مما يقسم الرب عليه ويدل عليه بآياته فلا يجعله نفسه دليلا لعدم ظهوره للمخاطبين ولا سيما منكروا البعث فإنه سبحانه إنما استدل بما لا يمكن جحده ولا المكابرة فيه فأظهر الأقوال قول الحسن والله أعلم وبين المقسم به والمقسم عليه من التناسب ما لا يخفى فإن النجوم التي ترمى الشياطين آيات من آيات الله يحفظ بها دينه ووحيه وآياته المنزلة على رسوله ظهر دينه وشرعه وأسماؤه وصفاته وجعلت هذه النجوم المشاهدة خدمًا وحرسًا لهذه النجوم الهاوية ونفى سبحانه عن رسوله الضلال المنافي للهدى والغي المنافي للرشاد ففي ضمن النفي الشهادة له بأنه على الهدى والرشاد، فالهدى في علمه والرشاد في علمه وهذان الأصلان هما غاية كمال العبد وبهما سعادته وفلاحه وبهما وصف النبي خلفاءه فقال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي. فالراشد ضد الغاوي، والمهدي ضد الضال وهو الذي زكت نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو صاحب الهدى ودين الحق ولا يشتبه الراشد المهدي بالضال الغاوي إلا على أجهل خلق الله وأعماهم قلبًا وأبعدهم من حقيقة الإنسانية ولله در القائل: ؎وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ∗∗∗ إذا استوت عنده الأنوار والظلم فالناس أربعة أقسام ضال في علمه غاو في قصده وعلمه وهؤلاء شرار الخلق وهم مخالفوا الرسل الثاني مهتد في علمه غاو في قصده وعمله وهؤلاء هم الأمة الغضبية ومن تشبه بهم وهو حال كل من عرف الحق ولم يعمل به الثالث ضال في علمه ولكن قصده الخير وهو لا يشعر الرابع مهتد في علمه راشد في قصده وهؤلاء ورثة الأنبياء وهم وإن كانوا الأقلين عددًا فهم الأكثرون عند الله قدرًا وهم صفوة الله من عباده وحزبه من خلقه وتأمل كيف قال سبحانه ﴿ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ﴾ ولم يقل ما ضل محمد تأكيدًا لإقامة الحجة عليهم بأنه صاحبهم وهم أعلم الخلق به وبحاله وأقواله وأعماله وأنهم لا يعرفونه بكذب ولا غي ولا ضلال ولا ينقمون عليه أمرًا واحدًا قط وقد نبه على هذا المعنى بقوله ﴿أمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ﴾ وبقوله ﴿وَما صاحِبُكم بِمَجْنُونٍ﴾
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب