الباحث القرآني

والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه. وتحت (من) و (إلى) في هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، فإن الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية ولوازمها. فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. أما الفرار منه إليه فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر، وأن كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد فإنما أوجبته مشيئة الله وحده، فإنه ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجوده لعدم مشيئته. فادا فر العبد إلى الله فإنما يفر من شئ إلى شئ وجد بمشيئة الله وقدره فهو في الحقيقة فار من الله إليه. ومن تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله ﷺ: " وأعوذ بك منك " وقوله: " لا ملجأ ولا منجى منك ألا إليك "، فإنه ليس في الوجود شئ يفر منه ويستعاذ منه ويلتجأ منه إلا هو من الله خلقًا وإبداعا. فالفار والمستعيذ: فار مما أوجده قدر الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه وإحسانه، ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه ومستعيذ بالله منه. وتصور هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع تعلق قلبه عن غيره بالكلية خوفًا ورجاء ومحبة فإنه إذا علم أن الذي يفر منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده فتضمن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء، ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله وقدرته لكان ذلك موجبًا لخوفه منه، مثل من يفر من مخلوق آخر أقدر منه فإنه في حال فراره من الأول خائف منه حذرا أن لا يكون الثاني يفيده منه بخلاف ما إذا كان الذي يفر إليه هو الذي قضي وقدر وشاء ما يفر منه، فإنه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره. فتفطن إلى هذا السر العجيب في قوله: " أعوذ بك منك " و " لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك " فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالًا وقل من تعرض منهم لهذه النكته التي هي لبّ الكلام ومقصوده وبالله التوفيق. فتأمل كيف عاد الأمر كله إلى الفرار من الله إليه وهو معنى الهجرة إلى الله تعالى، ولهذا قال النبي ﷺ: " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ". ولهذا يقرن الله سبحانه بين الإيمان والهجرة في غير موضع لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر. والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن: هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصلها الحب والبغض، فان المهاجر من شئ إلى شيء لابد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيؤثر احب الأمرين إليه على الآخر. وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه، وقد بلي بهؤلاء الثلاث، فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله ولا ينفك في هجرته إلى الممات. * [فَصْلٌ مَنزِلَةُ الفِرارِ] وَمِن مَنازِلِ إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ: مَنزِلَةُ الفِرارِ. قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿فَفِرُّوا إلى اللَّهِ﴾ وَحَقِيقَةُ الفِرارِ: الهَرَبُ مِن شَيْءٍ إلى شَيْءٍ، وهو نَوْعانِ: فِرارُ السُّعَداءِ، وفِرارُ الأشْقِياءِ. فَفِرارُ السُّعَداءِ: الفِرارُ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وفِرارُ الأشْقِياءِ: الفِرارُ مِنهُ لا إلَيْهِ. وَأمّا الفِرارُ مِنهُ إلَيْهِ فَفِرارُ أوْلِيائِهِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَفِرُّوا إلى اللَّهِ﴾ [الذاريات: ٥٠]: فِرُّوا مِنهُ إلَيْهِ، واعْمَلُوا بِطاعَتِهِ، وقالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فِرُّوا مِمّا سِوى اللَّهِ إلى اللَّهِ، وقالَ آخَرُونَ: اهْرُبُوا مِن عَذابِ اللَّهِ إلى ثَوابِهِ بِالإيمانِ والطّاعَةِ. وَقالَ صاحِبُ المَنازِلِ: هو الهَرَبُ مِمّا لَمْ يَكُنْ إلى مَن لَمْ يَزَلْ، وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ: فِرارُ العامَّةِ مِنَ الجَهْلِ إلى العِلْمِ عَقْدًا وسَعْيًا، ومِنَ الكَسَلِ إلى التَّشْمِيرِ جِدًّا وعَزْمًا، ومِنَ الضِّيقِ إلى السَّعَةِ ثِقَةً ورَجاءً. يُرِيدُ بِ " ما لَمْ يَكُنْ " الخَلْقَ، وبِ " ما لَمْ يَزَلْ " الحَقَّ. وَقَوْلُهُ: فِرارُ العامَّةِ مِنَ الجَهْلِ إلى العِلْمِ عَقْدًا وسَعْيًا. الجَهْلُ نَوْعانِ: عَدَمُ العِلْمِ بِالحَقِّ النّافِعِ، وعَدَمُ العَمَلِ بِمُوجَبِهِ ومُقْتَضاهُ، فَكِلاهُما جَهْلٌ لُغَةً وعُرْفًا وشَرْعًا وحَقِيقَةً، قالَ مُوسى ﴿أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ [البقرة: ٦٧] لَمّا قالَ لَهُ قَوْمُهُ ﴿أتَتَّخِذُنا هُزُوًا﴾ أيْ مِنَ المُسْتَهْزِئِينَ، وقالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ ﴿وَإلّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ [يوسف: ٣٣] أيْ مِن مُرْتَكِبِي ما حَرَّمْتَ عَلَيْهِمْ. وَقالَ تَعالى ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ﴾ [النساء: ١٧] قالَ قَتادَةُ: أجْمَعَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّ كُلَّ ما عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهو جَهالَةٌ، وقالَ غَيْرُهُ: أجْمَعَ الصَّحابَةُ أنَّ كُلَّ مَن عَصى اللَّهَ فَهو جاهِلٌ. وَقالَ الشّاعِرُ: ؎ألا لا يَجْهَلَنْ أحَدٌ عَلَيْنا ∗∗∗ فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجاهِلِينا وَسُمِّيَ عَدَمُ مُراعاةِ العِلْمِ جَهْلًا، إمّا لِأنَّهُ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ، فَنُزِّلَ مَنزِلَةَ الجَهْلِ، وإمّا لِجَهْلِهِ بِسُوءِ ما تَجْنِي عَواقِبُ فِعْلِهِ. فالفِرارُ المَذْكُورُ هو الفِرارُ مِنَ الجَهْلَيْنِ: مِنَ الجَهْلِ بِالعِلْمِ إلى تَحْصِيلِهِ، اعْتِقادًا ومَعْرِفَةً وبَصِيرَةً، ومِن جَهْلِ العَمَلِ إلى السَّعْيِ النّافِعِ، والعَمَلِ الصّالِحِ قَصْدًا وسَعْيًا. قَوْلُهُ: ومِنَ الكَسَلِ إلى التَّشْمِيرِ جِدًّا وعَزْمًا. أيْ يَفِرُّ مِن إجابَةِ داعِي الكَسَلِ إلى داعِي العَمَلِ والتَّشْمِيرِ بِالجِدِّ والِاجْتِهادِ. والجِدُّ هاهُنا هو صِدْقُ العَمَلِ، وإخْلاصُهُ مِن شَوائِبِ الفُتُورِ، ووُعُودِ التَّسْوِيفِ والتَّهاوُنِ، وهو تَحْتَ السِّينِ وسَوْفَ، وعَسى، ولَعَلَّ، فَهي أضَرُّ شَيْءٍ عَلى العَبْدِ، وهي شَجَرَةٌ ثَمَرُها الخُسْرانُ والنَّداماتُ. والفَرْقُ بَيْنَ الجِدِّ والعَزْمِ أنَّ العَزْمَ صِدْقُ الإرادَةِ واسْتِجْماعُها، والجِدَّ صِدْقُ العَمَلِ وبَذْلُ الجُهْدِ فِيهِ، وقَدْ أمَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِتَلَقِّي أوامِرِهِ بِالعَزْمِ والجِدِّ، فَقالَ ﴿خُذُوا ما آتَيْناكم بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: ٦٣] وقالَ ﴿وَكَتَبْنا لَهُ في الألْواحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ﴾ [الأعراف: ١٤٥] وقالَ ﴿يايَحْيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّةٍ﴾ [مريم: ١٢] أيْ بِجِدٍّ واجْتِهادٍ وعَزْمٍ، لا كَمَن يَأْخُذُ ما أُمِرَ بِهِ بِتَرَدُّدٍ وفُتُورٍ. وَقَوْلُهُ: ومِنَ الضِّيقِ إلى السَّعَةِ ثِقَةً ورَجاءً. يُرِيدُ هُرُوبَ العَبْدِ مِن ضِيقِ صَدْرِهِ بِالهُمُومِ والغُمُومِ والأحْزانِ والمَخاوِفِ الَّتِي تَعْتَرِيهِ في هَذِهِ الدّارِ مِن جِهَةِ نَفْسِهِ، وما هو خارِجٌ عَنْ نَفْسِهِ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِأسْبابِ مَصالِحِهِ، ومَصالِحِ مَن يَتَعَلَّقُ بِهِ، وما يَتَعَلَّقُ بِمالِهِ وبَدَنِهِ وأهْلِهِ وعَدُوِّهِ، يَهْرُبُ مِن ضِيقِ صَدْرِهِ بِذَلِكَ كُلِّهِ إلى سَعَةِ فَضاءِ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَبارَكَ وتَعالى، وصِدْقِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وحُسْنِ الرَّجاءِ لِجَمِيلِ صُنْعِهِ بِهِ، وتَوَقُّعِ المَرْجُوِّ مِن لُطْفِهِ وبِرِّهِ، ومِن أحْسَنِ كَلامِ العامَّةِ قَوْلُهُمْ: لا هَمَّ مَعَ اللَّهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٢] قالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا مِن كُلِّ ما ضاقَ عَلى النّاسِ، وقالَ أبُو العالِيَةِ: مَخْرَجًا مِن كُلِّ شِدَّةٍ، وهَذا جامِعٌ لِشَدائِدِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ومَضايِقِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَإنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لِلْمُتَّقِي مِن كُلِّ ما ضاقَ عَلى النّاسِ واشْتَدَّ عَلَيْهِمْ في الدُّنْيا والآخِرَةِ مَخْرَجًا. وَقالَ الحَسَنُ: مَخْرَجًا مِمّا نَهاهُ عَنْهُ، ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: ٣] أيْ كافِي مَن يَثِقُ بِهِ في نَوائِبِهِ ومُهِمّاتِهِ، يَكْفِيهِ كُلَّ ما أهَمَّهُ، والحَسْبُ الكافِي ﴿حَسْبُنا اللَّهُ﴾ كافِينا اللَّهُ. وَكُلَّما كانَ العَبْدُ حَسَنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ، حَسَنَ الرَّجاءِ لَهُ، صادِقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَإنَّ اللَّهَ لا يُخَيِّبُ أمَلَهُ فِيهِ ألْبَتَّةَ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لا يُخَيِّبُ أمَلَ آمِلٍ، ولا يُضَيِّعُ عَمَلَ عامِلٍ، وعَبَّرَ عَنِ الثِّقَةِ وحُسْنِ الظَّنِّ بِالسَّعَةِ، فَإنَّهُ لا أشْرَحَ لِلصَّدْرِ، ولا أوْسَعَ لَهُ بَعْدَ الإيمانِ مِن ثِقَتِهِ بِاللَّهِ ورَجائِهِ لَهُ وحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِ. * (فَصْلٌ) قالَ: وفِرارُ الخاصَّةِ مِنَ الخَبَرِ إلى الشُّهُودِ، ومِنَ الرُّسُومِ إلى الأُصُولِ، ومِنَ الحُظُوظِ إلى التَّجْرِيدِ. يَعْنِي أنَّهم لا يَرْضَوْنَ أنْ يَكُونَ إيمانُهم عَنْ مُجَرَّدِ خَبَرٍ، حَتّى يَتَرَقَّوْا مِنهُ إلى مُشاهَدَةِ المُخْبَرِ عَنْهُ، فَيَطْلُبُونَ التَّرَقِّيَ مِن عِلْمِ اليَقِينِ بِالخَبَرِ، إلى عَيْنِ اليَقِينِ بِالشُّهُودِ كَما طَلَبَ إبْراهِيمُ الخَلِيلُ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِن رَبِّهِ إذْ قالَ ﴿رَبِّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتى قالَ أوَلَمْ تُؤْمِن قالَ بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠] فَطَلَبَ إبْراهِيمُ أنْ يَكُونَ اليَقِينُ عِيانًا، والمَعْلُومُ مُشاهَدًا، وهَذا هو المَعْنى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ بِالشَّكِّ في قَوْلِهِ: «نَحْنُ أحَقُّ بِالشَّكِّ مِن إبْراهِيمَ» حَيْثُ قالَ ﴿رَبِّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتى﴾ [البقرة: ٢٦٠] وَهُوَ ﷺ لَمْ يَشُكَّ ولا إبْراهِيمُ، حاشاهُما مِن ذَلِكَ، وإنَّما عَبَّرَ عَنْ هَذا المَعْنى بِهَذِهِ العِبارَةِ. هَذا أحَدُ الأقْوالِ في الحَدِيثِ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثانٍ: أنَّهُ عَلى وجْهِ النَّفْيِ، أيْ لَمْ يَشُكَّ إبْراهِيمُ حَيْثُ قالَ ما قالَ، ولَمْ نَشُكَّ نَحْنُ، وهَذا القَوْلُ صَحِيحٌ أيْضًا أيْ لَوْ كانَ ما طَلَبَهُ لِلشَّكِّ لَكُنّا نَحْنُ أحَقَّ بِهِ مِنهُ، لَكِنْ لَمْ يَطْلُبْ ما طَلَبَ شَكًّا، وإنَّما طَلَبَ ما طَلَبَهُ طُمَأْنِينَةً. فالمَراتِبُ ثَلاثٌ، عِلْمُ يَقِينٍ يَحْصُلُ عَنِ الخَبَرِ، ثُمَّ تَتَجَلّى حَقِيقَةُ المُخْبَرِ عَنْهُ لِلْقَلْبِ أوِ البَصَرِ، حَتّى يَصِيرَ العِلْمُ بِهِ عَيْنَ يَقِينٍ، ثُمَّ يُباشِرُهُ ويُلابِسُهُ فَيَصِيرُ حَقَّ يَقِينٍ، فَعِلْمُنا بِالجَنَّةِ والنّارِ الآنَ عِلْمُ يَقِينٍ، فَإذا أُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ في المَوْقِفِ، وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِلْغاوِينَ، وشاهَدُوهُما عِيانًا، كانَ ذَلِكَ عَيْنَ يَقِينٍ، كَما قالَ تَعالى ﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ - ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ اليَقِينِ﴾ [التكاثر: ٦-٧] فَإذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأهْلُ النّارِ النّارَ، فَذَلِكَ حَقُّ اليَقِينِ، وسَنَزِيدُ ذَلِكَ إيضاحًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى إذا انْتَهَيْنا إلَيْهِ. * (فَصْلٌ) قالَ: وفِرارُ خاصَّةِ الخاصَّةِ مِمّا دُونَ الحَقِّ إلى الحَقِّ، ثُمَّ مِن شُهُودِ الفِرارِ إلى الحَقِّ، ثُمَّ الفِرارُ مِن شُهُودِ الفِرارِ. هَذا عَلى قاعِدَتِهِ في جَعْلِ الفَناءِ عَنِ الشُّهُودِ غايَةَ السّالِكِينَ، فَيَفِرُّ أوَّلًا مِنَ الخَلْقِ إلى الحَقِّ، ويَشْهَدُ بِهَذا الفِرارِ انْفِرادَ مَشْهُودِهِ الَّذِي فَرَّ إلَيْهِ، لَكِنْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ، وهي شُهُودُ فِرارِهِ. فَيَعْدِلُهُ إحْساسًا بِالخَلْقِ، فَيَفِرُّ ثانِيًا مِن شُهُودِ فِرارِهِ، فَتَنْقَطِعُ النِّسَبُ كُلُّها بَيْنَهُ وبَيْنَ الخَلْقِ بِهَذا الفِرارِ الثّانِي، فَلا يَبْقى فِيهِ بَقِيَّةٌ إلّا مُلاحَظَةُ فِرارِهِ مِن شُهُودِ فِرارِهِ، فَيَفِرُّ مِن شُهُودِ الفِرارِ، فَتَنْقَطِعُ حِينَئِذٍ النِّسَبُ كُلُّها. وَقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا، وأنَّهُ لَيْسَ أعْلى المَقاماتِ والرُّتَبِ، ولا هو غايَةُ الكَمالِ، وأنَّ فَوْقَهُ ما هو أعْلى مِنهُ مَقامًا، وأشْرَفُ مَنزِلًا، وهو أنْ يَشْهَدَ فِرارَهُ، وأنَّهُ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ إلى اللَّهِ، فَيَشْهَدُ أنَّهُ فَرَّ بِهِ مِنهُ إلَيْهِ، ويُعْطِي كُلَّ مَشْهَدٍ حَقَّهُ مِنَ العُبُودِيَّةِ، وهَذا حالُ الكُمَّلِ، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب