* (فائدة)
الإنْسانُ دَلِيلُ نَفْسِهِ عَلى وُجُودِ خالِقِهِ وتَوْحِيدِهِ، وصِدْقِ رُسُلِهِ، وإثْباتِ صِفاتِ كَمالِهِ.
* وقال في (المدارج)فالمَوْجُوداتُ بِأسْرِها شَواهِدُ صِفاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلالُهُ ونُعُوتِهِ وأسْمائِهِ، فَهي كُلُّها تُشِيرُ إلى الأسْماءِ الحُسْنى وحَقائِقِها، وتُنادِي عَلَيْها، وتَدُلُّ عَلَيْها، وتُخْبِرُ بِها بِلِسانِ النُّطْقِ والحالِ، كَما قِيلَ:
تَأمَّلْ سُطُورَ الكائِناتِ فَإنَّها ∗∗∗ مِنَ المَلِكِ الأعْلى إلَيْكَ رَسائِلُ
وَقَدْ خَطَّ فِيها لَوْ تَأمَّلْتَ خَطَّها ∗∗∗ ألا كُلُّ شَيْءٍ ما خَلا اللَّهَ باطِلُ
تُشِيرُ بِإثْباتِ الصِّفاتِ لِرَبِّها ∗∗∗ فَصامِتُها يَهْدِي ومَن هو قائِلُ
فَلَسْتَ تَرى شَيْئًا أدَلَّ عَلى شَيْءٍ مِن دَلالَةِ المَخْلُوقاتِ عَلى صِفاتِ خالِقِها، ونُعُوتِ كَمالِهِ، وحَقائِقِ أسْمائِهِ، وقَدْ تَنَوَّعَتْ أدِلَّتُها بِحَسَبِ تَنَوُّعِها، فَهي تَدُلُّ عَقْلًا وحِسًّا، وفِطْرَةً ونَظَرًا، واعْتِبارًا.
* (فصل)
ثم قال
﴿وَفِي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾لما كان أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه دعاه خالقه وبارئه ومصوره وفاطره من قطرة ماء إلى التبصر والتفكر في نفسه فإذا تفكر الإنسان في نفسه استنارت له آيات الربوبية وسطعت له أنوار اليقين واضمحلت عنه غمرات الشك والريب وانقشعت عنه ظلمات الجهل فإنه إذا نظر في نفسه وجد آثار التدبير فيه قائمات وأدلة التوحيد على ربه ناطقات شاهدة لمدبره دالة عليه مرشدة إليه إذا يجده مكونًا من قطره ماء لحومًا منضدة وعظاما مركبة وأوصالا متعددة مأسورة مشددة بحبال العروق والأعصاب قد قمطت وشدت وجمعت بجلد متين مشتمل على ثلاثمائة وستين مفصلًا ما بين كبير وصغير وثخين ودقيق ومستطيل ومستدير ومستقيم ومنحن وشدت هذه الأوصال بثلاثمائة وستين عرقًا للاتصال والانفصال والقبض والبسط والمد والضم والصنائع والكتابة
وجعل فيه تسعة أبواب فبابان للسمع وبابان للبصر وبابان للشم وبابان للكلام والطعام والشراب والتنفس وبابان لخروج الفضلات التي يؤذيه احتباسها وجعل داخل بابي السمع مرًا قاتلًا لئلا تلج فيها دابة تخلص إلى الدماغ فتؤذيه وجعل داخل بابي البصر مالحًا لئلا تذيب الحرارة الدائمة ما هناك من الشحم وجعل داخل باب الطعام والشراب حلوًا ليسيغ به ما يأكله ويشربه فلا يتنغص به لو كان مرًا أو مالحًا
وجعل له مصباحين من نور كالسراج المضيء مركبين في أعلى مكان منه وفي أشرف عضو من أعضائه طليعة له وركب هذا النور في جزء صغير جدًا يبصر به السماء والأرض وما بينهما وغشاه بسبع طبقات وثلاث رطوبات بعضها فوق بعض حماية له وصيانة وحراسة وجعل على محله غلقًا بمصراعين أعلا وأسفل وركب في ذيل المصراعين أهدابًا من الشعر وقاية للعين وزينة وجمالًا وجعل فوق ذلك كله حاجبين من الشعر يحجبان العين من العرق النازل ويتلقيان عنها ما ينصب من هناك وجعل سبحانه لكل طبقة من طبقات العين شغلًا مخصوصًا ولكل واحد من الرطوبات مقدارًا مخصوصًا
لو زاد على ذلك أو نقص منه لاختلت المنافع والمصالح المطلوبة وجعل هذا النور الباصر في قدر عدسة ثم أظهر في تلك العدسة صورة السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والعالم العلوي والسفلي مع اتساع أطرافه وتباعد أقطاره واقتضت حكمته سبحانه أن جعل فيها بياضًا وسوادًا وجعل القوة الباصرة في السواد وجعل البياض مستقرًا لها ومسكنًا وزين كلًا منهما بالآخر وجعل الحدقة مصونة بالأجفان والحواجب كما تقدم والحواجب بالأهداب وجعلها سوداء إذ لو كانت بيضاء لتفرق النور الباصر فضعف الإدراك فإن السواد يجمع البصر ويمنع من تفرق النور الباصر وخلق سبحانه لتحريك الحدقة وتقليبها أربعًا وعشرين عضلة لو نقصت عضلة واحدة لاختل أمر العين
ولما كانت العين كالمرآة التي إنما تنطبع فيها الصور إذا كانت في غاية الصقالة والصفاء جعل سبحانه هذه الأجفان متحركة جدًا بالطبع إلى الانطباق من غير تكلف لتبقى هذه المرآة نقية صافية من جميع الكدورات ولهذا لما لم يخلق لعين الذبابة أجفانًا فإنها لا تزال تراها تنظف عينها بيدها من آثار الغبار والكدورات
* (فصل)
وكما جعل سبحانه العينين مؤديتين للقلب ما يريانه فيوصلانه إليه كما ترياه جعلهما مرآتين للقلب يظهر فيهما ما هو مودع فيه من الحب والبغض الخير والشر والبلادة والفطنة الزيغ والاستقامة فيستدل بأحوال العين على أحوال القلب وهو أحد أنواع الفراسة الثلاثة وهي فراسة العين وفراسة الأذن وفراسة القلب فالعين مرآة للقلب وطليعة ورسول ومن عجيب أمرها أنها من ألطف الأعضاء وأبعدها تأثرًا بالحر والبرد على أن الأذن على صلابتها وغلظها لتتأثر بهما أكثر من تأثر العين على لطافتها وليس ذلك بسبب الغطاء الذي عليها من الأجفان فإنها لو كانت منفتحة لم تتأثر بذلك تأثر الأعضاء اللطيفة.
* (فصل)
ومن ذلك الأذنان شقهما تبارك وتعالى في جانبي الوجه وأودعهما من الرطوبة ما يكون معينًا على إدراك السمع وأودعهما القوة السمعية وجعل سبحانه في هذه الصدقة? انحرافات واعوجاجات لتطول المسافة قليلًا فلا يصل الهواء إلا بعد انكسار حدته فلا يصدمها وهلة واحدة فيؤذيها وأيضًا لئلا يفجأها الداخل إليها من الدبيب والحشرات بل إذا دخل إلى عوجة من تلك الإنعطافات وقف هناك فسهل إخراجه
وكانت العينان في وسط الوجه والأذنان في جانبيه لأن العينين محل الملاحة والزينة والجمال وهما بمنزلة النور الذي يمشي بين يدي الإنسان وأما الأذنان فكان جعلهما في الجانبين لكون إدراكهما لما خلف الإنسان وأمامه وعن يمينه وعن شماله سواء فتأتي المسموعات إليهما على نسبة واحدة وخلقت العينان بغطاء والأذنان بغير غطاء وهذا في غاية الحكمة إذ لو كان للأذنين غطاء لمنع الغطاء إدراك الصوت فلا يحصل إلا بعد ارتفاع الغطاء والصوت عرض لا ثبات له فكان يزول قبل كشف الغطاء بخلاف ما ترا العين فإنه أجسام وأعراض لا تزول فيما بين كشف الغطاء وفتح العين وجعل سبحانه الأذن عضوًا غضروفيًا ليس بلحم مسترخ ولا عظم صلب بل هي بين الصلابة واللين فتقبل بلينها وتحفظ بصلابتها ولا تنصدع انصداع العظام ولا تتأثر بالحر والبرد والشمس والسموم تأثر اللحم إذ المصلحة في بروزها لتتلقى ما يرد عليها من الأصوات والإخبار
* (فصل)
ومن ذلك الأنف نصبه سبحانه في وسط الوجه قائمًا معتدلًا في أحسن شكل وأوفقه للمنفعة وأودعه حاسة الشم التي يدرك بها الروائح وأنواعها وكيفياتها ومنافعها ومضارها ويستدل بها على مضار الأغذية والأدوية ومنافعها وأيضًا فإنه يستنشق بالتخزين الهواء البارد الرطب فيؤديه إلى القلب فيتروح به فيستغني بذلك عن فتح الفم أبدا وجعل تجويفه بقدر الحاجة فلم يوسعه عن ذلك فيدخله هواء كثير ولم يضيقه فلا يدخله من الهواء ما يكفيه وجعل ذلك التجويف مستطيلًا لينحصر فيه الهواء وينكسر برده وحدته قبل أن يصل إلى الدماغ فلولا ذلك لصدمه بحدته وقوته
والهواء الذي يستنشقه الأنف ينقسم شطرين شطرًا يصعد إلى الدماغ وشطرًا ينزل إلى الرئة وهو من آلات النطق فإن له إعانة على تقطيع الحروف وكما أن تجويفه جعل لاستنشاق الهواء فإنه جعل مصبا لفضلات الدماغ تنحدر منه في تلك القصبة فيخرج فيستريح الدماغ ولذلك جعل عليها سترًا ولم يجعلها بارزة فتستقبحها العيون وجعل فيها تجويفًا فإنه قد ينسد أحدهما أو يعرض له آفة تمنعه من الإدراك والاستنشاق فيبقى التجويف الثاني نائبًا عنه يعمل عمله كما اقتضت الحكمة مثل ذلك في العينين
ثم تأمل الهواء الذي يستنشقه الأنف كيف يدخله أولًا من المنخرين وينكسر برده هناك ثم يصل إلى الحلق فيعتدل مزاجه هناك ثم يصل إلى الرئة ألطف ما يكون ثم تبعثه الرئة إلى القلب فيروح عن الحرارة الغريزية التي فيه ثم ينفذ من القلب إلى العروق المتحركة ويبلغ إلى أقاصي أطراف البدن ثم إذا سخن في الباطن وخرج عن حد الانتفاع خرج عن تلك الأقاصي إلى البدن ثم إلى الرئة ثم إلى الحلقوم ثم إلى المنخرين خارجًا فيخرج منهما ويعود عوضه هواء بارد نافع والنفس الواحد من أنفاس العبد إنما يتم بمجموع هذه الأمور والقوى والأفعال وهو له في اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس لله في كل نفس عدة نعم قد وقفت على القليل منها فما ظنك بما وراء التنفس من الأعضاء والقوى ومنافعها وتمام النعمة بها؟!
* (فصل)
وأما الفم فمحل العجائب وباب الطعام والشراب والنفس والكلام ومسكن اللسان الناطق الذي هو آلة العلوم وترجمان القلب ورسوله المؤدي عنه
ولما كان القلب ملك البدن ومعدنا للحرارة الغريزية فإذا دخل الهواء البارد وصل إليه فاعتدلت حرارته وبقي هنالك ساعة فسخن واحترق فاحتاج القلب إلى دفعه وإخراجه فجعل أحكم الحاكمين إخراجه سببًا لحدوث الصوت في الحنجرة والحنك واللسان والشفتين والأسنان مقاطع ومخارج مختلفة وبسبب اختلافها تميزت الحروف بعضها عن بعض ثم ألهم العبد تركيب تلك الحروف ليؤدي بها عن القلب ما يأمر به
فتأمل الحكمة الباهرة حيث لم يضع سبحانه ذلك النفس المستغنى عنه المحتاج إلى دفعه وإخراجه بل جعل فيه إذا استغنى عنه منفعة ومصلحة هي من أكمل المنافع والمصالح فإن المقصود الأصلي من النفس هو اتصال الريح البارد إلى القلب فأما إخراج النفس فهو جار مجرى دفع الفضلة الفاسدة فصرف ذلك سبحانه إلى رعاية مصلحة ومنفعة أخرى وجعله سببًا للأصوات والحروف والكلام
ثم أنه سبحانه جعل الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة لتختلف الأصوات باختلافها فلا يتشابه صوتان كما لا تتشابه صورتان وهذا من أظهر الأدلة فإن هذا الاختلاف الذي بين الصور والأصوات على كثرتها وتعددها فقلما يشتبه صوتان أو صورتان ليس في الطبيعة ما يقتضيه وإنما هو صنع الله الذي أتقن كل شيء وأحسن كل شيء خلقه فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين فميز سبحانه بين الأشخاص بما يدركه السمع والبصر
* (فصل)
وأودع اللسان من المنافع منفعة الكلام وهي أعظمها ومنفعة الذوق والإدراك وجعله دليلًا على اعتدال مزاج القلب وانحرافه كما جعله دليلًا على استقامته واعوجاجه فترى الطبيب يستدل بما يبدو البصر على اللسان من الخشونة والملاسة والبياض والحمرة والتشقق وغيره على حال القلب والمزاج وهو دليل قوي على أحوال المعدة والأمعاء كما يستدل السامع بما يبدو عليه من الكلام على ما في القلب فيبدو عليه صحة القلب وفساده معنى وصورة.
* فصلوجعل سبحانه اللسان عضوًا لحميًا لا عظم فيه ولا عصب لتسهل حركته ولهذا لا تجد في الأعضاء من لا يكترث بكثرة الحركة سواه فإن أي عضو من الأعضاء إذا حركته كما تحرك اللسان لم يطق ذلك ولم يلبث أن يكل ويخلد إلى السكون إلا اللسان وأيضا فإنه من أعدل الأعضاء وألطفها وهو في الأعضاء بمنزلة رسول الملك ونائبه فمزاجه من أعدل أمزجة البدن ويحتاج إلى قبض وبسط وحركة في أقاصي الفم وجوانبه فلو كان فيه عظام لم يتهيأ منه ذلك ولم يتهيأ منه الكلام التام ولا الذوق التام فكونه الله كما اقتضاه السبب الفاعلي والغائي والله أعلم.
* (فصل)
وجعل سبحانه على اللسان غلقين أحدهما الأسنان والثاني الفم وجعل حركته اختياريه وجعل على العين غطاء واحدًا ولم يجعل على الأذن غطاء وذلك لخطر اللسان وشرفه وخطر حركاته وكونه في الفم بمنزلة القلب في الصدر وذلك من اللطائف فإن آفة الكلام أكثر من آفة النظر وآفة النظر أكثر من آفة السمع فجعل للأكثر آفات طبقين والمتوسط طبقا جعل الأقل آفة بلا طبق.
* (فصل)
وجعل سبحانه الفم أكثر الأعضاء رطوبة والريق يتحلل إليه دائمًا لا يفارقه وجعله حلوًا لا مالحًا كماء العين ولا مرًا كالذي في الأذن ولا عفنًا كالذي في الأنف بل هو أعذب مياه البدن وأحلاها حكمة بالغة فإن الطعام والشراب يخالطه بل هو الذي يحيل الطعام ويمتزج به امتزاج العجين بالماء فلولا أنه حلو لما التذ الإنسان بل ولا الحيوان بطعام ولا شراب ولا ساغه إلا على كره وتنغيص ولما كان كثير من الطعام لا يمكن تحوله إلا بعد طبخه جعل الرب تعالى له آلة للتقطيع والتفصيل وآلة للطحن فجعل آلة القطع وهي الثنايا وما يليها حادة الرؤس ليسهل بها القطع وجعل النواجذ وما يليها من الأضراس مسطحة الرؤس عريضة ليتأتى بها الطحن ونظمها أحسن نظام كاللؤلؤ المنظم في سلك وجعلها من الجانب الأعلى والأسفل ليتأتى بها القطع والطحن وجعلها من الجانب الأيمن والأيسر إذ ربما كلت إحدى الآلتين أو تعطلت أو عرض لها عارض فينتقل إلى الآلة الأخرى وأيضًا لو كان العمل على جانب واحد دائما أو شك أن يتعطل ويضعف
وتأمل كيف أنبتها سبحانه من نفس اللحم وتخرج من خلاله نابتة كما ينبت الزرع في الأرض ولم يكسها سبحانه لحما، كسائر العظام سواها إذ لو كساها اللحم لتعطلت المنفعة المقصودة ولما كانت العظام محتاجة إلى لحم يكسوها ويحفظها ويتلقى عنها الحرارة والبرد ويحفظ عليها رطوبتها لم تكمل مصلحة الحيوان إلا بهذه الكسوة ولما كانت عظام الإنسان محتاجة إلى ذلك من وجه مستغنية عنه من وجه جعلت كسوتها منفصلة عنها وجعلت هي المكتسبة العارية لتمام المنفعة بذلك ولما كانت آلة القطع والكسر والطحن لم تنشأ مع الطفل من أول نشأته كسائر عظامه لعدم الحاجة إليها عطل عنها وقت استغنائه عنها بالرضاع وأعطيها وقت حاجته إليها.
وفيه حكمة أخرى وهي أنه لو نشأت معه من حين يولد لأضرت بحلمة الثدي إذ لا عقل له يحرزه عن عضها فكانت الأم تمتنع من إرضاعه
ومن عجيب أمرها الاتفاق والموالاة التي بينهما وبين المعدة فإنه يسلم إليها إليها الشيء اليابس والصلب فتطحنه ثم تسلمه إلى اللسان فيعجبنه? ثم اللسان يسلمه إلى الحلق فيوصله إلى المعدة فتنضجه وتطبخه ثم يرسل إليها منه معلومها المقدر لها فإذا عجزت عن قطع شيء وطحنه عجزت المعدة عن إنضاجه وطبخه وإذا كلت الأسنان كلت المعدة وإذا ضعفت ضعفت
وهي تصحب الإنسان وتخدمه ما لم يرها فإذا وقعت عينه عليها فارقته الأبد وهي سلاح ومنشار وسكين وروح وزينة وفيها منافع ومصالح غير هذه.
* (فصل)
ثم تأمل حال الشعر ومنبته وسببه فإن البدن لما كان حارًا رطبًا والحرارة إذا عملت في الرطوبة فلا بد أن تثير بخارًا وتلك الأبخرة تتصاعد من عمق البدن إلى سطحه وتريد الانفصال من هناك فلا بد أن تحدث مساما ومنافذ في ظاهر الجلد وتلك الأبخرة إما أن تكون رطبة لطيفة فحينئذ تنفصل من المسام ولا تحدث شيئًا وإما أن تكون دخانية يابسة غليظة فالجلد حينئذ إما أن يكون في نهاية النعومة والنضارة كجلد الصبيان أو في غاية اليبس والقشف أو يكون معتدلًا فإذ ذاك لا يتولد فيه الشعر لأن البخار إذا شق سطح الجلد وانفصل عاد الجلد في الحال إلى اتصاله الأول بسبب كثرة رطوبته ونعومته مثاله السمك إذا رفع رأسه من الماء إنشق له الماء فإذا عاد إلى الماء عاد الماء إلى اتصاله الأول وكذلك نشاهد الأشياء الرطبة كالنشاء مثلًا إذا أغلي فخرج البخار من موضع الغليان عادت الرطوبة إلى الموضع الذي خرج منه ذلك البخار فسدته فإن كان الجلد في غاية اليبس لم يتولد الشعر لأن الجلد اليابس إذا انثقب بقيت تلك الثقب مفتوحة ليبس الجلد فيفرق أجزاءه البخار ولا يجتمع بعضه إلى بعض فإن الجلد متوسط بين النعومة والكثافة فإنه ينفتح فيه المسام بسبب تلك الأبخرة ولا يعود ينسد بعد خروج البخار ولكن لا تبقى المسام شديدة الانفتاح وحينئذ يبقى ذلك البخار الدخاني في تلك الثقبة لا يزال يمده بخار آخر يدفعه أولًا فأولًا إلى خارج من غير أن ينقطع أصله فيبقى بعضه مركوزًا في الجلد منزلته منزلة أصل النبات وبعضه يطلع إلى خارج منزلته منزلة ساق النبات وكذلك الشعر فمادة الشعر هي البخار الدخاني اليابس وسببه هو الحرارة الطبيعية المحرقة لذلك البخار والآلة التي بها يتم أمره هي المسام التي ارتكن فيها البخار فتلبد هناك فصار شعرًا بإذن الله تعالى
والغاية التي من أجلها وجد شيئان أحدهما عام وهو تنقية البدن من الفضول الدخانية الغليظة والآخر خاص وهو إما للزينة وإما للوقاية
وإذا بان أن الشعر إنما يتولد مع الحرارة واليبس المعتدل بقيت ثلاثة أقسام أحدها حرارة غالبة على اليبس كالصبيان الثاني عكسه وهو يبس غالب على الحرارة كالمشائخ الثالث حرارة ضعيفة ويبس ضعيف كأبدان النساء ففي هذه الأقسام يقل الشعر وأما الشباب فإن حرارة أبدانهم ويبسهم معتدل فيقوى تولد الشعر فيهم
وفي شعر الرأس منافع ومصالح منها وقايته عن الحر والبرد والمرض ومنها الزينة والحسن
والسبب الذي صار به شعر الرأس أكثر من شعر البدن هو أن البخار شأنه أن يصعد من جميع البدن إلى الدماغ ومن الدماغ إلى فوق وكان هذا الشعر ناميًا على الدوام لأن البخار يتصاعد إلى الرأس أبدًا وهو مادة الشعر فبنماء الشعر ينمو البخار وكان فيه تخليص للبدن من تلك المواد وتكثير لوقايته وغطائه
* (فصل)
وأما شعر الحاجبين ففيه مع الحسن والزينة والجمال وقاية العين مما ينحدر من الرأس وجعل على هذا المقدار لأنه لو نقص عنه لزالت منفعة الجمال والوقاية ولو زاد عليه لغطى العين وأضر بها وحال بينها وبين ما تدركه وقد ذكرنا منفعة شعر الهدب
ولما كان الأنفع والأصلح أن يكون شعر الهدب قاتما منتصبًا وأن يكون باقيًا على حال واحد في مقدار واحد جعل منبت هذا الشعر في جرم صلب شبيه بالغضروف يمتد في طول الجفن لئلا يطول وينمو وهذا كما نشاهد النبات الذي ينبت في الأرض الرخوة اللينة فإنه يطول ويزداد والذي ينبت في الأرض
الصخرية الصلبة لا ينمو إلا نموًا يسيرًا فكذلك الشعر النابت في الأعضاء اللينة الرطبة فإنه سريع النمو كشعر الرأس والعانة.
* (فصل)
وأما شعر اللحية ففيه منافع منها الزينة والوقار والهيبة ولهذا لا يرى على الصبيان والنساء من الهيبة والوقار ما يرى على ذوي اللحى ومنها التمييز بين الرجال والنساء
فإن قيل لو كان شعر اللحية زينة لكان النساء أولى به من الرجال لحاجتهن إلى الزينة وكان التمييز يحصل بخلو الرجال منه ولكان أهل الجنة أولى به وقد ثبت أنهم جرد مرد
قيل الجواب أن النساء لما كن محل الاستمتاع والتقبيل كان الأحسن والأولى خلوهن عن اللحى فإن محل الاستمتاع إذا خلا عن الشعر كان أتم ولهذا المعنى والله أعلم كان أهل الجنة مردًا ليكمل استمتاع نسائهم بهم كما يكمل استمتاعهم بهن وأيضًا فإنه أكشف لمحاسن الوجوه فإن الشعر يستر ما تحته من البشرة أن يمس بشرة المرأة والله أعلم بحكمته في خلقه.
* (فصل)
وأما شعر العانة والإبط والأنف فمنفعته تنقية البدن من الفضلة ولهذا إذا أزيل من هذا الموضع وجد البدن خفة ونشاطًا وإذا
وفر وجد ثقلًا وكسلًا وغمًا ولهذا جاءت الشريعة بحلق العانة ونتف الإبط وكان حلق العانة أولى من نتفها لصلابة الشعر وتأذي صاحبها بنتفه وكان نتف الإبط أولى من حلقه لضعف الشعر هناك وشدته وتعجل نباته بالحلق فجاءت الشريعة بالأنفع في هذا وهذا
* (فصل)
وتأمل حكمة الرب تعالى في كونه أخلى الكفين والجبهة والأخمصين من الشعر فإن الكفين خلقا حاكمين على الملموسات فلو حصل الشعر فيها لأخل بذلك وخلقا للقبض وإلصاق اللحم على المقبوض أعون على جودته من التصاف الشعر به وأيضًا فإنهما آلة الأخذ والعطاء والأكل ووجود الشعر فيهما يخل بتمام هذه المنفعة
وأما الأخمصان فلو نبت الشعر فيهما لأضر بالماشي وأعاقه في المشي كثيرًا مما يعلق بشعره مما على الأرض ويتعلق شعره بما عليها أيضًا هذا مع أن أكثر الأوتار والأغشية في الكفين مانع من نفوذ الأبخرة فيها وأما الأخمصين فإن الأبخرة تتصاعد إلى علو وكلما تصاعد كان الشعر أكثر وأيضًا فإن كثرة وطء الأرض بالأخمصين يصلبهما ويجعل سطحهما أملس لا ينبت شيئًا كما أن الأرض التي توطأ كثيرًا لا تنبت شيئا وأما الجبهة فلو بنت الشعر عليها لستر محاسنها وأظلم الوجه وتدلى على العين وكان يحتاج إلى حلقه دائمًا ومنع العينين من كمال الإدراك والسبب المؤدي لذلك أن الذي تحت عظم الجبهة هو مقدم الدماغ وهو بارد رطب والبخار لا يتحرك منحرفًا إلى الجبهة بل صاعدًا إلى فوق
فإن قيل لم نبت شعر الصبي على رأسه وحاجبيه وأجفانه معه من الصغر دون سائر الشعور
قيل لشدة الحاجة إلى هذه الشعور الثلاثة أوجدها الله سبحانه معه وهو جنين في بطن أمه فإن شعر الرأس كالغطاء الواقي له من الآفات والأهداب والأجفان وقاية للعين
فإن قيل فلم لم تنبت له اللحية إلا بعد بلوغه
قيل لأنه عند البلوغ تجتمع الحرارة في بدنه وتكون أقوى ما هي ولهذا يعرض له في مثل هذا الطور البثرات والدمامل وكثرة الإحتلام وإذا كثرت الحرارة كثرة الأبخرة بسبب التحلل وزادت على القدر المحتاج إليه في شعر الرأس فصرفها أحكم الحاكمين إلى نبات اللحية والعانة وأيضًا فإن بين أوعية المنى وبين اللحية ارتباط إذ العروق والمجاري متصلة بينهما فإذا تعطلت أوعية المنى ويبست تعطل شعر اللحية وإذا قلت الرطوبة والحرارة هناك قل شعر اللحية، ولهذا فإن الخصيان لا ينبت لهم لحى فإن قيل فما العلة في الكوسج؟
قيل برد مزاجه ونقصان حرارته
فإن قيل فما السبب في الصلع؟
قيل عدم احتباس الأبخرة في موضع الصلع
فإن قيل فلم كان في مقدم الرأس دون جوانبه ومؤخره؟
قيل لأن الجزء المقدم من الرأس بسبب رطوبة الدماغ يكون أكثر لينًا وتحللًا فتتحلل الفضلات التي يكون منها الشعر فلا يبقى للشعر مادة هناك
فإن قيل فلم لم يحدث في الأصداغ؟
قيل إن الرطوبة في الأسافل أكثر منها في الأعالي وشاهده الأرض العالية والمنخفضة
فإن قيل فلم لم تصلع المرأة إلا نادرًا وكان الصلع في الرجال أكثر؟
قيل لأن الأصل أنه يحدث من يبس في الجلد بمنزلة احتراقه ذلك لقوة الحرارة وأما النساء فالرطوبة والبرودة أغلب عليهن ولهذا فإن جلودهن أرطب من جلود الرجال فلا تجف جلود رؤوسهن فلا يعرض لهن الصلح، ولهذا لا يعرض للصبيان وإن عرض للمرأة صلع فذلك في سن يبسها وبلوغها من الكبر عتيًا
فإن قيل فما السبب في شدة سواد الشعر؟
قيل شدة البخارات الخارجة من البدن واعتدالها وصحة مادتها كخضرة الزرع
فإن قيل ما سبب الصهوبة قيل برد المزاج فتضعف الحرارة عن صبغ الشعر وتسويده فإن قيل فما سبب الشقرة والحمرة؟
قيل زيادة الحرارة فتصبغ الشعر ولهذا تجد الشقر أشد حرارة وأكثر حركة وهمة
فإن قيل فما سبب البياض؟
قيل البياض نوعان أحدهما طبيعي وهو الشيب والثاني خارج عن الطبيعة وهو ما يوجد في أواخر الأمراض المجففة بسبب تحلل الرطوبات كما يعرض للنبات عند الجفاف
فإن قيل فما سبب الطبيعي؟
قيل اختلف في ذلك فقالت طائفة سببه الاستحالة إلى لون البلغم بسبب ضعف الحرارة في أبدان الشيوخ وقالت طائفة سببه أن الغذاء الصائر إلى الشعر يصير باردًا بسبب نقصان الحرارة ويكون بطيء الحركة مدة نفوذه إلى المسام وجمعت طائفة بين القولين وقالوا العلة في الأمرين واحدة وسببها نقصان الحرارة
فإن قيل فلم اختص الشيب بالإنسان من بين سائر الحيوان؟
قيل لأن لحم الإنسان وجلده رخوين وجلود الحيوانات ولحومها أقوى واصلب فلما غلظت مادة الشعر فيها لم يعرض له ما يعرض لشعر الإنسان ولهذا يكون شعرها كلها معها من حين ولادتها بخلاف الإنسان وأيضا فإن لإنسان?
المركبة المتنوعة وكذا المشارب ويتناول أكثر من حاجته فتجتمع فيه فضلات كثيرة فتدفعها الطبيعة إلى ظاهر البدن فما دامت الحرارة قوية فإنه تقوى على إحراق تلك الفضلات فيتولد من إحراقها الشعر الأسود فإذا بلغ الشيخوخة ضعفت الحرارة وعجزت عن إحراق تلك الفضلات فتعمل فيها عملًا ضعيفًا وأما سائر الحيوانات فلا تتناول الأغذية المركبة وتتناول منها على قدر الحاجة فلا يشيب شعرها كما يشيب شعر الإنسان وأيضًا فإن في زمن الشيخوخة يكون أقل حرارة وأكثر رطوبة فيتولد البلغم وأما الحيوانات فاليبس غالب عليها
فإن قيل فلم كان شيب الأصداغ في الأكثر مقدمًا على غيره؟
قيل لقرب هذا الموضع من مقدم الدماغ والرطوبة في مقدم الدماغ كثيرة لأن الموضع مفصل والمفصل تجتمع فيه الفضلة الكثيرة فيكثر البرد هناك فيسرع الشيب
فإن قيل فلم أسرع الشيب في شعور في شعور الخصيان والنساء قيل أما النساء فلبرد مزاجهن في الأصل ولاجتماع الفضلات الكثيرة فيهن وأما الخصيان فلتوافر المنى على أبدانهم يصير دمهم غليظا بلغميا ولهذا لا يحدث الصلع
فإن قيل فلم كان شعر الإبط لا يبيض؟
قيل لقوة حرارة هذا الموضع بسبب قربه من القلب ومسامه كثيرة بلغمية لأنها تتحلل بالعرق الدائم
فإن قيل فلم أبطأ بياض شعر العانة قيل لأن حركة الجماع تحلل البلغم الذي في مسامه
فإن قيل فلم كانت الحيوانات تتبدل شعورها كل سنة بخلاف الإنسان قيل لضعف شعورها عن الدوام والبقاء بخلاف شعر الآدمي
فإن قيل فما سبب الجعودة والسبوطة؟
قيل أما الجعودة فمن شدة الحرارة أو من التواء المسام فالذي من شدة الحرارة فإنه تعرض منه الجعودة كما تعرض الشعر عند عرضه على النار وأما الذي لالتواء المسام فلأن البخار لضعفه لا يقدر أن ينفذ على الاستقامة فيلتوي في المنافذ فتحدث الجعودة
فإن قيل فما السبب في طول شعر الميت وأظفاره بعد موته إذا بقي مدة؟
قيل عنه جوابان أحدهما أنها لا تطول ولكن لما ينقص ما حولها يظن أنها زادت.
الثاني وهو أصوب أن ذلك الطول من الفضلات البخارية التي تتحلل وهلة من الميت فيمتد معها الشعر والظفر
فإن قيل فلم كان المريض وخاصة المحموم ينقص لحمه ويزيد شعره؟
قيل إن في المرض تكثر الفضلات فتطول الشعور والأظفار بها ويثقل الغذاء فيذوب اللجم.
وأما في الصحة فتقل الفضلات فلا تحتاج الطبيعة إلى الغذاء وهضمها له.
وإذا قلت الفضلات نفدت مادة الشعر فيبطئ
فإن قيل فما العلة في انتصاب شعر الخائف والمقرور حتى يبقى كشعر القنفذ؟
قيل العلة فيه أن الجلد ينقبض وتجتمع المسام على الشعر وتتضايق عليه فينتصب فإن قيل: فلم انتصب شعر البدن واللحية واللحيين؟
قيل: لأن جلدة "الرأس" كثيفة أكثف من جلدة البدن فلا تنقبض انقباض جلدة البدن، على أن شعر "الرأس" - أيضا - ينتصب كذلك، وإن كان دون انتصاب شعر البدن و"اللحية ".
فإن قيل فلم كانت كثرة الجماع تزيد في شعر اللحية والجسد وتنقص من شعر الرأس والأجفان؟
قيل لأن الشعر فيه ما يكون طبيعيًا من أول الخلقة كاللحية وسائر شعر البدن والأول يكون من قوة الحرارة الأصلية والثاني من قوة الحرارة الخارجية فلا جرم نقصت بسببه الشعور الأصلية وتوفرت العرضية
فإن قيل فلم كان الشعر في الإنسان في الجزء المقدم أكثر منه في المؤخر وباقي الحيوانات بالعكس؟
قيل لأن الشعر إنما يكون حيث تكون الحرارة قوية ويكون تحلل الجلد أكثر، وهذا في الإنسان في ناحية الصدر والبطن.
وأما جلدة الظهر فمتكاثفة، وأما ذوات الأربع ففي الخلف شعورها أكثر لأن البخار فيها يرقى إلى الخلف وإن تلك المواضع هي التي تتلقى الحر والبرز فتحتاج إلى وقاء أكثر.
فإن قيل فلم كان الرأس بالشعر أحق الأعضاء ونباته أكثر؟
قيل لأن البخار يتصاعد ويطلب جهة الفوق وهو الرأس
ولا تستطل هذا الفصل فإن أمر الشعر من السمات والفضلات وهذا شأنه فما الظن بغيره من الأجزاء الأصلية فإذا كانت هذه قليلة من كثير من حكمة الرب تعالى في الشعور ومواضعها ومنافعها فكيف بحكمته في الرأس والقلب والكبد والصدر وغيرها ولا تضجر من ذلك فإن الخلق فيه من الفقه والحكم نظير ما في الأمر فالرب تعالى حكيم في خلقه وأمره ويحب من يفقه عنه ذلك ويستدل على كمال حكمته وعلمه ولطفه وتدبيره فإذا كان الله لم يضع هذه الفضلات في الإنسان سدى فما الظن بغيرها.
* (فصل)
ونحن نذكر فصلًا مختصرًا في حال الإنسان من مبدئه إلى نهايته لنجعله مرآة له ينظر فيها قول خالقه وبارئه
﴿وَفِي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾لما اقتضى كمال الرب تعالى جل جلاله وقدرته التامة وعلمه المحيط ومشيئته النافذة وحكمته البالغة تنويع خلقه من المواد المتباينة وأنشأهم من الصور المختلفة والتباين العظيم بينهم في المواد والصور والصفات والهيئات والأشكال والطبائع والقوى اقتضت حكمته أن أخذ من الأرض قبضة من التراب ثم ألقى عليها الماء فصارت مثل الحمأ المسنون ثم أرسل عليها الريح فجففها حتى صارت صلصالًا كالفخار ثم قدر لها الأعضاء والمنافذ والأوصال والرطوبات وصورها فأبدع في تصويرها وأظهرها في أحسن الأشكال وفصلها أحسن تفصيل مع اتصال أجزائها وهيأ كل جزء منها لما يراد منه وقدره لما خلق له عن أبلغ الوجوه ففصلها في توصيلها وأبدع في تصويرها وتشكيلها والملائكة تراها ولا تعرف ما يراد منها وإبليس يطيف بها ويقول لأمر ما خلقت فلما تكامل تصويرها وتشكيلها وتقدير أعضائها وأوصالها وصارت جسدًا مصورًا مشكلًا كأنه ينطق إلا أنه لا روح فيه ولا حياة أرسل إليه روحه فنفخ فيه نفخة وانقلب ذلك الطين لحمًا ودمًا وعظامًا وعروقًا وسمعًا وبصرًا وشمًا ولمسًا وحركة وكلاما فأولى شيء بدأ به أن قال الحمد لله رب العالمين فقال له خالقه وبارئه ومصوره يرحمك الله يا آدم فاستوى جالسًا أجمل شيء وأحسنه منظرًا وأتمه خلقًا وأبدعه صورة فقال الرب تعالى لجميع ملائكته
﴿اسجدوا لآدم﴾ فبادروا بالسجود تعظيمًا وطاعة لأمر الواحد المعبود ثم قال لهم لنا في هذه القبضة من التراب شرع أبدع مما ترون وجمال باطن أحسن مما تبصرون فلتزيين باطنه أحسنه من زينة ظاهره ولنجعلنه من أعظم آياتنا نعلمه أسماء كل شيء مما لا تحسنه الملائكة فكان التعليم زينة الباطن وجماله وذلك التصوير زينة الظاهر في أكمل شيء وأجمله صورة ومعنى كل ذلك صنعته تبارك وتعالى في قبضة من تراب ثم اشتق منه صورة هي مثله في الحسن والجمال ليسكن إليها وتقر نفسه وليخرج من بينهما من لا يحصى عدده من الرجال والنساء سواه
* (فصل)
ثم لما أراد الله سبحانه أن يذر نسلهما في الأرض ويكثره وضع فيهما حرارة الشهوة ونار الشوق والطلب وألهم كلًا منهما اجتماعه بصاحبه فاجتمعا على أمر قد قدر فاسمع الآن عجائب ما هناك
لما شاء الرب تعالى أن يخرج نسخة هذا الإنسان منه أودع جسده حرارة وسلط عليه هيجانها فصارت شهوة غالبة فإذا هاجت حرارة الجسد تحللت الرطوبات من جميع أجزاء الجسد وابتدأت نازلة من خلف الدماغ من عروق خلف الأذنين إلى قفا الظهر ثم تخرج إلى الكليتين ثم تجتمع في أوعية المنى بعد أن طبختها نار الشهوة وعقدتها حتى صار لها قوام وغلظ وقصرتها حتى ابيضت وقدر لها مجاري وطرق تنفذ فيها ثم اقتضت حكمته سبحانه أن قدر لخروجها أقوى الأسباب المستفرغة لها من خارج ومن داخل فقيض لها صورة حسنها في عين الناظر وشوقه إليها وساق أحدهما إلى الآخر بسلسلة الشهوة والمحبة فحن كل منهما إلى امتزاجه بصاحبه واختلاطه به ليقضى الله أمرًا كان مفعولًا وجعل هذا محل الحرث وهذا محل البذر ليلتقي الماءان على أمر قد قدر وقدر بينهما تلك الحركات لتعمل الحرارة في تلك الرطوبة والفضلة عملها واستخرجها من تحت الشعر والبشر والظفر لتوافق نسخة الأصل ويكون الداعي إلى التناسل في غاية القوة فلا ينقطع النسل ولهذا لا تجد في منى الاحتلام من القوة ما في منى الجماع وإنما هو من فضلة حرارة تذيب الرطوبة فتنفذ فيها الطبيعة إلى خارج من نوع تصور خيال بواسطة الشيطان كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال "الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان"
فإن قيل فهذا اختيار منكم لقول من قال إن المنى يخرج من جميع أجزاء البدن وهذا وإن كان قد قاله كثير من الناس فقد خالفهم آخرون وزعموا انه فضلة تتولد من الطعام وهي من أعدل الفضلات ولهذا صلحت أن تكون مبدأ الإنسان وهو جسم متشابه الأجزاء في نفسه قيل القول الأول هو الصواب ويدل عليه وجوه منها عموم اللذة بجميع أجزاء البدن ومنها مشاكلة أعضاء المولود لأعضاء الوالدين ومنها أن المشابهة الكلية تدل على أن البدن كله أرسل المنى ولولا ذلك لكانت المشابهة بحسب محل واحد فدل على أن كل عضو أرسل قسطه ونصيبه فلما انعقد وصلب ظهرت محاكاته ومشابهته له ومنها أن الأمر لو كان كما زعمه أصحاب المقالة الثانية من أن المنى جسم واحد متشابه في نفسه لم تتولد منه الأعضاء المختلفة المتشكلة بالأشكال المختلفة لأن القوة الواحدة لا تفعل في المادة الواحدة إلا فعلًا واحدًا فدل على أن المادة في نفسها ليست متشابهة الأجزاء
ومنها أن المني فضلة الهضم الآخر وذلك إنما يكون عند نضج الدم في العروق وكونه مستعدًا استعدادًا تامًا لأن يصير من جوهر الأعضاء وكذلك عقيب استفراغه من الضعف أكثر مما يحصل من استفراغ أمثاله من الدم ولذلك يورث الضعف في جوهر الأعضاء الأصلية فدل على انه مركب من أجزاء كل منهما قريب الاستعداد لأن يصير جزءًا من عضو ولذلك سماه الله سلالة والسلالة فعالة من السل وهو ما يسل من البدن كالبخار كما سمى اصله سلالة من الطين لأنه استلها من جميع الأرض كما في جامع الترمذي عن النبي ﷺ "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض"
قال أصحاب القول الآخر وهم جمهور الأطباء وغيرهم لو كان الأمر كما زعمتم وأن المني يستل من جميع الأعضاء لكان إذا حصل مني الذكر ومني الأنثى في الرحم تشكل المولود بشكلهما معًا ولكان الرجل لا يلد إلا ذكرًا دائمًا لأن المني قد استل عندكم من جميع أجزائه فإذا انعقد وجب أن يكون مثله وأيضًا فإن المرأة تضع من وطء الرجل في البطن الواحد ذكرًا وأنثى ولا يمكن أن يقال أن ذلك بسبب اختلاف أجزاء المنى
قالوا ولا نسلم عموم اللذة لأنها إنما حصلت حال الإندفاق بسبب سيلان تلك المادة الحارة جارية على تلك المجاري اللحمية التي لحمتها رخوة شبيهة باللحم القريب العهد بالاندمال إذا سال عليه شيء وهو معتدل السخونة ولو كانت اللذة إنما حصلت بسبب سيلان تلك المادة لحصلت قبل الإندفاق قالوا وأما احتجاجكم بالتشابه المذكور بين الوالد والمولود فالمشابهة قد تقع في الظفر والشعر وليس يخرج منهما شيء وأيضًا فالمولود قد يشبه جدًا بعيدًا من أجداده كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أن رجلًا سأله فقال إن امرأتي ولدت غلامًا أسود قال "هل لك من إبل" قال نعم قال "فما ألوانها؟ " قال سود قال "هل فيها من أورق" قال نعم قال "فأنى له ذلك" قال عسى أن يكون نزعه عرق قال "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق"
قالوا ولو كان في المنى من كل عضو أجزاء فلا تخلو تلك الأجزاء إما أن تكون موضوعة في المنى وضعها الواجب أو لا تكون كذلك فإن كانت موضوعة وضعها الواجب كان المنى حيوانًا صغيرًا وإن لم تكن كذلك استحالت المشابهة
قالوا وأيضًا فإن المنى إما أن يكون مركبًا على تركيب هذه الأعضاء وترتيبها أو لا يكون كذلك فالأول باطل قطعًا لأن المني رطوبة سيالة فلا تحفظ الوضع والترتيب وإن كانت ثقيلة فتعين الثاني ولا بد قطعًا أن يحال ذلك الترتيب والتصوير والتشكيل على سبب آخر سوى القوة التي في المادة فإنها قوة لا شعور لها ولا إدراك ولا تهتدي لهذه التفاصيل التي في الصورة الإنسانية بل هذا التصوير والتشكيل مستند إلى خالق عليم حكيم قد بهرت حكمته العقول ودلت آثار صنعته على كمال أسمائه وصفاته وتوحيده وقد اعترف بذلك فاضلا الأطباء وهما بقراط وأفلاطون وأقرا بأن ذلك مستند إلى حكمة الصانع وعنايته وأنه لم يصدر إلا عن حكيم عليم قدير ذكره جالينوس عنهما في كتاب رأي بقراط وأفلاطون فأبى جهلة الأطباء وزنادقة المتفلسفة والطبائعيين إلا كفورًا وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ من حديث حذيفة بن أسيد "إن الله وكل بالرحم ملكًا يقول يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فما الرزق فما الأجل فما العمل فيقضى الله ما يشاء ويكتب الملك" وفي لفظ "يقول الملك الذي يخلقها" أي يصورها بإذن الله أي يصور خلقه في الأرحام كيف شاء الله لا إله إلا هو العزيز الحكيم
فقال أصحاب القول الأول نحن أحق بالتنزيه والتوحيد ومعرفة حكمة الخالق العليم وقدرته وعلمه وأسعد به منكم ومن أحال من سفهائنا وزنادقتنا هذا التخليق على القوة المصورة والأسباب الطبيعية ولم يسندها إلى فاعل مختار عالم بكل شيء قادر على كل شيء لا يكون شيء إلا بإذنه ومشيئته والقوة والطبيعة خلق مسخر من خلقه وعبد من جملة عبيده ليس لها تصرف ولا حركة ولا فعل إلا بإذن بارئها وخالقها فذلك الذي جهل نفسه وربه وعادة الطبيعة والشريعة والرب تعالى يخلق ما يشاء ويختار ويصور خلقه في الأرحام كيف يشاء بأسباب قدرها وحكم دبرها وإذا شاء أن يسلب تلك الأسباب قواها سلبها وإذا شاء أن يقطع مسبباتها عنها قطعها وإذا شاء أن يهيء لها أسبابًا أخرى تقاومها وتعارضها فعل فإنه الفعال لما يريد وليس في كون المنى مستلًا من جميع أجزاء البدن ما يخرج الحوالة على قدرته ومشيئته وحكمته بل ذلك أبلغ في الحكمة والقدرة
وأما قولكم لو كان المنى مستلًا من جميع الأعضاء لكان الولد يتشكل بشكلهما معًا فقد أجاب النبي عمن سأله عن ذلك بما شفى وكفى ففي صحيح البخاري من حديث انس رضي الله عنه قال بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله المدينة وهو في أرضه يحترف فأتاه وقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله فقال رسول الله ﷺ "أخبرني بهن آنفا جبريل" فقال عبد الله ذاك عدو اليهود من الملائكة "أما أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشى المرآة فسبق ماؤه كان الشبه لها" فقال أشهد أنك رسول الله فهذا جواب جبريل آمين رب العالمين لا جبريل الطبيب وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان عن النبي ﷺ "إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكر بإذن الله وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل آنث بإذن الله" وقد يتفق الماآن في الإنزال والقدر وذلك من أندر الأشياء فيخلق للولد ذكر كذكر الرجل وفرج كفرج المرأة فإذا شاء الله أن يغلب سلالة ماء الرجل على ماء المرأة أو سلالتها أمر ملك الأرحام بتصويره كذلك فإن ذلك لا يخل بحكمته ولا يخرق عادته ولو خرقها لم يخل بحكمة أحكم الحاكمين
وأما منعكم عموم اللذة فشبيه بالمكابرة والمجامع يجد عند الإنزال شيئًا قد استل من جميع بدنه وسمعه وبصره وقواه في قالب الرحم فيحس كأنه خلع قميصًا كان مشتملًا به ولهذا اقتضت حكمة الرب تعالى في شرعه وقدره أن أمره بالاغتسال عقيب ذلك ليخلف عليه الماء ما تحلل من بدنه من ماء وإذا اغتسل وجد نشاطًا وقوة وكأنه لم ينقص منه شيء فإن رطوبة الماء تخلف على البدن ما حللته تلك الحركة عن رطوباته وتعمل فيها الحرارة الأصلية عملها فتمد بها القوى التي ضعفت بالإنزال
وأما التشابه الواقع بين الظفر والشعر في الوالد والمولود ولم ينفصل بينهما شيء فما أبردها من شبهة فإن الظفر والشعر تابعان للأعضاء والمزاج الذي وقع فيه التشابه فاستتبع تشابه الأصل تشابه التبيع
وأما شبه المولود بالجد البعيد من أجداده فهو من أقوى الأدلة لنا في المسالة لأن ذلك الشبه البعيد لم يزل ينتقل في الأصلاب حتى استقر في صورة الولد وبها حصل الشبه
وأما قولكم إن تلك الأجزاء لا تخلو إما أن تكون موضوعة في المنى وضعها الواجب أولًا إلى آخره فجوابكم إنكم إن عنيتم أنها موضوعة بالفعل فليس كذلك وإن أردتم أنها موضوعة بالقوة فنعم وما المانع منه ويكون المنى حيوانًا صغيرًا بل كبيرًا بالقوة وبهذا ظهر الجواب عن قولكم إن المنى رطوبة سيالة لا تحفظ الوضع والترتيب وغاية ما يقدر أن ذلك جزء من أجزاء السبب الذي يخلق الله به الولد وجزء السبب لا يستقل بالحكم فالمستقل بالإيجاد مشيئة الله وحده والأسباب محال الظهور
* (فصل)
فإن قيل فهذا تصريح منكم بأن المرأة لها مني وأن منها أحد الجزئين اللذين يخلق الله منهما الولد وقد ظن طائفة من الأطباء أن المرأة لا مني لها؟
قيل هذا هو السؤال الذي أوردته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأم سلمة رضي الله عنها على النبي ﷺ
وأجابهما عنه بإثبات منى المرأة ففي الصحيح أن أم سليم رضي الله عنها قالت يا رسول الله
إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت
قال "نعم إذا رأت الماء"
فقالت أم سلمة أوتحتلم المرأة
فقال "تربت يداك فبم يشبهها ولدها"
وفيهما عن عائشة رضي الله عنها أن أم سليم رضي الله عنها سألت رسول الله ﷺ عن المرأة التي ترى في منامها ما يرى الرجل هل عليها من غسل؟
قال "نعم إذا رأت الماء"
قالت فقلت له أفترى المرأة ذلك؟
فقال رسول الله ﷺ
"وهل يكون الشبه إلا من ذلك إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه"
هذا لفظ مسلم.
وقد ذكر جالينوس التشنيع على أرسطاليس حيث قال إن المرأة لا مني لها فلنحرر هذه المسألة طبعًا كما حررت شرعًا فنقول:
منى الذكر من جملة الرطوبات والفضلات التي في البدن وهذا أمر يشترك بين الذكر والأنثى منه رأسًا يتخلق الولد وبواسطته يكون الشبه ولو لم يكن للمرأة منى لما أشبهها ولدها.
ولا يقال إن الشبه سببه دم الطمث فإنه لا ينعقد مع منى الرجل ولا يتحد به
وقد أجرى الله العادة بأن التوالد لا يكون إلا بين أصلين يتولد من بينهما ثالث ومني الرجل وحده لايتولد منه الولد ما لم يمازجه مادة أخرى من الأنثى وقد اعترف أرباب القول الآخر بذلك وقالوا لا بد من وجود مادة بيضاء لزجة للمرأة تصير مادة لبدن الجنين ولكن نازعوا هل فيها قوة عاقدة كما في منى الرجل أم لا وقد أدخل النبي في هذه المسألة في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث ثوبان مولاه حيث سأله اليهود عن الولد فقال "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا منى الرجل منى المرأة أذكر بإذن الله وإذا علا منى المرأة منى الرجل آنث بإذن الله" نعم لمنى الرجل خاصة الغلظ والبياض والخروج بدفق ودفع فإن أراد من نفى منى المرأة انتفاء ذلك عنها أصاب ومنى المرأة خاصته الرقة والصفرة والسيلان بغير دفع فإن نفى ذلك عنها أخطأ وفي كل من الماءين قوة فإذا انضم أحدهما إلى الآخر اكتسبا قوة ثالثة وهي من أسباب تكوين الجنين واقتضت حكمة الخلاق العليم سبحانه أن جعل داخل الرحم خشنًا كالسفنج وجعل فيه طلبًا للمني وقبولًا له كطلب الأرض الشديدة العطش للماء وقبولها له فجعله طالبًا حافظًا مشتاقًا إليه بالعطش فلذلك إذا ظفر به ضمه ولم يضيعه بل يشتمل عليه أتم الاشتمال وينضم أعظم انضمام لئلا يفسده الهواء فيتولى القوة والحرارة التي هناك بإذن الله ملك الرحم فإذا اشتمل على المني ولم يقذف به إلى خارج استدار على نفسه وصار كالكرة وأخذ في الشدة إلى تمام ستة أيام فإذا اشتد نقط فيه نقطة في الوسط وهو موضع القلب ونقطة في أعلاه وهي نقطة الدماغ وفي اليمين وهي نقطة الكبد ثم تتباعد تلك النقط ويظهر بينها خطوط حمر إلى تمام ثلاثة أيام أخر ثم تنفذ الدموية في الجميع بعد ستة أيام أخر فيصير ذلك خمسة عشر يومًا ويصير المجموع سبعة وعشرين يومًا ثم ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الضلوع والبطن عن الجبين وذلك في تسعة أيام فتصير ستة وثلاثين يومًا ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس ظهورًا بينًا في تمام أربعة أيام فيصير المجموع أربعين يومًا تجمع خلقة وهذا مطابق لقول النبي في الحديث المتفق على صحته "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا" واكتفى النبي بهذا الإجمال عن التفصيل وهذا يقتضي أن الله قد جمع فيها خلقها جمعًا خفيًا وذلك الخلق في ظهور خفي على التدريج ثم يكون مضغة أربعين يومًا أخرى وذلك التخليق يتزايد شيئًا فشيئًا إلى أن يظهر للحس ظهورًا لإخفاء به كله والروح لم تتعلق به بعد فإنها إنما تتعلق به في الأربعين الرابعة بعد مائة وعشرين يومًا كما أخبر به الصادق وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي إذا ليس في الطبيعة ما يقتضيه فلذلك حار فضلاء الأطباء وأذكياء الفلاسفة في ذلك وقالوا إن هذا مما لا سبيل إلى معرفته إلا بحسب الظن البعيد قال من وقف على نهايات كلامهم في ذلك دأب فيه حتى كل وهو صاحب الطب الكبير فذكر مناسبات خيالية ثم قال وحقيقة العلم فيه عند الله تعالى لا مطمع لأحد من الخلق في الوقوف عليه
قلت قد أوقفنا عليه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بما ثبت في الصحيحين "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد"
* (فصل)
ورأيت لبعض الأطباء كلاما ذكر فيه سبب تفاوت زمن الولادة فأذكره وأذكر ما فيه
قال إذا تم خلق الجنين في مدة معينة فإنها إذا زاد عليها مثلها تحرك الجنين فإذا انضاف إلى المجموع مثلاه انفصل الجنين قال فإذا تم خلقه في ثلاثين يومًا فإذا صار له ستون يومًا تحرك فإذا انضاف إلى الستين مثلاها صارت مائة وثمانين يومًا وهي ستة أشهر وهي مدة ينفصل لها الحمل وإذا تم خلقه في خمسة وثلاثين يومًا تحرك لسبعين وانفصل لسبعة أشهر وإذا تم خلقه لأربعين تحرك لثمانين وانفصل لثمانية أشهر وإذا تم لخمسة وأربعين تحرك لتسعين وانفصل لتسعة أشهر وعلى هذا الحساب أبدًا وهذا الذي ذكره هذا القائل يقتضي حركة الجنين قبل الأربعين وهذا خطأ قطعًا فإن الروح إنما تتعلق به بعد الأربعين الثالثة وحينئذ يتحرك فلا تثبت له حركة قبل مائة وعشرين يومًا وما يقدر من حركة قبل ذلك فليست حركة ذاتية اختيارية بل لعلها حركة عارضة بسبب الأغشية والرطوبات وما ذكره من الحساب لا يقوم عليه دليل ولا تجربة مطردة فربما زاد على ذلك أو نقص منه ولكن الذي نقطع به أن الروح لا تتعلق به إلا بعد الأربعين الثالثة وما يقدر من حركة قبل ذلك إن صحت لم تكن بسبب الروح والله أعلم.
* (فصل)
وأما أقل مدة الحمل فقد تظاهرت الشريعة والطبيعة على أنها ستة أشهر قال تعالى
﴿وَحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾وقال تعالى
﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَن أرادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ﴾وقال جالينوس كنت شديد الفحص عن مقادير أزمنة الحمل فرأيت امرأة واحدة ولدت في مائة وأربع وثمانين ليلة وزعم صاحب الشفاء أنه شاهد ذلك وأما أكثره فقال في الشفاء بلغني من حيث وثقت أن امرأة وضعت بعد الرابع من رأس الحمل ولدًا قد نبتت أسنانه وعاش.
* (فصل)
فإن قيل فما سبب الإذكار والإيناث؟
قيل الذي نختاره أن سببه مشيئة رب الفاعل باختياره وليس بسبب طبيعي وكل ما ذكر أصحاب الطبائع من الأنجاب فمنتقض مثل حرارة الرجل ورطوبته قالوا وفساد المزاج أيضًا يوجب إيلاد الإناث واستقامته توجب الإذكار وهذا تخليط وهذيان فليس للاذكار والإيناث إلا قول الله لملك الأرحام وقد استأذن يا رب ذكر يا رب أنثى يا رب شقي ام سعيد فما الرزق فما الأجل والأذكار والإيناث قرين السعادة والشقاوة والرزق والأجل
فإن قيل فتلك أيضًا بأسباب؟
قلنا نعم ولكن بأسباب بعد الولادة ولا سبب للاذكار والإيناث قبل الولادة
فإن قيل فما تصنعون بحديث ثوبان الذي رواه مسلم في صحيحه أن يهوديًا سأل النبي ﷺ عن الولد فقال "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا منى الرجل منى المرأة أذكر بإذن الله وإذا علا منى المرأة منى الرجل آنث بإذن الله" فقال اليهودي صدقت وإنك لنبي قيل هذا الحديث تفرد به مسلم في صحيحه وقد تكلم فيه بعضهم وقال الظاهر أن الحديث وهم فيه بعض الرواة وإنما كان السؤال عن الشبه وهو الذي سأل عنه عبد الله بن سلام في الحديث المتفق على صحته فأجابه بسبق الماء فإن الشبه يكون للسابق فلعل بعض الرواة انقلب عليه شبه الولد بالمرأة بكونه أنثى وشبه بالوالد بكونه ذكرا لا سيما والشبه التام إنما هو بذلك
وقالت طائفة الحديث صحيح لا مطعن في سنده ولا منافاة بينه وبين حديث عبد الله بن سلام وليست الواقعة واحدة بل هما قضيتان ورواية كل منهما غير رواية الأخرى.
وفي حديث ثوبان قضية ضبطت وحفظت قال ثوبان كنت قائمًا عند رسول الله ﷺ فجاء حبر من أحبار اليهود فقال السلام عليك يا محمد.
فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال لي لم تدفعني؟
فقلت ألا تقول يا رسول الله!
فقال اليهودي إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله.
فقال رسول الله ﷺ:
"إن اسمي محمدا الذي سماني به أهلي"
فقال اليهودي جئت أسألك، فقال رسول الله ﷺ:
"أينفعك شيء إن حدثتك"
قال أسمع بأذني فنكت رسول الله ﷺ بعود معه
فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟
فقال رسول الله ﷺ " هم في الظلمة دون الجسر"
قال فمن أول الناس إجازة؟
قال "فقراء المهاجرين"
قال اليهودي فما تحفتهم حتى يدخلوا الجنة؟
قال "زيادة كبد الحوت"
قال فما غذاءهم على أثرها؟
قال "ينحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من أطرافها"
قال فما شرابهم عليه؟
قال "من عين فيها تسمى سلسبيلا"
قال صدقت.
قال وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد إلا نبي أو رجل أو رجلان
قال "أينفعك إن حدثتك"
قال أسمع بأذني
قال جئت أسألك عن الولد؟
قال:"ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعَلا مني الرجل مني المرأة أذكر بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنث بإذن الله"
قال اليهودي لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف.
فذهب فقال رسول الله ﷺ
"لقد سألني هذا الذي سألني عنه وما لي علم به حتى أتاني به الله"
وأما حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله ﷺ المدينة فأتاه فقال:
إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟
وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟
ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟
ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟
فقال رسول الله ﷺ
"أخبرني آنفا جبريل"
فقال عبد الله ذاك عدو اليهود من الملائكة
فقال:" أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشى المرآة فسبقها ماؤه كان الشبه له وإذا سبقت كالشبه لها"
قال أشهد أنك رسول الله"
وذكر الحديث.
فتضمن الحديثان أمرين ترتب عليهما الأثران معا وأيهما انفرد ترتب عليه أثره فإذا سبق ماء الرجل وعلا أذكر وكان الشبه له وإن سبق ماء المرأة وعلا آنث وكان الشبه لها وإن سبق ماء المرأة وعلا ماء الرجل أذكر وكان الشبه لها ومع هذا كله فهذا جزء سبب ليس بموجب والسبب الموجب مشيئة الله فقد يسبب بضد السبب وقد يرتب عليه ضد مقتضاه ولا يكون في ذلك مخالفة لحكمته كما لا يكون تعجيزًا لقدرته وقد أشار في الحديث إلى هذا بقوله "أذكر وآنث بإذن الله" وقد قال تعالى
﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَن يَشاءُ إناثًا ويَهَبُ لِمَن يَشاءُ الذُّكُورَ أوْ يُزَوِّجُهم ذُكْرانًا وإناثًا ويَجْعَلُ مَن يَشاءُ عَقِيمًا إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِير﴾فأخبر سبحانه أن ذلك عائد إلى مشيئته وأنه قد يهب الذكور فقط والإناث فقط وقد يجمع للوالدين بين النوعين معًا وقد يخليهما عنهما معًا وأن ذلك كما هو راجع إلى مشيئته فهو متعلق بعلمه وقدرته وقد وهب الله آدم الذكور والإناث وإسرائيل الذكور دون الإناث ومحمدا الإناث دون الذكور سوى ولده إبراهيم وقال سليمان عليه السلام لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل امرأة منهن بغلام يقاتل في سبيل الله فطاف عليهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق ولد قال النبي ﷺ "والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون" فدل على أن مجرد الوطء ليس بسبب تام وإن كان له مدخل في السببية وأن السبب التام مشيئة الله وحده فهو رب الأسباب المتصرف فيها كيف شاء بإعطائها السببية إذا شاء ومنعها إياها إذا شاء وترتيب ضد مقتضاها عليها إذا شاء والأسباب هي مجاري الشرع والقدر فعليها يجري أمر الله الكوني والديني
فإن قيل فقد ظهر أن الولد مخلوق من الماءين جميعًا فهل يخلق منهما على حد سواء أم يكون الولد من ماء الأب وبعضه من ماء الأم قيل قد بين النبي هذه المسألة بأوضح بيان فقال الإمام أحمد في مسنده حدثنا حسين بن الحسين حدثنا أبو كريب عن عطاء بن السائب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال مر يهودي برسول الله وهو يحدث أصحابه فقالت قريش يا يهودي إن هذا يزعم انه نبي فقال لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي فجاء حتى جلس ثم قال يا محمد مم يخلق الإنسان؟
فقال "من كل يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم" فقام اليهودي فقال هكذا يقول من قبلك.
* (فصل)
فإن قيل قد ذكرتم أن تعلق الروح بالجنين إنما يكون بعد الأربعين الثالثة وإن خلق الجنين يجمع في بطن أمه أربعين يومًا ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك وبينتم أن كلام الأطباء لا يناقض ما اخبر به الوحي من ذلك فما تصنعون بحديث حذيفة بن أسيد الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي قال "يدخل الملك في النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول أي رب أشقي أم سعيد فيكتبان فيقول أي رب ذكر أو أنثى فيكتبان ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم يطوي الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص" قيل نتلقاه بالقبول والتصديق وترك التحريف ولا ينافي ما ذكرناه إذ غاية ما فيه أن التقدير وقع بعد الأربعين الأولى وحديث ابن مسعود يدل على أنه وقع بعد الأربعين الثالثة وكلاهما حق قاله الصادق وهذا تقدير بعد تقدير فالأول تقدير عند انتقال النطفة إلى أول أطوار التخليق التي هي أول مراتب الإنسان، وأما قبل ذلك فلم يتعلق بها التخليق والتقدير الثاني عند كمال خلقه ونفخ الروح فذلك تقدير عند أول خلقه وتصويره وهذا تقدير عقد تمام خلقه وتصويره وهذا أحسن من جواب من قال إن المراد بهذه الأربعين التي في حديث حذيفة الأربعين الثالثة وهذا بعيد جدًا من لفظ الحديث ولفظه يأباه كل الأباء فتأمله.
فإن قيل فما تصنعون بحديثه الآخر الذي في صحيح مسلم عن عامر بن واثلة أنه سمع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره فأتى رجلًا من أصحاب النبي يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري فحدثه بذلك من قول ابن مسعود وقال له وكيف يشقى رجل بغير عمل فقال له الرجل أتعجب من ذلك فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول
"إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكًا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على أمره ولا ينقص"
وفي لفظ آخر في الصحيح أيضًا سمعت رسول الله ﷺ بأذني هاتين يقول
"إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك الذي يخلقها فيقول يا رب اذكر أم أنثى أسوي أم غير سوي فيجعله الله سويًا أو غير سوي ثم يقول يا رب ما رزقه وما أجله وما خلقه ثم يجعله الله عز وجل شقيًا أو سعيدًا"
وفي لفظ آخر في الصحيح أيضًا
"أن ملكا موكلا بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئا بإذن الله لبضع وأربعين ليلة"
ثم ذكر نحوه.
قيل نتلقاه أيضًا بالتصديق والقبول وترك التحريف وهذا يوافق ما أجمع عليه الأطباء أن مبدأ التخليق والتصوير بعد الأربعين
فإن قيل فكيف التوفيق بين هذا وبين حديث ابن مسعود وهو صريح في أن النطفة أربعين يومًا نطفة ثم أربعين علقة ثم أربعين مضغة ومعلوم أن العلقة والمضغة لا صورة فيهما ولا جلد ولا لحم ولا عظم وليس بنا حاجة إلى التوفيق بين حديثه هذا وبين قول الأطباء فإن قول النبي معصوم وقولهم عرضة للخطأ ولكن الحاجة إلى التوفيق بين حديثه وحديث حذيفة المتقدم قيل لا تنافى بين الحديثين بحمد الله وكلاهما خارج من مشكاة صادقة معصومة وقد ظن طائفة أن التصوير في حديث حذيفة إنما هو بعد الأربعين الثالثة قالوا وأكثر ما فيه التعقيب بالفاء وتعقيب كل شيء بحسبه وقد قال تعالى
﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ بل قد قال تعالى
﴿ثُمَّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنا العِظامَ لَحْمًا﴾ وهذا تعقيب بحسب ما يصلح له المحل ولا يلزم أن يكون الثاني عقيب الأول تعقيب اتصال
وظنت طائفة أخرى أن التصوير والتخليق في حديث حذيفة في التقدير والعلم والذي في حديث ابن مسعود في الوجود الخارجي والصواب يدل على أن الحد ما دل عليه الحديث من أن ذلك في الأربعين الثانية ولكن هنا تصويران أحدهما تصوير خفي لا يظهر وهو تصوير تقديري كما تصور حين تفصل الثوب أو تنجر الباب مواضع القطع والتفصيل فيعلم عليها ويضع مواضع الفصل والوصل وكذلك كل من يضع صورة في مادة لا سيما مثل هذه الصورة ينشئ فيها التصوير والتخليق على التدريج شيئًا بعد شيء لا وهلة واحدة كما يشاهد بالعيان في التخليق الظاهر في البيضة
فهاهنا أربع مراتب أحدها تصوير وتخليق علمي لم يخرج إلى الخارج الثانية مبدأ تصوير خفي يعجز الحس عن إدراكه الثالثة تصوير يناله الحس ولكنه لم يتم بعد الرابعة تمام التصوير الذي ليس بعد إلا نفخ الروح
فالمرتبة الأولى علمية والثلاث الأخر خارجية عينية وهذا التصوير بعد التصوير نظير التقدير بعد التقدير فالرب تعالى قدر مقادير الخلائق تقديرًا عامًا قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وهنا كتب السعادة والشقاوة والأعمال والأرزاق والآجال الثاني تقدير بعد هذا وهو أخص منه وهو التقدير الواقع عند القبضتين حين قبض تبارك وتعالى أهل السعادة بيمينه وقال هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون وقبض أهل الشقاوة باليد الأخرى وقال هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون الثالث تقدير بعد هذا وهو أخص منه عند ما يمنى به كما في حديث حذيفة بن أسيد المذكور الرابع تقدير آخر بعد هذا وهو عند ما يتم خلقه وينفخ فيه الروح كما صرح به الحديث الذي قبله وهذا يدل على سعة علم الرب تبارك وتعالى وإحاطته بالكليات والجزئيات وكذلك التصوير الثاني مطابق للتصوير العلمي والثالث مطابق للثاني والرابع مطابق للثالث وهذا مما يدل على كمال قدرة الرب تعالى ومطابقة المقدور للمعلوم فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين
ونظير هذا التقدير الكتابة العامة قبل المخلوقات ثم كتابة ما يكون من العام إلى العام في ليلة القدر وكل مرتبة من هذه المراتب تفصيل لما قبلها وتنوع وكلام رسول الله يصدق بعضه بعضًا ويفسر بعضه بعضًا ويطابق الواقع في الوجود ولا يخالفه وإنما يخبر بما لا يستقل الحس والعقل بإدراكه لا بما يخالف الحس والعقل وإنما يعرفه الناس ويستقلون بإدراكه على أمر عيني يتعلق به الإيمان أو على حكم شرعي يتعلق به التكليف والله أعلم.
* (فصل)
فإن قيل أي عضو يتخلق أولًا قبل سائر الأعضاء قيل اختلف في ذلك على أربعة أقوال أحدها أنه القلب وهو قول الأكثرين والثاني أنه الدماغ والعينان وهو قول بقراط
والثالث الكبد وهو قول محمد بن زكريا والرابع أنه السرة وهو قول جماعة من الأطباء
قال أصحاب القلب لا شك أن في المنى قوة روحية بسبب تلك القوة سعد أن يكون إنسانًا وحاجته إلى الروح الذي هو مادة القوى أشد فلا بد أن يكون لذلك الروح مجمع خاص منه تنبعث إلى سائر الأعضاء فالجوهر الروحي أول شيء ينبعث من المنى ويجتمع في موضع واحد ويحيط به ما يتصل إليه ذلك الجوهر الروحي من جميع الجوانب فيجب أن يكون مجمعها هو الوسط وسائر الأجزاء يحيط به وذلك الوسط هو القلب
قالوا ولأن تمام البدن موقوف على الحرارة الغريزية التي بها البدن ولا بد أن يتقدم على ذلك العضو الذي منه القوة الغريزية التي بها ينمو وهو القلب
قالوا ولأن أفعال القوى إنما تتم بالروح وهي لا بد لها من متعلق تتعلق به ولا بد أن يتقدم متعلقها عليها وهو القلب
قالوا وهذا هو الأليق والإنسب بحكمة الرب تعالى فإن القلب ملك والأعضاء جنود له وخدم فإذا صلح القلب صلحت جنوده وإذا فسد فسدت وقد أشار النبي ﷺ في الحديث الصحيح إلى ما يرشد إلى ذلك فقال
"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي والقلب"
فما أولى هذه المضغة بأن تكون متقدمة في وجودها على سائر تبع لها في الوجود كما هي تبع لها في الصلاح والفساد
قالوا وقد شاهد أصحاب التشريح في المنى عند انعقاده نطفة في وسطه
قال أصحاب الدماغ شاهدنا الفراخ في البيض أول ما يتكون منها رأسها وسنة الله في بروز الجنين أول ما يبدو منه إلى الوجود رأسه
قال أصحاب الكبد لما كان المنى محتاجًا إلى قوة مغذية تزيد في جوهره حتى يصير بحيث يمكن أن تكون الأعضاء فيه كان أول الأعضاء وأسبقها إليه وهو محل القوة المغذية وهو الكبد
قال أصحاب السرة حاجة الجنين إلى جذب الغذاء أشد من حاجته إلى الأقوات وإدراكه ومن السرة يجذب الغذاء
وأولى هذه الأقوال القول الأول فإن القلب ومنزلته وشرفه ومحله الذي وضعه الله به يقتضي أنه المبدوء به قبل سائر الأعضاء المتقدم عليها بالوجود والله أعلم
* (فصل)
فإن قيل الجنين قبل نفخ الروح فيه هل كان فيه حركة وإحساس أم لا؟
قيل كان فيه حركة النمو والاغتذاء كالنبات ولم تكن حركة نموه وإغتذائه بالإرادة فلما نفخت فيه الروح انضمت حركة حسيته وإرادته إلى حركة نموه واغتذائه
فإن قيل قد ثبت أن الولد يتخلق من ماء الأبوين فهل يتمازجان ويختلطان حتى يصيرا ماء واحدًا أو يكون أحدهما هو المادة والآخر بمنزلة الأنفحة التي تعقده قيل هو موضع اختلف فيه أرباب الطبيعة فقالت طائفة منهم منى الأب لا يكون جزءًا من الجنين وإنما هو مادة الروح الساري في الأعضاء وأجزاء البدن كلها من منى الأم ومنهم من قال بل هو ينعقد من منى الأنثى ثم يتحلل ويفسد
قالوا ولهذا كان الولد جزءًا من أمه ولهذا جاءت الشريعة بتبعيته لها في الحرية والرق
قالوا ولهذا لو نرى فحل رجل على جارية آخر فأولدها فالولد لمالك الأم دون مالك الفحل لأنه تكون من أجزائها وأحشائها ولحمها ودمها وماء الأب بمنزلة الماء الذي يسقي الأرض
قالوا والحس يشهد أن الأجزاء التي في المولود من أمه أضعاف أضعاف الأجزاء التي فيه من أبيه فثبت أن تكوينه من منى الأم ودم الطمث ومنى الأب عاقد له كالأنفحة
ونازعهم الجمهور وقالوا إنه يتكون من مني الرجل والأنثى ثم لهم قولان:
أحدهما أن يكون من منى الذكر أعضاؤه وأجزاؤه ومن منى الأنثى صورته والثاني أن الأعضاء والأجزاء والصورة تكونت من مجموع الماءين وأنهما امتزجا واختلطا وصارا ماء واحدًا وهذا هو الصواب لأننا نجد الصورة والتشكيل تارة إلى الأب وتارة إلى الأم والله أعلم.
وقد دل على هذا قوله تعالى
﴿يا أيُّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى﴾ والأصل هو الذكر فمنه البدر ومنه السقي والأنثى وعاء ومستودع لولده تربيه في بطنها كما تربيه في حجرها ولهذا كان الولد للأب حكمًا ونسبًا وأما تبعيته للأم في الحرية والرق فلأنه إنما تكون وصار ولدا في بطنها وغذته بلبائها مع الجزء الذي فيه منها وكان الأب أحق بنسبه وتعصيبه لأنه أصله ومادته ونسخته وكان أشرفهما دينًا أولى به تغليبًا لدين الله وشرعه
فإن قيل فهلا طردتم هذا وقلتم لو سقط بذر رجل في أرض آخر يكون الزرع لصاحب الأرض دون مالك البذر
قيل الفرق بينهما أن البذر مال متقوم في أرض آخر فهو لمالكه وعليه أجرة الأرض أو هو بينهما بخلاف المنى فإنه ليس بمال ولهذا نهى الشارع فيه عن المعاوضة واتفق الفقهاء على أن الفحل لو نزا على رمكة كان الولد لصاحب الرمكة.
* (فصل)
فإن قيل فهل يتكون الجنين من ماءين وواطئين؟
قيل هذه مسألة شرعية كونية والشرع فيها تابع للتكوين وقد اختلف فيها شرعًا وقدرًا فمنعت ذلك طائفة وأبته كل الاباء وقالت الماء إذا استقر في الرحم اشتمل عليه وانضم غاية الانضمام بحيث لا يبقى فيه مقدار رسم رأس إبراة إلا انسد فلا يمكن انفتاحه بعد ذلك لماء ثان لا من الواطئ ولا من غيره.
قالوا وبهذا أجرى الله العادة أن الولد لا يكون إلا لأب واحد كما لا تكون الأم إلا واحدة وهذا هو مذهب الشافعي
وقالت طائفة بل يتخلق من ماءين فأكثر قالوا وانضمام الرحم واشتماله على الماء لا يمنع قبوله الماء الثاني فإن الرحم أشوق شيء وأقبله للمني
قالوا ومثال ذلك كمثال المعدة فإن الطعام إذا استقر فيها انضمت عليه غاية الانضمام فإذا ورد عليها طعام فوقه انفتحت له لشوقها إليه
قالوا وقد شهد بهذا القائف بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ولد ادعاه اثنان فنظر إليهما وإليه وقال ما أراهما إلا اشتركا فيه فوافقه عمر وألحقه بهما فوافقه على ذلك الإمام أحمد ومالك رضي الله عنهما
قالوا والحس يشهد بذلك كما ترى في جراء الكلبة والسنور تأتي بها مختلفة الألوان لتعدد آبائها وقد قال النبي ﷺ "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره"
يريد وطء الحامل من غير الواطئ.
قال الإمام أحمد الوطء يزيد في سمع الولد وبصره هذا بعد انقعاده.
فإن قيل فهل يمكن أن يخلق من الماء ولدان في بطن واحد؟
قيل: هذه مسألة التوأم وهو ممكن بل وقع وله أسباب أحدها كثرة المني فيفيض إلى بطن الرحم دفعات والرحم يعرض له عند الحركة الجارية للمنى حركات اختلاجية مختلفة فربما اتفق أن كان الجاذب للدفعة الأولى من المنى أحد جانبيه وللثانية الجانب الآخر ومنها أن بيت الأولاد في الرحم فيه تجاويف فيكون المنى كثيرًا فيغفل أحدها عن فضلة يشتمل عليها التجويف الثاني وهكذا الثالث قال أرسطو وقد يعيش للمرأة خمسة أولاد في بطن واحد وحكى عن امرأة أنها وضعت في أربع بطون عشرين ولدًا قال صاحب القانون سمعت بجرجان أن امرأة أسقطت كيسًا فيه سبعون صورة صغيرا جدًا قال أرسطو وإذا توأمت بذكر وأنثى فقلما تسلم الوالدة والمولود وإذا توأمت بذكرين أو انثيين فتسلم كثيرًا قال والمرأة قد تحبل على الحبل ولكن يهلك الأول في الأكثر فقد أسقطت امرأة واحدة اثنى عشر جنينًا حملًا على حمل وأما إذا كان الحمل واحدًا أو بعد وضع الأول فقد يعيشان والله أعلم
فإن قيل فما السبب المانع للحامل من الحيض غالبًا؟
قال الإمام أحمد وأبو حنيفة إن ما تراه من الدم يكون دم فساد لا حيض والشافعي وإن قال إنه دم حيض وهو إحدى الروايتين عن عائشة فلا ريب أنه نادر بالإضافة إلى الأغلب.
قيل دم الطمث ينقسم ثلاثة أقسام قسم ينصرف إلى غذاء الجنين وقسم يصعد إلى البدن وقسم يحبس إلى وقت الوضع فيخرج مع الولد.
وهو دم النفاس وربما كانت مادة الدم قوية وهو كثير فيخرج بعضه لقوته وكثرته والراجح من الدليل أنه حيض حكمه حكمه إذ ليس هناك دليل عقلي ولا شرعي يمنع كونه حيضًا واستيفاء الأدلة من الجانبين قد ذكرناه في مواضع آخر والله أعلم
فإن قيل فما السبب في أن النساء الحبالى يشتقن في الشهر الثاني والثالث إلى تناول الأشياء الغريبة التي لا يعتد بها طبًا قيل إن دم الطمث لما احتبس فيهن بحكمة قدرها الله وهي أن صرفه غذاء للولد ومقدار ما يحتاج إليه يسير فتدفعه الطبيعة الصحيحة إلى فم المعدة فيحدث لهن شهوة تلك الأشياء الغريبة
فإن قيل فكيف وضع الجنين في بطن أمه قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا؟
قيل هو معتمد بوجهه على رجليه وبراحتيه على ركبتيه ورجلاه مضمومتان إلى قدميه ووجهه إلى ظهر أمه وهذا من العناية الألهية أن أجلسه هذه الجلسة في المكان الضيق في الرحم على هذا الشكل وأيضًا فلو كان رأسه إلى أسفل لوقع ثقل الأعضاء الخسيسة على الأعضاء الشريفة وأدى ذلك إلى تلفه ولأنه عند محاولة الخروج إذا انقلب أعانته على الخروج فإنه إذا خرج أول ما يخرج منه رأسه لأن الرأس إذا خرج أولًا كان خروج سائر الأعضاء بعده سهلًا ولو خرج على غير هذا الوجه لكان فيه تعويق وعسر فإن الرجلين لو خرجتا أولا انعاق خروج الباقي وإن خرجت الرجل الواحدة أولًا انعاق عند الثانية وإن خرجتا معًا انعاق عند اليدين وإن خرجت الرجلان واليدان انعاق عند الرأس فكان يلتوي إلى خلف وتلتوي السرة إلى العنق فيألم الرحم ويصعب الخروج ويؤدي إلى مرضه أو تلفه
فإن قيل فما سبب الاجهاض الذي يسمونه الطرح قبل كمال الولد
قيل الجنين في البطن بمنزلة الثمرة في الشجرة وكل منهما له اتصاله قوى بالأم ولهذا يصعب قطع الثمرة قبل كمالها من الشجرة وتحتاج إلى قوة فإذا بلغت الثمرة نهايتا سهل قطعها وربما سقطت بنفسها وذلك لأن تلك الرباطات والعروق التي تمدها من الشجرة كانت في غاية القوة والغذاء فلما رجع ذلك الغذاء إلى تلك الشجرة ضعفت تلك الرطوبات والمجاري وساعدها ثقل الثمرة فسهل أخذها وكذلك الأمر في الجنين فإنه ما دام في البطن قبل كماله واستحكامه فإن رطوباته وأغشيته تكون مانعة له من السقوط فإذا تم وكمل ضعفت تلك الرطوبات وانتهكت الأغشية واجتمعت تلك الرطوبات المزلقة فسقط الجنين هذا هو الأمر الطبيعي الجاري على استقامة الطبيعة وسلامتها وأما السقوط قبل ذلك فلفساد في الجنين ولفساد في طبيعة الأم أو ضعفت الطبيعة كما تسقط الثمرة قبل إدراكها لفساد يعرض أو لضعف الأصل أو لفساد يعرض من خارج فإسقاط الجنين لسبب من هذه الأسباب الثلاثة فالآفات التي تصيب الأجنة بمنزلة الآفات التي تصيب الثمار فإن قيل فكيف يخرج من الرحم مع ضيقه ما هو أكبر منه بأضعاف مضاعفة
قيل هذا من أعظم الأدلة على عناية الرب تعالى وقدرته ومشيئته فإن الرحم لا بد أن ينفتح الانفتاح العظيم جدًا قال غير واحد من العقلاء ولا بد من انفصال يعرض للمفاصل العظيمة ثم تلتئم بسرعة أسرع من لمح البصر وقد اعترف فضلاء الأطباء وحذاقهم بذلك وقالوا لا يكون ذلك إلا بعناية إلهية وتدبير تعجز العقول عن إدراكه وتقر للخلاق العظيم بكمال الربوبية والقدرة
فإن قيل فما السبب في بكاء الصبي حالة خروجه إلى هذه الدار
قيل هاهنا سببان سبب باطن أخبر به الصادق المصدوق لا يعرفه الأطباء وسبب ظاهر فأما السبب الباطن فإن الله سبحانه اقتضت حكمته أن وكل بكل واحد من ولد آدم شيطانًا فشيطان المولود قد خنس ينتظر خروجه ليقارنه ويتوكل به فإذا انفصل استقبله الشيطان وطعنه في خاصرته تحرقًا عليه وتغيظًا واستقبالًا له بالعداوة التي كانت بين الأبوين قديمًا فيبكي المولود من تلك الطعنة ولو آمن زنادقة الأطباء والطبائعيين بالله ورسوله لم يجدوا عندهم ما يبطل ذلك ولا يرده وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ "صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان" وفي الصحيحين من حديثه أيضًا رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ
"ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخًا من نخسه إلا ابن مريم وأمه"
وفي لفظ آخر "يمسه حين يولد فيستهل صارخًا من مس الشيطان إياه" وفي لفظ " آخر كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولادته إلا مريم وابنها"
وفي لفظ للبخاري "كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه بأصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب"
والسبب الظاهر الذي لا نخبر الرسل بأمثاله لرخصه عند الناس ومعرفتهم له من غيرهم هو مفارقته المألوف والعادة التي كان فيها إلى أمر غريب فإنه ينتقل من جسم حار إلى هواء بارد ومكان لم يألفه فيستوحش من مفارقته وطنه ومألفه وعند أرباب الإشارات أن بكاءه إرهاص بين يدي ما يلاقيه من الشدائد والآلام والمخاوف وأنشد في ذلك:
ويبكي بها المولود حتى كأنه ∗∗∗ بكل الذي يلقاه فيها يهدد
وإلا فما يبكيه فيها وإنها ∗∗∗ لأوسع مما كان فيه وأرغد
ولهم نظير هذه الإشارة في قبض كفه عند خروجه إلى الدنيا وفي فتحها عند خروجه منها وهو الإشارة إلى أنه خرج إليها مركبًا على الحرص والطمع وفارقها صفر اليدين منها وأنشد في ذلك:
وفي قبض كف المرء عند ولادة ∗∗∗ دليل على الحرص الذي هو مالكه
وفي فتحها عند الممات إشارة ∗∗∗ إلى فرقة المال الذي هو تاركه
ولهم نظير هذه الإشارة في بكاء الطفل وضحك من حوله: أن الأمر سيبدل ويصير إلى ما يبكي من حوله عند موته كما ضحكوا عند ولادته وأنشد في ذلك:
ولدتك إذ ولدتك أمك باكيًا ∗∗∗ والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لعلك أن تكون إذا بكوا ∗∗∗ في يوم موتك ضاحكًا مسرورا
ونظير هذه الإشارة أيضًا قولهم إن المولود حين ينفصل يمد يده إلى فيه إشارة إلى تعجيل نزوله عند القدوم عليه بأنه ضيف من تمام إكرامه وتعجيل قراه فأشار بلسان الحال إلى ترك التأخير وربما مص أصبعه إشارة إلى نهاية فقره وأنه بلغ منه إلى مص الأصابع ومنه قول الناس لمن بلغ به الفقر غايته فهو يمص أصابعه وأنشد في ذلك:
ويهوى إلى فيه يمص بنانه ∗∗∗ يطالب بالتعجيل خوف التشاغل
ويعلمهم أني فقير وليس لي ∗∗∗ من القوت شيء غير مص الأنامل
ونظير هذه الإشارة أنه يحدث بالعجب ممن يظهر من الحدث:
ويحدث بين الحاضرين إشارة ∗∗∗ إلى أنه من حادث ليس يعصم
يقول وعندي بعدها أخواتها ∗∗∗ وما منكم إلا وذو العرش أرحم
ونظير هذه الإشارة أنه يضحك بعد الأربعين وذلك عندما يتعقل نفسه الناطقة ويدركها وفي ذلك قصاص من البكاء الذي أصابه عند ولادته وتأخر بعده لكي يتأسى العبد إذا أصابته شدة فالفرج كمأتم يطلبها في أثرها:
ويضحك بعد الأربعين إشارة ∗∗∗ إلى فرج وافاه بعد الشدائد
يقول هي الدنيا فتبكيك مرة ∗∗∗ وتضحك أخرى فاصطبر للعوائد
قالوا ويرى الأماني بعد ستين يومًا من ولادته ولكنه ينساها لضعف القوة الحافظة وكثرة الرطوبات وفي ذلك لطف به أيضًا لضعف قلبه عن التفكر فيما يراه:
ويرى بعين القلب إذ يأتي له ∗∗∗ ستون يوما رؤية الأحلام
لكنه ينساه بعد لضعفه ∗∗∗ عن ضبطه في يقظة ومنام
* (فصل)
ولما تكامل للنطفة أربعون يومًا فاستحكم نضجها وعقدتها حرارة الرحم استعدت لحالة هي أكمل من الأولى وهي الدم الجامد الذي يشبه العلقة ويقبل الصورة ويحفظها بانعقادها وتماسك أجزائها فإذا تم لها أربعون استعدت لحاقًا هي أكمل من الحالتين قبلها وهي صيرورتها لحمًا أصلب من العلقة وأقوى وأحفظ للمخ المودع فيها واللحم هو كسوتها والرباطات تمسك أجزاءها وتشد بعضها بعضًا والكبد الذي يأخذ صفو الغذاء فيرسله إلى سائر الأعضاء وإلى الشعر والظفر والأمعاء التي هي مجاري وصول الطعام والشراب إلى المعدة والعروق التي هي مجاري منفذه وإيصاله إلى سائر أجزاء البدن والمعدة التي هي خزانة الطعام والشراب وحافظته لمستحقيه والقلب الذي هو منبع الحرارة ومعدن الحياة والمستولي على مملكة البدن والرئة التي تروح عن البدن وتفيده الهواء البارد الذي به حياته واللسان الذي هو بريد القلب وترجمانه ورسوله والسمع الذي هو صاحب أخباره والبصر الذي هو طليعته ورائده والكاشف له عما يريد كشفه والأعضاء التي هي خدمه وخوله والرجلان تسعى في مصالحه واليد تبطش في حوائجه والأسنان تفصل قوته وتقطعه والعروق توصله إلى أربابه والذكر آلة نسله وأنثياه خزانة مادة النسل والكبد للغذاء وقسمته وهي في الحيوان بمنزلة شرش الشجر والنبات تجدب الغذاء وترسله إلى جميع الأجزاء وآلات الغذاء خدم له والقلب للأرواح الذي به حياة الحيوان وآلات النفس خدم له والدماغ معدن الحس والتصور والحواس خدم له والأنثيان معدن التناسل والذكر خدم لهما وهذه الأعضاء هي رأس أعضاء البدن
* (فصل)
وأما آلات الغذاء فثلاثة أقسام آلة تقبل الغذاء وتصلحه وتفرقه وترسله إلى جميع البدن وآله تقبل فضلاته وآلة تعين في إخراج ثفله وما لا منفعة في بقائه فالآلات القابلة هي الفم والمريء والبطن والكبد والعروق الموصلة إلى الكبد والعروق الموصلة منها إلى البدن.
* فصلوأما الآلات القابلة للفضلات فالمرارة تقبل ما لطف منها والطحال يقبل كثيفها والكلى والمثانة يقبلان المتوسط والكبد موضوعة في الجانب الأيمن وتأخذ يسيرًا للجانب الأيسر وهذا لحكمة بديعة وهي أن القلب في الجانب الأيسر أقرب وهو معدن الحار الغريزي فتجنب عند الكبد قليلًا لئلا يتأذى بحرارتها وجعل في أوعية الغذاء قوى خادمة له فالفم مع كونه يقطع الغذاء ويطحنه يحيله ويغيره والمرئ مع كونه منفذًا إلى المعدة يغيره تغييرًا ثانيًا والمعدة مع كونها خزانة حافظة له تنضجه وتطبخه وتغيره تغييرًا ثالثا وتهضمه وتنفي منه ما لا يصلح وتخرجه وتدفعه إلى مخرج الثفل فإن الطعام إذا استقر في المعدة اشتملت عليه وانضمت غاية الانضمام ثم أنضجته بحرارتها ثم تتولاه الكبد وتشتمل عليه وتقلبه دمًا خالصًا ثم تقسمه على جميع الأعضاء قسمة عدل لا جور فيها ولا حيف
ولما كانت المعدة حوض البدن الذي يرده أجزاء البدن من كل ناحية اقتضت الحكمة الإلهية جعلها في وسطه وخالص الغذاء يتأدى إلى الكبد من شعب كثيرة ويجتمع في موضع واحد واسع يسمى باب الكبد وجميع العروق التي تتصل بالمعدة والأمعاء والطحال تجتمع وترتقي إلى باب الكبد والمعدة تجذب الموافق ويبقى المخالف المنافي الذي عجزت قوتها عنه ثم إن الكبد تصفيه وتنقيه بعد إجتذابه مرة أخرى وتنفى عنه غير الموافق
وقد أعد الصانع الحكيم سبحانه لتنقية الدم من الكبد ثلاثة خدام فارهين قائمين بالمرصاد بلا كسل ولا فتور وقد وضع كلًا منها في المكان اللائق به ونصبه نصبة بها يكون أمكن من عمله ولما استقر الغذاء في المعدة وطبخته وأنضجته صارت فضلاته ثلاثة فضلة كالدردى الراسب وفضلة كالرغوة والزبد الطافي وفضلة مائية فجعل كل خادم من هذه الخدام الثلاثة على فضلة لا يتعداها إلى الأخرى ليجذبها من مجرى خادم الفضلة الخفيفة الطافية وهي للصفرة المرارة نصبها الرب تعالى فوق الكبد لأن المجتذب هو الفضلة الطافية ومكانها فوق مكان الدردى الراسب وخادم الفضلة التي هي كالدردى الراسب الطحال ونصبه الخلاق العظيم أسفل من باب الكبد حيث كان ما يجتذبه من أسفل ولم يكن في الجانب الأيمن لأن المعدة قد شغلت ذلك الجانب وكان الجانب الأيسر خاليًا فلم تعده فإذا نقى الدم من هاتين الفضلتين خدمه الخادم الثالث وهو الكبد وقد بقي أحمر نقي اللون مشرقًا نورانيًا ويصل إليها من عرق عظيم يسمى الأجوف ثم يوزع من هناك على جهات البدن العليا والسفلى في رواضع كثيرة العدد ما بين كبير وصغير ومتوسط كلها تتصل بالعرق الأجوف وتمتاز منه وما دام الدم في هذا العرق ففيه مائية غير محتاج إليها لأنها كانت بتركب الغذاء فلما وصل إلى مستقره استغنى عنها فاحتاج ولا بد إلى إخراجها ودفعها ولو لم يبادر إلى ذلك أضرت به فخلق الله سبحانه الكليتين يمتصان هذه الفضلة بعنقين طويلين كالأنبوبتين ويفرغانها في المثانة بعرقين آخرين وضعهما سبحانه أسفل من الكبد قليلًا حيث يكون أمكن لتخليص المائية كما تروق العصارات وأما المرارة فوضعها الله سبحانه فوق الكبد لأنها بمنزلة السفنجة أو القطنة التي يقطف بها الدهن عن وجه الرطوبات وأما الطحال فوضعه أميل إلى أسفل لأنه بمنزلة ما يجتذب الأشياء المصونة إذا رسبت
* (فصل)
إذا تنقى الدم من هذه الفضلات كلها وعملت فيه هذه الخدم بقواها التي أودعها الله فيها هذا العمل وأصلحته هذا الاصلاح عمل ملك الأعضاء والجوارح وهو القلب فيه عملًا آخر فقصده بحرارة أخرى وهي أقوى من حرارة الكبد
* (فصل)
وجعل سبحانه في المعدة أربع قوى قوة جاذبة للملائم وقوة منضجة له وقوة ممسكة له وقوة دافعة للفضلة المستغنى
عنها منه ورئيس هذه القوى هي القوة المنضجة وسائرها خدم لها وخصت المعدة عن سائر الأعضاء بأن أودع فيها قوة تحس بالعوز والنقصان وخاصتها تنبيه الحيوان لتناول الغذاء عند الحاجة وأما سائر الأعضاء فإنها تتغذى بالنبات باجتذاب الملائم إليها ولما احتاجت المعدة إلى قوة وحس بالعوز ولم يكن ذلك إلا من معدن الحواس وهو الدماغ أتاها روح لعصب عظيم فأنبت أكثرها في فمها وما يليه وباقيه مستقيًا حتى بلغ قعرها فإن قيل فما الحكمة في أن باعد الله سبحانه بين المعدة والفم وجعل بينهما مجرى طويلًا وهو المريء وهلا اتصلت المعدة بالفم واستغنت عن المريء؟
قيل هذا من تمام حكمة الخالق وفيه منافع كثيرة منها أن يحصل للغذاء تغير ما في طريق المجرى فيلطف قبل وصوله إليها ومنها بعده عن آلة التنفس لئلا تعوقه وتعوق الصوت والكلام وأن لا تنقلب المعدة إلى خارج عند شدة الجوع كما يعرض ذلك للحيوان الشره إذا كان قصير العنق
فإن قيل فلم كانت إلى الجانب الأيسر أميل منها إلى الجانب الأيمن؟
قيل ليتسع المكان على الكبد ولا ينحصر
فإن قيل فهلا كانت مستقيمة في وضعها بل مال أسفلها إلى الجانب الأيمن؟
قيل ليتسع المكان على الطحال حيث كان أخفض موضعًا من الكبد
فإن قيل فلم جعلت مستطيلة مدورة وجعلت مما يلي الصلب مسطحة؟ قيل لما وضعها الله بين الكبد والطحال جعلها مستطيلة وكانت مستديرة لتتسع للطعام والشراب وكان أسفلها أوسع من أعلاها لذلك وجعل لها مدخلا وهو المريء ومخرجها يسمى البواب وجعل البواب أضيق من المرئ لأن ما تبتلعه يكون أصلب وأخشن مما تخرجه فجعل مدخل الداخل أوسع من مخرج الخارج لإنضاجه في المعدة ولينه ولحكم آخر منها أن لا ينزل منه الطعام والشراب قبل نضجه ولتقوى المعدة على حبسه وليخرج أولًا فأولًا لا دفعة واحدة والمرئ يتسع بالتدريج حتى يبلغ المعدة ولذلك يظن أنه جزء منها وأما البواب فإن الجزء الضيق منه يتصل بأسفلها الذي هو أوسعها ثم يتسع على التدريج ليسهل خروج الفضلة
* (فصل)
والكبد منطبقة على المعدة محتوية عليها بزوائدها لتسخنها والطحال يسخنها من الباب الأيسر والصلب يسخنها من خلف والترائب من قدامها والترائب مؤلفة من طبقتين رقيقتين تنطبق إحداهما على الأخرى بشحم كثير وهو غشاء الأمعاء كلها ولباسها ثم غشى البطن كله بغشاء واحد يقي الأحشاء ويمنع من انفتاح المعدة والأمعاء بالرياح ويربط جملة آلات الغذاء ولم يجعل في الكبد تجويف كتجويف القلب لتحتوي على الدم احتواء ممكنا وتحيله حال بليغة وللكبد ثلاث شباك من العروق شبكة بينها وبين المعدة والأمعاء وشبكة في مفرعها وشبكة في مجذبها فالشبكة الأولى تجذب الغذاء وتحيله بعد أن أحاله وفي الشبكة الثانية يصير دمًا وفي الشبكة الثالثة يزداد صفاء وترويقا وللكبد بالقلب والدماء اتصال بشظلة من العصب خفية كنسج العنكبوت
ولما كانت النفس المعدية بمنزلة حيوان عاد وحشي وكل جسم يموت فلا بد أن تتصل به هذه النفس وتغذوه بخلاف النفس المفكرة التي محلها الدماغ وبخلاف النفس الغضبية التي محلها القلب فالنفس المفكرة تستعين بالنفس الغضبية على تلك النفس الحيوانية العادية الوحشية فاقتضت حكمة الخالق سبحانه أن وصل بين محل هذه الأنفس الثلاثة ليذعن بعضها لبعض
ولا تنكر تسمية هذه القوى نفوسًا فليس الشأن في التسمية فأنت تجد فيك نفسًا حيوانية تطلب الطعام والشراب ونفسًا مفكرة سلطانها على التصور والعلم والشعور ونفسًا غضبية سلطانها على الغضب والإرادة وتضرب كل واحدة منها فيما جعلت إليه وبعضها عون لبعض فمحل النفس الحيوانية الكبد ومحل المفكرة الدماغ ومحل الغضبية القلب
* (فصل)
وتأمل الحكمة في أن جعلت صفاقات عروق الكبد أرق من صفاقات سائر عروق البدن لينفذ إلى الكبد جوهر الدم بسرعة وهي مع ذلك غير محتاجة إلى الوقاية لأن الكبد تحوزها بلحمها وإنما وضعت مجاري المرة الصفراء بعد العروق التي تصعد الغذاء من المعدة وقبل العروق التي تأخذ الدم منها لأن هذا الموضع هو بين موضع كمال الطبخ وبين موضع انتقاله إلى العرق الأجوف وحينئذ يمكن انفصال المرة عن الدم وجمعت العروق كلها إلى عرق واحد هو الباب ثم عادت فتقسمت في مقعر الكبد ثم عادت فجمعت في مجدها إلى عرق واحد هو الباب ثم عادت فتقسمت في مقعر الكبد ثم عادت فجمعت في مجدها إلى عرق واحد وهو الأجوف لتجيد بقسميها إنضاج ما تحتوي عليه ولئلا ينفذ بسرعة وكذلك كل موضع احتيج فيه إلى طول مكث المادة هيء بقاؤها فيه بطول مسلكها وكثرة تعاريجه كما فعل في مجاري المنى وشبكة الدماغ وهذا شأن العروق الجواذب وأما العروق الضوارب فبالعكس من ذلك فإنها جمعت في مقعر الكبد دون مجده بها لأنه موضع الدم وحاجته إلى التغذية بالحرارة ماسة قال جالينوس ولا تقع العروق الضوارب في مجذب يعلم الخالق سبحانه أن جذبه الكبد لأنها تتحرك دائمًا بمجاورة الحجاب فيقوم لها ذلك مقام حركة العروق الضوارب وجعلت هذه العروق الضوارب رقاقًا لأنها إنما وضعت لترويح الكبد لا لتغذيتها ولا لاتصال روح إليها إذ ليس بالكبد حاجة إلى قبول روح حيواني كثير ولا يحتاج لحمها إلا إلى غذاء لطيف بخاري
* فصلوأحرز الصانع سبحانه موضع الكبد ووضعها بأن ربطها بالمعدة والأمعاء كلها بالعروق وبالغشاء الممدود على البطن الذي يشد جميعها ووصل بها رباطات من جميع النواحي وغشاؤها الرابط يتصل بالحجاب برباط قوي ورباط الكبد بالحجاب صلب وثيق لأن الكبد معلقة به وهو أصلب من غشاء الكبد لشدة الحاجة إلى صلابته لأنه يحرز الكبد والعرق الأجوف متى ناله آفة مات الحيوان كما تهلك أغصان الشجرة إذا أصاب ساقها آفة
وجعل أرق هذه الرباطات من خلف لشدة بالعظام وأغلظه من قدام حيث لا عظام هناك تقيه وهذا من شدة الأسر الذي قال الله تعالى فيها
﴿نَحْنُ خَلَقْناهم وشَدَدْنا أسْرَهُمْ﴾شد أوصالهم بالرباطات المحكمة وجعل خلقهم بعضه موصولًا ببعض ولما كان الحجاب آلة شريفة للنفس بوعد من العضوين المجاورين له وهما المعدة والكبد بمقدار حاجته لئلا يزحماه ويعوقاه عن فعله فبوعدت المعدة عنه بطول مجراها
* (فصل)
وأما الطحال فبعضهم يقول إنه لا نفع فيه وإنما شغل المكان به لئلا يبقى فارغًا فيميل أحد شقي البدن بثقل الكبد فجعل موازنًا للكبد
قلت وهذا غلط من وجه وصواب من وجه أما الصواب فمن الحكم العجيبة جعل الطحال في الجانب الأيسر على موازنة الكبد لئلا يميل الشق الأيمن بها ولا يمكن أن تقوم المعدة بموازنة الكبد لأنها دائما تمتلئ وتخلو فتارة تكون أخف من الكبد وتارة أرجح منها فيصير البدن مترجحًا أو يميل إلى شق الكبد وقتًا وإلى شق المعدة وقتًا آخر فجعل الخالق سبحانه الطحال يوازن الكبد وجعل المعدة بينهما في الوسط لئلا يثقل جانب ويخف جانب آخر عند امتلائها وخلوها فلما جعلت وسطًا لم يختلف وضع البدن باختلافها
وأما الغلط فقوله إنه لا منفعة فيه وإنما يشغل المكان لئلا يبقى فارغًا فإنه وإن لم يعلم فيه منفعة لم يكن له أن ينفيها فإن عدم العلم بالمنفعة لا يكون علمًا بعدمها ولا شيء في البدن خال عن المنفعة ألبتة وفي الطحال من المنافع أنه يجذب الفضلة الغليظة العكرة السوداء من الكبد نوعًا من جنس العروق كالعنق له فإذا حصلت تلك الفضلة عنده أنضجها وأحالها وهو ينضج غليظ الدم وعكره كما ينضج قولون غليظ الغذاء ويابسه ويستعمل في فعله العروق والضوارب الكثيرة المبثوثة فيه كلها فما نضج واستحال إلى طبيعته صار غذاء له ومالم يمكن أن ينقلب إلى الدم الموافق له قذفه إلى المعدة بعنق آخر من جنس العروق وإنما أمكنه جذب الفضل الأسود بقوة لحميته لأنه رخو متحلحل خفيف كالاسفنج ولما اتصلت به العروق الضوارب الكثيرة استغنى بها عن إنضاج الفضول السوداء ليبقى لحمه خفيفًا متحلحلًا لأن دم الشرايين رقيق لطيف قريب طبيعته البخار فما اغتذى به كان نحيفًا كالرئة ولكن الرئة تغتذي بما صفا ورق وأشرق وكان أحمر ناريًا وكذلك الرئة كانت أخف وزنًا منه وأسخف جرمًا ومائلة إلى البياض وأما الطحال فيغتذي بماء لطيف من الخلط الأسود المنطبخ في الشرايين فيستريح منه البدن ويغتذي به الطحال فالطحال يغتذي بغذاء لطيف من غذاء الكبد لأنه يرشح إليه من الشرايين التي صفا فأيهما يحبه جدًا ولأجل سواد تلك الفضلة وكونها عكرة في الأصل لم يكن لون الطحال أحمر ولا مشرقًا
فاما الكبد فتتغذى بدم غليظ فاضل يرشح إليها من العروق غير الضوارب فلجودة غذائها كان لونها أحمر ولفضلته كانت كثيفة فالكبد تغتذي بدم أحمر غليظ والطحال بدم أسود لطيف والرئة بدم صاف مشرق في غاية النضج قريب من طبيعة الروح فجوهر كل عضو على ما هو عليه غذاؤه ملائمًا له فالغاذي شبيه بالمغتذي في طبعه وفعله وهذا كما أن حكمة الله سبحانه في خلقه فيه جرت حكمته في شرعه وأمره حيث حرم الأغذية الخبيثة على عباده لأنهم إذا اغتذوا بها صارت جزءًا منهم فصارت أجزاؤهم مشابهة لأغذيتهم إذ الغاذي شبيه بالمغتذي بل يستحيل إلى جوهره فلهذا كان نوع الإنسان أعدل أنواع الحيوان مزاجًا لاعتدال غذائه وكان الإغتذاء بالدم ولحوم السباع يورث المغتذي بها قوة شيطانية سبعية عادية على الناس فمن محاسن الشريعة تحريم هذه الأغذية وأشباهها إلا إذا عارضها مصلحة أرجح منا كحال الضرورة ولهذا لما أكلت النصارى لحوم الخنازير أورثها نوعًا من الغلظة والقسوة وكذلك من أكل لحوم السباع والكلاب صار فيه قوتها ولما كانت القوة الشيطانية عارضة ثابتة لازمة لذوات الأنياب من السباع حرمها الشارع ولما كانت القوة الشيطانية عارضة في الإبل أمر بكسرها بالوضوء لمن أكل منها ولما كانت الطبيعة الحمارية لازمة للحمار حرم رسول الله لحوم الحمر الأهلية ولما كان الدم مركب الشيطان ومجراه حرمه الله تعالى تحريمًا لازمًا
فمن تأمل حكمة الله سبحانه في خلقه وأمره وطبق بين هذا وهذا فتحا له بابًا عظيمًا من معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته وهذا هو الذي حركنا لبسط القول في هذا المقام الذي لا يكاد يرى فيه إلا أحد الطريقين طريق طبيب معترض للوحي مقلد لبقراط وطائفته قد عبرت عينه على الرسل وما جاءوا به وهو ممن قال تعالى فيه
﴿فَلَمّا جاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهم مِنَ العِلْمِ وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ وطريق من يجحد ذلك كله ويكذب قائله ويظن منافاته للشريعة فيجحد حكمة الله تعالى في خلقه وإبداعه في صنعه وكلا الطريقين مذموم وسالكه من الوصول إلى الغاية محروم فلا نكذب بشرع الله ولا نجحد حكمة الله وأكثر ما أفسد الناس أنهم لم يروا إلا طبائعيًا زنديقًا منحلًا عن الشرائع أو متساهلًا قادحًا فيما جرت به حكمة الله ومشيئته في خلقه منكرًا للقوى والطبائع والأسباب والحكم والتعليل فإذا أراد الأول أن يدخل في الإسلام صده جهل هؤلاء ومكابرتهم للقول والحس وإذا أراد الآخر أن يدخل في معرفة الحكم والغايات وما أودع الله في مخلوقاته من المنافع والقوى والأسباب صده زنادقة هؤلاء وكفرهم وإعراضهم عما جاءت به الرسل وقدحهم فيما عندهم من العلم فيختار دينه على عقله ويختار ذلك عقله وما استقر عنده مما لا يكابر فيه حسه ولا عقله على الدين وهذا قد بلى خلق الأطباء والطبائعيين فهو عنده أحد أنواع أدلة التوحيد والمعاد وصفات الخالق وما أخبرت به الرسل هو من أظهر أدلته ولا يزداد الباطن فيه إلا إيمانًا وما أخبرت به الرسل لا يناقض ما جرت به عادة الله وحكمته في خلقه من نصب الأسباب وترتيب مسبباتها عليها بعلمه وحكمته فمصدر خلقه وأمره علمه تعالى وحكمته وآلاء الرب تعالى لا تتعارض ولا تتناقض ولا يبطل بعضها بعضا والله أعلم.
* فصلوالكبد والطحال متقابلان والمعدة بينهما والعروق الضوارب تتصل بها المعدة والقلب بمنزلة التنور أو بمنزلة أتون الحمام يسخن ماءه وله إلى كل بيت منفذ ينفذ منه وهج النار إليه وكذلك الحار الغريزي الذي منبعه من القلب ينفذ في مسالك ومنافذ إلى جميع الأعضاء فيسخنها
* (فصل)
وجعلت الأعضاء مسلكًا مؤديًا والمعدة هي الآلة لهضم الغذاء واستمرائه والأمعاء تؤدي ذلك إلى الكبد ولما كانت الأمعاء آلة الأداء والإتصال كثرت لفائفها وطولها وكانت العروق التي تأتيها من الكبد لا تحصى كثرة لينفذ فيها الغذاء أولًا فأولًا وتفيضه يسيرًا يسيرًا فلولا تطويل لفائف الأمعاء لكان يخرج قبل أخذ خاصيته وكان يعرض إليهم بشهوة الأكل دائمًا وكان الإنسان يعدم التفرغ لمصالحة وسائر أعماله وكان دائمًا مكبًا على الغذاء ولهذا صار الحيوان الذي ليس لامعائه استدارات بل له معي واحد مستقيم مكبًا على الغذاء دائمًا عديم الصبر عنه كالفيل وأما مالأمعائه استدارات فإنه إذا فارقه الغذاء أو بعضه في الإستدارة الأولى صادفه في الثانية فإن هو فاته في الثانية صادفه في الثالثة والرابعة والخامسة كذلك فيمكن صبره على الغذاء حكمة بالغة وما ينفذ إلى الأمعاء يبعث من العروق الضاربة ويأخذ من الغذاء جزءًا يسيرًا لطيفًا وأما العروق غير الضاربة فهي مجاري الغذاء بالحقيقة فأخذت أكثره وأما العروق الضاربة فجعلت مسلكًا للأرواح المنبعثة من القلب فاستغنت بقليل الغذاء وجعل للقلب وصلة بالأمعاء ليحسنها أولًا ويمدها بقوة الحار بإذن خالقه ثم يأخذ منها الجزء الملائم من الغذاء المستغنى عن فعل الكبد للطاقة جوهره فإن هذا الجزء لو حصل في الكبد لم يؤمن إحراقه وفساده فلا ينتفع به القلب ثم يأخذ منها عند شدة الحاجة وصدق المجاعة فيتعجل ذلك من أدنى المواضع ولذلك يشاهد من أكل مسنبة شديدة يحس بزيادة ونماء في كل أعضائه حتى يمر الطعام بالمعدة قبل استقراره فيها فسبحان من أتقن ما صنع
ولما كانت المعدة آلة هضم الغذاء والأمعاء آلة دفعه جعل للأمعاء طبقتان ليقوى دفعها بهما جميعًا وليكون حرزًا لها وحفظًا ولذلك من تعرض له قرحة الأمعاء بانجراد أحد الصفاقين يبقى الآخر سليمًا وجعلت الأمعاء الغلاظ لقذف الثفل والرقاق لتأذية الغذاء والسبب في أن صار الإنسان لا يحتاج إلى تناول الغذاء دائما كثرة لفائف أمعائه والسبب المانع من قذف الفضول دائمًا سعة الأمعاء الغلاظ التي تقوم لها مقام وعاء آخر شبيه بالمعدة في السعة كما أن المثانة وعاء للبول كذلك
* (فصل)
ونحن نذكر فصلًا مختصرًا في هذا الباب يجمع شتات ذلك بإيضاح وإيجاز إن شاء الله تعالى وبه الحول والقوة فنقول:
المريء موضوع خلف الحلقوم ومما يلي فقار الظهر وينتهي في ذهابه إلى الحجاب وهو مشدود برباطات فإذا أبعد مال إلى الجانب الأيسر واتسع وذلك المتسع هو المعدة وأسفلها يعود مائلا إلى اليمين والمعدة مقر طبخه وفمها هو المسدف منها ويسمونه الفؤاد وهذا من غلطهم إلا أن يكون ذلك اصطلاحًا خاصًا منهم والفؤاد عند أهل اللغة هو القلب قال الجوهري الفؤاد القلب وقال الأصمعي وفي الجوف الفؤاد وهو القلب وقد فرق بعض أهل اللغة بين القلب والفؤاد فقال الليث القلب مضغة من الفؤاد معلقة بالنياط وقالت طائفة مسدف القلب
وقال النبي ﷺ
"جاءكم أهل اليمن أرق قلوبًا وألين أفئدة"
ففرق بينهما ووصف القلب بالرقة والأفئدة باللين وأما كون فم المعدة هو الفؤاد فهذا لا نعلم أحدًا من أهل اللغة قاله وتأمل وصف النبي ﷺ القلب بالرقة التي هي ضد القساوة والغلظة والفؤاد باللين الذي هو ضد اليبس والقسوة فإذا اجتمع لين الفؤاد إلى رقة القلب حصل من ذلك الرحمة والشفقة والإحسان ومعرفة الحق وقبوله فإن اللين موجب القبول والفهم والرقة تقتضي الرحمة والشفقة وهذا هو العلم والرحمة وبهما كمال الإنسان وربنا وسع كل شيء رحمة وعلمًا فلنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول
المعدة مع المرئ ذات طبقتين لطيفتين واللحم في الطبقة الداخلة أقل ولهذا يغلب عليها البياض وهي عصبية حساسة وهي في الطبقة الخارجة أكثر ولهذا يغلب عليها الحمرة وهي مربوطة مع الفقار برباطات وثيقة وتنتهي من جهة قعرها إلى منفذ هو باب المعدة وبوابها يغلق عند اشتماله على الغذاء مدة هضمه ويقال لباطن جرم المعدة خمل المعدة
والأمعاء المصارين وهو جمع مصران بضم الميم وهو جمع مصير وسمي مصيرًا لمصير الغذاء إليه والسفلى يقال لها الاقتاب ومنه قوله ﷺ "فتندلق أقتاب بطنه"
والعليا أرق من السفلى لما تقدم من الحكمة.
فأعلى الرقاق يسمى الاثني عشر لأن مساحته اثنا عشر إصبعا ويليه المسمى بالصائم لقلة لبث الغذاء فيه لا لأنه يوجد أبدًا خاليًا كما ظنه بعضهم فإن هذا باطل حسًا وشرعًا كما سنذكره والثالث المسمى بالرقيق واللفائف وهو أطول الأمعاء وأكثرها تلافيف ولبث الغذاء فيه أطول والعروق التي تأتيه من الكبد أقل وأما اللذان قبله فمنتصبان في طول البدن قصيران ويقل لبث الغذاء فيهما وهو في الصائم أقل لبثًا وهذه الثلاثة تسمى الأمعاء العليا والأمعاء الرقاق وهي كلها في سعة البواب
وأما الدامع وهو الأول من الثلاثة السفلى فيسمى الأعور لأنه لا منفذ له بل هو كالكيس يخرج منه ما دخل من حيث دخل وحكمته سبحانه أنه يتم فيه ما يعسر هضمه من الأشياء الصلبة كما يتم ذلك في قوانص الطيور ووضعه في الجانب الأيمن
والخامس المسمى يقولون يبتدئ من الجانب الأيمن ويأخذ عرضًا إلى الأيسر ويحتبس فيه الثفل وربما يستقضي ما فيه
والسادس هو الآخر وهو المعي المستقيم لأنه مستقيم الوضع في طول البدن وهو واسع جدًا يجتمع فيه الثفل كما يجتمع البول في المثانة وعليه الفضلة المانعة لخروج الثفل بدون الإرادة
وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال
"المؤمن يأكل في معنى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء" فأطلق على المعدة اسم المعى تغليبًا ولمشابهتها بالأمعاء لكون كل واحد من الأمعاء والمعدة محلًا للغذاء وهذا لغة العرب كما يقولون القمران والعمران والركنان اليمانيان والشاميان والعراقيان ونظائر ذلك ولا سيما فإن تركيب الأمعاء كتركيب المعدة إذ هي مركبة من طبقتين لحمية خارجة وعصبية داخلة والطبقة الداخلة فيها لزوجات متصلة بها لتقيها من حر ألم البراز ورداءته كثيفة فلا تمسكه ولا يتعلق بها شيء منه ولما كان الكافر ليس في قلبه شيء من الإيمان والخير يغتذي به انصرفت قواه ونهمته كلها إلى الغذاء الحيواني البهيمي لما فقد الغذاء الروحي القلبي فتوفرت أمعاؤه وقواه على هذا الغذاء واستفرغت أمعاؤه هذا الغذاء وامتلأت به بحسب استعدادها وقبولها كما امتلأت به العروق والمعدة وأما المؤمن فإنه إنما يأكل العلفة ليتقوى بها على ما أمر به فهمته وقواه مصروفة إلى أمور وراء الأكل فغذا أكل ما يغذيه ويقيم صلبه إستغنى قلبه ونفسه وروحه بالغذاء الإيماني عن الاستكثار من الغذاء الحيواني فاشتغل معاه الواحد وهو قولان بالغذاء فأمسكه حتى أخذت منه الأعضاء والقوى مقدار الحاجة فلم يحتج إلى أن يملأ أمعاءه كلها من الطعام وهذا أمر معلوم بالتجربة وإذا قويت مواد الإيمان ومعرفة الله وأسمائه وصفاته ومحبته والشوق إلى لقائه في القلب استغنى بها العبد عن كثير من الغذاء ووجد لها قوة تزيد على قوة الغذاء الحيواني فإن كثف طباعك عن هذا وكنت عنه بمعزل فتأمل حال الفرح والسرور بتجدد نعمة عظيمة واستغناؤك مدة عن الطعام والشراب مع وفور قوتك وظهور الدموية على بشرتك وتغذية بالسرور والفرح ولا نسبة لذلك إلى فرح القلب ونعيمه وابتهاج الروح بقربه تعالى ومحبته ومعرفته كما قيل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ∗∗∗ عن الطعام وتلهيها عن الزاد
وقد قال ﷺ في الحديث المتفق على صحته
"إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني"
وصدق الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه فإن المقصود من الطعام والشراب التغذية الممسكة فإذا حصل له أعلى الغذاءين وأشرفهما وأنفعهما فكيف لا يغنيه عن الغذاء المشترك وإذا كنا نشاهد أن الغذاء الحيواني يغلب على الغذاء القلبي الروحي حتى يصير الحكم له ويضمحل هذا الغذاء بالكلية فكيف لا يضمحل غذاء البدن عند استيلاء غذاء القلب والروح ويصير الحكم له؟! وقد كان يمكث الأيام لا يطعم شيئًا وله قوة ثلاثين رجلًا ويطوف مع ذلك على نسائه كلهن في ليلة واحدة وهن تسع نسوة وهذا المسيح بن مريم حي لم يمت وغذاؤه من جنس غذاء الملائكة وأنت تشاهد المريض يمكث الأيام العديدة لا يأكل ولا يشرب لاشتغال نفسه بمحاربة المرض ومدافعته واكتفاء الطبيعة ببقية الغذاء الذي في الأمعاء والمعدة مدة الحرب فإذا وضعت الحرب أوزارها رأيت شدة طلبه للغذاء فالخائف والمحب والفرح والحزين والمستولي عليه الفكر لا تطالبه نفسه بشيء من الغذاء كالخالي من ذلك.
* (فصل)
والكبد عضو لحمي تتخلله عروق رقاق وغلاظ وعلى الكبد غشاء عصبي حساس يحيط بها وينثني إلى غلافه والكبد هي الأصل في الغذاء وآلات الغذاء خدم لها معينات.
فإن الإنسان لما كان كالشجرة المستقلة جعل له ما يقوم مقام النهر الجاري في أصول الشجرة يسقيها وهو الأمعاء والمعدة بمنزلة العين وتجري منها العروق مجرى السواقي وعروق الكبد المتصلة بالأمعاء بمنزلة عروق الشجرة المتصلة بأرض الساقية تمتص الماء منها وتؤديه إلى الشجرة وأغصانها وورقها وثمارها وهذه العروق تمص الماء من الطين والثرى وكذلك عروق الكبد تمتص صفو الماء وخالصه من كلوليته وتحيله إلى طبيعة الأعضاء كما تفعل عروق الشجرة وشكل الكبد شكل هلالي محدب من ظاهره مقعر من باطنه وهي تحت الأضلاع الخمس ولها خمس شعب يقال لها الزوائد تحتوي على المعدة كما تحتوي الكف بأصابعها على الشيء المقبوض ويقال للشعبة الصغيرة منها خاصة زائدة الكبد وفي الصحيح عن النبي ﷺ "إن سبعين ألفًا من أهل الجنة يأكلون من زيادة كبد الحوت الذي هو طعامهم" وهذا يدل على عظم قدر هذه الزائدة فما الظن بالكبد التي هي زائدته فكيف بالحوت الذي حواها
ومقعرها يسمى المورد لأنه يورد الغذاء من المعدة والأمعاء ويسمى باب الكبد ثم تتشعب هذه العروق من جانبيه بشعب تتصل بالأمعاء وتسمى الجداول لشبهها بالسواقي الصغار وتؤدي إلى نقرة عظيمة ولهذه الجداول أغشية من فوقها ومن تحتها فتستدير مع الأمعاء العروق المتصله بها وتسمى هذه الأغشية وما تحتويه المرابط.
* (فصل)
والعرق الثاني ينقسم في مجذبها إلى عروق صغار وأصغر منها حتى تبلغ غاية الرقة ثم تعود وتجتمع أول فأول على قياس ما تفرق وأخذ من كثرة إلى وحدة ومن رقة إلى غلظ حتى يجتمع منها العرق الخارج من الكبد المسمى بالأجوف ومنها يتأدى الدم إلى البدن كله وحين يخرج ينقسم إلى قسمين فيأخذ أحدهما نافذًا في الحجاب نحو القلب ويسمى الوتين قال أهل اللغة الوتين عرق يسقي القلب قال في الصحاح الوتين عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه وأصيب وتينه فهو موتون وقال الواحدي الوتين نياط القلب وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب إذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه وهذا قول جميع أهل اللغة وأنشدوا للشماخ:
إذا بلغتني وحملت رحلي ∗∗∗ عرابة فاشرقي بدم الوتين
وقال ابن عباس وجمهور المفسرين هو حبل القلب ونياطه وأما الأبهر الذي قال فيه النبي ﷺ:
"هذا أوان انقطاع أبهري"
فقال الجوهري الأبهر عرق إذا انقطع مات صاحبه وهما أبهران يخرجان من القلب ثم تتشعب منهما سائر الشرايين وأنشدوا للأصمعي:
وللفؤاد وجيب عند أبهره ∗∗∗ لدم الغلام وراء الغيب بالحجر
* (فصل)
والمرارة موضوعة على الكبد ولها مجريان أحدهما متصل بتقعير الكبد يجتذب المرة الصفراء والآخر متصل بالأمعاء العليا يصب في المرة ليغسلها ويجليها ويتصل منه السر بأسفل المعدة ليمتزج بالغذاء فيكون فيه معونة على هضمه
* (فصل)
والقوة التي وكلها الله سبحانه وتعالى بتدبير البدن من أعظم آياته الدالة عليه فإنها تفعل في الطعام والشراب الواردين عليه أفعالًا متنوعة من تقطيع وتفصيل وتمريخ وتحليل وتركب فمبدأ ذلك في الفم وهو تقطيعه بالأسنان ومضغه واختلاطه بالرطوبات التي فيه وانهضامه فيه انهضامًا تامًا ثم بعد ذلك عند وروده إلى المعدة تهضمه هضمًا آخر ويسمى الهضم الأول ويعيبها على هضمه ما يجاورها من الأعضاء فالكبد عن يمينها والطحال عن يسارها والقلب من فوقها والمريء أمامها والأمعاء السبل الموصلة إليها، والعروق الطرق المؤدية منها والحرارة النار الطابخة للطعام فيها والقوة الهاضمة والجاذبة والغاذية والدافعة خدم لها فإذا انهضم الطعام فيها صار كيلوسا شبيها بماء الكشك الثخين ثم نهتز صوبه ولطيفه فتقذفه العروق الرقاق الشعرية التي هي برقة الشعر وينجذب إلى الكبد فإذا ورد هذا اللطيف إلى الكبد اشتملت عليه بجملته فطبخته وهضمته وأحالته إلى جوهرها وصيرته دمًا ويسمى هذا الهضم الثاني ولما كان هذا الإنضاج والطبخ يشبه طبخ القدر علاه شيء كالرغوة والزبد وهو الصفراء ورسب منه شيء مثل العكر وهو السوداء وتخلف عن تمام النضج شيء بقي على فجوجته وهو البلغم والشيء الذي يصفى ويبقى من ذلك كله هو الدم فاندفع من الكبد في العرق الأعظم المعروف بالأجوف بعد أن تصفت عنه المائية إلى آلة البول فيسلك هذا الدم في الأوردة المتشعبة من الجوف ثم في جداول متثقبة من الأوردة ثم في سواقي متثقبة من الجدوال ثم في رواضع مشتقة من السواقي ثم في عروق رقاق شعرية ثم يرشح من أفواهها في الأعضاء لتغتذي به فتحله الأعضاء وتصيره لجوهرها فيصير في اللحم لحمًا وفي العظم عظمًا وفي العصب عصبًا وفي الظفر ظفرًا وفي الشعر شعرًا، وفي السمع والبصر وآلة الحس كذلك فتبارك من هذا صنعه في قطرة من ماء مهين.
* (فصل)
والدم هو الخليط الأصلي والغذاء الحقيقي للبدن والمخلف عليه بدل ما ينقص ويتحلل منه والأخلاط الآخر كالأبازير والتوابل وهي صنفان صنف لطيف وهو دم القلب وغليظ وهو دم الكبد ومثله مثل السلطان إذا كان وقورًا حليمًا ساكنًا عاشت به رعيته وإذا غضب واحتد قتل
* (فصل)
وأما البلغم فخليط فج مستعد لين يستكمل نضجه عند عوز الغذاء إذ تولته الحرارة الغريزية فهضمته وصيرته دمًا فيكون في المعدة والأمعاء وفي الكبد عند قصور الهضم وفيه من المنفعة أنه يرطب البدن ويبل المفاصل لسلس حركاتها ويخالط الدم في تغذية الأعضاء البلغمية المزاج كالدماغ
ولما كانت الأعضاء محتاجة أن يكون قريبًا منها لترطبها لم يجعل له عضو يختص به لا سيما والأعضاء تغتذي به إذا أعوزها الغذاء
* (فصل)
وأما الصفراء فخليط لطيف حار وحاجة البدن إليها في أن تخالط الدم وترقه بلطفها وتنفذه في المسالك الضيقة ولتعينه في تغذية الأعضاء الحارة اليابسة وما ينفصل عنها مما يستغني عنه يتصفى إلى المرارة لتأخذ نصيبها منه وما تستغني عنه المرارة تصبه إلى الأمعاء ليغسلها عن لطخة الأثفال ولزوجتها ولتدع عضل المقعدة فيحس بالحاجة إلى التبرز
* (فصل)
وأما المرارة السوداء فخليط بارد يابس وفيه من المنافع أنه ينفذ مع الدم في العروق ليشده ويقويه ويكفيه ويمسكه ويمنعه من سهولة الحرمة عند الحاجة إلى ذلك ويعينه على تغذية الأعضاء المحتاجة أن يكون في غذائها شيء من السوداء كالعظام وما اتصل منه وما استغنى عنه يصفى إلى الطحال فيصفيه الطحال جدًا ويتغذى به ثم يجلب ما يستغني عنه الطحال إلى فم المعدة فيدغدغه بالحموضة التي فيه فتتحرك الشهوة ويحس بالجوع فتطلب الأعضاء القصوى معلومها وراتبها من الأعضاء التي تليها وتطلبه الأعضاء التي تليها من التي تجاورها وهكذا حتى ينتهي الطلب إلى المعدة فالجوع طلب الأعضاء القصوى معلومها الأعضاء الدنيا
* فصلولما اقتضت حكمة الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره حيث كان بدن الإنسان مشبها في أحواله بالمدينة أن يوجد فيه أعضاء رئيسية تقوم بمصالحها كما تقوم رؤساء المدينة بمصالحها وتكون لها بمنزلة الولاة والأمراء وأعضاء تكون خادمة لهذه الأعضاء الرئيسية فإن الرئيس لا يكون رئيسا إلا بمرءوس وهي بمنزلة الشرط والجلاوزة والنقباء وأن يوجد فيها أعضاء كالرعية وهي قسمان ماله اتصال بالرؤساء وإن لم يكن له اتصال خدمة وما لا اتصال له بهم بل هو مستقل بنفسه فالأعضاء إذًا بهذا التقسيم أربعة أحدها الأعضاء الرئيسية المخدومة الثاني الأعضاء المرءوسة الخادمة الثالث الأعضاء المرؤوسة بلا خدمة الرابع الأعضاء التي ليست رئيسة ولا مرءوسة
* (فصل)
والأعضاء الرئيسية إنما استحقت الرياسة لشرفها إذ كانت هي الأصول والمعادن والمبادئ للقوى الأولية في البدن المضطر إليها في بقاء الشخص والنوع وهي بحسب بقاء الشخص ثلاثة القلب والكبد والدماغ وبحسب بقاء النوع أربعة الثلاثة المذكورة والأنثيان وأما القلب فهو الذي جعله الخلاق العليم قائمًا بأمر البدن كقيام الملك بالرعية وهو أول عضو يتحرك في البدن وآخر عضو يسكن منه وهو مبدأ جميع الخلق وما يلحلقه من صلاح أو فساد يتأذى منه إلى غيره من الأعضاء
وأما الكبد فهي العضو التي تقوم لحفظ الحياة إذ كانت هي التي تملأ الأعضاء بالغذاء ليبقى البدن محفوظًا ما أمكن بقاؤه
وأما الدماغ فهو العضو القائم بأمر الحس والإدراك وتكميل الحياة إذ فيه آلات الإحساس التي بها يعرف النافع من الضار الملائم من المنافر وبه صارت الحياة نافعة صالحة متجاوزة لزينة حياة النبات
وأما الأنثيان فهما اللذان يقومان لحفظ بقاء النوع
* (فصل)
وأما الأعضاء الخادمة كالرئة والشرايين الحاملة المؤدية من القلب الحرارة الغريزية والقوى والأرواح الحيوانية التي بها قوام البدن
فهذان خادما القلب والمعدة والأوردة خادمان للكبد والأوردة تنفذ الدم الغاذي والقوى إلى جميع البدن والكبد خادمة الدماغ وكذلك الأعصاب التي بها يحصل الحس والحركة والأنثيان يخدمهما الأعضاء المؤدية للمنى والمجاري المؤدية عنهما إلى مواضع التوالد
* (فصل)
وأما الأعضاء المرءوسة بلا خدمة فهي أعضاء مختصة بقوى لها طبيعة بها يتم تدبيرها ويستقيم أمرها ولا يدفع ذلك أنه يقبض عليها من الأعضاء الرئيسية قوى تمدها بإذن الله تعالى كالأذن والعين والأنف فإن كل واحد منها يقوم بأمر نفسه بما فيه من القوة الطبيعية التي أعطاها إياها الخالق سبحانه ولا يتم ذلك إلا بأن تأتيها قوة حساسة تنزل عليها من الدماغ بإذن الله تعالى
* (فصل)
وأما الأعضاء التي ليست برئيسة ولا مرءوسة فهي التي اختصت بقوى غريزية فيها من أصل الخلقة في أول التكوين ليتم بها قوام أمرها وتدبيرها في جلب المنافع ودفع المضار كالعظام والغضاريف وسائر الأعضاء المتشابهة الأجزاء مثل الرباطات والأعصاب والأوتار والشرايين والأوردة والأغشية واللحم والعظام كالأساس والأسطوانات لبناء هيكل البدن
فإن قيل هل في العظام قوة الإحساس وحياته أم لا قيل هذا موضع اختلف فيه أرباب الشريعة فيما بينهم وأرباب الطبيعة
فيما بينهم فقالت طائفة لا حياة في العظام وإن كان فيها قوة النمو والاغتذاء
قالوا إن الحياة إنما هي الروح الحيواني ولا حظ للعظام فيه
قالوا ولأن مركب الحياة إنما هو الدم المنبث في العروق والأعصاب واللحم ولهذا لم يكن للشعر ولا للظفر نصيب من ذلك ولهذا لم يألم الإنسان يأخذه
قالوا فحياة العظام والشعر حياة نمو واغتذاء وحياة أعضاء البدن حياة نمو وإحساس
قالوا ولهذا قلنا إن العظام لا تنجس بالموت لأنها لم يكن فيها حياة تزول بالموت قالوا وزوال النمو لا يوجب نجاسة ما فارقه بدليل يبس الزرع والشجر
قال آخرون الدليل على أن العظام تحلها الحياة قوله تعالى
﴿مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أنْشَأها أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ والحس يدل على ذلك أيضًا فإن العظم يألم ويضرب ويسكن وذلك نفس إحساسه
قالوا ولا يمكن إنكار كون العظام فيها قوة حساسة تحس بالبارد والحار
قال الآخرون الإحساس والألم ليس للعظم في نفسه وإنما هو لما جاوره من اللحم
قال المنازعون لهم هذا مكابرة ظاهرة فإن العظم نفسه يألم ولا سيما إذا تصدع ثم إن الأسنان والأضراس تحس بالألم الحار والبارد بأنفسها لا بمجاورها من اللحم ولهذا توسطت طائفة ثالثة وقالت عظام الأسنان خاصة لها الإحساس بخلاف سائر العظام وهؤلاء قد سلموا المسألة من مكان قريب فإن الذي دل على إحساس الأسنان وحياتها هو الدال على حياة سائر العظام والشبهة التي ذكروها لو صحت لمنعت من إحساس الأسنان
وأما حديث الطهارة والنجاسة فذاك لأمر آخر وراء الحياة
من نجسها بالموت سوى بينها وبين اللحم ومن لم ينجسها وهو الراجح في الدليل فذاك لعدم علة التنجيس فيها وإن الموت ليس بعلة النجاسة وإنما هو دليل العلة وسببها والعلة هي احتقان الفضلات في اللحم والعظم بريء من ذلك والدليل على هذا أن الشارع لم يحكم بنجاسة الحيوان النامي الذي لا نفس له سائلة لعدم احتقان الفضلات فيه فلان لا يحكم بنجاسة العظم أولى وأحرى فإن الرطوبات التي في الذباب والعقرب والخنفساء أكثر من الرطوبات التي في العظم
* (فصل)
والذي أحصاه المشرحون من العظام في البدن مائتان وثمانية وأربعون عظمًا سوى الصغار السمسميات التي أحكم بها مفاصل الأصابع والتي في الحنجرة وقد أخبر النبي أن الإنسان خلق من ثلاثمائة وستين مفصلًا فإن كانت المفاصل هي العظام فقد اعترف جالينوس وغيره بأن في البدن عظامًا صغارًا لم تدخل تحت ضبطهم وإحصائهم وإن كان المراد بالمفاصل المواضع التي تنفصل بها الأعضاء بعضها عن بعض كما قال الجوهري وغيره المفصل واحد مفاصل الأعضاء فتلك أعم من العظام فتأمله وإن السلاميات المذكورة في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقه فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة الحديث فالسلامي العظم وجمعه سلاميات فهنا ثلاثة أمور أعضاء وعظام ومفاصل وجعل الله سبحانه العظام أصلب شيء في البدن لتكون أسا وعمدة في البدن إذ كانت الأعضاء كلها موضوعة على العظام حتى القلب كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وهي حاملة للأعضاء والحامل أقوى من المحمول.
ولتكون وقاية وجنة أيضًا كالقحف فإنه وقاية الدماغ وعظام الصدر وقاية له وجعلت العظام كثيرة الفوائد ومنافع عديدة منها الحركة فإن الإنسان قد يحتاج إلى حركة بعض أجزائه دون بعض وقد يحتاج إلى حركة جزء من عضو
ومنها أنه لو كان على عظم واحد لكان إذا أراد أن يتحرك تحرك بجملته
ومنها أنه كان يتعذر عليه الصنائع والحل والربط
ومنها أنه إذا أصابه آفة عمت جميع البدن فجعلت العظام كثيرة ليكون متى نال بعضها آفة لم تسر إلى غيره وقام غيره من العظام مقامه في تحصيل تلك المنفعة
ومنها تعذر المنافع التي حصلت بسبب تعدد العظام ولولا كثرتها وتعددها لفاتت تلك المنافع
ومنها أن من العظام مايحتاج البدن إلى كبيره ومنها ما يحتاج إلى صغيره ومنها ما يحتاج إلى مستطيلة ومنها ما يحتاج إلى مجوفه ومنها ما يحتاج إلى محنيه ومنها ما يحتاج إلى مستقيمه ولا يحصل ذلك إلا بتعدد العظام
ومنها بديع الصنع وحسن التأليف والتركيب وغير ذلك من الفوائد
ثم شد الخالق بعضها إلى بعض بالرباطات والأسر المحكم ثم كساها لحما حفظًا لها ووقاية ثم كسى اللحم جلدًا صونًا له
ولما كانت الفضلات تنقسم إلى لطيفة وغليظة جعل الله سبحانه للغليظة منها مجارى تنجذب فيها إلى أسفل ويخرج منها خروجًا ظاهرًا للحس واما اللطيفة فهي الفضلات البخارية ولما كان من شأنها أن تصعد إلى فوق وتخرج عن البدن بالتحليل جعل في العظام العليا منها منافذ يتحلل منها البخار المتصاعد فلم تكن تلك المنافذ محسوسة لئلا يضعف صوان الدماغ وهو القحف بوصول الأجسام المؤذية إليه فجعل الدماغ مركبة من عظام كثيرة ووصل بعضها ببعض بوصل يقال لها الشئون ومنه قولهم فلان لم تجمع شئون رأسه ويشتمل الرأس بجملة أجزائه على تسعة وخمسين عظمًا وجعل القحف مستديرًا تامًا في مقدمه ومؤخره وجانبيه بمنزلة غطاء القدر وعظامه ستة وهي عظم اليافوخ وعظم الجبهة وعظم مؤخر الرأس والعظمان اللذان فيهما ثقبا السمع وفي كل واحد من الصدغين عظمان مصمتان
وعظام اللحى الأعلى أربعة عشر عظمًا ستة منها في محاجز العينين وإثنان للأنف وإثنان تحت الأنف وهما المثقوبان إلى الفم وإثنان في الوجنتين وإثنان تحت الشفة العليا
وأما العظم الشبيه بالوتد فهو واحد وهو كالقاعدة للرأس
وعظام اللحى الأسفل إثنان وهما متصلان في وسط الذقن، وبينهما بنيان ويتصلان من فوق باللحى الأعلى اتصالًا مفصليًا
والأسنان إثنان وثلاثون في كل لحى ستة عشر أربع ثنيات وتليها الرباعيات وتليها النابان ويليهما الأضراس خمسة من هنا وخمسة من هنا والنواجذ أول الأضراس وهما ناجذان في كل ناحية ناجذ وربما نقصت النواجذ في بعض الأفراد وكان في كل جانب أربعة أضراس
وقد سلم الله غذاء الإنسان إلى يده فتأخذه فتسلمه إلى شفتيه فتسلمه الشفتان إلى الأنياب والثنايا فتفصله ثم تسلمه إلى الأضراس فتسلمه وتطحنه ثم تسلمه إلى اللسان والفم فيعجنه ثم يسلمه إلى الحلقوم والمريء فيسلمه ويوصله إلى المعدة فتطبخه وتنضجه وتصلحه كما ينبغي ثم تسلمه إلى الكبد فيتسه منها ثم يرسل منه إلى كل عضو راتبه ومعلومه ثم تصب قربة الصفراء في المرارة السوداء في الطحال والثفل يخرجه عنها كما تقدم بيانه
* (فصل)
والرأس يقال بالعموم على ما يقله العنق بجملته ويقال بالخصوص على الفروة وهي جلدة الرأس حيث منبت الشعر والجمجمة العظم الذي يحوي الدماغ وهي مؤلفة من سبع قطع متقابلة تسمى القبائل وتسمى مواضع التآليف شئونًا ووسط الجمجمة
يسمى الهامة وحد الهامة من الجانبين قرن الرأس وحد الهامة من المقدم اليافوخ ومن المؤخر القمحدوة وهي ما يصيب الأرض من رأس المستلقي على ظهره ولها ثلاث حدود نقرة القفا والقذالان فنقرة القفا حدها من آخر الوسط والقذالان جانبا النقرة وقد تقدم تفصيل القبائل السبع
وسنظهر الجمجمة عما يحيط بها السمحاق وسطها غشاوتان إحداهما تلي الجمجمة وهو أثخنهما وأصلبهما والآخر يكتنف الدماغ ويحيط به ويخالطه ويقال لكل منهما أم الدماغ ويسميان الأمان ومنة الآمة والمأمومة التي فيها ثلث الدية وهي الجراحة التي تبلغ أم الدماغ ويقال لها تجويف الدماغ
وبطن وهي ثلاث بطون وبين بطني الدماغ اللذين في مؤخره ووسطه مجرى فيه قطعة من الدماغ مستطيلة شبيهة بالدودة ينسد ذلك المجرى وينفتح بها وتحت الدماغ سبلة مبسوطة مؤلفة من عروق ضوارب يتولد منها روح نفساني ينفذ إلى البطنين اللذين في مقدم الدماغ
وفي الدماغ البركة والحوض والقمع والدودة والبطون والأغشية ومبادئ الأعصاب ويحتوي الدماغ على ثلاث خزائن نافذ بعضها إلى بعض وتسمى بطونًا فالأولى في مقدمة تنقسم إلى قسمين والثانية في وسطه والثالثة في مؤخره وجوهر الدماغ مخي متزرد الشكل، كأنه زرد مجموع والروح النفساني مثبت في خلل الزرد والدماغ مقسوم في طوله لنصفين متضامين والتنصيف في مقدم الدماغ أظهر والغشاءان يدخلان في فصول الدماغ وتزريده والصلب منهما يدخل بطونًا بين جزءي البطن المقدم فيحجز بينهما وتحته مصفى كالبركة تسمى المعصرة تصب في العروق الدم المنضج وتنبعث في جداول تسقي البطن المقدم وتجتمع إلى عرقين كبيرين يحملان الدم إلى البطن الأوسط والمؤخر والبطن الأوسط كدهليز ومنفذ بين المقدم والمؤخر وسقفه معقود كالأزج والدماغ موضوع طولًا على زائدتين متقاربتين فيتماسان ويتباعدان إلى الإنفراج فيفتح الدهليز ويتراءى البطنان المقدم والمؤخر والجزء المؤخر أخفى تدويرًا من المقدم وأصغر زردًا وهو كرى الإستطالة ويستدق على التدريج حتى يسيل منه النخاع كالجدول من العين
وفي الدماغ مجريان أحدهما في آخر المقدم والمؤخر في الأوسط لدفع فضوله ويجتمعان عند منفذ واحد عميق أولهما في الغشاء الرقيق والآخر في الغشاء الصلب يأخذ إلى ضيق كالقمع
ولما كان الدماغ مبدأ حركات البدن إلى إرادته ولم يكن به حاجة إلى الحركة القوية فحوط عليه بسور من عظام بخلاف المعدة والكبد والرحم وسائر آلات الغذاء فإنها لما احتاجت إلى أن تتسع وتمتلئ بالغذاء فتحمل مرة بعد أخرى وأن تعصر الفضول فتخرجها، والعظم يمنع من ذلك ويكتفي فيه الفصل وحده فأحيط عليه بسور من عظم
وأما الصدر فإنه لما احتاج إلى الوثاقة بالعظام وإلى الحركة بالفصل ألف الصدر منهما وكان البطن أوسع من الصدر لما يحل بها من آلات الغذاء والتنفس والطحال والمريء وغيرها
* (فصل)
فاستقبل الآن النظر في نفسك وانظر إلى المبدأ الأول وهو النطفة التي هي قطرة مهينة ضعيفة لو تركت ساعة لبطلت وفسدت كيف أخرجها رب الأرباب من بين الصلب والترائب وكيف أوقع المحبة والألفة بين الذكور والإناث ثم قادهما بسلسلة المحبة والشهوة إلى الإجتماع ثم استخرج النطفة من الذكر بحركة الوقاع من أعماق العروق وجمعها في الرحم في قرارمكين لا تناله يد ولا تطلع عليه شمس ولا يصيبه هواء ثم صرف تلك النطفة طورًا بعد طور وطبقًا بعد طبق وغذاها بماء الحيض
وكيف جعل سبحانه النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء ثم جعلها مضغة ثم قسم أجزاء المضغة إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم في داخل الرحم في الظلمات الثلاث ولو كشف لك الغطاء لرأيت التخطيط والتصوير يظهر في تلك النطفة شيئًا بعد شيء من غير أن ترى المصور ولا آلته ولا قلمه فهل رأيت مصورا لا تحس آلته ولا تلاقيها
ثم تأمل هذه القبة العظيمة التي قد ركبت على المنكبين وما أودع فيها من العجائب وما ركب فيها من الخزائن وما أودع في تلك الخزائن من المنافع وما اشتملت علي هذه القبة من العظام المختلفة الأشكال والصفات والمنافع ومن الرطوبات والأعصاب والطرق والمجاري والدماغ والمنافذ والقوى الباطنة من الذكر والفكر والتخيل وقوة الحفظ ففيه القوة المفكرة والذاكرة والمخيلة والحافظة وهذه القوى مودعة في خزانتها مسخرة لمصالحها يستعملها ويستخدمها كيف أراد
فتأمل كيف دور سبحانه الرأس وشق سمعه وبصره وأنفه وفمه وكيف ركب كرته في بطن الأم من ثلاثة وعشرين عظمًا وخلق تلك العظام على كيفيات مختلفة وتأمل كيف انقلبت تلك النطفة اللينة الضعيفة إلى العظام الصلبة الشديدة
ثم تأمل كيف قدر سبحانه كل واحد من تلك العظام بشكل مخصوص بحيث حصل من مجموعها ما لو كان على خلافه لبطلت المنفعة وفات الغرض ثم ركب بعضها مع بعض بحيث حصل من مجموعها كرة الرأس على هذه الخلقة المخصوصة
ولما كان الرأس أشرف الأعضاء الإنسانية وأجمعها للقوى، والمنافع والآلات والخزائن اقتضت العناية الإلهية بأن صين بأنواع من الصيانات وذلك أن الدماغ يحيطه غشاء رقيق وفوق ذلك الغشاء غشاء آخر يقال له السمحاق ثم فوق ذلك الغشاء طبقة لحمية وفوق تلك الطبقة اللحمية الجلد ثم فوق الجلد الشعر فخلق سبحانه فوق دماغك سبع طبقات كما خلق فوق الأرض سبع سماوات طباقًا والمقصود من تخليقها الاحتياط في صون الدماغ من الآفات والدماغ من الرأس بمنزلة القلب من البدن وهو سبحانه قسمه في طوله ثلاثة أقسام وجعل القسم المقدم محل الحفظ التخيل والبطن الأوسط محل التأمل والتفكر والبطن الأخير محل التذكر الاسترجاع لما كان قد نسيه ولكل واحدة من هذه الأمور الثلاثة أمر مهم للإنسان لا بد له منه وأنه محتاج إلى التفهم والتفهيم ولو لم يكن حافظًا لمعاني التصورات وصورها بعد غيبتها لكان إذا سمع كلمة وفهمها شذت عنه عند مجيء الأخرى فلم يحصل المقصود من الفهم والإفهام فجعل له ربه وفاطره خزانة تحفظ له صور المعلومات حتى تجتمع له وتسمى القوة التي فيها القوة الحافظة ولا تتم مصلحة الإنسان إلا بها فإنه إذا رأى شيئًا ثم غاب عنه ثم رآه مرة أخرى عرف أن هذا الذي رآه الآن هو الذي رآه قبل ذلك لأنه في المرة الأولى ثبتت صورته في الحافظة ثم تتوارى عنه بالحجاب فلما رآه مرة ثانية صارت هذه الصورة المحسوسة مطابقة للصورة المعنوية التي في الذهن فحصل الجزم بأن هذا ذاك ولولا القوة الحافظة لما حصل ذلك ولما عرف أحدا أحدًا بعد غيبته عنه ولذلك إذا طالت الغيبة جدًا وانمحت تلك الصورة الأولى من الذهن بالكلية لم يحصل له العلم بأن هذا هو الذي رآه أولًا إلا بعد تفكر وتأمل
وقد قال قوم إن محل هذه الصور النفس، وقال قوم محلها القلب، وقال قوم محلها العقل.
ولكل فريق منهم حجج وأدلة وكل منهم أدرك شيئًا وغاب عنه شيء إذ الإدراك المذكور مفتقر إلى مجموع ذلك لا يتم إلا به
والتحقيق أن منشأ ذلك ومبدأه من القلب ونهايته ومستقره في الرأس وهي المسألة التي اختلف فيها الفقهاء هل العقل في القلب أو في الدماغ على قولين حكيا روايتين عن الإمام أحمد.
والتحقيق أن أصله ومادته من القلب وينتهي إلى الدماغ قال تعالى
﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ فَتَكُونَ لَهم قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها﴾فجعل العقل في القلب كما جعل السمع بالأذن والبصر بالعين وقال تعالى
﴿إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَن كانَ لَهُ قَلْب﴾قال غير واحد من السلف لمن كان له عقل
واحتج آخرون بأن الرجل يضرب في رأسه فيزول عقله ولولا أن العقل في الرأس لما زال فإن السمع والبصر لا يزولان بضرب اليد أو الرجل ولا غيرهما من الأعضاء لعدم تعلقهما بهما وأجاب أرباب القلب عن هذا بأنه لا يمتنع زواله بفساد الدماغ وإن كان في القلب لما بين القلب والرأس من الارتباط وهذا كما لا يمتنع نبات شعر اللحية بقطع الأنثيين وفساد القوة بفساد العضو قد يكون لأنه محلها وارتباطه بها والله أعلم.
وعلى كل تقدير فذلك من أعظم آيات الله وأدلته وقدرته وحكمته كيف ترتسم صورة السماوات والأرض والبحار والشمس والقمر والأقاليم والممالك والأمم في هذا المحل الصغير، والإنسان يحفظ كتبًا كثيرة جدًا وعلومًا شتى متعددة وصنائع مختلفة فترتسم كلها في هذا الجزء الصغير من غير أن يختلط بعض هذه الصور ببعض، بل كل صورة منهن بنفسها محصلة في هذا المحل وأنت لو ذهبت تنقش صورًا وأشكالًا كثيرة في محل صغير لاختلط بعضها ببعض وطمس بعضها بعضًا وهذا الجزء الصغير تنقش فيه الصور الكثيرة المختلفة والمتضادة ولا يبطل منها صورة صورة.
ومن أعجب الأشياء أن هذه القوة العاقلة تقبل ما تؤديه إليها الحواس فتجتمع فيها ثم تعيد كل حاسة منها فائدة الحاسة الأخرى مثاله أنك ترى الشخص فتعلم أنه فلان وتسمع صوته فتعلم أنه هو وتلمس الشيء فتعرفه وتشمه فتعرف أنه هو ثم تستدل بما تسمعه من صوته على أنه هو الذي رأيته فيغنيك سماع صوته عن رؤيته ويقوم لك مقام مشاهدته، ولهذا جوز أكثر الفقهاء شهادة الأعمى وبيعه وشراءه، وأجمعوا على جواز وطئه امرأته، وهو لم يرها قط اعتمادًا منه على الصوت بل لو كانت خرساء أيضًا وهو أطرش جاز له الوطء.
وقد جعل الله سبحانه بين السمع والبصر والفؤاد علاقة وارتباطًا ونفوذًا يقوم به بعضها مقام بعض ولهذا يقرن سبحانه بينهما كثيرًا في كتابه كقوله
﴿إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ وقوله تعالى
﴿وَجَعَلْنا لَهم سَمْعًا وأبْصارًا وأفْئِدَةً﴾ وقوله
﴿لَهم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ولَهم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ولَهم آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها﴾وهذا من عناية الخالق سبحانه بكمال هذه الصورة البشرية لتقوم كل حاسة منها مقام الحاسة الأخرى وتفيد فائدتها في الجملة لا في كل شيء
ثم أودع سبحانه قوة التفكر وأمره باستعمالها فيما يجدي عليه النفع في الدنيا والآخرة فركب القوة المفكرة من شيئين من الأشياء الحاضرة عند القوة الحافظة تركيبًا خاصًا فيتولد من بين هذين الشيئين شيء ثالث جديد لم يكن للعقل شعور به كانت مواده عنده لكن بسبب التركيب حصل له الأمر الثالث ومن هاهنا حصل استخراج الصنائع والحرف والعلوم وبناء المدن والمساكن وامور الزراعة والفلاحة وغير ذلك فلما استخرجت القوة المفكرة ذلك واستحسنته سلمته إلى القوة الإرادية العلمية فنقلته من ديوان الأذهان إلى ديوان الأعيان فكان أمرًا ذهنيًا ثم صار وجوديًا خارجيًا، ولولا الفكرة لما اهتدى الإنسان إلى تحصيل المصالح ودفع المفاسد، وذلك من أعظم النعم وتمام العناية الإلهية، ولهذا لما فقد البهائم والمجانين ونحوهم هذه القوة لم يتمكنوا مما تمكن منه أرباب الفكر.
ولما كان استخراج المطلوب بهذه الطريق يتضمن فكرًا وتقديرًا فيفكر في استخراج المادة أولًا ثم يقدرها ويفصلها ثانيًا كما يصنع الخياط يحصل الثوب ثم يقدره ويفصله ثانيًا
قال تعالى عن [الوحيد]
﴿ذَرْنِي ومَن خَلَقْتُ وحِيدًا وجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا وبَنِينَ شُهُودًا ومَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أنْ أزِيدَ كَلّا إنَّهُ كانَ لآياتنا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾فكرر سبحانه التقدير دون التفكر وذمه عليه دونه، وهذا منزل على مقتضى حال سواء فإنه بالفكر طالب لاستخراج المجهول وذلك غير مذموم، فلما استخراجه قدر له تقديرين تقديرًا كليًا وتقديرًا جزئيًا.
فالتقدير الكلي أن الساحر هو الذي يفرق بين المرء وزوجه.
والتقدير الجزئي أن الذي يفرق بين المرء وزوجه مذموم، فهاهنا تقدير بعد تقدير، فلهذا كرره سبحانه وذمه عليه.
وأما التفكر فإن الفكر طالب لمعرفة الشيء فلا يذم، بخلاف من قدر بعد تفكيره ما يوصله إلى تحقيق الباطل وإبطال الحق فتأمله.
* (فصل)
ثم انزلْ إلى العين وتأمل عجائبها وشكلها وخلقها وإيداع النور الباصر فيها وتركيبها من عشر طبقات وثلاث رطوبات.
ولكل واحد من هذه الطبقات والرطوبات شكل مخصوص ومقدار مخصوص لو لم يكن عليه لاختلت المصلحة المقصودة وجعل سبحانه موضع الأبصار في قدر العدسة ثم اظهر في تلك العدسة قدر السماء والأرض والجبال والبحار والشمس والقمر فانظر كيف اتسعت تلك العدسة أن يرتسم فيها ما لا نسبة لها إليه ألبتة وجعل تلك القوة الباصرة في جزء أسود فتأمل كيف قام الباصر بهذا الجزء الأسود
وجعل سبحانه الحدقة مصونة بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها وجعل شعر الأجفان أسود ليكون سواده سببًا لاجتماع النور الذي به الأبصار ويكون مانعًا من تفرقه ويكون أبلغ في الحسن والجمال
وخلق سبحانه لتحرك الحدقة أربعة وعشرين عضلة لو نقصت واحدة منهن لاختل أمر العين
ولما كانت العين شبيهة بالمرآة التي إنما ينتفع بها إذا كانت في غاية الصقالة والصفاء جعل سبحانه الأجفان متحركة إلى الانفتاح والأطباق أبدًا باختيار الإنسان وغير اختياره لتبقى الحدقة نقية صافية عن جميع الكدورات وجعل العينين بمنزلة المرآتين الصقيلتين اللتين تنطبع فيهما صور الأشياء الخارجة فيتأثر القلب ثم يظهر ما فيه عليهما فيتأثران به فهما مرآة لما في القلب يظهر فيهما ومرآة لما في الخارج تنطبع صورته فيهما فالعينان على القلب كالزجاجتين الموضوعتين في المرآة ولذلك يستدل بأحوال العين على أحوال القلب من رضاه وغضبه وحبه وبغضه ونفرته ومن أعجب الأشياء أن العين من ألطف أعضاء البدن وبغضه ونفرته ومن أعجب الأشياء أن العين من ألطف أعضاء البدن وهي لا تتأثر بالحر والبرد تأثر غيرها من الأعضاء الكثيفة ولو كان الأمر عائدًا إلى مجرد الطبيعة لكان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس لأن الألطف أسرع تاثرًا فعلم أن حصول هذه المصالح ليس هو بمجرد الطبع
* (فصل)
ثم اعدل إلى الأذنين وتأمل شقهما وخلقهما وإيداع الرطوبة فيهما ليكونا عونًا على إدراك السمع وجعلهما مرة لتمتنع الهوام عن الدخول في الأذن وحوطهما سبحانه بصدفتين يجمعان الصوت ويؤديانه إلى الصماخ وجعل في الصدفتين تعريجات لتطول المسافة فتنكسر حدة الصوت ولا تلج الهوام دفعة بل تكثر حركاتها فينتبه لها فيخرجها وجعل العينين مقدمتين والأذنين مؤخرتين لأن العينين بمنزلة الطليعة والكاشف والرائد الذي يتقدم القوم ليكشف لهم وبمنزلة السراج الذي يضيء للسالك ما أمامه وأما الأذنان فيدركان المعاني الغائبة التي ترد على العبد من أمامه ومن خلقه وعن جانبيه فكان جعلهما في الجانبين أعدل الأمور فسبحان من بهرت حكمته العقول
وجعل للعينين غطاء لأن مدرك الأذن الأصوات ولا بقاء لها فلو جعل عليهما غطاء لزال الصوت قبل ارتفاع الغطاء فزالت المنفعة المقصودة وأما مدرك العين فأمر ثابت والعين محتاجة إلى غطاء يقيها وحصول الغطاء لا يؤثر في الإدراك وقال بعض أهل العلم عينا الإنسان هاديان وأذناه رسولان إلى قلبه ولسانه ترجمان ويداه جناحان ورجلاه بريدان والقلب ملك فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث خبثت جنوده.
* (فصل)
ثم انزل إلى الأنف وتأمل شكله وخلقته وكيف رفعه سبحانه في وسط الوجنة بأحسن شكل وفتح فيه بابين وأودع فيهما حاسة الشم وجعله آلة لاستنشاق الهواء وإدراك الروائح على اختلافها فيستنشق بهما الهواء البارد والطيب فيستغنى بالمنخرين عن فتح الفم أبدًا ولولاهما لاحتاج إلى فتح فيه دائمًا وجعل سبحانه تجويفه واسعًا لينحصر فيه الهواء وينكسر برده قبل الوصول إلى الدماغ فإن الهواء المستنشق ينقسم قسمين شطرا منه وهو أكثره ينفذ إلى الرئة وشطرًا ينفذ إلى الدماغ ولذلك يضر المزكوم استنشاق الهواء البارد وجعل في الأنف أيضًا إعانة على تقطيع الحروف وجعل بين المنخرين حاجزًا وذلك أبلغ في حصول المنفعة المقصودة حتى كأنهما أنفان بمنزلة العينين والأذنين واليدين والرجلين وقد يصيب أحد المنخرين آفة فيبقى الآخر سالمًا وجعل تجويفه نازلًا إلى أسفل ليكون مصبًا للفضلات النازلة من الدماغ وستره بساتر أبدي لئلا تبدو تلك الفضلات في عين الرائي
تأمل منفعة النفس الذي لو قطع عن الإنسان لهلك وهو أربعة وعشرون ألف نفس في اليوم والليلة قسط كل ساعة ألف نفس
وتأمل كيف يدخل الهواء في المنخرين فينكسر برده هناك ثم يصل إلى الحلقوم فيعتدل مزاجه ثم يصل إلى الرئة فيصفي فيها من الغلظ والكدرة ثم يصل إلى القلب أصفى ما كان وأعدله فيروح عنه ثم ينفذ منه إلى العروق المتحركة ويتقدم إلى أقاصي أطراف البدن ثم إلى الرئة ثم إذا سخن جدًا وخرج عن حد الانتفاع به عاد عن تلك الأقاصي إلى البدن ثم إلى الرئة ثم إلى الحلقوم ثم إلى المنخرين ثم يخرج ويعود مثله وهكذا أبدًا فمجموع ذلك هو النفس الواحد وقد أحصى الرب عدد هذه الأنفس وجعل مقابل كل نفس منها ما شاء الله من الأحقاب في الجحيم أو في النعيم فما أسفه من أضاع ما هذا قيمته في غير شيء
* (فصل)
وهو سبحانه جعل القلب أمير البدن ومعدنا للحرارة الغريزية فإذا استنشق الهواء البارد وصل إلى القلب واعتدلت حرارته فيبقى هناك مدة فلما سخن واحتراق واحتاج إلى إخراجه ودفعه منه لم يضيع أحكم الحاكمين ذلك النفس ويخرجه بغير فائدة بل جعل
إخراجه سببًا لحدوث الصوت ثم جعل سبحانه في الحنجرة واللسان والحنك باختلافهما الصوت فيحدث الحرف ثم ألهم الإنسان أن يركب ذلك الحرف إلى مثله ونظيره فيحدث الكلمة ثم ألهمه تركيب تلك الكلمة إلى مثلها فيحدث الكلام
فتأمل هذه الحكمة الباهرة في إيصال النفس إلى القلب لحفظ حياته ثم عند الحاجة إلى إخراجه والاستغناء عنه جعله سببًا لهذه المنفعة العظيمة فتبارك الله أحسن الخالقين
وخلق سبحانه هذه المقاطع والحناجر مختلفة الأشكال فكما أنه لا تتشابه صورتان كذلك لا يتشابه صوتان من كل وجه بل كما يحصل الامتياز بين الأشخاص بالقوة الباصرة فكذلك يحصل بالقوة السامعة فيحصل الامتياز للأعمى والبصير
* (فصل)
ثم انزل إلى الصدر تر معدن العلم والحلم والوقار والسكينة والبر وأضدادها فتجد صدور العلية تعلو بالبر والخير والعلم والإحسان وصدور السفلة تغلي بالفجور والشرور والإساءة والحسد والمكر
ثم انفذ من ساحة الصدر إلى مشاهدة القلب تجد ملكًا عظيمًا جالسًا على سرير مملكته يأمر وينهى ويولى ويعزل وقد حف به الأمراء والوزراء والجند كلهم في خدمته إن استقام استقاموا وإن زاغ زاغوا وإن صح صحوا وإن فسد فسدوا فعليه المعول وهو محل نظر الرب تعالى ومحل معرفته ومحبته وخشيته والتوكل عليه والإنابة إليه والرضى به وعنه والعبودية عليه أولًا وعلى رعيته وجنده تبعًا فأشرف ما في الإنسان قلبه فهو العالم بالله الساعي إليه المحب له وهو محل الإيمان والعرفان وهو المخاطب المبعوث إليه الرسل المخصوص بأشرف العطايا من الإيمان والعقل وإنما الجوارح أتباع للقلب يستخدمها استخدام الملوك للعبيد والراعي للرعية والذي يسري إلى الجوارح من الطاعات والمعاصي إنما هي آثاره فإن أظلم أظلمت الجوارح وإن استنار استنارت ومع هذا فهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل
فسبحان مقلب القلوب ومودعها ما يشاء من أسرار الغيوب الذي يحول بين المرء وقلبه ويعلم ما ينطوي عليه من طاعته ودينه مصرف القلوب كيف أراد وحيث اراد أوحى إلى قلوب الأولياء أن أقبلي إلي فبادرت وقامت بين يدي رب العالمين وكره عز وجل انبعاث آخرين فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين كانت أكثر يمين رسول الله ﷺ
"لا ومقلب القلوب"
وكان من دعائه
"اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك" قال بعض السلف القلب أشد تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانها وقال آخر القلب أشد تقلبًا من الريشة بأرض فلاة في يوم ريح عاصف
ويطلق القلب على معنيين أحدهما أمر حسي وهو العضو اللحمي الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر وفي باطنه تجويف وفي التجويف دم أسود وهو منبع الروح والثاني أمر معنوي وهو لطيفة ربانية رحمانية روحانية لها بهذا العضو تعلق واختصاص وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسانية
وللقلب جندان جند يرى بالأبصار وجند يرى بالبصائر فأما جنده المشاهد فالأعضاء الظاهرة والباطنة وقد خلقت خادمة له لا تستطيع له خلافًا فإذا امر العين بالانفتاح انفتحت وإذا أمر اللسان بالكلام تكلم وإذا امر اليد بالبطش بطشت وإذا أمر الرجل بالسعي سعت وكذا جميع الأعضاء ذلك له تذليلا
ولما خلق القلب للسفر إلى الله والدار الآخرة وحصل في هذا العالم ليتزود منه افتقر إلى المركب والزاد لسفره الذي خلق لأجله فأعين بالأعضاء والقوى وسخرت له وأقيمت له في خدمته لتجلب له ما يوافقه من الغذاء والمنافع ويدفع عنه ما يضره ويهلكه فافتقر إلى جندين باطن وهو الإرادة والشهوة والقوى وظاهر وهو الأعضاء فخلق في القلب من الإرادات والشهوات ما احتاج إليه وخلقت له الأعضاء التي هي آلة الإرادة واحتاج في دفع المضار إلى جندين باطن وهو الغضب الذي يدفع المهلكات، وينتقم به من الأعداء وظاهر وهو الأعضاء التي ينفذ بها غضبه كالأسلحة للقتال ولا يتم ذلك إلا بمعرفته ما يجلب وما يدفع فأعين الجند من العلم بما يكشف له حقائق ما ينفعه وما يضره
ولما سلطت عليه الشهوة والغضب والشيطان أعين بجند من الملائكة وجعل له محل من الحلال ينفذ فيه شهواته وجعل بإزائه أعداء له ينفذ فيهن غضبه فما ابتلى بصفة من الصفات إلا وجعل لها مصرفًا ومحلًا ينفذها فيه فجعل لقوة الحسد فيه مصرفًا وهو المنافسة في فعل الخير والغبطة عليه والمسابقة إليه ولقوة الكبر مصرفًا وهو التكبر على أعداء الله تعالى وإهانتهم وقد قال النبي ﷺ لمن رآه يختال بين الصفين في الحرب "إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن" وقد أمر الله سبحانه بالغلظة على أعدائه
وجعل لقوة الحرص مصرفا وهو الحرص على ما ينفع كما قال النبي ﷺ "احرص على ما ينفعك" ولقوة الشهوة مصرفا وهو التزوج بأربع والتسري بما شاء ولقوة حب المال مصرفًا وهو إنفاقه في مرضاته تعالى والتزود منه لمعاده فمحبة المال على هذا الوجه لا تذم ولمحبة الجاه مصرفًا وهو استعماله في تنفيذ أوامره وإقامة دينه ونصر المظلوم وإغاثة الملهوف وإعانة الضعيف وقمع أعداء الله فمحبة الرياسة والجاه على هذا الوجه عبادة وجعل لقوة اللعب واللهو مصرفًا وهو لهوه مع امرأته أو بقوسه وسهمه أو تأديبه فرسه وكل ما أعان على الحق وجعل القوة التحيل والمكر فيه مصرفًا وهو التحيل على عدوه وعدو الله تعالى بأنواع التحيل حتى يراغمه ويرده خاسئًا ويستعمل معه من أنواع المكر ما يستعمله عدوه معه وهكذا جميع القوى التي ركبت فيه جعل لها مصرفًا وقد ركبها الله فيه لمصالح اقتضتها حكمته ولا يطلب تعطيلها وإنما تصرف مجاريها من محل إلى محل ومن موضع إلى موضع ومن تأمل هذا الموضع وتفقه فيه علم شدة الحاجة إليه وعظم الانتفاع به
* (فصل)
وجماع الطرق والأبواب التي يصان منها القلب وجنوده أربعة فمن ضبطها وعدلها وأصلح مجاربها وصرفها في محالها اللائقة بها استفاد منها قلبه وجوارحه ولم يشمت به عدوه وهي الحرص والشهوة والغضب والحسد فهذه الأربعة هي أصول مجامع طرق الشر والخير وكما هي طرق إلى العذاب السرمدي فهي طرق إلى النعيم الأبدي فآدم أبو البشر أخرج من الجنة بالحرص ثم أدخل إليها بالحرص ولكن فرق بين حرصه الأول وحرصه الثاني وأبو الجن أخرج منها بالحسد ثم لو يوفق لمنافسة وحسد يعيده إليها وقد قال النبي ﷺ:
"لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالًا وسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار"
وأما الغضب فهو غول العقل يغتاله كما يغتال الذئب الشاة وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته وإذا كان حرصه إنما هو على ما ينفعه وحسده منافسة في الخير وغضبه لله على أعدائه وشهوته مستعملة فيما أبيح له وعونًا له على ما أمر به لم تضره هذه الأربعة بل انتفع بها أعظم الانتفاع
* (فصل)
وإذا تأملت حال القلب مع الملك والشيطان رأيت أعجب العجائب فهذا يلم به مرة وهذا يلم به مرة فإذا ألم به الملك حدث من لمته الانفساح والانشراح والنور والرحمة والاخلاص والإنابة ومحبة الله وإيثاره على ما سواه وقصر الأمل والتجافي عن دار البلاء والامتحان والغرور فلو دامت له تلك الحالة لكان في أهنأ عيش وألذه وأطيبه ولكن تأتيه لمة الشيطان فتحدث له من الضيق والظلمة والهم والغم والخوف والسخط على المقدور والشك في الحق والحرص على الدنيا
وعاجلها والغفلة عن الله ما هو من أعظم عذاب القلب
ثم للناس في هذه المحنة مراتب لا يحصيها إلا الله فمنهم من تكون لمة الملك أغلب من لمة الشيطان وأقوى فإذا ألم به الشيطان وجد من الألم والضيق والحصر وسوء الحال بحسب ما عنده من حياة القلب فيبادر إلى طرد تلك الملة ولا يدعها تستحكم فيصعب تداركها فهو دائمًا في حرب بين اللمتين يدال له مرة ويدال عليه مرة أخرى والعاقبة للتقوى
ومنهم من تكون لمة الشيطان أغلب عليه وأقوى فلا تزال تغلب لمة الملك حتى تستحكم ويصير الحكم لها فيموت القلب ولا يحس ما ناله الشيطان به مع أنه في غاية العذاب والضيق والحصر ولكن سكر الشهوة والغفلة حجب عنه الإحساس بذلك الألم فإذا كشف أمكنه تداركه بالدواء وحسمه وإن عاد الغطاء عاد الأمر كما كان حتى ينكشف عنه وقت المفارقة للدنيا فتظهر حينئذ تلك الآلام والهموم والغموم والأحزان وهي لم تتجدد له وإنما كانت كامنة تواريها الشواغل فلما زالت الشواغل ظهر ما كان كامنا وتجدد له أضعافه
* (فصل)
والشيطان يلم بالقلب لما كان هناك من جواذب تجذبه وهي نوعان صفات وإرادات فإذا كانت الجواذب صفات قوى
سلطانه هناك واستفحل أمره ووجد موطئا ومقرا فتأتي الأذكار والدعوات والتعوذات كحديث النفس لا تدفع سلطان الشيطان لأن مركبه صفة لازمة فإذا قلع العبد تلك الصفات وعمل على التطهر منها والاغتسال بقي الشيطان بالقلب خطرات ووساوس ولمات من غير استقرار وذلك يضعفه ويقوي لمة الملك فتأتي الاذكار والدعوات والتعوذات فتدفعه بأسهل شيء
وإذا أردت لذلك مثالًا مطابقًا فمثله مثل كلب جائع شديد الجوع وبينك وبينه لحم أو خبز وهو يتأملك ويراك لا تقاومه وهو أقرب منك فأنت تزجره وتصيح عليه وهو يأبى إلا التحوم عليك والغارة على ما بين يديك فالأذكار بمنزلة الصياح عليه والزجر له ولكن معلومه ومراده عندك وقد قربته عليك فإذا لم يكن بين يديك شيء يصلح له وقد تأملك فرآك أقوى منه فإنك تزجره وتصيح عليه فيذهب وكذلك القلب الخالي عن قوة الشيطان ينزجر بمجرد الذكر
وأما القلب الذي فيه تلك الصفات التي هي مركبه وموطنه فيقع الذكر في حواشيه وجوانبه ولا يقوى على إخراج العدو منه ومصداق ذلك تجده في الصلاة فتأمل في الحال وانظر هل تخرج الصلاة بأذكارها وقراءتها الشيطان من قلبك وتفرغه كله لله تعالى بكليته وتقيمه بين يدي ربه مقبلًا بكليته عليه يصلي لله تعالى، كأنه يراه قد اجتمع همه كله على الله وصار ذكره ومراقبته ومحبته والإنس به في محل الخواطر والوساوس أم لا والله المستعان
وهاهنا نكتة ينبغي التفطن لها وهي أن القلوب الممتلئة بالأخلاط الرديئة فالعبادات والأذكار والتعوذات أدوية لتلك الأخلاط كما يثير الدواء أخلاط البدن فإن لم يكن قبل الدواء وبعده حمية لم يزد الدواء على إثارته وإن أزال منه شيئًا ما فمدار الأمر على على شيئين الحمية واستعمال الأدوية
* (فصل)
وأول ما يطرق القلب الخطرة فإن دفعها استراح مما بعدها وإن لم يدفعها قويت فصارت وسوسة فكان دفعها أصعب فإن بادر ودفعها وإلا قويت وصارت شهوة فإن عالجها وإلا صارت إرادة فإن عالجها وإلا صارت عزيمة ومتى وصلت إلى هذه الحال لم يمكن دفعها واقترن بها الفعل ولا بد وما يقدر عليه مرة بدون مقدماته وحينئذ ينتقل العلاج إلى أقوى الأدوية وهو الاستفراغ التام بالتوبة النصوح ولا ريب أن دفع مبادئ هذا الداء من أوله أيسر وأهون من استفراغه بعد حصوله إن ساعد القدر وأعان التوفيق وإن الدفع أولى به وإن تألمت النفس بمفارقة المحبوب فليوازن بين فوات هذا المحبوب الأخس المنقطع النكد المشوب بالآلام والهموم وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم الذي لا نسبة لهذا المحبوب إليه ألبتة لا في قدره ولا في بقائه وليوازن بين ألم فوته وبين ألم فوت المحبوب الأخس وليوازن بين لذة الإنابة والاقبال على الله تعالى والتنعم بحبه وذكره وطاعته ولذة الاقبال على الرذائل والاتيان بالقبائح وليوازن بين لذة الظفر بالذنب ولذة الظفر بالعدو وبين لذة الذنب ولذة العفة ولذة الذنب ولذة القوة وقهر العدو وبين لذة الذنب ولذة إرغام عدوه ورده خاسئًا ذليلًا وبين لذة الذنب ولذة الطاعة التي تحول بينه وبين مراده وبين فوت مراده وفوت ثناء الله تعالى وملائكته عليه وفوت حسن جزائه وجزيل ثوابه وبين فرحة إدراكه وفرحة تركه لله تعالى عاجلًا وفرحة ما يثنيه عليه في دنياه وآخرته والله المستعان.
وهذا فصل جره الكلام في قوله تعالى
﴿وَفِي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾أشرنا إليه إشارة ولو استقصيناه لاستدعى عدة أسفار ولكن فيما ذكرناه تنبيه على ما تركناه وبالله التوفيق.
* (فصل)
* وقال في (شفاء العليل)الأعضاء الموجودة في الشخص إذا تأملتها وتأملت أفعالها ومنافعها وما تضمنه كل واحد منها من حكمة اختصت به كشكله ووصفه ومزاجه ووضعه من الشخص بذلك الموضع المعين علمت علما يقينا أن ذلك صادر عن خالق واحد ومدبر واحد وحكيم واحد.
فانتقل من هذا إلى أشخاص العالم شخصا شخصا من النوع الإنساني تجد الحكمة الواحدة الظاهرة في تلك الأفراد الكثيرة قد نفعت بعضهم بعض، وأعانت بعضهم ببعض حراثا لزارع وزراعا لحاصد، وحائكا لخياط وخياطا لنجار، ونجارا لبناء، فهذا يعين هذا بيده، وهذا برجله، وهذا يعينه بعينه، وهذا بأُذنه، وهذا بلسانه، وهذا بماله.
وإذ لا يقدر أحدهم على جميع مصالحه ولا يقوم بحاجاته، ولا توجد في كل واحد منهم جميع خواص نوعه فهم بأشخاصهم الكثير كإنسان واحد يقوم بعضه بمصالح بعض، قد كمل خواص الإنسانية في صفاته وأفعاله وصنائعه وما يراد منه، فإن الواحد منهم لا يفي بأن يجمع جميع الفضائل العلمية والعملية والقوة والبقاء، فجعل ذلك في النوع الإنساني بجملته، والله سبحانه قد فرق كمالات النوع في أشخاصه وجعل لكل شخص منها ما هو مستعد قابل له بحيث لو قيل أكثر من ذلك لأعطاه فإنه جواد لذاته، قد فاض جوده وخيره على العالم كله، وفضل عنه أضعاف ما فاض عليه، فهو يفيضه على تعاقب الآنات أبدا.
وكذلك يفضل في الجنة فضل عن أهلها، فينشئ لها خلقا يسكنهم فضلها، وإنما يتخصص فضله بحسب استعداد العوامل والمعدات وذلك بمشيئته وحكمته، فهو الذي أوجدها وهو الذي أعدها وهو الذي أمدها، ولما كان جوده وفضله أوسع من حاجة الخلق لم يكن بد من بقاء كثير منه مبذولا في الوجود مهملا، وهذا كضوء الشمس مثلا فإن مصالح الحيوان لا تتم إلا به وهي تشرق على مواضع فضلت عن حوائج بني آدم والحيوان، وكذلك المطر والنبات وسائر النعم ومع ذلك فلم يعطل وجودها عن حكم ومصالح وعبر ودلالات، وعطاء الرب ونعمه أوسع من حوائج خلقه، فلا بد أن يبقى في المياه والأقوات والنبات وغير ذلك أجزاء مهملة.
ولا يقال ما الحكمة في خلقها؟
فإن هذا سؤال جاهل ظالم فإن الحكمة في خلق الأرض وما عليها ظاهرة لكل بصير والمعمور بعضها لا كلها والرب تعالى واسع الجود دائمه فجوده وخيره عام دائم فلا يكون إلا كذلك فإن ذلك من لوازم علمه وقدرته وحكمته ولعلمه وقدرته وحكمته العموم والشمول والكمال المطلق بكل اعتبار فيعلم من استقراء العالم وأحواله انتهاؤه إلى عالم واحد وقادر واحد وحكيم واحد أتقن نظامه أحسن الإتقان، وأوجده على أتم الوجود، وهو سبحانه ناظم أفعال الفاعلين مع كثرتها ورابط بعضها ببعض ومعين بعضها ببعض، وجاعل بعضها سببا لبعض وغاية لبعض، وهذا من أدل الدليل على أنه خالق واحد ورب واحد وقادر واحد دل على قدرته كثرة أفعاله وتنوعها في الوقت الواحد وتعاقبها على تتالي الآنات، وتعين تصرفاته في مخلوقاته على كثرتها، ودل على علمه وحكمته كون كل شيء كبير وصغير ودقيق وجليل داخلا في النظام الحكمي ليس منها شيء حتى مسام الشعر في الجلد، ومراشح اللعاب في الفم، ومجاري الشعب الدقيقة من العروق في أصغر الحيوانات التي تعجز عنها أبصارنا ولا تنالها قدرتنا وهذا فيما دق لصغره وفيما جل لعظمه كالرياح الحاملة للسحب إلى الأرض الجرز التي لا نبات بها فيمطرها عليها فيخرج بها نباتا ويحيي بها حيوانا ويجعل فيها جزأين من الطعام والشراب والأقوات والأدوية دع ما فوق ذلك من تسخير الشمس والقمر والنجوم واختلاف مطالعها ومغاربها لإقامة دولة الليل والنهار وفصول العام التي بها نظام مصالح من عليها.
فإذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع عباده فالسماء سقفه والأرض بساطه والنجوم زينته والشمس سراجه ومصالح سكانه والليل سكنهم والنهار معاشهم والمطر سقياهم والنبات غذاؤهم ودواهم وفاكهتهم والحيوان خدمهم ومنه قوتهم ولباسهم والجواهر كنوزهم وذخائرهم كل شيء منها لما يصلح له فضروب النبات لجميع حاجاتهم وصنوف الحيوانات معدة لجميع مصالحهم، وذلك أدل دليل على وحدانية خالقه وقدرته.
* (فصل)
أعِدِ النّظر في نَفسك وحِكْمَة الخلاق العَلِيم في خلقك وانْظُر إلى الحَواس الَّتِي مِنها تشرف على الأشياء كَيفَ جعلها الله في الرأس كالمصابيح فَوق المنارة لتتمكن بها من مطالعة الأشياء ولم تجْعَل في الأعضاء الَّتِي تمتهن كاليدين والرّجلَيْنِ فتتعرض للآفات بِمُباشَرَة الأعمال والحركات ولاجعلها في الأعضاء الَّتِي في وسط البدن كالبطن والظّهْر فيعسر عَلَيْك التلفت والاطلاع على الأشياء فَلَمّا لم يكن لَها في شَيْء من هَذِه الأعضاء مَوضِع كانَ الراس اليق المَواضِع بها وأجملها فالراس صومعة الحَواس ثمَّ تَأمل الحِكْمَة في أن جعل الحَواس خمْسا في مُقابلَة المحسوسات الخمس ليلقى خمْسا بِخمْس كي لا يبْقى شَيْء من المحسوسات لا يَنالهُ بحاسة فَجعل البَصَر في مُقابلَة المبصرات والسمع في مُقابلَة الأصوات والشم في مُقابلَة أنْواع الروائح المختلفات والذوق في مُقابلَة الكيفيات المذوقات واللمس في مُقابلَة الملموسات فَأي محسوس بَقِي بِلا حاسة ولَو كانَ في المحسوسات شَيْء غير هَذِه لاعطاك لَهُ حاسة سادسة ولما كانَ ما عَداها إنَّما يدْرك بالباطن اعطاك الحَواس الباطِنَة وهِي هَذِه الاخماس الَّتِي جرت عَلَيْها السّنة العامَّة والخاصة حَيْثُ يَقُولُونَ في المفكر المتأمل ضرب اخماسه في أسداسه فأخماسه حواسه الخمس واسداسه جهانه السِّت وأرادُوا بذلك أنه جذبه القلب وسار بِهِ في الاقطار والجهات حَتّى قلب حواسه الخمس في جهاته ألَسْت وضربها فِيها لشدَّة فكره.
* (فصل)
ثمَّ أعينت هَذِه الحَواس بمخلوقات أخر مُنْفَصِلَة عَنْها تكون واسِطَة في إحساسها فأعينت حاسة البَصَر بالضياء والشعاع فلولاه لم ينْتَفع النّاظر ببصره فَلَو منع الضياء والشعاع لم تَنْفَع العين شَيْئا وأعينت حاسة السّمع بالهواء يحمل الأصوات في الجو ثمَّ يلقيها إلى الاذن فتحويه ثمَّ تقلبه إلى القُوَّة السامعة ولَوْلا الهَواء لم يسمع الرجل شَيْئا وأعينت حاسة الشم بالنسيم اللَّطِيف يحمل الرّائِحَة ثمَّ يُؤَدِّيها إليها فتدركها فلولا هو لم تشم شَيْئا وأعينت حاسة الذَّوْق بالريق المتحلل في الفَم تدْرك القُوَّة الزائقة بِهِ طعوم الأشياء ولِهَذا لم يكن لَهُ طعم لا حُلْو ولا حامض ولا مالح ولا حريف لأنه كانَ يحِيل تِلْكَ الطعوم إلى طعمه ولا يحصل بِهِ مَقْصُوده، وأعينت حاسة اللَّمْس بِقُوَّة جعلها الله فِيها تدْرك بها الملموسات ولم تحتج إلى شَيْء من خارج بِخِلاف غَيرها من الحَواس بل تدْرك الملموسات بِلا واسِطَة بَينها وبَينها لأنها إنَّما تدركها بالاجتماع والمُلامَسَة فَلم تحتج إلى واسِطَة.
* (فصل)
ثمَّ تَأمل حال من عدم البَصَر وما يَنالهُ من الخلَل في أُمُوره فَإنَّهُ لا يعرف مَوضِع قدمه ولا يبصر ما بَين يَدَيْهِ ولا يفرق بَين الالوان والمناظر الحَسَنَة من القبيحة ولا يتَمَكَّن من استفادة علم من كتاب يقرأه ولايتهيأ لَهُ الِاعْتِبار والنَّظَر في عجائب ملك الله هَذا مَعَ أنه لا يشْعر بِكَثِير من مَصالِحه ومضاره فَلا يشْعر بحفرة يهوي فِيها ولا بحيوان يَقْصِدهُ كالسبع فيتحرز لَهُ ولا بعدو يهوى نَحوه ليَقْتُلهُ ولا يتَمَكَّن من هرب أن طلب بل هو ملق السّلم لمن رامه بأذى ولَوْلا حفظ خاص من الله لَهُ قريب من حفظ الوَلِيد وكلاءته لَكانَ عطبه أقْربْ من سَلامَته فَإنَّهُ بِمَنزِلَة لحم على وضم ولذَلِك جعل الله ثَوابه إذا صَبر واحتسب الجنَّة ومن كَمال لطفه أن عكس نوربصره إلى بصيرته فَهو أقوى النّاس بَصِيرَة وحدسا وجمع عَلَيْهِ همه فقلبه مَجْمُوع عَلَيْهِ غير مشتت ليهنأ لَهُ العَيْش وتتم مصْلحَته ولا يظنّ أنه مغموم حَزِين متاسف هَذا حكم من ولد أعمى.
فَأما من أصيب بِعَيْنيهِ بعدالبصر فَهو بِمَنزِلَة سائِر أهل البلاء المنتقلين من العافِيَة إلى البلية فالمحنة عَلَيْهِ شَدِيدَة لأنه قد حيل بَينه وبَين ما الفه من المرائِي والصور ووجوه الِانْتِفاع ببصره فَهَذا لَهُ حكم آخر وكَذَلِكَ من عدم السّمع فَإنَّهُ يفقد روح المخاطبة والمحاورة ويعدم لَذَّة المذاكرة ونغمة الأصوات الشجية وتعظم المُؤْنَة على النّاس في خطابه ويتبرمون بِهِ ولا يسمع شَيْئا من إخبار النّاس وأحاديثهم فَهو بَينهم شاهد كغائب وحي كميت وقَرِيب كبعيد وقد اخْتلف النظار في ايهما أقْربْ إلى الكَمال واقل اختلالا لأموره الضَّرِير أوْ الاطرش وذكروا في ذَلِك وُجُوهًا وهَذا مَبْنِيّ على أصل آخر وهو أي الصفتين أكمل صفة السّمع أوْ صفة البَصَر وقد ذكرنا الخلاف فيهما فِيما تقدم من هَذا الكتاب وذكرنا أقوال النّاس وأدلتهم والتَّحْقِيق في ذَلِك.
فَأي الصفتين كانَت أكمل فالضرر بعدمها أقوى والَّذِي يَلِيق بِهَذا الموضع أن يُقال عادم البَصَر أشدهما ضَرَرا وأسلمهما دينا واحمدهما عاقِبَة وعادم السّمع أقلهما ضَرَرا في دُنْياهُ واجهلهما بِدِينِهِ واسَوْا عاقِبَة فَإنَّهُ إذا عدم السّمع عدم المواعظ والنصائح وانسدت عَلَيْهِ أبواب العُلُوم النافعة وانفتحت لَهُ طرق الشَّهَوات الَّتِي يُدْرِكها البَصَر ولا يَنالهُ من العلم ما يكفه عَنْها فضرره في دينه أكثر وضرر الأعمى في دُنْياهُ أكثر، ولِهَذا لم يكن في الصَّحابَة اطرش وكانَ فيهم جماعَة أضراء وقل أن يبتلي الله أولياءه بالطرش ويبتلي كثيرا مِنهُم بالعمى.
فَهَذا فصل الخطاب في هَذِه المسألة، فمضرة الطرش في الدّين، ومضرة العَمى في الدُّنْيا، والمعافى من عافاه الله مِنهُما ومتعه بسمعه وبصره وجعلهما الوارِثين مِنهُ.
* (فصل)
وَأما من عدم البيانين بَيان القلب وبَيان اللِّسان فَذَلِك بِمَنزِلَة الحَيَوانات البَهِيمَة بل هي أحسن حالا مِنهُ فَإن فِيها ما خلقت لَهُ من المَنافِع والمصالح الَّتِي تسْتَعْمل فِيها وهَذا يجهل كثيرا مِمّا تهتدي إليه البَهائِم ويلقى نَفسه فِيما تكف البَهائِم أنفسها عَنهُ وأن عدم بَيان اللِّسان دون بَيان القلب ومن عدم خاصَّة الإنسان وهِي النُّطْق اشتدت المؤمنة بِهِ وعَلِيهِ وعظمت حسرته وطالَ تأسفه على رد الجَواب ورجع الخطاب فَهو كالمقعد الَّذِي يرى ما هو مُحْتاج إليه ولا تمتد إليه يَده ولا رجله فكم لله على عَبده من نعْمَة سابغة فيهذه الأعضاء والجوارح والقوى والمَنافِع الَّتِي فِيهِ فَهو لا يلْتَفت إليها ولا يشْكر الله عَلَيْها ولَو فقد شَيْئا مِنها لتمنى أنه لَهُ بالدنيا وما عَلَيْها فَهو يتقلب في نعم الله بسلامة اعضائه وجوارحه وقواهُ وهو عار من شكرها ولوعرضت عَلَيْهِ الدُّنْيا ما فِيها بِزَوال واحِدَة مِنها لابي المُعاوضَة وعلم أنها مُعاوضَة غبن أن الإنسان لظلوم كفور
* فصل ثمَّ تَأمل حكمته في الأعضاء الَّتِي خلقت فِيك آحادا ومثنى وثَلاث ورباع وما في ذَلِك من الحكم البالِغَة فالراس واللِّسان والأنف والذكر خلق كل مِنهُما واحِدًا فَقَط إذ لا مصلحَة في كَونه أكثر من ذَلِك إلا ترى أنه لَو اضيف إلى الراس راس آخر لاثقلا بدنه من غير حاجَة إليه لأن جَمِيع الحَواس الَّتِي يحْتاج إليها مجتمعة في رَأس واحِد ثمَّ أن الإنسان كانَ يَنْقَسِم براسه قسمَيْنِ فَإن تكلم من أحدهما وسمع بِهِ وأبصر وشم وذاق بَقِي الآخر معطلا لا أرب فِيهِ وإن تكلم وأبصر وسمع بهما مَعًا كلاما واحِدًا وسمعا واحِدًا وبصرا واحِدًا كانَ الآخر فَضله لا فائِدَة فِيهِ وإن اخْتلف إدراكهما اخْتلفت عَلَيْهِ أحواله وإدراكاته وكَذَلِكَ لَو كانَ لَهُ لسانان في فَم واحِد فَإن تكلم بهما كلاما واحِدًا كانَ أحدهما ضائعا وإن تكلم بأحدهما دون الآخر فَكَذَلِك وإن تكلم بهما مَعًا كلامين مُخْتَلفين خلط على السّامع ولم يدر باي الكَلامَيْنِ يَأْخُذ وكَذَلِكَ لَو كانَ لَهُ هنوان وفمان لَكانَ مَعَ قبح الخلقَة أحدهما فضلَة لا مَنفَعَة فِيهِ وهَذا بِخِلاف الأعضاء الَّتِي خلقت مثنى كالعينين والأذنين والشفتين واليَدَيْنِ والرّجلَيْنِ والساقين والفخذين والوركين والثديين فَإن الحِكْمَة فِيها ظاهِرَة والمصلحة بَينه والجمال والزينة عَلَيْها بادية فَلَو كانَ الإنسان بِعَين واحِدَة لَكانَ مُشَوه الخلقَة ناقصها وكَذَلِكَ الحاجبان.وَأما اليدان والرجلانِ والساقان والفخذان فتعددهما ضَرُورِيّ للإنسان لا تتمّ مصْلحَته إلا بذلك إلا ترى من قطعت أحدى يَدَيْهِ أوْ رجلَيْهِ كَيفَ تبقى حاله وعجزه فَلَو أن النجار والخياط والحداد والخباز والبناء وأصحاب الصَّنائِع الَّتِي لا تتأتى إلا باليدين شلت يَد أحدهما لتعطلت عَلَيْهِ صَنعته فاقتضت الحِكْمَة أن أعطى من هَذا الضَّرْب من الجَوارِح والأعضاء اثْنَيْنِ اثْنَي وكَذَلِكَ أعطى شفتين لأنه لا تكمل مصْلحَته إلّا بهما وفِيهِما ضروب عديدة من المَنافِع ومن الكَلام والذوق وغطاء الفَم والجمال والزينة والقبلة وغير ذَلِك.
وَأما الأعضاء الثَّلاثَة فَهي جَوانِب انفه وحيطانه وقد ذكرنا حِكْمَة ذَلِك فِيما تقدم وأما الأعضاء الرّباعِيّة فالكعاب الأربعة الَّتِي هي مجمع القَدَمَيْنِ والممسكة لَهما وبِهِما قُوَّة القَدَمَيْنِ وحركتهما وفِيهِما مَنافِع السّاقَيْن وكَذَلِكَ أجفان العَينَيْنِ فِيها من الحكم والمَنافِع أنها غطاء للعينين ووقاية لَهما وجمال وزينة وغير ذَلِك من الحكم فاقتضت الحِكْمَة البالِغَة أن جعلت الأعضاء على ما هي عَلَيْهِ من العدَد والشكل والهيئة فَلَو زادَت أوْ نقصت لَكانَ نقصا في الخلقَة ولِهَذا يُوجد في النَّوْع الإنساني من زائِد في الخلقَة وناقص مِنها ما يدل على حِكْمَة الرب تَعالى
{وَأنه لَو شاءَ لجعل خلقه كلهم هَكَذا وليعلم الكامِل الخلقَة تَمام النِّعْمَة عَلَيْهِ وأنه خلق خلقا سويا معتدلا لم يزدْ في خلقه ما لا يحْتاج إليه ولم ينقص مِنهُ ما يحْتاج إليه كَما يراهُ في غَيره فَهو أجدر أن لم يزْداد شكرا وحمدا لرَبه ويعلم أن ذَلِك لَيْسَ من صنع الطبيعة وإنَّما ذَلِك صنع الله الَّذِي اتقن كل شَيْء خلقه وأنه يخلق ما يَشاء.
* (فصل)
من أيْنَ للطبيعة هَذا الِاخْتِلاف والفرق الحاصِل في النَّوْع الإنسان بَين صورهم فَقل أن يرى اثْنان متشابهان من كل وجه وذَلِكَ من أندر ما في العالم بِخِلاف أصناف الحَيَوان كالنعم والوحوش والطير وسائِر الدَّوابّ فَإنّك ترى السرب من الظباء والثلة من الغنم والذود من الابل والصوار من البَقر تتشابه حَتّى لا يفرق بَين واحِد مِنهُما وبَين الآخر إلّا بعد طول تَأمل أوْ بعلامة ظاهِرَة والنّاس مُخْتَلفَة صورهم وخلقتهم فَلا يكاد اثْنان مِنهُم يَجْتَمِعانِ في صفة واحِدَة وخلقة واحِدَة بل ولا صَوت واحِد وحنجرة واحِدَة والحكمَة البالِغَة في ذَلِك أن النّاس يَحْتاجُونَ إلى أن يتعارفوا بأعينهم وحلاهم لما يجرى بَينهم من المُعامَلات فلولا الفرق والِاخْتِلاف في الصُّور لفسدت أحوالهم وتشت نظامهم ولم يعرف الشّاهِد من المَشْهُود عَلَيْهِ ولا المَدِين من رب الدّين ولا البائِع من المُشْتَرِي ولا كانَ الرجل يعرف عرسه من غَيرها للاختلاط ولا هي تعرف بَعْلها من غَيره وفي ذَلِك أعظم الفساد والخلل فَمن الَّذِي ميز بَين حلاهم وصورهم وأصواتهم وفرق بَينها بفروق لا تنالها العبارَة ولا يُدْرِكها الوَصْف فسل المُعَطل أهذا فعل الطبيعة؟
وَهل في الطبيعة اقْتِضاء هَذا الِاخْتِلاف والافتراق في النَّوْع وأيْنَ قَول الطبائعيين أن فعلها متشابه لأنها واحِدَة في نَفسها لا تفعل بِإرادَة ولا مَشِيئَة فَلا يُمكن اخْتِلاف أفعالها فَكيف يجمع المُعَطل بَين هَذا وهَذا؟
﴿فَإنَّها لا تعمى الأبصار ولَكِن تعمى القُلُوب الَّتِي في الصُّدُور﴾وَرُبما وقع في النَّوْع الإنساني تشابه بَين اثْنَيْنِ لا يكاد يُمَيّز بَينهما فتعظم عَلَيْهِم المُؤْنَة في معاملتهما وتشتد الحاجة إلى تَمْيِيز المُسْتَحق مِنهُما والمؤاخذ بِذَنبِهِ ومن عَلَيْهِ الحق.
وَإذا كانَ هَذا يعرض في التشابه في الأسماء كثيرا ويلقى الشّاهِد والحاكِم من ذَلِك ما يلقى فَما الظَّن لَو وضع التشابه في الخلقَة والصُّورَة ولما كانَ الحَيَوان البهيم والطير والوحوش لا يَضرها هَذا التشابه شَيْئا لم تدع الحِكْمَة إلى الفرق بَين كل زَوْجَيْنِ مِنها فَتَبارَكَ الله أحسن الخالِقِينَ الَّذِي وسعت حكمته كل شَيْء.
* (فصل)
ثمَّ تَأمل لم صارَت المَرْأة والرجل إذا أدركا اشْتَركا في نَبات العانَة ثمَّ ينْفَرد الرجل عَن المَرْأة باللحية فَإن الله عز وجل لما جعل الرجل قيمًا على المَرْأة وجعلها كالخول لَهُ والعاني في يَدَيْهِ ميزه عَلَيْها بِما فِيهِ لَهُ المهانة والعز والوَقار والجَلالَة لكماله وحاجته إلى ذَلِك ومنعتها المَرْأة لكَمال الِاسْتِمْتاع بها والتلذذ لتبقى نضارة وجهها وحسنه لا يشينه الشّعْر واشتراكا في سائِر الشُّعُور للحكمة والمَنفَعَة الَّتِي فِيها.
* (فصل)
ثمَّ تَأمل هَذا الصَّوْت الخارِج من الحلق وتهيئة آلاته والكَلام وانتظامه والحروف ومخارجها وأدواتها ومقاطعها وأجراسها تَجِد الحِكْمَة الباهرة في هَواء ساذج يخرج من الجوف فيسلك في أنبوبة الحنجرة حَتّى يَنْتَهِي إلى الحلق واللِّسان والشفتين والأسنان فَيحدث لَهُ هُناكَ مقاطع ونهايات وأجراس يسمع لَهُ عند كل مقطع ونِهايَة جرس مُبين مُنْفَصِل عَن الآخر يحدث بِسَبَبِهِ الحَرْف فَهو صَوت واحِد ساذج يجري في قَصَبَة واحِدَة حَتّى يَنْتَهِي إلى مقاطع وحدود تسمع لَهُ مِنها تِسْعَة وعشْرين حرفا يَدُور عَلَيْها الكَلام كُله أمره ونَهْيه وخَبره واستخباره ونظمه ونثرة وخطبه ومواعظه وفضوله فَمِنهُ المضحك ومِنه المبكي ومِنه المؤيس ومِنه المطمع ومِنه المخوف ومِنه المرجي والمسلى والمحزن والقابض للنَّفس والجوارح والمنشط لَها والَّذِي يسقم الصَّحِيح ويُبرئ السقيم ومِنه ما يزِيل النعم ويحل النقم ومِنه ما يستدفع بِهِ البلاء ويستجلب بِهِ النعماء وتستمال بِهِ القُلُوب ويؤلف بِهِ بَين المتباغضين ويوالي بِهِ بَين المتعاديين ومِنه ما هو بضد ذَلِك ومِنه الكَلِمَة الَّتِي لا يلقى لَها صاحبها بالا يهوى بها في النّار ابعد ما بَين المشرق والمغْرب والكلمة الَّتِي لا يلقى لَها بالا صاحبها يرْكض بها في أعلا عليين في جوار رب العالمين.
فسبحان من أنشأ ذَلِك كُله من هَواء ساذج يخرج من الصَّدْر لا يدْرِي ما يُراد بِهِ ولا أيْن يَنْتَهِي ولا أيْن مستقره هَذا إلى ما في ذَلِك من اخْتِلاف الالسنة واللغات الَّتِي لا يحصيها إلا الله فيجتمع الجمع من النّاس من بِلاد شَتّى فيتكلم كل مِنهُم بلغته فَتسمع لُغات مُخْتَلفَة كلاما منتظما مؤلفا ولا يدْرِي كل مِنهُم ما يَقُول الآخر واللِّسان الَّذِي هو جارحة واحِد في الشكل والمنظر وكَذَلِكَ الحلق والاضراس والشفتان والكَلام مُخْتَلف متفاوت أعظم تفاوت فالآية في ذَلِك كالآية في الأرض الَّتِي تسقى بِماء واحِد وتخرج مَعَ ذَلِك من أنواع النَّبات والاأزهار والحبوب والثِّمار تِلْكَ الأنواع المُخْتَلفَة المتباينة ولِهَذا أخبر الله سُبْحانَهُ في كِتابه أن في كل مِنهُما آيات فَقالَ ومن آياته خلق السَّماوات والأرض واخْتِلاف السنتكم والونكم إن في ذَلِك لآيات للْعالمين.
وَقالَ
﴿وَفِي الأرْض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنْوان وغير صنْوان يسقى بِماء واحِد﴾ الآية.
فانْظُر الان في الحنجرة كَيفَ هي كالأنبوب لخُرُوج الصَّوْت واللِّسان والشفتان والأسنان لصياغة الحُرُوف والنغمات إلا ترى أن من سَقَطت أسنانه لم يقم الحُرُوف الَّتِي تخرج مِنها ومن اللِّسان ومن سَقَطت شفته كَيفَ لم يقم الرّاء واللّام ومن عرضت لَهُ آفَة في حلقه كَيفَ لم يتَمَكَّن من الحُرُوف الحلقية وقد شبه أصحاب التشريح مخرج الصَّوْت بالمزمار والرئة بالزق الَّذِي ينْفخ فِيهِ من تَحْتَهُ ليدْخل الرّيح فِيهِ والفضلات الَّتِي تقبض على الرئة ليخرج الصَّوْت من الحنجرة بالأكف الَّتِي تقبض على الزق حَتّى يخرج الهَواء في القصب والشفتين والأسنان الَّتِي تصوغ الصَّوْت حروفا ونغما بالأصابع الَّتِي تخْتَلف على المزمار فتصوغه الحانا والماقطع الَّتِي يَنْتَهِي إليها الصَّوْت بالابخاش الَّتِي في القصبة حَتّى قيل أن المزمار إنَّما اتخذ على مِثال ذَلِك من الإنسان فَإذا تعجبت من الصِّناعَة الَّتِي تعملها اكف النّاس حَتّى تخرج مِنها تِلْكَ الأصوات فَما احراك بطول التَّعَجُّب من الصِّناعَة الإلهية الَّتِي أخرجت تِلْكَ الحُرُوف والأصوات من اللَّحْم والدَّم والعُرُوق والعِظام ويا بعد ما بَينهما ولَكِن المألوف المُعْتاد لا يَقع عند النُّفُوس موقع التَّعَجُّب فَإذا رَأتْ ما لا نِسْبَة لَهُ إليه أصلا إلا أنه غَرِيب عِنْدها تَلَقَّتْهُ بالتعجب وتسبيح الرب تَعالى وعِنْدها من آياته العجيبة الباهرة ما هو أعظم من ذَلِك مِمّا لا يُدْرِكهُ القياس ثمَّ تَأمل اخْتِلاف هَذِه النغمات وتباين هَذِه الأصوات مَعَ تشابه الحَناجِر والحلوق والالسنة والشفاة والأسنان فَمن الَّذِي ميز بَينها أتم تَمْيِيز مَعَ تشابه محالها سوى الخلاق العَلِيم.
* (فصل)
وَفِي هَذِه الآلات مآرب أخرى ومَنافع سوى مَنفَعَة الكَلام، فَفي الحنجرة مَسْلَك النسيم البارِد الَّذِي يروح على الفُؤاد بِهَذا النَّفس الدّائِم المتتابع وفي اللِّسان مَنفَعَة الذَّوْق فتذاق بِهِ الطعوم وتدرك لذتها ويميز بها بَينها فَيعرف حَقِيقَة كل واحِد مِنها وفِيه مَعَ ذَلِك مَعُونَة على إساغة الطَّعام وأن يلوكه ويقلبه حَتّى يسهل مسلكه في الحلق وفي الأسنان من المَنافِع ما هو مَعْلُوم من تقطيع الطَّعام كَما تقدم وفيها إسْناد الشفتين وإمساكهما عَن الاسترخاء وتشويه الصُّورَة ولِهَذا ترى من سَقَطت أسنانه كَيفَ تسترخي شفتاه وفي الشفتين مَنافِع عديدة يرشف بها الشَّراب حَتّى يكون الدّاخِل مِنهُ إلى حلقه بِقدر فَلا يشرق بِهِ الشّارِب ثمَّ هما باب مغلق على الفَم الَّذِي إليه يَنْتَهِي إليه ما يخرج من الجوف ومِنه يبتدي ما يلج فَهي فهما عَطاء وطابق عَلَيْهِ يفتحهما البواب مَتى شاءَ ويغلقهما إذا شاءَ وهما أيضا جمال وزينة للْوَجْه وفِيهِما مَنافِع أخرى سوى ذَلِك وانْظُر إلى من سَقَطت شفتاه ما اشوه منظره وقد بأن أن كل واحِد من هَذِه الأعضاء يتَصَرَّف إلى وُجُوه شَتّى من المَنافِع والمآرب والمصالح كَما تتصرف الاداة الواحِدَة في أعمال شَتّى هَذا ولَو رَأيْت الدِّماغ وكشف لَك عَن تركيبه وخلقه لرأيت العجب العجاب وتكشف لَك عَن تركيب يحار فِيهِ العقل قد لف بحجب وأغشيه بَعْضها فَوق بعض لتصونه عَن الإعراض وتَحفظه عَن الِاضْطِراب ثمَّ اطبقت عَلَيْهِ الجمجمة بِمَنزِلَة الخوذة وبيضة الحَدِيد لتقيه حد الصدمة والسقطة والضربة الَّتِي تصل إليه فتتلقاها تِلْكَ البَيْضَة عَنهُ بِمَنزِلَة الخوذة الَّتِي على رأس المُحارب ثمَّ جللت تِلْكَ الجمجمة بِالجلدِ الَّذِي هو فَرْوَة الرأس يستر العظم من البروز للمؤذيات ثمَّ كُسِيت تِلْكَ الفروة حلَّة من الشّعْر الوافر وقاية لَها وسترا من الحر والبرد والأذى وجمالا وزينة لَهُ فسل المُعَطل من الَّذِي حصن الدِّماغ هَذا التحصين وقدره هَذا التَّقْدِير وجعله خزانَة أودع فِيها من المَنافِع والقوى والعجائب ما أودعه ثمَّ احكم سد تِلْكَ الخزانة وحصنها أتم تحصين وصانها أعظم صِيانة وجعلها مَعْدن الحَواس والإدراكات ومن الَّذِي جعل الأجفان على العَينَيْنِ كالغشاء والأشفار كالأشراج والأهداب كالرفوف فوف عَلَيْها إذا فتحت ومن الَّذِي ركب طبقاتها المُخْتَلفَة طبقَة فَوق طبقَة حَتّى بلغت عدد السَّماوات سبعا وجعل لكل طبقَة مَنفَعَة وفائِدَة فَلَو اختلت طبقَة مِنها لاختل البَصَر ومن شقهما في الوَجْه أحسن شقّ وأعطاهما أحسن شكل وأودع الملاحة فيهما وجعلهما مرْآة للقلب وطليعة وحارسا للبدن ورائدا يُرْسِلهُ كالجند في مهماته فَلا يتعب ولا يعيا على كَثْرَة ظعنه وطول سَفَره ومن أودع النُّور الباصر فِيهِ في قدر جرم العدسة فَيرى فِيهِ السَّماوات والأرض والجِبال والشَّمْس والقَمَر والبحار والعجائب من داخل سبع طَبَقات وجعلهما في أعلى الوَجْه بِمَنزِلَة الحارس على الرابية العالِيَة ربيتة للبدن ومن حجب الملك في الصُّدُور وأجْلسهُ هُناكَ على كرْسِي المملكة واقام جند الجَوارِح والأعضاء والقوى الباطِنَة والظّاهِرَة في خدمته وذللها لَهُ فَهي مؤتمرة إذا امرها منتهية إذا نهاها سامعة لَهُ مطيعة تكدح وتسعى في مرضاته فَلا تَسْتَطِيع مِنهُ خلاصا ولا خُرُوجًا عَن أمره فَمِنها رَسُوله ومِنها بريده ومِنها ترجمانه ومِنها أعوانه وكل مِنها على عمل لا يتعداه ولا يتَصَرَّف في غير عمله حَتّى إذا أرادَ الرّاحَة أوعز إليها بالهدو والسكون ليَأْخُذ الملك راحَته فَإذا اسْتَيْقَظَ من مَنامه قامَت جُنُوده بَين يَدَيْهِ على أعمالها وذَهَبت حَيْثُ وجهها دائبة لا تفتر فَلَو شاهدته في مَحل ملكه والاشغال والمراسيم صادرة عَنهُ وواردة والعساكر في خدمته والبرد تَتَرَدَّد بَينه وبَين جنده ورعيته لرأيت لَهُ شَأْنًا عجيبا فَماذا فاتَ الجاهِل الغافل من العَجائِب والمعارف والعبر الَّتِي لا يحْتاج فِيها إلى طول الاسفار وركوب القفار قالَ تَعالى
﴿وَفِي الأرْض آيات للموقنين وفي أنفسكُم أفلا تبصرون﴾ فَدَعا عباده إلى التفكر في أنفسهم والِاسْتِدْلال بها على فاطرها وباريها ولَوْلا هَذا لم نوسع الكَلام في هَذا الباب ولا أطلنا النَّفس إلى هَذِه الغايَة ولَكِن العبْرَة بذلك حاصِلَة والمَنفَعَة عَظِيمَة والفكرة فِيهِ مِمّا يزِيد المُؤمن إيمانا فكم دون القلب من حرس وكم لَهُ من خادِم وكم لَهُ من عبيد ولا يشْعر بِهِ وللَّه ما خلق لَهُ وهيأ لَهُ وأريد مِنهُ وأعد لَهُ من الكَرامَة والنَّعِيم أوْ الهوان والعَذاب فَأما على سَرِير الملك في مقْعد صدق عند مليك مقتدر ينظر إلى وجه ربه ويسمع خطابه وإمّا اسير في السجْن الأعظم بَين اطباق النيران في العَذاب الاليم فَلَو عقل هَذا السُّلْطان ما هيأ لَهُ لضن بِملكه ولسعى في الملك الَّذِي لا ينقطع ولا يبيد ولكنه ضربت عَلَيْهِ حجب الغَفْلَة
﴿ليقضي الله أمرا كانَ مَفْعُولا﴾.
* (فصل)
وَمن جعل في الحلق منفذين أحدهما للصوت والنَّفس الواصِل إلى الرئة.
والآخر للطعام والشراب وهو المريء الواصِل إلى المعدة وجعل بَينهما حاجزا يمْنَع عبور أحدهما في طَرِيق الآخر فَلَو وصل الطَّعام من منفذ النَّفس إلى الرئة لأهلك الحَيَوان ومن جعل الرئة مروحة للقلب تروح عَلَيْهِ لا تنى ولا تفتر لكيلا تَنْحَصِر الحَرارَة فِيهِ فَيهْلك ومن جعل المنافذ لفضلات الغذاء وجعل لَها اشراجا تقبضها لكيلا تجرى جَريا دائِما فتفسد على الإنسان عيشه ويمْنَع النّاس من مجالسه بَعضهم بَعْضًا ومن جعل المعدة كأشد ما يكون من العصب لأنها هيئت لطبخ الأطعمة وانضاجها فَلَو كانَت لَحْمًا غضا لانطبخت هي ونضجت فَجعلت كالعصب الشَّديد لتقوى على الطَّبْخ والانضاج ولا تنهكها النّار الَّتِي تحتها ومن جعل الكبد رقيقَة ناعمة لأنها هيئت لقبُول الصفو اللَّطِيف من الغذاء والهضم وعمل هو الطف من عمل المعدة ومن حصن المخ اللَّطِيف الرَّقِيق في انابيب صلبة من العِظام ليحفظها ويصونها فَلا تفْسد ولا تذوب ومن جعل الدَّم السيال مَحْبُوسًا محصورا في العُرُوق بِمَنزِلَة الماء في الوِعاء ليضبط فَلا يجْرِي ومن جعل الأظفار على أطراف الأصابع وقاية لَها وصيانة من الأعمال والصناعات ومن جعل داخل الاذن مستويا كَهَيئَةِ الكَوْكَب ليطرد فِيهِ الصَّوْت حَتّى يَنْتَهِي إلى السّمع الدّاخِل وقد انْكَسَرت حِدة الهَواء فَلا ينكؤه وليتعذر على الهَواء النّفُوذ إليه قبل أن يمسك وليمسك ما عساه أن يَغْشاها من القذى والوسخ ولغير ذَلِك من الحكم ومن جعل على الفخذين والوركين من اللَّحْم أكثر مِمّا على سائِر الأعضاء ليقيها من الأرض فَلا تألم عظامها من كَثْرَة الجُلُوس كَما يألم من قد نحل جِسْمه وقل لَحْمه من طول الجُلُوس حَيْثُ لم يحل بَينه وبَين الأرض حائِل ومن جعل ماء العَينَيْنِ ملحا يحفظها من الذوبان وماء الاذن مرا يحفظها من الذُّباب والهواء والبعوض وماء الفَم عذبا يدْرك بِهِ طعوم الأشياء فَلا يخالطها طعم غَيرها ومن جعل باب الخَلاء في الإنسان في اسْتُرْ مَوضِع كَما أن البناء الحَكِيم بِجعْل مَوضِع التخلي في أستر مَوضِع في الدّار.
وَهَكَذا منفذ الخَلاء من الإنسان في اسْتُرْ مَوضِع لَيْسَ بارزا من خَلفه ولا ناشزا بَين يَدَيْهِ بل مغيب في مَوضِع غامض من البدن يلتقى عَلَيْهِ الفخذان بِما عَلَيْهِما من اللَّحْم متواريا فَإذا جاءَ وقت الحاجة وجلسَ الإنسان لَها برز ذَلِك المخْرج للآرض ومن جعل الأسنان حدادا لقطع الطَّعام وتفصيله والاضراس عراضا لرضه وطحنه ومن سلب الإحساس الحيواني الشُّعُور والأظفار الَّتِي في الآدمي لأنها قد تطول وتمتد وتَدْعُو الحاجة إلى أخذها وتخفيفها، فَلَو أعطاها الحس لآلمته وشق عَلَيْهِ أخذ ما شاءَ مِنها ولَو كانَت تحس لوقع الإنسان مِنها في إحْدى البليتين أما تَركها حَتّى تطول وتفحش وتثقل عَلَيْهِ.
وَأما مقاساة الألم والوجع عند أخذها ومن جعل باطِن الكَفّ غير قابل لانبات الشّعْر لأنه لَو اشعر لتعذر على الإنسان صِحَة اللَّمْس ولشق عَلَيْهِ كثير من الأعمال الَّتِي تباشر بالكف ولهذه الحِكْمَة لم يكن هن الرجل قابلا لانباته لأنه يمنعهُ من الجِماع ولما كانَت المادَّة تَقْتَضِي إنباته هُناكَ نبت حول هن الرجل والمَرْأة ولهذه الحِكْمَة سلب عَن الشفتين وكَذا باطِن الفَم وكَذا أيضا القدَم اخمصها وظاهرها لأنها تلاقي التُّراب والوسخ والطين والشوك فَلَو كانَ هُناكَ شعر لأذى الإنسان جدا وحمل من الأرض كل وقت ما يثقل الإنسان ولَيْسَ هَذا للإنسان وحده بل ترى البَهائِم قد جللها الشّعْر كلها واخليت هَذِه المَواضِع مِنهُ لهَذِهِ الحِكْمَة افلا ترى الصَّنْعَة الإلهية كَيفَ سلبت وُجُوه الخَطَأ والمضرة وجاءَت بِكُل صَواب وكل مَنفَعَة وكل مصلحَة ولما اجْتهد الطاعنون في الحِكْمَة العائبون للخلقة فِيما يطعنون بِهِ عابوا الشُّعُور تَحت الآباط وشعر العانَة وشعر باطِن الأنف وشعر الرُّكْبَتَيْنِ وقالُوا أي حِكْمَة فِيها واي فائِدَة وهَذا من فرط جهلهم وسخافة عُقُولهمْ فَإن الحِكْمَة لا يجب أن تكون بأسرها مَعْلُومَة للبشر ولا أكْثَرها بل لا نِسْبَة لما علموه إلى ما جهلوه فِيها لَو قيست عُلُوم الخَلائق كلهم بِوُجُوه حِكْمَة الله تَعالى في خلقه وأمره إلى ما خَفِي عَنْهُم مِنها كانَت كنقرة عُصْفُور في البَحْر وحسب الفطن اللبيب أن يسْتَدلّ بِما عرف مِنها على ما لم يعرف ويعلم الحِكْمَة فِيما جَهله مِنها مثلها فِيما علمه بل أعظم وادق وما مثل هَؤُلاءِ الحمقى النوكى إلا كَمثل رجل لا علم لَهُ بدقائق الصَّنائِع والعلوم من البناء والهندسة والطب بل والحياكة والخياطة والنجارة إذا رام الِاعْتِراض بعقله الفاسِد على أربابها في شَيْء من آلاتهم وصنائعهم وترتيب صناعتهم فخفيت عَلَيْهِ فَجعل كل ما خَفِي عَلَيْهِ مِنها شَيْء قالَ هَذا لا فائِدَة فِيهِ وأي حِكْمَة تَقْتَضِيه هَذا مَعَ أن أرباب الصَّنائِع بشر مثله يُمكنهُ أن يشاركهم في صنائعهم ويفوقهم فِيها فَما الظَّن بِمن بهرت حكمته العُقُول الَّذِي لا يُشارِكهُ مشارك في حكمته كَما لايشاركه في خلقه فَلا شريك لَهُ بِوَجْه فَمن ظن أن يكتال حكمته بِمِكْيال عقله أوْ يَجْعَل عقله عيارا عَلَيْها فَما ادركه اقربه وما لم يُدْرِكهُ نَفاهُ فَهو من اجهل الجاهِلين وللَّه في كل ما خَفِي على النّاس وجه الحِكْمَة فِيهِ حكم عديدة لاتدفع ولا تنكر فَأعْلَم الان أن تَحت منابت هَذِه الشُّعُور من الحَرارَة والرطوبة ما اقْتَضَت الطبيعة إخْراج هَذِه الشُّعُور عَلَيْها إلا ترى أن العشب ينبتفي مستنقع المِياه بعد نضوب الماء عَنْها لما خصت بِهِ من الرُّطُوبَة ولِهَذا كانَت هَذِه المَواضِع من ارطب مَواضِع البدن وهِي اقبل لنبات الشّعْر واهيًا فَدفعت الطبيعة تِلْكَ الفضلات والرطوبات إلى خارج فَصارَت شعرًا ولَو حبست في داخل البدن لأضرته وآذت باطِنه فخروجها عين مصلحَة الحَيَوان واحتباسها إنَّما يكون لنَقص وآفَة فِيهِ وهَذا كخروج دم الحيض من المَرْأة فَإنَّهُ عين مصلحتها وكمالها ولِهَذا يكون احتباسه لفساد في الطبيعة ونقص فِيها إلا ترى أن من احْتبسَ عَنهُ شعر الرَّأْس واللحية بعد إبانه كَيفَ تراهُ ناقص الطبيعة ناقص الخلقَة ضَعِيف التَّرْكِيب فَإذا شاهدت ذَلِك في الشّعْر الَّذِي عرفت بعض حكمته فمالك لاتعتبره في الشّعْر الَّذِي خفيت عَلَيْك حكمته ومن جعل الرِّيق يجْرِي دائِما إلى الفَم لا يَنْقَطِع عَنهُ ليبل الحلق واللهوات ويسهل الكَلام ويسيغ الطَّعام قالَ بقراط الرُّطُوبَة في الفَم مَطِيَّة الغذاء فَتَأمل حالك عند ما يجِف ريقك بعض الجَفاف ويقل ينبوع هَذِه العين الَّتِي لا يسْتَغْنى عَنهُ.
* (فصل)
ثمَّ تَأمل حِكْمَة الله تَعالى في كَثْرَة بكاء الأطفال وما لَهُم فِيهِ من المَنفَعَة فَإن الأطباء والطبائعيين شهدُوا مَنفَعَة ذَلِك وحكمته وقالُوا في أدمغة الأطفال رُطُوبَة لَو بقيت في أدمغتهم لأحدثت أحداثا عَظِيمَة فالبكاء يسيل ذَلِك ويحدره من ادمغتهم فتقوى ادمغتهم وتَصِح وأيضا فَإن البكاء والعياط يُوسع عَلَيْهِ مجاري النَّفس ويفتح العُرُوق ويصابها ويقوى الأعصاب وكم للطفل من مَنفَعَة ومصلحة فِيما تسمعه من بكائه وصراخه فَإذا كانَت هَذِه الحِكْمَة في البكاء الَّذِي سَببه وُرُود الألم المؤذي وأنت لا تعرفها ولا تكاد تخطر ببالك فَهَكَذا إيلام الأطفال فِيهِ وفي أسبابه وعواقبه الحميدة من الحكم ما قد خَفِي على أكثر النّاس واضطرب عَلَيْهِم الكَلام في حكمه اضْطِراب الارشية وسلكوا في هَذا الباب مسالك.
فَقالَت طائِفَة لَيْسَ إلا مَحْض المَشِيئَة العارِية عَن الحِكْمَة والغاية المَطْلُوبَة وسدوا على أنفسهم هَذا الباب جملَة وكلما سئلوا عَن شَيْء أجابوا بِلا يسال عَمّا يفعل وهَذا من اصدق الكَلام ولَيْسَ المُراد بِهِ نفي حكمته تَعالى وعواقب أفعاله الحميدة وغاياتها المَطْلُوبَة مِنها وإنَّما المُراد بالآية إفْراده بالإلهية والربوبية وإنّهُ لكَمال حكمته لا معقب لحكمه ولا يعْتَرض عَلَيْهِ بالسؤال لأنه لا يفعل شَيْئا سدى ولا خلق شَيْئا عَبَثا وإنَّما يسْأل عَن فعله من خرج عَن الصَّواب ولم يكن فِيهِ مَنفَعَة ولا فائِدَة ألا ترى إلى قَوْله
﴿أمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هم يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وهم يُسْألُونَ (٢٣)﴾كَيفَ ساق الآية في الإنكار على من اتخذ من دونه آلِهَة لا تساويه فسواها بِهِ مَعَ أعظم الفرق فَقَوله
﴿لا يسْأل عَمّا يفعل﴾ إثبات لحقيقة الإلهية وإفراده لَهُ بالربوبية والإلهية.
وَقَوله
﴿وهم يسْألُون﴾ في صَلاح تِلْكَ الإلهة المتخذة للالهية فإنها مسئولة مربوبة مُدبرَة فَكيف يسوى بَينها وبَينه مَعَ أعظم الفرْقان.
فَهَذا الَّذِي سيق لَهُ الكَلام فَجَعلها الجبرية ملْجأ ومعقلا في إنْكار حكمته وتعليل أفعاله بغاياتها المحمودة وعواقبها السديدة والله المُوفق للصَّواب وقالَت طائِفَة الحِكْمَة في ابتلائهم تعويضهم في الآخرة بالثواب التّام فَقيل لَهُم قد كانَ يُمكن إيصال الثَّواب إليهم بِدُونِ هَذا الإيلام فَأجابُوا بِأن توَسط الإيلام في حَقهم كتوسط التكاليف في حق المُكَلّفين فَقيل لَهُم فَهَذا ينْتَقض عَلَيْكُم بإيلام أطفال الكفّار فَأجابُوا بِأنا لا نقُول أنهم في النّار كَما قالَه من قالَه من النّاس والنّار لا يدخلها أحد إلا بذنب وهَؤُلاء لا ذَنْب لَهُم وكَذا الكَلام مَعَهم في مسألة الأطفال والحجاج فِيها من الجانِبَيْنِ بِما لَيْسَ هَذا مَوْضِعه فأورد عَلَيْهِم ما لا جَواب لَهُم عَنهُ وهو إيلام أطفالهم الَّذين قدر بلوغهم وموتهم على الكفْر فَإن هَذا لا تعويض فِيهِ قطعا ولا هو عُقُوبَة على الكفْر فَإن العقُوبَة لا تكون سلفا وتعجيلا فحاروا في هَذا الموضع واضطربت أصولهم ولم يَأْتُوا بِما يقبله العقل وقالَت طائِفَة ثالِثَة هَذا السُّؤال لَو تَأمله مورده لعلم أنه ساقِط وأن تكلّف الجَواب عَنهُ الزام ما لا يلْزم فَإن هَذِه الآلام وتوابعها وأسبابها من لَوازِم النشأة الإنسانية الَّتِي لم يخلق منفكا عَنْها فَهي كالحرِّ والبرد والجوع والعطش والتعب والنّصب والهم والغَم والضعيف والعجز فالسؤال عَن حكم الحاجة إلى الأكل عند الجُوع والحاجة إلى الشّرْب عند الظمأ وإلى النّوم والراحة عند التَّعَب فَإن هَذِه الآلام هي من لَوازِم النشأة الإنسانية الَّتِي لا يَنْفَكّ عَنْها الإنسان ولا الحَيَوان فَلَو تجرد عَنْها لم يكن إنسانا بل كانَ ملكا أوْ خلقا آخر ولَيْسَت آلام الأطفال بأصعب من آلام البالِغين لَكِن لما صارَت لَهُم عادَة سهل موقعها عِنْدهم وكم بَين ما يقاسيه الطِّفْل ويعانيه البالِغ العاقِل وكل ذَلِك من مُقْتَضى الإنسانية ومُوجب الخلقَة فَلَو لم يخلق كَذَلِك لَكانَ خلقا آخر.
فَيرى أن الطِّفْل إذا جاع أوْ عَطش أوْ برد أوْ تَعب قد خص من ذَلِك بِما لم يمْتَحن بِهِ الكَبِير فإيلامه بِغَيْر ذَلِك من الأوجاع والأسقام كإيلامه بِالجُوعِ والعطش والبرد والحردون ذَلِك أوْ فَوْقه وما خلق الإنسان بل الحَيَوان إلا على هَذِه النشأة.
قالُوا فَإن سَألَ سائل وقالَ: فَلم خلق كَذَلِك وهلا خلق خلقَة غير قابِلَة للألم؟
فَهَذا سُؤال فاسد فَإن الله تَعالى
{خلقه في عالم الِابْتِلاء والامتحان من مادَّة ضَعِيفَة فَهي عرضة للآفات وركبة تركيبا معرضًا للأنواع من الآلام وجعل فِيهِ الأخلاط الأربعة الَّتِي لا قوام لَهُ إلّا بها ولا يكون إلا عَلَيْها وهِي لا محالة توجب امتزاجا واختلاطا وتفاعلا يبغى بَعْضها على بعض بكيفيته تارَة وبكميته تارَة وبِهِما تارَة وذَلِكَ مُوجب للآلام قطعا ووُجُود المَلْزُوم بِدُونِ لازمه محال ثمَّ أنه سُبْحانَهُ ركب فِيهِ من القوى والشهوة والإرادة ما يُوجب حركته الدائبة وسعيه في طلب ما يصلحه دفع ما يضرّهُ بِنَفسِهِ تارَة وبمن يُعينهُ تارَة فأحوج النَّوْع بعضه إلى بعض فَحدث من ذَلِك الِاخْتِلاط بَينهم وبغى بَعضهم على بعض فَحدث من ذَلِك الآلام والشرور بِنَحْوِ ما يحدث من امتزاج اخلاطه واختلاطها وبغى بَعْضها على بعض والآلام لا تتخلف عَن هَذا الامتزاج أبدا إلا في دار البَقاء والنَّعِيم المُقِيم لا في دار الِابْتِلاء والامتحان فَمن ظن أن الحِكْمَة في أن تجْعَل خَصائِص تِلْكَ الدّار في هَذِه فقد ظن باطِلا بل الحِكْمَة التّامَّة البالِغَة اقْتَضَت أن تكون هَذِه الدّار ممزوجة عافِيَتها ببلائها وراحتها بعنائها ولذتها بآلامها وصحتها بسقمها وفرحها بغمها فَهي دار ابتلاء تدفع بعض آفاتها بِبَعْض كَما قالَ القائِل:
أصبحت في دار بليات ∗∗∗ ادْفَعْ آفات بآفات
وَلَقَد صدق فَإنّك إذا فَكرت في الأكل والشرب واللباس والجِماع والراحة وسائِر ما يستلذ بِهِ رَأيْته يدْفع بها ما قابله من الآلام والبليات أفلا تراك تدفع بالأكل ألم الجُوع وبالشرب ألم العَطش وباللباس ألم الحر والبرد وكَذا سائرها.
وَمن هُنا قالَ بعض العُقَلاء أن لذاتها لنا هي دفع الآلام لا غير فأما اللَّذّات الحَقِيقِيَّة فلها دار أخرى ومحل آخر غير هَذِه فوجود هَذِه الآلام واللَّذّات الممتزجة المختلطة من الأدلة على المعاد وأن الحِكْمَة الَّتِي اقْتَضَت ذَلِك هي أولى باقتضاء دارين دار خالِصَة للذات لا يشوبها الم ما ودار خالِصَة للآلام لا يشوبها لَذَّة ما والدّار الأولى الجنَّة والدّار الثّانِيَة النّار أفلا ترى كَيفَ دلك ذَلِك مَعَ ما أنت مجبول عَلَيْهِ في هَذِه النشأة من اللَّذَّة والألم على الجنَّة والنّار ورأيت شواهدهما وأدلة وجودهما من نَفسك حَتّى كَأنَّك تعاينهما عيانًا وانْظُر كَيفَ دلّ العيان والحس والوجود على حِكْمَة الرب تَعالى وعَلى صدق رسله فِيما أخبروا بِهِ من الجنَّة والنّار.
فَتَأمل كَيفَ قاد النّظر في حِكْمَة الله إلى شَهادَة العُقُول والفطر بِصدق رسله وما أخبروا بِهِ تَفْصِيلًا يدل عَلَيْهِ العقل مُجملا فَأيْنَ هَذا من مقام من اداء علمه إلى المُعارضَة بَين ما جاءَت بِهِ الرُّسُل وبَين شَواهِد العقل وأدلته ولَكِن تِلْكَ العُقُول كادها باريها ووكلها إلى أنفسها فَحلت بها عَساكِر الخذلان من كل جانب وحسبك بِهَذا الفَصْل وعظيم منفعَته من هَذا الكتاب والله المَحْمُود المسؤل تَمام نعْمَته فَهَذِهِ كَلِمات مختصرة نافعة في مَسْألَة إيلام الأطفال لَعَلَّك لا تظفر بها في أكثر الكتب فارْجِع الان إلى نَفسك وفكر في هَذِه الأفعال الطبيعية الَّتِي جعلت في الإنسان وما فِيها من الحِكْمَة والمَنفَعَة وما جعل لكل واحِد مِنها في الطَّبْع المُجَرّد والداعي الَّذِي يَقْتَضِيهِ ويستحثه فالجوع يستحث الأكل ويطلبه لما فِيهِ من قوام البدن وحياته ومماته والكرى يقتضي النّوم ويستحثه لما فِيهِ من راحَة البدن والأعضاء واجمام القوى وعودها إلى قوتها جَدِيدَة غير كالة والشبق يَقْتَضِي الجِماع الَّذِي بِهِ دوام النَّسْل وقضاءالوطر وتَمام اللَّذَّة فتجد هَذِه الدَّواعِي تستحث الإنسان لهَذِهِ الأمور وتتقاضاها مِنهُ بِغَيْر اخْتِياره وذَلِكَ عين الحِكْمَة فَإنَّهُ لَو كانَ الإنسان إنَّما يَسْتَدْعِي هَذِه المستحثات إذا أراد لَأوْشَكَ أن يشْتَغل عَنْها بماي يعروه من العَوارِض مُدَّة فينحل بدنه ويهْلك ويترامى إلى الفساد وهو لا يشْعر كَما إذا احْتاجَ بدنه إلى شَيْء من الدَّواء والصَّلاح فدافعه وأعْرض عَنهُ حَتّى إذا استحكم بِهِ الدّاء أهلكه فاقتضت حِكْمَة اللَّطِيف الخَبِير أن جعلت فِيهِ بواعث ومستحثات تؤزه ازا إلى ما فِيهِ قوامه وبقاؤه ومصلحته وترد عَلَيْهِ بِغَيْر اخْتِياره ولا استدعائه فَجعل لكل واحِد من هَذِه الأفعال محرك من نفس الطبيعة يحركه ويحدوه عَلَيْهِ ثمَّ انْظُر إلى ما يُعْطِيهِ من القوى المُخْتَلفَة الَّتِي بها قوامه فَأعْطى القُوَّة الجاذبة الطالبة المستحثة الَّتِي تَقْتَضِي معلومها من الغذاء فتأخذه ويورده على الأعضاء بِحَسب قبُولها ثمَّ أعطى القُوَّة الممسكة الَّتِي تمسك الطَّعام وتحبسه ريثما تنضجه الطبيعة وتحكم طبخه وتهيؤه لمصارفه وتبعثه لمستحقه ثمَّ أعطى القُوَّة الهاضمة الَّتِي تصرفه في البدن وتهضمه عَن المعدة ثمَّ أعطى القُوَّة الدافعة وهِي الَّتِي تدفع ثقله وما لا مَنفَعَة فِيهِ فتدفعه وتخرجه عَن البدن لِئَلّا يُؤْذِيه وينهكه فَمن أعطاك هَذِه القُوَّة عند شدَّة حاجَتك إليها ومن جعلها خادِمًا لَك ومن أعطاها أفعالها واسْتعْمل كل واحِد مِنها على غير عمل الآخر ومن الف بَينها على تباينها حَتّى اجْتمعت في شخص واحِد ومحل واحِد ولَو عادى بَينها كانَ بَعْضها يذهب بَعْضًا فَمن كانَ يحول بَينه وبَين ذَلِك فلولا القُوَّة الجاذبة كَيفَ كنت متحركا لطلب الغذاء الَّذِي بِهِ قوام البدن ولَوْلا الممسكة كَيفَ كانَ الطَّعام يذهب في الجوف حَتّى تهضمه المعدة ولَوْلا الهاضمة كَيفَ كانَ يطْبخ حَتّى يخلص مِنهُ الصفو إلى سائِر أجزاء البدن وأعماقه ولَوْلا الدافعة كَيفَ كانَ الثّقل المؤذي القاتِل لَو انحبس يخرج أولا فأولا فيستريح البدن فيخف وينشط فَتَأمل كَيفَ وكلت هَذِه القُوَّة بك والقِيام بمصالحك فالبدن كدار اللملك فِيها حشمه وخدمه قد وكل بِتِلْكَ الدّار اقوأما يقومُونَ بمصالحها فبعضهم لاقْتِضاء حوائجها وإيرادها عَلَيْها وبَعْضهمْ لقبض الوارِد وحظفه وخزنه إلى أن يهيأ ويصْلح وبَعْضهمْ يقبضهُ فيهيؤه ويصلحه ويدفعه إلى أهل الدّار ويفرقه عَلَيْهِم بِحَسب حاجاتهم وبَعْضهمْ لمسح الدّار وتنظيفها وكنسها من المَزابِل والاقذار فالملك هو الملك الحق المُبين جلّ جَلاله والدّار أنت والحشم والخدم الأعضاء والجوارح والقوام عَلَيْها هَذِه القوى الَّتِي ذَكرناها تَنْبِيه فرق بَين نظر الطَّبِيب والطبائعي في هَذِه الأمور فنظرهما فيها مقصور على النّظر في حفظ الصِّحَّة ودفع السقم فَهو ينظر فيهامن هَذِه الجِهَة فَقَط وبَين نظر المُؤمن العارِف فِيها فَهو ينظر فِيها من جِهَة دلالتها على خالِقها وباريها وما له فِيها من الحكم البالِغَة، والنعَم السابغة والآلاء الَّتِي دَعا العباد إلى شكرها وذكرها.
(تَنْبِيه)
ثمَّ تَأمل حِكْمَة الله عز وجل في الحِفْظ والنِّسْيان الَّذِي خص بِهِ نوع الإنسان وماله فيهما من الحكم وما للْعَبد فيهما من المصالح فَإنَّهُ لَوْلا القُوَّة الحافظة الَّتِي خص بها لدخل عَلَيْهِ الخلَل في أُمُوره كلها ولم يعرف ماله وما عَلَيْهِ ولا ما أخذ ولا ما أعطى ولا ما سمع ورَأى ولا ما قالَ ولا ما قيل لَهُ ولا ذكر من أحسن إليه ولا من اساء إليه ولا من عامله ولا من نَفعه فَيقرب مِنهُ ولا من ضره فينأى عَنهُ ثمَّ كانَ لايهتدي إلى الطَّرِيق الَّذِي سلكه أول مرّة ولَو سلكه مرارًا ولا يعرف علما ولَو درسه عمره ولا ينْتَفع بتجربة ولا يَسْتَطِيع أن يعْتَبر شَيْئا على ما مضى بل كانَ خليقا أن يَنْسَلِخ من الإنسانية أصلا.
فَتَأمل عَظِيم المَنفَعَة عَلَيْك في هَذِه الخلال وموقع الواحِدَة مِنها فضلا عَن جَمِيعهنَّ.
وَمن أعجب النعم عَلَيْهِ نعْمَة النسْيان فَإنَّهُ لَوْلا النسْيان لما سلا شَيْئا ولا انْقَضتْ لَهُ حسرة ولا تعزى عَن مُصِيبَة ولا ماتَ لَهُ حزن ولا بَطل لَهُ حقد ولا تمتّع بِشَيْء من مَتاع الدُّنْيا مَعَ تذكر الآفات ولا رجا غَفلَة عَدو ولا نقمة من حاسِد فَتَأمل نعْمَة الله في الحِفْظ والنِّسْيان مَعَ اخْتِلافهما وتضادهما وجعله في كل واحِد مِنهُما ضربا من المصلحَة.
(تَنْبِيه)
ثمَّ تَأمل هَذا الخلق الَّذِي خص بِهِ الإنسان دون جَمِيع الحَيَوان وهو خلق الحياء الَّذِي هو من أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرا وأكثرها نفعا بل هو خاصَّة الإنسانية فَمن لا حَياء فِيهِ لَيْسَ مَعَه من الإنسانية إلا اللَّحْم والدَّم وصورتهم الظّاهِرَة كَما أنه لَيْسَ مَعَه من الخَيْر شَيْء ولَوْلا هذا الخلق لم يقر الضَّيْف ولم يوف بالوعد ولم يؤد امانة ولم يقْض لاحَدَّ حاجَة ولا تحرى الرجل الجَمِيل فآثره والقبيح فتجنبه ولا ستر لَهُ عَورَة ولا امْتنع من فاحِشَة وكثير من النّاس لَوْلا الحياء الَّذِي فِيهِ لم يؤد شَيْئا من الأمور المفترضة عَلَيْهِ ولم يرع لمخلوق حَقًا ولم يصل لَهُ رحما ولا بر لَهُ والدًا.
فَإن الباعِث على هَذِه الأفعال إمّا ديني وهو رَجاء عاقبَتها الحميدة.
وَإمّا دُنْيَوِيّ علوي وهو حَياء فاعلها من الخلق.
قد تبين أنه لَوْلا الحياء إمّا من الخالِق أوْ من الخَلائق لم يَفْعَلها صاحبها وفي التِّرْمِذِيّ وغَيره مَرْفُوعا
"اسْتَحْيوا من الله حق الحياء"
قالُوا وما حق الحياء؟
قالَ "أن تحفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى وتذكر المَقابِر والبلى"
وَقالَ: "إذا لم تستح فاصْنَعْ ما شِئْت"
وَأصَح القَوْلَيْنِ فِيهِ قَول أبي عبيد والأكثرين أنه تهديد كَقوله تَعالى: ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُم﴾ وقَوله
﴿كلوا وتمتعوا قَلِيلا﴾وَقالَت طائِفَة هو إذن وإباحَة والمعْنى إنَّك إذا اردت أن تفعل فعلا فانْظُر قبل فعله فَإن كانَ مِمّا يستحيا فِيهِ من الله ومن النّاس فَلا تَفْعَلهُ وإن كانَ مِمّا لا يستحيا مِنهُ فافعله فَإنَّهُ لَيْسَ بقبيح وعِنْدِي أن هَذا الكَلام صُورَة صرة الطّلب ومَعْناهُ معنى الخَبَر وهو في قُوَّة قَوْلهم من لا يستحى صنع ما يشتهى فَلَيْسَ بِإذن ولا هو مُجَرّد تهديد وإنَّما هو في معنى الخَبَر والمعْنى أن الرادع عَن القَبِيح إنَّما هو الحياء فَمن لم يستح فَإنَّهُ يصنع ماشاء وإخْراج هَذا المَعْنى في صِيغَة الطّلب لنكته بديعة جدا وهِي أن للإنسان آمرين وزاجرين آمروزاجر من جِهَة الحياء فَإذا اطاعه امْتنع من فعل كل ما يَشْتَهِي وله آمُر وزاجر من جِهَة الهوى والطبيعة فَمن لم يطع آمُر الحياء وزاجره أطاع آمُر الهوى والشهوة ولا بُد فإخراج الكَلام في قالب الطّلب يتَضَمَّن هَذا المَعْنى دون أن يُقال من لا يستحي صنع ما يَشْتَهِي.
(تَنْبِيه)
ثمَّ تَأمل نعْمَة الله على الإنسان بالبيانين البَيان النطقي والبَيان الخطي وقد اعْتد بهما سُبْحانَهُ في جملَة من اعْتد بِهِ من نعمه على العَبْد فَقالَ في أول سُورَة انزلت على رَسُول الله
﴿اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الإنْسان من علق اقْرَأ ورَبك الأكرم الَّذِي علم بالقلم علم الإنْسان ما لم يعلم﴾فَتَأمل كَيفَ جمع في هَذِه الكَلِمات مَراتِب الخلق كلها وكَيف تَضَمَّنت مَراتِب الوجودات الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأحسنه فَذكر أولا عُمُوم الخلق وهو إعطاءالوجود الخارِجِي ثمَّ ذكر ثانِيًا خُصُوص خلق الإنسان لأنه مَوضِع العبْرَة والآية فِيهِ عَظِيمَة ومن شُهُوده عَمّا فِيهِ مَحْض تعدد النعم وذكر مادَّة خلقه ها هُنا من العلقَة وفي سائِر المَواضِع يذكر ما هو سابق عَلَيْها إمّا مادَّة الأصل وهو التُّراب والطين أوْ الصلصال الَّذِي كالفخار أوْ مادَّة الفَرْع وهو الماء المهين.
وَذكر في هَذا الموضع أول مبادئ تعلق التخليق وهو العلقَة فَإنَّهُ كانَ قبلها نُطْفَة فَأول انتقالها إنَّما هو إلى العلقَة ثمَّ ذكر ثالِثا التَّعْلِيم بالقلم الَّذِي هو من أعظم نعمه على عباده إذْ بِهِ تخلد العُلُوم وتثبت الحُقُوق وتعلم الوَصايا وتحفظ الشَّهادات ويضبط حِساب المُعامَلات الواقِعَة بَين النّاس وبِه تقيد إخبار الماضين للباقين اللاحقين ولَوْلا الكِتابَة لانقطعت إخبار بعض الازمنة عَن بعض ودرست السّنَن وتخبطت الأحكام ولم يعرف الخلف مَذاهِب السّلف وكانَ مُعظم الخلَل الدّاخِل على النّاس في دينهم ودنياهم إنمايعتريهم من النسْيان الَّذِي يمحو صور العلم من قُلُوبهم فَجعل لَهُم الكتاب وعاء حافِظًا للْعلم من الضّياع كالأوعية الَّتِي تحفظ الامتعة من الذّهاب والبطلان فنعمة الله عَن وجل بتعليم القَلَم بعد القُرْآن من أجل النعم والتعليم بِهِ، وإن كانَ مِمّا يخلص إليه الإنسان بالفطنة والحِيلَة فَإنَّهُ الَّذِي بلغ بِهِ ذَلِك وأوصله إليه عَطِيَّة وهبها الله مِنهُ، وفضل أعطاه الله إيّاه، وزِيادَة في خلقه وفضله فَهو الَّذِي علمه الكِتابَة وإن كانَ هو المتعلم فَفعله فعل مُطاوع لتعليم الَّذِي علم بالقلم فَإن علمه فتعلم كَما أنه علمه الكَلام فَتكلم هَذا ومن أعطاه الذِّهْن الَّذِي يعي بِهِ واللِّسان الَّذِي يترجم بِهِ والبنان الَّذِي يحط بِهِ ومن هيأ ذهنه لقبُول هَذا التَّعْلِيم دون سائِر الحَيَوانات ومن الَّذِي انطق لِسانه وحرك بنانه ومن الَّذِي دعم البنان بالكف ودعم الكَفّ بالساعد فكم لله من آيَة نَحن غافلون عَنْها في التَّعَلُّم بالقلم فقف وقْفَة في حال الكِتابَة.
وَتَأمل حالك وقد أمسكت القَلَم وهو جماد وضعته على القرطاس وهو جماد فتولد من بَينهما أنواع الحكم وأصناف العُلُوم وفنون المراسلات والخطب والنّظم والنثر وجوابات المسائِل فَمن الَّذِي أجرى فلك المعانِي على قَلْبك ورسمها في ذهنك ثمَّ أجرى العبارات الدّالَّة عَلَيْها على لسانك ثمَّ حرك بها بنانك حَتّى صارَت نقشا عجيبا مَعْناهُ أعجب من صورته فتقضى بِهِ مآربك وتبلغ بِهِ حاجَة في صدرك وترسله إلى الاقطار النائية والجهات المتباعدة فَيقوم مقامك ويترجم عَنْك ويتَكَلَّم على لسانك ويقوم مقام رَسُولك ويجدي عَلَيْك ما لا يجدي من ترسله سوى من علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم والتعليم بالقلم يتسلزم المَراتِب الثَّلاثَة مرتبَة الوُجُود الذهْنِي والوجود اللَّفْظِيّ والوجود الرسمي فقد دلّ التَّعْلِيم بالقلم على أنه سُبْحانَهُ هو المُعْطِي لهَذِهِ المَراتِب ودلّ قَوْله خلق على أنه يعْطى الوُجُود العَيْنِيّ فدلت هَذِه الآيات مَعَ اختصارها ووجازتها وفصاحتها على أن مَراتِب الوُجُود بأسرها مُسندَة إليه تَعالى
﴿خلقا وتعليما وذكر خلقين وتلعيمين خلقا عاما وخلقا خاصّا وتعليما خاصّا وتعليما عاما وذكر من صِفاته ها هُنا اسْم الأكرم الَّذِي فِيهِ كل خير وكل كَمال فَلهُ كل كَمال وصفا ومِنه كل خير فعلا فَهو الأكرم في ذاته وأوصافه وأفعاله وهَذا الخلق والتعليم إنَّما نَشأ من كرمه وبره وإحسانه لا من حاجَة دَعَتْهُ إلى ذَلِك وهو الغَنِيّ الحميد وقوله تَعالى: {الرَّحْمَن علم القُرْآن خلق الإنْسان علمه البَيان﴾دلّت هَذِه الكَلِمات على إعْطائِهِ سُبْحانَهُ مَراتِب الوُجُود بأسرها فَقَوله خلق الإنسان إخْبار عَن الايجاد الخارِجِي العَيْنِيّ وخص الإنسان بالخلق لما تقدم وقَوله علم القُرْآن إخْبار عَن إعْطاء الوُجُود العلمي الذهْنِي فَإنَّما تعلم الإنسان القُرْآن بتعليمه كَما أنه إنَّما صار إنْسانا بخلقه فَهو الَّذِي خلقه وعلمه ثمَّ قالَ
﴿علمه البَيان﴾والبَيان يتَناوَل مَراتِب راتب ثَلاثَة كل مِنها يُسمى بَيانا أحدها البَيان الذهْنِي الَّذِي يُمَيّز فِيهِ بَين المعلومات الثّانِي البَيان
اللَّفْظِيّ الَّذِي يعبر بِهِ عَن تِلْكَ المعلومات ويترجم عَنْها فِيهِ لغيره الثّالِث البَيان الرسمي الخطي الَّذِي يرسم بِهِ تِلْكَ الألفاظ فيتبين النّاظر مَعانِيها كَما يتَبَيَّن للسامع مَعاني الألفاظ فَهَذا بَيان للعين وذاكَ بَيان للسمع والأول بَيان للقلب وكَثِيرًا ما يجمع سُبْحانَهُ بَين هَذِه الثَّلاثَة كَقَوْلِه
﴿إن السّمع والبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كانَ عَنهُ مسؤولا﴾وَقَوله
﴿والله أخرجكم من بطُون أُمَّهاتكُم لا تعلمُونَ شَيْئا وجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكم تشكرون﴾ويذم من عدم الِانْتِفاع بها في اكْتِساب الهدى والعلم النافع كَقَوْلِه
﴿صم بكم عمي﴾ وقَوله
﴿ختم الله على قُلُوبهم وعَلى سمعهم وعَلى أبْصارهم غشاوة﴾ وقد تقدم بسط هَذا الكَلام تَنْبِيه ثمَّ تَأمل حِكْمَة اللَّطِيف الخَبِير فِيما أعطى الإنسان علمه بِما فِيهِ صَلاح معاشه ومعاده ومنع عَنهُ علم ما لا حاجَة لَهُ بِهِ فجهله بِهِ لا يضر وعلمه بِهِ لا ينْتَفع بِهِ انتفاعا طائلا ثمَّ يسر عَلَيْهِ طرق ما هو مُحْتاج إليه من العلم أتم تيسير وكلما كانَت حاجته إليه من العلم أعظم كانَ تيسيره إياه عَلَيْهِ أتم فأعطاه معرفَة خالقه وبارئه ومبدعه سُبْحانَهُ والإقرار بِهِ ويسر عَلَيْهِ طرق هَذِه المعرفَة فَلَيْسَ في العُلُوم ما هو أجل مِنها ولا أظهر عند العقل والفطرة ولَيْسَ في طرق العُلُوم الَّتِي تنال بها أكثر من طرقها ولا أدل ولا أبين ولا أوضح فَكلما تراهُ بِعَيْنِك أوْ تسمعه بأذنك اوتعقله بقلبك وكلما يخْطر ببالك وكلما نالته حاسة من حواسك فَهو دَلِيل على الرب تبارك وتَعالى فطرق العلم بالصانع فطرية ضَرُورِيَّة لَيْسَ في العُلُوم اجلي مِنها وكل ما اسْتدلَّ بِهِ على الصّانِع فالعلم بِوُجُودِهِ أظهر من دلالَته ولِهَذا قالَت الرُّسُل لأممهم افي الله شكّ فخاطبوهم مُخاطبَة من لا يَنْبَغِي أن يخْطر لَهُ شكّ ما في وجود الله سُبْحانَهُ ونصب من الأدلة على وجوده وحدانيته وصفات كَماله الأدلة على اخْتِلاف أنواعها ولا يُطيق حصرها إلّا الله ثمَّ ركز ذَلِك في الفطْرَة ووَضعه في العقل جملَة ثمَّ بعث الرُّسُل مذكرين بِهِ ولِهَذا يَقُول تَعالى
﴿وذكر فَإن الذكرى تَنْفَع المُؤمنِينَ﴾ وقَوله
﴿فَذكر إن نَفَعت الذكرى﴾ وقَوله
﴿إنَّما أنْت مُذَكّر﴾ وقَوله
﴿فَما لَهُم عَن التَّذْكِرَة معرضين﴾وَهُوَ كثير في القُرْآن ومفصلين لما في الفطْرَة والعقل العلم بِهِ جملَة فانْظُر كَيفَ وجد الإقرار بِهِ وبتوحيده وصفات كَماله ونعوت جَلاله وحكمته في خلقه وأمره المُقْتَضِيَة إثْبات رِسالَة رسله ومجازات المحسن بإحسانه والمسيء بإسائته مودعا في الفطْرَة مركوزا فِيها فَلَو خليت على ما خلقت عَلَيْهِ لم يعرض لَها ما يُفْسِدها ويحولها ويغيرها عَمّا فطرت عَلَيْهِ ولأقرت بوحدنيه ووُجُوب شكره وطاعته وبصفاته وحكمته في أفعاله وبالثواب والعِقاب ولكنها لما فَسدتْ وانحرفت عَن المنْهَج الَّذِي خلقت
عَلَيْهِ أنكرت ما أنكرت وجحدت ما جحدت فَبعث الله رسله مذكرين لأصحاب الفطر الصَّحِيحَة السليمة فانقادوا طَوْعًا واختيارا ومحبة وإذعانا بِما جعل من شَواهِد ذَلِك في قُلُوبهم حَتّى أن مِنهُم من لم يسْأل عَن المعجزة والخارق بل علم صِحَة الدعْوَة من ذاتها وعلم أنها دَعْوَة حق برهانها فِيها ومعذرين ومقيمين البَيِّنَة على أصحاب الفطر الفاسِدَة لِئَلّا نحتج على الله بِأنَّهُ ما ارشدها ولا هداها فيحق القَوْل عَلَيْها بِإقامَة الحجَّة فَلا يكون سُبْحانَهُ ظالِما لَها بتعذيبها واشقائها وقد بَين ذَلِك سُبْحانَهُ في قَوْله
﴿إن هو إلّا ذكر وقُرْآن مُبين لينذر من كانَ حَيا ويحق القَوْل على الكافرين﴾فَتَأمل كَيفَ ظَهرت معرفَة الله والشَّهادَة لَهُ بِالتَّوْحِيدِ وإثبات أسمائه وصِفاته ورسالة رسله والبعث للجزاء مسطورة مثبتة في الفطر ولم يكن ليعرف بها أنها ثابِتَة في فطرته فَلَمّا ذكرته الرُّسُل ونبهته رأى ما أخْبرُوهُ بِهِ مُسْتَقرًّا في فطرته شاهدا بِهِ عقله بل وجوارحه ولسان حاله وهَذا أعظم ما يكون من الإيمان وهو الَّذِي كتبه سُبْحانَهُ في قُلُوب أوليائه وخاصته فَقالَ
﴿أُولَئِكَ كتب في قُلُوبهم الإيمان﴾ فَتدبر هَذا الفَصْل فَإنَّهُ من الكُنُوز في هَذا الكتاب وهو حقيق بِأن تثنى عَلَيْهِ الخناصر وللَّه الحَمد والمنة.
والمَقْصُود أن الله سُبْحانَهُ أعطى العَبْد من هَذِه المعارف وطرقها ويسرها عَلَيْهِ ما لم يُعْطه من غَيرها لعظم حاجته في معاشه ومعاده إليها، ثمَّ وضع في العقل من الإقرار بِحسن شَرعه ودينه الَّذِي هو ظله في أرضه وعدله بَين عباده ونوره في العالم ما لو اجْتمعت عقول العالمين كلهم فَكانُوا على عقل أعقل رجل واحِد مِنهُم لما أمكنهم أن يقترحوا شَيْئا أحسن مِنهُ، ولا أعْدِلْ ولا أصلح ولا أنفع للخليقة في معاشها ومعادها.
فَهُوَ أعظم آياته وأوضح بيناته، وأظْهر حججه على أنه الله الَّذِي لا إلَه إلّا هو وأنّهُ المتصف بِكُل كَمال المنزه عَن كل عيب ومِثال، فضلا عَن أن يحْتاج إلى إقامَة شاهد من خارج عَلَيْهِ بالأدلة والشواهد لتكثير طرق الهدى وقطع المعذرة وإزاحة العلَّة والشبهة
﴿لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيى مَن حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وإنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢)﴾فَأثْبت في الفطْرَة حسن العدْل والإنصاف والصدق والبر والإحسان والوَفاء بالعهد والنصيحة لِلْخلقِ ورَحْمَة المِسْكِين ونصر المَظْلُوم ومواساة أهل الحاجة والفاقة وأداء الأمانات ومقابلة الإحسان بالإحسان والإساءة بِالعَفو والصفح والصَّبْر في مَواطِن الصَّبْر والبذل في مَواطِن البَذْل والانتقام في مَوضِع الانتقام والحلم في مَوضِع الحلم والسكينة والوَقار والرأفة والرفق والتؤدة وحسن الأخلاق وجَمِيل المعاشرة مَعَ الأقارب والأباعد وستر العورات وإقالة العثرات والإيثار عند الحاجات وإغاثة اللهفات وتفريج الكربات والتعاون على أنواع الخَيْر والبر والشجاعة والسماحة والبصيرة والثبات والعزيمة والقُوَّة في الحق واللين لأهله والشدة على أهل الباطِل والغلظة عَلَيْهِم والإصلاح بَين النّاس والسَّعْي في إصْلاح ذات البَين وتعظيم من يسْتَحق التَّعْظِيم وإهانة من يسْتَحق الإهانة وتنزيل النّاس مَنازِلهمْ وإعطاء كل ذِي حق حَقه، وأخذ ما سهل عَلَيْهِم وطوعت بِهِ أنفسهم من الأعمال والأموال والأخلاق، ولإرشاد ضالهم وتَعْلِيم جاهلهم واحْتِمال جفوتهم واستواء قريبهم وبعيدهم في الحق فأقربهم إليه أولاهم بِالحَقِّ وإن كانَ بَعيدا وأبعدهم عَنهُ أبعدهم من الحق وإن كانَ حبيبا قَرِيبا إلى غير ذَلِك من معرفَة العقل الَّذِي وضعه بَينهم في المُعامَلات والمناكحات والجنآيات وما أودع في فطرهم من حسن شكره وعبادته وحده لا شريك لَهُ، وأن نعمه عَلَيْهِم توجب بذل قدرتهم وطاقتهم في شكره والتقرب إليه وإيثاره على ما سواهُ وأثبت في الفطر علمها بقبيح اضداد ذَلِك ثمَّ بعث رسله في الأمر بِما اثْبتْ في الفطر حسنه وكماله والنَّهْي عَمّا اثْبتْ فِيها قبحه وعيبه وذمه.
فطابقت الشَّرِيعَة المنزلَة للفطرة المكملة مُطابقَة التَّفْصِيل بجملته، وقامَت وشواهد دينه في الفطْرَة تنادي للإيمان حَيّ على الفَلاح، وصدعت تِلْكَ الشواهد والآيات دياجي ظلم الآباء، كَما صدع اللَّيْل ضوء الصَّباح وقبل حاكم الشَّرِيعَة شَهادَة العقل والفطرة لما كانَ الشّاهِد غير مُتَّهم ولا معرض للجراح.