الباحث القرآني

وأقسم سبحانه بهذه الأمور على المعاد والجزاء فقال ﴿إنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِن دافِعٍ﴾ ولما كان الذي يقع قد يمكن دفعه أخبر سبحانه أنه لا دافع له وهذا يتناول أمرين: أحدهما أنه لا دافع لوقوعه. والثاني أنه لا دافع له إذا وقع. * (فصل) مَن تَأمَّلَ أحْوالَ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وجَدَهم في غايَةِ العَمَلِ مَعَ غايَةِ الخَوْفِ، ونَحْنُ جَمِيعًا بَيْنَ التَّقْصِيرِ، بَلِ التَّفْرِيطِ والأمْنِ، فَهَذا الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: ودِدْتُ أنِّي شَعْرَةٌ في جَنْبِ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، ذَكَرَهُ أحْمَدُ عَنْهُ. وَذَكَرَ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ كانَ يَمْسِكُ بِلِسانِهِ ويَقُولُ: هَذا الَّذِي أوْرَدَنِي المَوارِدَ، وكانَ يَبْكِي كَثِيرًا، ويَقُولُ: ابْكُوا، فَإنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَباكُوا. وَكانَ إذا قامَ إلى الصَّلاةِ كَأنَّهُ عُودٌ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وَأتى بِطائِرٍ فَقَلَبَهُ ثُمَّ قالَ: ما صِيدَ مِن صَيْدٍ، ولا قُطِعَتْ شَجَرَةٌ مِن شَجَرَةٍ، إلّا بِما ضَيَّعَتْ مِنَ التَّسْبِيحِ، فَلَمّا احْتَضَرَ، قالَ لِعائِشَةَ: يا بُنَيَّةُ، إنِّي أصَبْتُ مِن مالِ المُسْلِمِينَ هَذِهِ العَباءَةَ وهَذِهِ الحِلابَ وهَذا العَبْدَ، فَأسْرِعِي بِهِ إلى ابْنِ الخَطّابِ، وقالَ: واللَّهِ لَوَدِدْتُ أنِّي كُنْتُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ تُؤْكَلُ وتُعْضَدُ. وَقالَ قَتادَةُ: بَلَغَنِي أنَّ أبا بَكْرٍ قالَ: لَيْتَنِي خُضْرَةٌ تَأْكُلُنِي الدَّوابُّ. وَهَذا عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ قَرَأ سُورَةَ الطُّورِ إلى أنْ بَلَغَ: ﴿إنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ﴾ [الطور: ٧٧] فَبَكى واشْتَدَّ بُكاؤُهُ حَتّى مَرِضَ وعادُوهُ. وَقالَ لِابْنِهِ وهو في المَوْتِ: ويْحَكَ ضَعْ خَدِّي عَلى الأرْضِ عَساهُ أنْ يَرْحَمَنِي، ثُمَّ قالَ: ويْلُ أُمِّي، إنْ لَمْ يَغْفِرْ لِي (ثَلاثًا)، ثُمَّ قُضِيَ. وَكانَ يَمُرُّ بِالآيَةِ في وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ فَتُخِيفُهُ، فَيَبْقى في البَيْتِ أيّامًا يُعادُ، يَحْسَبُونَهُ مَرِيضًا، وكانَ في وجْهِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطّانِ أسْوَدانِ مِنَ البُكاءِ. وَقالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، مَصَّرَ اللَّهُ بِكَ الأمْصارَ، وفَتَحَ بِكَ الفُتُوحَ، وفَعَلَ، فَقالَ: ودِدْتُ أنِّي أنْجُو لا أجْرَ ولا وِزْرَ. وَهَذا عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانَ إذا وقَفَ عَلى القَبْرِ يَبْكِي حَتّى تُبَلَّ لِحْيَتُهُ، وقالَ: لَوْ أنَّنِي بَيْنَ الجَنَّةِ والنّارِ لا أدْرِي إلى أيَّتِهِما يُؤْمَرُ بِي، لاخْتَرْتُ أنْ أكُونَ رَمادًا قَبْلَ أنْ أعْلَمَ إلى أيَّتِهِما أصِيرُ. وَهَذا عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبُكاؤُهُ وخَوْفُهُ، وكانَ يَشْتَدُّ خَوْفُهُ مِنِ اثْنَتَيْنِ: طُولِ الأمَلِ، واتِّباعِ الهَوى، قالَ: فَأمّا طُولُ الأمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ، وأمّا اتِّباعُ الهَوى فَيَصُدُّ عَنِ الحَقِّ، ألا وإنَّ الدُّنْيا قَدْ ولَّتْ مُدَبِّرَةً، والآخِرَةَ مُقْبِلَةٌ، ولِكُلِّ واحِدَةٍ بَنُونُ، فَكُونُوا مِن أبْناءِ الآخِرَةِ، ولا تَكُونُوا مِن أبْناءِ الدُّنْيا، فَإنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ ولا حِسابٌ، وغَدًا حِسابٌ ولا عَمَلٌ. وَهَذا أبُو الدَّرْداءِ كانَ يَقُولُ: إنَّ أشَدَّ ما أخافُ عَلى نَفْسِي يَوْمَ القِيامَةِ أنْ يُقالَ لِي: يا أبا الدَّرْداءِ، قَدْ عَلِمْتَ، فَكَيْفَ عَمِلْتَ فِيما عَلِمْتَ؟ وكانَ يَقُولُ: لَوْ تَعْلَمُونَ ما أنْتُمْ لاقُونَ بَعْدَ المَوْتِ لَما أكَلْتُمْ طَعامًا عَلى شَهْوَةٍ، ولا شَرِبْتُمْ شَرابًا عَلى شَهْوَةٍ، ولا دَخَلْتُمْ بَيْتًا تَسْتَظِلُّونَ فِيهِ، ولَخَرَجْتُمْ إلى الصُّعُداتِ تَضْرِبُونَ صُدُورَكُمْ، وتَبْكُونَ عَلى أنْفُسِكُمْ، ولَوَدِدْتُ أنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ ثُمَّ تُؤْكَلُ. وَكانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ أسْفَلُ عَيْنَيْهِ مِثْلُ الشِّراكِ البالِي مِنَ الدُّمُوعِ. وَكانَ أبُو ذَرٍّ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ، ووَدِدْتُ أنِّي لَمْ أُخْلَقْ وعُرِضَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، فَقالَ: ما عِنْدَنا عَنْزٌ نَحْلِبُها وحُمُرٌ نَنْقُلُ عَلَيْها، ومُحَرَّرٌ يَخْدِمُنا، وفَضْلُ عَباءَةٍ، وإنِّي أخافُ الحِسابَ فِيها. وَقَرَأ تَمِيمٌ الدّارِيُّ لَيْلَةً سُورَةَ الجاثِيَةِ، فَلَمّا أتى عَلى هَذِهِ الآيَةِ ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أنْ نَجْعَلَهم كالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [الجاثية: ٢١] جَعَلَ يُرَدِّدُها ويَبْكِي حَتّى أصْبَحَ. وَقالَ أبُو عُبَيْدَةَ عامِرُ بْنُ الجَرّاحِ: ودِدْتُ أنِّي كَبْشٌ فَذَبَحَنِي أهْلِي، وأكَلُوا لَحْمِي وحَسُوا مَرَقِي. وَهَذا بابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ. قالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ: بابُ خَوْفِ المُؤْمِنِ أنْ يُحْبَطَ عَمَلُهُ وهو لا يَشْعُرُ. وَقالَ إبْراهِيمُ التَّيْمِيُّ: ما عَرَضْتُ قَوْلِي عَلى عَمَلِي إلّا خَشِيتُ أنْ أكُونَ مُكَذِّبًا. وَقالَ ابْنُ أبِي مُلَيْكَةَ: أدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ كُلُّهم يَخافُ النِّفاقَ عَلى نَفْسِهِ، ما مِنهم أحَدٌ يَقُولُ: إنَّهُ عَلى إيمانِ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ. وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ: ما خافَهُ إلّا مُؤْمِنٌ، ولا أمِنَهُ إلّا مُنافِقٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب