الباحث القرآني
* (فصل)
ثم ذكرهم سبحانه بآياته الأفقية والنفسية فقال ﴿وَفِي الأرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وفي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾
فآيات الأرض أنواع كثيرة منها خلقها وحدوثها بعد عدمها وشواهد الحدوث والافتقار إلى الصانع عليها لا تجحد فإنها شواهد قائمة بها ومنها بروز هذا الجانب فيها عن الماء مع كون مقتضى الطبيعة أن يكون مغمورًا به ومنها سعتها وكبر خلقها ومنها تسطيحها كما قال تعالى ﴿وَإلى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ ولا ينافى ذلك كونها كرية فهي كرة في الحقيقة لها سطح يستقر عليه الحيوان ومنها أنه جعلها فراشًا لتكون مقر الحيوان ومساكنه وجعلها قرارًا وجعلها مهادا ذلولًا توطأ بالأقدام وتضرب بالمعاول والفئوس وتحمل على ظهرها الأبنية الثقال فهي ذلول مسخرة لما يريد العبد منها وجعلها بساطًا وجعلها كفاتا للأحياء تضمهم على ظهرها وللأموات تضمهم في بطنها وطحاها فمدها وبسطها ووسعها ودحاها فهيأها لما يراد منها بأن أخرج منها ماءها ومرعاها وشق فيها الأنهار وجعل فيها السبل والفجاج ونبه بجعلها مهادًا وفراشًا على حكمته في جعلها ساكنة وذلك آية أخرى إذ لا دعامة تحتها تمسكها ولا علاقة فوقها ولكنها لما كانت على وجه الماء كانت تكفأ فيه تكفأ السفينة فاقتضت العناية الأزلية والحكمة الإلهية أن وضع عليها رواسي يثبتها بها لئلا تميد وليستقر عليها الأنام وجعلها ذلولًا على الحكمة في أن لم تكن في غاية الصلابة والشدة كالحديد فيمتنع حفرها وشقها والبناء فيها والغرسى والزرع وبعث النوم عليها والمشي فيها ونبه بكونها قرارًا على الحكمة في أنها لم تخلق في غاية اللين والرخاوة والدماثة فلا تمسك بناء ولا يستقر عليها الحيوان ولا الأجسام الثقيلة بل جعلها بين الصلابة والدماثة وأشرف الجواهر عند الإنسان الذهب والفضة والياقوت والزمرد فلو كانت الأرض من هذه الجواهر لفاتت مصالح العباد والحيوان منها وتعطلت المنافع المقصودة منها وبهذا يعلم أن جواهر التراب أشرف من هذه الجواهر وأنفع وأبرك وإن كانت تلك أعلى وأعز فغلاؤها وعزتها لقاتها وإلا فالتراب أنفع منها وأبرك وأنفس وكذلك لم يجعلها شفافة فإن الجسم الشفاف لا يستقر عليه النور وما كان كذلك لم يقبل السخونة فيبقى في غاية البرد فلا يستقر عليه الحيوان ولا يتأتى فيه النبات وكذلك لم يجعلها صقيلة براقة لئلا يحترق ما عليها بسبب انعكاس أشعة الشمس كما يشاهد من احتراق القطن ونحوه عند انعكاس شعاع الجسم الصقيل الشفاف فاقتضت حكمته سبحانه أن جعلها كثيفة غبراء فصلحت أن تكون مستقرًا للحيوان والأنام والنبات
ولما كان الحيوان الهوائي لا يمكنه أن يعيش في الماء كالحيوان المائي أبرز له جانبها كما تقدم وجعله على أوفق الهيئات لمصالحه وأنشأ منها طعامه وقوته وكذلك خلق منها النوع الإنساني وأعاده إليها ويخرجه منها
* (فصل)
ومن آياتها أن جعلها مختلفة الأجناس والصفات والمنافع مع أنها قطع متجاورات متلاصقة فهذه سهلة وهذه حزنة تجاورها وتلاصقها وهذه طيبة تنبت وتلاصقها أرض لا تنبت وهذه تربة وتلاصقها رمال وهذه صلبة ويلاصقها ويليها رخوة وهذه سوداء ويليها أرض بيضاء وهذه حصى كلها ويجاورها أرض لا يوجد فيها حجر وهذه تصلح لنبات كذا وكذا وهذه لا تصلح له بل تصلح لغيره وهذه سبخة مالحة وهذه بضدها وهذه ليس فيها جبل ولا معلم وهذه مسجرة بالجبال وهذه لا تصلح إلا على المطر وهذه لا ينفعها المطر بل لا تصلح إلا على سقي الأنهار فيمطر الله سبحانه الماء على الأرض البعيدة وهذه لا ينفعها المطر ويسوق الماء إليها على وجه الأرض
فلو سألتها من نوعها هذه التنوع ومن فرق أجزاءها هذا التفريق ومن خصص كل قطعة منها بما خصها به ومن ألقى عليها رواسيها وفتح فيها السبل وأخرج منها الماء والمرعى ومن أمسكها عن الزوال ومن بارك فيها وقدر فيها أقواتها وأنشأ منها حيوانها ونباتها ومن وضع فيها معادنها وجواهرها ومنافعها ومن هيأها مسكنًا ومستقرًا للأنام ومن يبدأ الخلق منها ثم يعيده إليها ثم يخرجه منها ومن جعلها ذلولًا غير مستصعبة ولا ممتنعة ومن وطأ مناكبها وذلل مسالكها ووسع مخارجها وشق أنهارها وأنبت أشجارها وأخرج ثمارها ومن صدعها عن النبات وأودع فيها جميع الأقوات ومن بسطها وفرشها ومهدها وذللها وطحاها ودحاها وجعل ما عليها زينة لها ومن الذي يمسكها أن تتحرك فتتزلزل فيسقط ما عليها من بناء ومعلم أو يخسفها بمن عليها فإذا هي تمور ومن الذي أنشأ منها النوع الإنساني الذي هو أبدع المخلوقات وأحسن المصنوعات بل أنشأ منها آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا وعليهم أجمعين وأنشأ منها أولياءه وأحباءه وعباده الصالحين ومن جعلها حافظة لما استودع فيها من المياه والأرزاق والمعادن والحيوان ومن جعل بينها وبين الشمس والقمر هذا القدر من المسافة فلو زادت على ذلك لضعف تأثرها بحرارة الشمس ونور القمر فتعطلت المنفعة الواصلة إلى الحيوان والنبات بسبب ذلك ولو زادت في القرب لاشتدت الحرارة والسخونة كما نشاهده في الصيف فاحترقت أبدان الحيوان والنبات وبالجملة فكانت تفوت هذه الحكمة التي بها انتظام العالم ومن الذي جعل فيها الجنات والحدائق والعيون ومن الذي جعل باطنها بيوتًا للأموات وظاهرها بيوتًا للأحياء ومن الذي يحييها بعد موتها فينزل عليها الماء من السماء ثم يرسل عليها الريح ويطلع عليها الشمس فتأخذ في الحبل فإذا كان وقت الولادة مخضت للوضع واهتزت وأنبتت من كل زوج بهيج
فسبحان من جعل السماء كالأب والأرض كالأم والقطر كالماء الذي ينعقد منه الولد فإذا حصل الحب في الأرض ووقع عليه الماء أثرت نداوة الطين فيه وأعانتها السخونة المختفية في باطن الأرض فوصلت النداوة والحرارة إلى باطن الحبة فاتسعت الحبة وربت وانتفخت وانفلقت عن ساقين ساق من فوقها وهو الشجرة وساق من تحتها وهو العرق ثم عظم ذلك الولد حتى لم يبق لأبيه نسبة إليه ثم وضع من الأولاد بعد أبيه آلافًا مؤلفة كل ذلك صنع الرب الحكيم في حبة واحدة لعلها تبلغ في الصغر إلى الغاية وذلك من البركة التي وضعها الله سبحانه في هذه الأم فيا لها من آية تكفي وحدها في الدلالة على وجود الخالق وصفات كماله وأفعاله وعلى صدق رسله فيما أخبروا به عنه بإخراج من في القبور ليوم البعث والنشور
فتأمل اجتماع هذه العناصر الأربعة وتجاورها وامتزاجها وحاجة بعضها إلى بعض وانفصال بعضها عن بعض وتأثيره فيه وتأثره به بحيث لا يمكنه إلا الاتباع من التأثر والانفعال ولا يستقل الآخر بالتأثير ولا يستغني عن صاحبه وفي ذلك أظهر دلالة على أنها مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة حادثة بعد عدمها فقيرة إلى موجد غني عنها مؤثر غير متأثر قديم غير حادث تنقاد المخلوقات كلها لقدرته وتجيب داعي مشيئته وتلبي داعي وحدانيته وربوبيته وتشهد بعلمه وحكمته وتدعو عباده إلى ذكره وشكره وطاعته وعبوديته ومحبته وتحذرهم من بأسه ونقمته وتحثهم على المبادرة إلى رضوانه وجنته
فانظر إلى الماء والأرض كيف لما أراد الرب تعالى امتزاجهما وازدواجهما أنشأ الرياح فحركت الماء وساقته إلى أن قذفته في عمق الأرض ثم أنشأ لها حرارة لطيفة سماوية وحصل بها الإنبات ثم أنشأ لها حرارة أخرى أقوى منها حصل بها الانفتاح وكانت حالته الأولى تضعف عن الحرارة الثانية فادخرت إلى وقت قوته وصلابته فحرارة الربيع للإخراج وحرارة الصيف للإنضاج هذا وإن الأم واحدة والأب واحد واللقاح واحد والأولاد في غاية التباين والتنوع كما قال تعالى ﴿وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وجَنّاتٌ مِن أعْنابٍ وزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوانٌ وغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ونُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ في الأُكُلِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون﴾
فهذا بعض آيات الأرض ومن الآيات التي فيها وقائعه سبحانه التي أوقعها بالأمم المكذبين لرسلهم المخالفين لأمره وأبقى آثارهم دالة عليهم كما قال تعالى ﴿وَعادًا وثَمُودَ وقَدْ تَبَيَّنَ لَكم مِن مَساكِنِهِمْ﴾ وقال في قوم لوط: ﴿وَإنَّكم لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وبِاللَّيْلِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾
وقال ﴿فَأخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِن سِجِّيلٍ إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وإنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾
أي بطريق ثابت لا يزول عن حاله.
وقال ﴿وَإنْ كانَ أصْحابُ الأيْكَةِ لَظالِمِينَ فانْتَقَمْنا مِنهم وإنَّهُما لَبِإمامٍ مُبِينٍ﴾
أي ديار هاتين الأمتين لبطريق واضح يمر به السالكون
وقال تعالى ﴿وَسَكَنْتُمْ في مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم وتَبَيَّنَ لَكم كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ﴾
وقال عن قوم عاد ﴿فَأصْبَحُوا لا يُرى إلا مَساكِنُهُمْ﴾
وقال ﴿أوَلَمْ يَهْدِ لَهم كَمْ أهْلَكْنا مِن قَبْلِهِمْ مِنَ القُرُونِ يَمْشُونَ في مَساكِنِهِمْ﴾ فأي دلالة أعظم من رجل يخرج وحده لا عدة له ولا عدد ولا مال فيدعوا الأمة العظيمة إلى توحيد الله والإيمان به وطاعته ويحذرهم من بأسه ونقمته فتتفق كلمتهم أو أكثرهم على تكذيبه ومعاداته فيذكرهم أنواع العقوبات الخارجة عن قدرة البشر فيغرق المكذبين كلهم تارة ويخسف بغيرهم الأرض تارة ويهلك آخرين بالريح وآخرين بالصيحة وآخرين بالمسخ وآخرين بالصواعق وآخرين بأنواع العقوبات وينجو داعيهم ومن معه والهالكون أضعاف أضعاف أضعافهم عددًا وقوة ومنعة وأموالا:
؎فيالك من آيات حق لو اهتدى ∗∗∗ بهن مريد الحق كن هواديا
؎ولكن على تلك القلوب أكنة ∗∗∗ فليست وإن أصغت تجيب المناديا
فهلا امتنعوا إن كانوا على الحق وهم أكثرهم عددًا وأقوى شوكة بقوتهم وعددهم من بأسه وسلطانه وهلا اعتصموا من عقوبته كما اعتصم من هو أضعف منهم من أتباع الرسل
ومن الآيات التي في الأرض مما يحدثه الله فيها كل وقت ما يصدق به رسله فيما أخبرت به فلا تزال آيات الرسل وأعلام صدقهم وأدلة نبوتهم يحدثها الله سبحانه وتعالى في الأرض إقامة للحجة على من لم يشاهد تلك الآيات التي قاربت عصر الرسل حتى كأن أهل كل قرن يشاهدون ما يشاهده الأولون أو نظيره كما قال ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهم أنَّهُ الحَقُّ﴾
وهذه الإرادة لا تختص بقرن دون قرن بل لا بد أن يري الله سبحانه أهل كل قرن من الآيات ما يبين لهم أنه الله الذي لا إله إلا هو وأن رسله صادقون، وآيات الأرض أعظم مما ذكر وأكثر، فنبه باليسير منها على الكثير.
* [فَصْلٌ: مَنزِلَةُ اليَقِينِ]
وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ اليَقِينِ
وَهُوَ مِنَ الإيمانِ مَنزِلَةُ الرُّوحِ مِنَ الجَسَدِ. وبِهِ تَفاضَلَ العارِفُونَ. وفِيهِ تَنافَسَ المُتَنافِسُونَ. وإلَيْهِ شَمَّرَ العامِلُونَ. وعَمَلُ القَوْمِ إنَّما كانَ عَلَيْهِ. وإشاراتُهم كُلُّها إلَيْهِ. وإذا تَزَوَّجَ الصَّبْرُ بِاليَقِينِ: وُلِدَ بَيْنَهُما حُصُولُ الإمامَةِ في الدِّينِ. قالَ اللَّهُ تَعالى، وبِقَوْلِهِ: يَهْتَدِي المُهْتَدُونَ ﴿وَجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ٢٤].
وَخَصَّ سُبْحانَهُ أهْلَ اليَقِينِ بِالِانْتِفاعِ بِالآياتِ والبَراهِينِ. فَقالَ، وهو أصْدَقُ القائِلِينَ: ﴿وَفِي الأرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات: ٢٠].
وَخَصَّ أهْلَ اليَقِينِ بِالهُدى والفَلاحِ مِن بَيْنِ العالَمِينَ، فَقالَ: ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبِالآخِرَةِ هم يُوقِنُونَ - أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٤-٥].
وَأخْبَرَ عَنْ أهْلِ النّارِ: بِأنَّهم لَمْ يَكُونُوا مِن أهْلِ اليَقِينِ، فَقالَ تَعالى: ﴿وَإذا قِيلَ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ والسّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي ما السّاعَةُ إنْ نَظُنُّ إلّا ظَنًّا وما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية: ٣٢].
فاليَقِينُ رُوحُ أعْمالِ القُلُوبِ الَّتِي هي أرْواحُ أعْمالِ الجَوارِحِ.
وَهُوَ حَقِيقَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ. وهو قُطْبُ هَذا الشَّأْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدارُهُ.
وَرَوى خالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ السُّفْيانَيْنِ عَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «لا تُرْضِيَنَّ أحَدًا بِسَخَطِ اللَّهِ. ولا تَحْمَدَنَّ أحَدًا عَلى فَضْلِ اللَّهِ، ولا تَذُمَّنَّ أحَدًا عَلى ما لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ. فَإنَّ رِزْقَ اللَّهِ لا يَسُوقُهُ إلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ. ولا يَرُدُّهُ عَنْكَ كَراهِيَةَ كارِهٍ. وإنَّ اللَّهَ بِعَدْلِهِ وقِسْطِهِ جَعَلَ الرُّوحَ والفَرَحَ في الرِّضا واليَقِينِ، وجَعَلَ الهَمَّ والحُزْنَ في الشَّكِّ والسُّخْطِ».
واليَقِينُ قَرِينُ التَّوَكُّلِ. ولِهَذا فُسِّرَ التَّوَكُّلُ بِقُوَّةِ اليَقِينِ.
والصَّوابُ: أنَّ التَّوَكُّلَ ثَمَرَتُهُ ونَتِيجَتُهُ. ولِهَذا حَسُنَ اقْتِرانُ الهُدى بِهِ.
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ إنَّكَ عَلى الحَقِّ المُبِينِ﴾ [النمل: ٧٩]
فالحَقُّ: هو اليَقِينُ. وقالَتْ رُسُلُ اللَّهِ: ﴿وَما لَنا ألّا نَتَوَكَّلَ عَلى اللَّهِ وقَدْ هَدانا سُبُلَنا﴾ [إبراهيم: ١٢].
وَمَتّى وصَلَ اليَقِينُ إلى القَلْبِ امْتَلَأ نُورًا وإشْراقًا. وانْتَفى عَنْهُ كُلُّ رَيْبٍ وشَكٍّ وسَخَطٍ، وهَمٍّ وغَمٍّ. فامْتَلَأ مَحَبَّةً لِلَّهِ. وخَوْفًا مِنهُ ورِضًا بِهِ، وشْكْرًا لَهُ، وتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وإنابَةً إلَيْهِ. فَهو مادَّةُ جَمِيعِ المَقاماتِ والحامِلُ لَها.
واخْتُلِفَ فِيهِ: هَلْ هو كَسْبِيٌّ، أوْ مَوْهِبِيٌّ؟
فَقِيلَ: هو العِلْمُ المُسْتَوْدَعُ في القُلُوبِ. يُشِيرُ إلى أنَّهُ غَيْرُ كَسْبِيٍّ.
وَقالَ سَهْلٌ: اليَقِينُ مِن زِيادَةِ الإيمانِ، ولا رَيْبَ أنَّ الإيمانَ كَسْبِيٌّ.
والتَّحْقِيقُ: أنَّهُ كَسْبِيٌّ بِاعْتِبارِ أسْبابِهِ، مَوْهِبِيٌّ بِاعْتِبارِ نَفْسِهِ وذاتِهِ.
قالَ سَهْلٌ: ابْتِداؤُهُ المُكاشَفَةُ. كَما قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَوْ كُشِفَ الغِطاءُ ما ازْدَدْتُ يَقِينًا. ثُمَّ المُعايَنَةُ والمُشاهَدَةُ.
وَقالَ ابْنُ خَفِيفٍ: هو تَحَقُّقُ الأسْرارِ بِأحْكامِ المَغِيباتِ.
وَقالَ أبُو بَكْرِ بْنُ ظاهِرٍ: العِلْمُ تُعارِضُهُ الشُّكُوكُ، واليَقِينُ لا شَكَّ فِيهِ.
وَعِنْدَ القَوْمِ: اليَقِينُ لا يُساكِنُ قَلْبًا فِيهِ سُكُونٌ إلى غَيْرِ اللَّهِ.
وَقالَ ذُو النُّونِ: اليَقِينُ يَدْعُو إلى قَصْرِ الأمَلِ، وقَصْرُ الأمَلِ يَدْعُو إلى الزُّهْدِ. والزُّهْدُ يُورِثُ الحِكْمَةَ، وهي تُورِثُ النَّظَرَ في العَواقِبِ.
قالَ: وثَلاثَةٌ مِن أعْلامِ اليَقِينِ: قِلَّةُ مُخالَطَةِ النّاسِ في العَشْرَةِ. وتَرْكُ المَدْحِ لَهم في العَطِيَّةِ. والتَّنَزُّهُ عَنْ ذَمِّهِمْ عِنْدَ المَنعِ. وثَلاثَةٌ مِن أعْلامِهِ أيْضًا: النَّظَرُ إلى اللَّهِ في كُلِّ شَيْءٍ. والرُّجُوعُ إلَيْهِ في كُلِّ أمْرٍ. والِاسْتِعانَةُ بِهِ في كُلِّ حالٍ.
وَقالَ الجُنَيْدُ: اليَقِينُ هو اسْتِقْرارُ العِلْمُ الَّذِي لا يَنْقَلِبُ ولا يُحَوَّلُ، ولا يَتَغَيَّرُ في القَلْبِ.
وَقالَ ابْنُ عَطاءٍ: عَلى قَدْرِ قُرْبِهِمْ مِنَ التَّقْوى أدْرَكُوا مِنَ اليَقِينِ.
وَأصْلُ التَّقْوى مُبايَنَةُ النَّهْيِ. وهو مُبايَنَةُ النَّفْسِ. فَعَلى قَدْرِ مُفارَقَتِهِمُ النَّفْسَ: وصَلُوا إلى اليَقِينِ.
وَقِيلَ: اليَقِينُ هو المُكاشَفَةُ. وهو عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: مُكاشَفَةٌ في الأخْبارِ. ومُكاشَفَةٌ بِإظْهارِ القُدْرَةِ. ومُكاشَفَةُ القُلُوبِ بِحَقائِقِ الإيمانِ.
وَمُرادُ القَوْمِ بِالمُكاشَفَةِ: ظُهُورُ الشَّيْءِ لِلْقَلْبِ بِحَيْثُ يَصِيرُ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ المَرْئِيِّ إلى العَيْنِ.
فَلا يَبْقى مَعَكَ شَكٌّ ولا رَيْبٌ أصْلًا. وهَذا نِهايَةُ الإيمانِ. وهو مَقامُ الإحْسانِ.
وَقَدْ يُرِيدُونَ بِها أمْرًا آخَرَ. وهو ما يَراهُ أحَدُهم في بَرْزَخٍ بَيْنَ النَّوْمِ واليَقَظَةِ عِنْدَ أوائِلِ تَجَرُّدِ الرُّوحِ عَنِ البَدَنِ.
وَمَن أشارَ مِنهم إلى غَيْرِ هَذَيْنِ: فَقَدْ غَلِطَ ولُبِّسَ عَلَيْهِ.
وَقالَ السَّرِيُّ: اليَقِينُ سُكُونُكَ عِنْدَ جَوَلانِ المَوارِدِ في صَدْرِكَ، لِتَيَقُّنِكَ أنَّ حَرَكَتَكَ فِيها لا تَنْفَعُكَ. ولا تَرُدَّ عَنْكَ مَقْضِيًّا.
وَقالَ أبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ: اليَقِينُ مَلاكُ القَلْبِ. وبِهِ كَمالُ الإيمانِ. وبِاليَقِينِ عُرِفَ اللَّهُ. بِالعَقْلِ عُقِلَ عَنِ اللَّهِ.
وَقالَ الجُنَيْدُ: قَدْ مَشى رِجالٌ بِاليَقِينِ عَلى الماءِ. وماتَ بِالعَطَشِ مَن هو أفْضَلُ مِنهم يَقِينًا.
وَقَدِ اخْتُلِفَ في تَفْضِيلِ اليَقِينِ عَلى الحُضُورِ والحُضُورِ عَلى اليَقِينِ.
فَقِيلَ: الحُضُورُ أفْضَلُ. لِأنَّهُ وطَناتٌ، واليَقِينُ خَطِراتٌ. وبَعْضُهم رَجَّحَ اليَقِينَ. وقالَ: هو غايَةُ الإيمانِ. والأوَّلُ: رَأى أنَّ اليَقِينَ ابْتِداءُ الحُضُورِ، فَكَأنَّهُ جَعَلَ اليَقِينَ ابْتِداءً. والحُضُورَ دَوامًا.
وَهَذا الخِلافُ لا يَتَبَيَّنُ. فَإنَّ اليَقِينَ لا يَنْفَكُّ عَنِ الحُضُورِ. ولا الحُضُورُ عَنِ اليَقِينِ. بَلْ في اليَقِينِ مِن زِيادَةِ الإيمانِ، ومَعْرِفَةِ تَفاصِيلِهِ وشُعَبِهِ، وتَنْزِيلِها مَنازِلَها - ما لَيْسَ في الحُضُورِ. فَهو أكْمَلُ مِنهُ مِن هَذا الوَجْهِ. وفي الحُضُورِ مِنَ الجَمْعِيَّةِ، وعَدَمِ التَّفْرِقَةِ، والدُّخُولِ في الفِناءِ: ما قَدْ يَنْفَكُّ عَنْهُ اليَقِينُ. فاليَقِينُ أخَصُّ بِالمَعْرِفَةِ. والحُضُورُ أخَصُّ بِالإرادَةِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
وَقالَ النَّهْرَجُورِيُّ: إذا اسْتَكْمَلَ العَبْدُ حَقائِقَ اليَقِينِ صارَ البَلاءُ عِنْدَهُ نِعْمَةً والرَّخاءُ عِنْدَهُ مُصِيبَةً.
وَقالَ أبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ: اليَقِينُ عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: يَقِينُ خَبَرٍ. ويَقِينُ دَلالَةٍ. ويَقِينُ مُشاهَدَةٍ.
يُرِيدُ بِيَقِينِ الخَبَرِ: سُكُونَ القَلْبِ إلى خَبَرِ المُخْبِرِ وتَوَثُّقَهُ بِهِ. وبِيَقِينِ الدَّلالَةِ: ما هو فَوْقَهُ. وهو أنْ يُقِيمَ لَهُ - مَعَ وُثُوقِهِ بِصِدْقِهِ - الأدِلَّةَ الدّالَّةَ عَلى ما أخْبَرَ بِهِ.
وَهَذا كَعامَّةِ أخْبارِ الإيمانِ والتَّوْحِيدِ والقُرْآنِ. فَإنَّهُ سُبْحانَهُ - مَعَ كَوْنِهِ أصْدَقَ الصّادِقِينَ - يُقِيمُ لِعِبادِهِ الأدِلَّةَ والأمْثالَ والبَراهِينَ عَلى صِدْقِ أخْبارِهِ. فَيَحْصُلُ لَهُمُ اليَقِينُ مِنَ الوَجْهَيْنِ: مِن جِهَةِ الخَبَرِ، ومِن جِهَةِ الدَّلِيلِ.
فَيَرْتَفِعُونَ مِن ذَلِكَ إلى الدَّرَجَةِ الثّالِثَةِ: وهي يَقِينُ المُكاشَفَةِ بِحَيْثُ يَصِيرُ المُخْبَرُ بِهِ لِقُلُوبِهِمْ كالمَرْئِيِّ لِعُيُونِهِمْ. فَنِسْبَةُ الإيمانِ بِالغَيْبِ حِينَئِذٍ إلى القَلْبِ: كَنِسْبَةِ المَرْئِيِّ إلى العَيْنِ. وهَذا أعْلى أنْواعِ المُكاشَفَةِ. وهي الَّتِي أشارَ إلَيْها عامِرُ بْنُ عَبَدِ قَيْسٍ في قَوْلِهِ: لَوْ كُشِفَ الغِطاءُ ما ازْدَدْتُ يَقِينًا ولَيْسَ هَذا مِن كَلامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولا مِن قَوْلِ عَلَيٍّ - كَما يَظُنُّهُ مَن لا عِلْمَ لَهُ بِالمَنقُولاتِ.
وَقالَ بَعْضُهُمْ: رَأيْتُ الجَنَّةَ والنّارَ حَقِيقَةً. قِيلَ لَهُ: وكَيْفَ؟ قالَ: رَأيْتُهُما بِعَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. ورُؤْيَتِي لَهُما بِعَيْنَيْهِ: آثَرُ عِنْدِي مِن رُؤْيَتِي لَهُما بِعَيْنِي. فَإنَّ بَصَرِي قَدْ يَطْغى ويَزِيغُ، بِخِلافِ بَصَرِهِ ﷺ.
واليَقِينُ يَحْمِلُهُ عَلى الأهْوالِ، ورُكُوبِ الأخْطارِ. وهو يَأْمُرُ بِالتَّقَدُّمِ دائِمًا. فَإنْ لَمْ يُقارِنْهُ العِلْمُ: حُمِلَ عَلى المَعاطِبِ.
والعِلْمُ يَأْمُرُ بِالتَّأخُّرِ والإحْجامِ. فَإنْ لَمْ يَصْحَبْهُ اليَقِينُ قَعَدَ بِصاحِبِهِ عَنِ المَكاسِبِ والغَنائِمِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
[دَرَجاتُ اليَقِينِ]
[الدَّرَجَةُ الأُولى عِلْمُ اليَقِينِ]
وَهُوَ عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ.
الدَّرَجَةُ الأُولى: عِلْمُ اليَقِينِ. وهو قَبُولُ ما ظَهَرَ مِنَ الحَقِّ. وقَبُولُ ما غابَ لِلْحَقِّ. والوُقُوفُ عَلى ما قامَ بِالحَقِّ.
ذَكَرَ الشَّيْخُ في هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلاثَةَ أشْياءَ، هي مُتَعَلِّقُ اليَقِينِ وأرْكانُهُ.
الأُولى: قَبُولُ ما ظَهَرَ مِنَ الحَقِّ تَعالى. والَّذِي ظَهَرَ مِنهُ سُبْحانَهُ: أوامِرُهُ ونَواهِيهِ وشَرْعُهُ، ودِينُهُ الَّذِي ظَهَرَ لَنا مِنهُ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ. فَنَتَلَقّاهُ بِالقَبُولِ والِانْقِيادِ، والإذْعانِ والتَّسْلِيمِ لِلرُّبُوبِيَّةِ. والدُّخُولِ تَحْتَ رِقِّ العُبُودِيَّةِ.
الثّانِي: قَبُولُ ما غابَ لِلْحَقِّ وهو الإيمانُ بِالغَيْبِ الَّذِي أخْبَرَ بِهِ الحَقُّ سُبْحانَهُ عَلى لِسانِ رُسُلِهِ مِن أُمُورِ المَعادِ وتَفْصِيلِهِ، والجَنَّةِ والنّارِ، وما قَبْلَ ذَلِكَ: مِنَ الصِّراطِ والمِيزانِ والحِسابِ، وما قَبْلَ ذَلِكَ: مِن تَشَقُّقِ السَّماءِ وانْفِطارِها، وانْتِثارِ الكَواكِبِ، ونَسْفِ الجِبالِ، وطَيِّ العالِمِ، وما قَبْلَ ذَلِكَ: مِن أُمُورِ البَرْزَخِ، ونَعِيمِهِ وعَذابِهِ.
فَقَبُولُ هَذا كُلِّهِ - إيمانًا وتَصْدِيقًا وإيقانًا - هو اليَقِينُ. بِحَيْثُ لا يُخالِجُ القَلْبَ فِيهِ شُبْهَةٌ. ولا شَكٌّ ولا تَناسٍ، ولا غَفْلَةٌ عَنْهُ. فَإنَّهُ إنْ لَمْ يَهْلِكْ يَقِينُهُ أفْسَدَهُ وأضْعَفَهُ.
الثّالِثُ: الوُقُوفُ عَلى ما قامَ بِالحَقِّ سُبْحانَهُ مِن أسْمائِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ.
وَهُوَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ، الَّذِي أساسُهُ: إثْباتُ الأسْماءِ والصِّفاتِ. وضِدُّهُ: التَّعْطِيلُ والنَّفْيُ، والتَّهَجُّمُ. فَهَذا التَّوْحِيدُ يُقابِلُهُ التَّعْطِيلُ.
وَأمّا التَّوْحِيدُ القَصْدِيُّ الإرادِيُّ، الَّذِي هو إخْلاصُ العَمَلِ لِلَّهِ، وعِبادَتُهُ وحْدَهُ: فَيُقابِلُهُ الشِّرْكُ، والتَّعْطِيلُ شَرٌّ مِنَ الشِّرْكِ، فَإنَّ المُعَطِّلَ جاحِدٌ لِلذّاتِ أوْ لِكَمالِها. وهو جَحْدٌ لِحَقِيقَةِ الإلَهِيَّةِ.
فَإنَّ ذاتًا لا تَسْمَعُ ولا تُبْصِرُ ولا تَتَكَلَّمُ ولا تَرْضى، ولا تَغْضَبُ، ولا تَفْعَلُ شَيْئًا. ولَيْسَتْ داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَهُ، ولا مُتَّصِلَةً بِالعالَمِ ولا مُنْفَصِلَةً، ولا مُجانِبَةً لَهُ، ولا مُبايِنَةً لَهُ، ولا مُجاوِرَةً ولا مُجاوِزَةً، ولا فَوْقَ العَرْشِ، ولا تَحْتَ العَرْشِ، ولا خَلْفَهُ ولا أمامَهُ، ولا عَنْ يَمِينِهِ ولا عَنْ يَسارِهِ: سَواءٌ هي والعَدَمِ.
والمُشْرِكُ مُقِرٌّ بِاللَّهِ وصِفاتِهِ. لَكِنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ. فَهو خَيْرٌ مِنَ المُعَطِّلِ لِلذّاتِ والصِّفاتِ.
فاليَقِينُ هو الوُقُوفُ عَلى ما قامَ بِالحَقِّ مِن أسْمائِهِ وصِفاتِهِ، ونُعُوتِ كَمالِهِ، وتَوْحِيدِهِ. وهَذِهِ الثَّلاثَةُ أشْرَفُ عُلُومِ الخَلائِقِ: عِلْمُ الأمْرِ والنَّهْيِ، وعِلْمُ الأسْماءِ والصِّفاتِ والتَّوْحِيدِ، وعِلْمُ المَعادِ واليَوْمِ الآخِرِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ عَيْنُ اليَقِينِ]
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: عَيْنُ اليَقِينِ. وهو المُغْنِي بِالِاسْتِدْلالِ عَنْ الِاسْتِدْلالِ. وعَنِ الخَبَرِ بِالعِيانِ. وخَرْقُ الشُّهُودِ حِجابَ العِلْمِ.
الفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِ اليَقِينِ وعَيْنِ اليَقِينِ: كالفَرْقِ بَيْنَ الخَبَرِ الصّادِقِ والعَيانِ. وحَقُّ اليَقِينِ: فَوْقَ هَذا.
وَقَدْ مَثَّلْتُ المَراتِبَ الثَّلاثَةِ بِمَن أخْبَرَكَ: أنَّ عِنْدَهُ عَسَلًا، وأنْتَ لا تَشُكُّ في صِدْقِهِ. ثُمَّ أراكَ إيّاهُ. فازْدَدْتَ يَقِينًا. ثُمَّ ذُقْتَ مِنهُ.
فالأوَّلُ: عِلْمُ اليَقِينِ. والثّانِي: عَيْنُ اليَقِينِ. والثّالِثُ: حَقُّ اليَقِينِ.
فَعِلْمُنا الآنَ بِالجَنَّةِ والنّارِ: عِلْمُ يَقِينٍ. فَإذا أُزْلِفَتِ الجَنَّةُ في المَوْقِفِ لِلْمُتَّقِينَ وشاهَدَها الخَلائِقُ. وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِلْغاوِينَ. وعايَنَها الخَلائِقُ. فَذَلِكَ: عَيْنُ اليَقِينِ. فَإذا أُدْخِلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأهْلُ النّارِ النّارَ: فَذَلِكَ حِينَئِذٍ حَقُّ اليَقِينِ.
قَوْلُهُ: هو المُغْنِي بِالِاسْتِدْلالِ عَنْ الِاسْتِدْلالِ.
يُرِيدُ بِالِاسْتِدْلالِ: الإدْراكَ والشُّهُودَ. يَعْنِي صاحِبُهُ قَدِ اسْتَغْنى بِهِ عَنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ. فَإنَّهُ إنَّما يَطْلُبُ الدَّلِيلَ لِيَحْصُلَ لَهُ العِلْمُ بِالمَدْلُولِ. فَإذا كانَ المَدْلُولُ مُشاهَدًا لَهُ - وقَدْ أدْرَكَهُ بِكَشْفِهِ - فَأيُّ حاجَةٍ بِهِ إلى الِاسْتِدْلالِ؟
وَهَذا مَعْنى الِاسْتِغْناءِ عَنِ الخَبَرِ بِالعِيانِ.
وَأمّا قَوْلُهُ: وخَرْقُ الشُّهُودِ حِجابَ العِلْمِ.
فَيُرِيدُ بِهِ: أنَّ المَعارِفَ الَّتِي تَحْصُلُ لِصاحِبِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: هي مِنَ الشُّهُودِ الخارِقِ لِحِجابِ العِلْمِ. فَإنَّ العِلْمَ حِجابٌ عَنِ الشُّهُودِ. فَفي هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَرْتَفِعُ الحِجابُ. ويُفْضِي إلى المَعْلُومِ، بِحَيْثُ يُكافِحُ بَصِيرَتَهُ وقَلْبَهُ مُكافَحَةً.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ حَقُّ اليَقِينِ]
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ حَقُّ اليَقِينِ. وهو إسْفارُ صُبْحِ الكَشْفِ. ثُمَّ الخَلاصُ مِن كُلْفَةِ اليَقِينِ. ثُمَّ الفَناءُ في حَقِّ اليَقِينِ.
اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ لا تُنالُ في هَذا العالَمِ إلّا لِلرُّسُلِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ. فَإنَّ نَبِيَّنا ﷺ رَأى بِعَيْنِهِ الجَنَّةَ والنّارَ، ومُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ سَمِعَ كَلامَ اللَّهِ مِنهُ إلَيْهِ بِلا واسِطَةٍ، وكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا. وتَجَلّى لِلْجَبَلِ ومُوسى يَنْظُرُ، فَجَعَلَهُ دَكًّا هَشِيمًا.
نَعَمْ يَحْصُلُ لَنا حَقُّ اليَقِينِ مِن مَرْتَبَةٍ، وهي ذَوْقُ ما أخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مِن حَقائِقِ الإيمانِ، المُتَعَلِّقَةِ بِالقُلُوبِ وأعْمالِها. فَإنَّ القَلْبَ إذا باشَرَها وذاقَها صارَتْ في حَقِّهِ حَقَّ يَقِينٍ.
وَأمّا في أُمُورِ الآخِرَةِ والمَعادِ، ورُؤْيَةِ اللَّهِ جَهْرَةً عَيانًا، وسَماعِ كَلامِهِ حَقِيقَةً بِلا واسِطَةٍ - فَحَظُّ المُؤْمِنِ مِنهُ في هَذِهِ الدّارِ: الإيمانُ. وعِلْمُ اليَقِينِ. وحَقُّ اليَقِينِ: يَتَأخَّرُ إلى وقْتِ اللِّقاءِ.
وَلَكِنْ لَمّا كانَ السّالِكُ عِنْدَهُ يَنْتَهِي إلى الفَناءِ. ويَتَحَقَّقُ شُهُودَ الحَقِيقَةِ. ويَصِلُ إلى عَيْنِ الجَمْعِ، قالَ: حَقُّ اليَقِينِ: هو إسْفارُ صُبْحِ الكَشْفِ.
يَعْنِي: تَحَقُّقَهُ وثُبُوتَهُ، وغَلَبَةَ نُورِهِ عَلى ظُلْمَةِ لَيْلِ الحِجابِ. فَيَنْتَقِلُ مِن طَوْرِ العِلْمِ إلى الِاسْتِغْراقِ في الشُّهُودِ بِالفَناءِ عَنِ الرَّسْمِ بِالكُلِّيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ الخَلاصُ مِن كُلْفَةِ اليَقِينِ.
يَعْنِي: أنَّ اليَقِينَ لَهُ حُقُوقٌ يَجِبُ عَلى صاحِبِهِ أنْ يُؤَدِّيَها. ويَقُومُ بِها، ويَتَحَمَّلُ كُلَفَها ومَشاقَّها. فَإذا فَنِيَ في التَّوْحِيدِ حَصَلَ لَهُ أُمُورٌ أُخْرى رَفِيعَةٌ عالِيَةٌ جِدًا. يَصِيرُ فِيها مَحْمُولًا، بَعْدَ أنْ كانَ حامِلًا، وطائِرًا بَعْدَ أنْ كانَ سائِرًا، فَتَزُولُ عَنْهُ كُلْفَةُ حَمْلِ تِلْكَ الحُقُوقِ. بَلْ يَبْقى لَهُ كالنَّفَسِ، وكالماءِ لِلسَّمَكِ.
وَهَذا أمْرٌ التَّحاكُمُ فِيهِ إلى الذَّوْقِ والإحْساسِ. فَلا تُسْرِعْ إلى إنْكارِهِ.
((الجزء السابع عشر)) وتَأمَّلْ حالَ ذَلِكَ الصَّحابِيِّ الَّذِي أخَذَ تَمْراتِهِ. وقَعَدَ يَأْكُلُها عَلى حاجَةٍ وجُوعٍ وفاقَةٍ إلَيْها. فَلَمّا عايَنَ سُوقَ الشَّهادَةِ قامَتْ. ألْقى قُوتَهُ مِن يَدِهِ، وقالَ: إنَّها لَحَياةٌ طَوِيلَةٌ، إنْ بَقِيتُ حَتّى آكُلَ هَذِهِ التَّمْراتِ. وألْقاها مِن يَدِهِ، وقاتَلَ حَتّى قُتِلَ، وكَذَلِكَ أحْوالُ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. كانَتْ مُطابِقَةً لِما أشارَ إلَيْهِ.
لَكِنْ بَقِيَتْ نُكْتَةٌ عَظِيمَةٌ، وهي مَوْضِعُ السَّجْدَةِ، وهي أنَّ فَناءَهم لَمْ يَكُنْ في تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وشُهُودِ الحَقِيقَةِ الَّتِي يُشِيرُ إلَيْها أرْبابُ الفَناءِ بَلْ في تَوْحِيدِ الإلَهِيَّةِ. فَفَنُوا بِحُبِّهِ تَعالى عَنْ حُبِّ ما سِواهُ. وبِمُرادِهِ مِنهم عَنْ مُرادِهِمْ وحُظُوظِهِمْ. فَلَمْ يَكُونُوا عامِلِينَ عَلى فَناءٍ. ولا الِاسْتِغْراقِ في الشُّهُودِ. بِحَيْثُ يَفْنَوْنَ بِهِ عَنْ مُرادِ مَحْبُوبِهِمْ مِنهُمْ، بَلْ قَدْ فَنُوا بِمُرادِهِ عَنْ مُرادِهِمْ. فَهم أهْلُ بَقاءٍ في فَناءٍ، وفَرْقٍ في جَمْعٍ. وكَثْرَةٍ في وحْدَةٍ. وحَقِيقَةٍ كَوْنِيَّةٍ في حَقِيقَةٍ دِينِيَّةٍ.
هُمُ القَوْمُ. لا قَوْمَ إلّا هُمُ ولَوْلاهُمُ ما اهْتَدَيْنا السَّبِيلا فَنِسْبَةُ أحْوالِ مَن بَعْدَهُمُ الصَّحِيحَةُ الكامِلَةُ إلى أحْوالِهِمْ: كَنِسْبَةِ ما يَرْشَحُ مِنَ الظَّرْفِ والقِرْبَةِ إلى ما في داخِلِها.
وَأمّا الطَّرِيقُ المُنْحَرِفَةُ الفاسِدَةُ: فَسَبِيلٌ غَيْرُ سَبِيلِهِمْ، والفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ. واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.
{"ayah":"وَفِی ٱلۡأَرۡضِ ءَایَـٰتࣱ لِّلۡمُوقِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق