الباحث القرآني

* (فصل) أقسم بالذاريات وهي الرياح تذرو المطر وتذرو التراب وتذرو النبات إذا تهشم كما قال تعالى ﴿فَأصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ﴾ أي تفرقه وتنشره ثم بما فوقها وهي السحاب الحاملات وقرًا أي ثقلًا من الماء وهي روايا الأرض يسوقها الله سبحانه على متون السحاب الرياح كما في جامع الترمذي من حديث الحسن عن أبي هريرة قال بينما نبي الله جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال نبي الله ﷺ "هل تدرون ما هذا" قالوا الله ورسوله أعلم قال "هذا العنان هذه روايا الأرض يسوقها الله تبارك وتعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه" ثم أقسم سبحانه بما فوق ذلك وهي الجاريات يسرا وهي النجوم التي من فوق الغمام و ﴿يسرا﴾ أي مسخرة مذللة منقادة وقال جماعة من المفسرين أنها السفن تجري ميسرة في الماء جريًا سهلا. ومنهم من لم يذكر غيره. واختار شيخنا رحمه الله القول الأول، وقال هو أحسن في الترتيب والانتقال من السافل إلى العالي، فإنه بدأ بالرياح وفوقها السحاب وفوقه النجوم، وفوقها الملائكة المقسمات أمر الله الذي أمرت به بين خلقه. والصحيح أن ﴿المقسمات أمرا﴾ لا تختص بأربعة. وقيل هم جبريل يقسم الوحي والعذاب وأنواع العقوبة على من خالف الرسل. وميكائيل على القطر والبرد والثلج والنبات يقسمها بأمر الله. وملك الموت يقسم المنايا بين الخلق بأمر الله. وإسرافيل يقسم الأرواح على أبدانها عند النفخ في الصور وهم (المدبرات أمرا) وليس في اللفظ ما يدل على الاختصاص بهم والله أعلم. وأقسم سبحانه بهذه الأمور الأربعة لمكان العبرة والآية والدلالة الباهرة على ربوبيته ووحدانيته وعظم قدرته ففي الرياح من العبر هبوبها وسكونها ولينها وشدتها واختلاف طبائعها وصفاتها ومهابها وتصريفها وتنوع منافعها وشدة الحاجة إليها فللمطر خمسة رياح ريح ينشر سحابه وريح يؤلف بينه وريح تلقحه وريح تسوقه حيث يريد الله وريح تذرو أمامه وتفرقه وللنبات ريح وللسفن ريح وللرحمة ريح وللعذاب ريح إلى غير ذلك من أنواع الرياح وذلك تقضى بوجود خالق مصرف لها مدبر لها يصرفها كيف يشاء ويجعلها رخاء تارة وعاصفة تارة ورحمة تارة وعذابًا تارة فتارة يحيي بها الزرع والثمار وتارة يغطيها بها وتارة ينجي بها السفن وتارة يهلكها بها وتارة ترطب الأبدان وتارة تذيبها وتارة عقيمًا وتارة لاقحة وتارة جنوبًا وتارة دبورا وتارة صبا وتارة شمالا وتارة حارة وتارة باردة وهي مع غاية قوتها ألطف شيء وأقبل المخلوقات لكل كيفية سريعة التأثر والتأثير لطيفة المسارق بين السماء والأرض إذا قطع عن الحيوان الذي على وجه الأرض هلك كبحر الماء الذي إذا فارقه حيوان الماء هلك يحبسها الله سبحانه إذا شاء ويرسلها إذا شاء تحمل الأصوات إلى الأذان والرائحة إلى الأنف والسحاب إلى الأرض الجزر وهي من روح الله تأتي بالرحمة ومن عقوبته تأتي بالعذاب وهي أقوى خلق الله كما رواه الترمذي في جامعه من حديث أنس بن مالك عن النبي ﷺ قال: "لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فقال بها عليها فاستقرت فعجبت الملائكة من شدة الجبال وقالوا يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال قال نعم الحديد قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال نعم النار. قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال نعم الماء. قالوا يا رب فهل من خلقك أشد من الماء؟ قال نعم الريح. قالوا يا رب فهل من خلقك أشد من الريح؟ قال نعم ابن آدم تصدق بصدقة بيمينه يخفيها عن شماله" ورواه الإمام أحمد في مسنده وفي الترمذي في حديث قصة عاد أنه لم يرسل عليهم من الريح إلا قدر حلقة الخاتم فلم تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وقد وصفها الله بأنها عاتية قال البخاري في صحيحه عتت على الخزنة فلم يستطيعوا أن يردوها. والمقصود أن الرياح أعظم من آيات الرب الدالة على عظمته وربوبيته وقدرته. * (فصل) ثم أقسم بالسحاب وهو من أعظم آيات الله في الجو في غاية الخفة ثم يحمل الماء والبرد فيصير أثقل شيء فيأمر الرياح فتحمله على متونهما وتسير به حيث أمرت فهو مسخر بين السماء والأرض حامل لأرزاق العباد والحيوان فإذا أفرغه حيث أمر به اضمحل وتلاشى بقدرة الله فإنه لو بقي لأضر النبات والحيوان فأنشأه سبحانه في زمن يصلح إنشاؤه فيه وحمله من الماء ما يحمله وساقه إلى بلد شديد الحاجة إليه. فسل السحاب من أنشأه بعد عدمه وحمله الماء والثلج والبرد ومن حمله على ظهور الرياح ومن أمسكه بين السماء والأرض بغير عماد ومن أغاث بقطره العباد وأحيا به البلاد وصرفه بين خلقه كما أراد وأخرج ذلك القطر بقدر معلوم وأنزله منه وأفناه بعد الاستغناء عنه ولو شاء لأدامه عليهم فلم يستطيعوا إلى دفعه سبيلا ولو شاء لأمسكه عنهم فلا يجدون إليه وصولا فإن لم يحبك جوابًا حباك اعتبار مرسل الرياح من أنشأها بقدرته وصرفها بحكمته وسخرها بمشيئته وأرسلها بشرًا بين يدي رحمته جعلها سببًا لتمام نعمته وسلطانًا على من شاء بعقوبته ومن جعلها رخاء وذارية ولاقحة ومثيرة ومؤلفة ومغذية لأبدان الحيوان والشجر والنبات وجعلها قاصفًا وعاصفًا ومهلكة وعاتية إلى غير ذلك من صفاتها فهل ذلك لها من نفسها وذاتها أم تدبير مدبر شهدت الموجودات بربوبيته وأقرت المصنوعات بوحدانيته بيده النفع والضر وله الخلق والأمر (تبارك الله رب العالمين) وسل الجاريات يسرًا من السفن من أمسكها على وجه الماء وسخر لها البحر، ومن أرسل لها الرياح التي تسوقها على الماء سوق السحاب على متون الرياح ومن حفظها في مجراها ومرساها من طغيان الماء وطغيان الريح فمن الذي جعل الريح لها بقدر لو زاد عليها لأغرقها ولو نقص عنه لعاقها ومن الذي أجرى لها ريحًا واحدة تسير بها ولم يسلط على تلك الريح ما يصادمها ويقاومها، فتتموج في البحر يمينًا وشمالًا تتلاعب بها الريح ومن الذي علم الخلق الضعيف صنعة هذا البيت العظيم الذي يمشي على الماء فيقطع المسافة البعيدة ويعود إلى بلده يشق الماء ويمخره مقبلًا ومدبرًا بريح واحدة تجري في موج كالجبال ﴿وَمِن آياتِهِ الجَوارِ في البَحْرِ كالأعْلامِ البحر إنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ أوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا ويَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ﴾ ومن الذي حمل في هذا البيت نبيه وأولياءه خاصة وأغرق جميع أهل الأرض سواهم وسل الجاريات يسرًا من الكواكب والشمس والقمر من الذي خلقها وأحسن خلقها ورفع مكانها وزين بها قبة العالم، وفاوت بين أشكالها ومقاديرها وألوانها وحركاتها وأماكنها من السماء. فمنها الكبير ومنها الصغير والمتوسط والأبيض والأحمر والزجاجي اللون والدري اللون والمتوسط في قبة الفلك، والمتطرف في جوانبها وبين ذلك. ومنها ما يقطع الفلك في شهر، ومنها ما يقطعه في عام، ومنها ما يقطعه في ثلاثين عامًا. ومنها ما يقطعه في أضعاف ذلك. ومنها ما لا يزال ظاهرًا لا يغيب بحال فهو أبدي. ومنها أبدى الخفاء ومنها ماله حالتان ظهور واختفاء. ومنها ماله حركتان حركة عرضية من المشرق إلى المغرب وحركة ذاتية من المغرب إلى المشرق فحالما يأخذ الكوكب في الغروب فإذا كوكب آخر في مقابلته وكوكب أخر قد طلع وهو آخذ في الارتفاع والتصاعد وكوكب آخر في الربع الشرقي وكوكب آخر في وسط السماء وكوكب آخر قد مال عن الوسط وآخر قد دنا من الغروب وكأنه رقيبه ينتظر بطلوعه غيبته وأنت إذا تأملت أحوال هذه الكواكب وجدتها تدل على المعاد كما تدل على المبدأ وتدل على وجود الخالق وصفات كماله وربوبيته وحكمته ووحدانيته أعظم دلالة وكل ما دل على صفات جلاله ونعوت كماله دل على صدق رسله فكما جعل الله النجوم هداية في طريق البر والبحر فهي هداية في طرق العلم بالخالق سبحانه وقدرته وعلمه وحكمته والمبدأ والمعاد والنبوة ودلالتها على هذه المطالب لا تقصر عن دلالتها على طرق البر والبحر بل دلالتها للعقول على ذلك أظهر من دلالتها على الطرق الحسية فهي هداية في هذا وهذا. * (فصل) وأما دلالة ﴿المقسمات أمرًا﴾ وهم الملائكة فلأن ما يشاهد من تدبير العالم العلوي والسفلي وما لا يشاهد إنما هو على أيدي الملائكة فالرب تعالى يدبر بهم أمر العالم وقد وكل بكل عمل من الأعمال طائفة منهم فوكل بالشمس والقمر والنجوم والأفلاك طائفة منهم ووكل بالقطر والسحاب طائفة ووكل بالنبات طائفة ووكل بالأجنة والحيوان طائفة ووكل بالموت طائفة وبحفظ بني آدم طائفة وبإحصاء أعمالهم وكتابتها طائفة وبالوحي طائفة وبالجبال طائفة وبكل شأن من شئون العالم طائفة هذا مع ما في خلق الملائكة من البهاء والحسن وما فيهم من القوة والشدة ولطافة الجسم وحسن الخلقة وكمال الانقياد لأمره والقيام في خدمته وتنفيذ أوامره في أقطار العالم ثم أقسم سبحانه بهذه الأمور على صدق وعده ووقوع جزائه بالثواب والعقاب فقال ﴿إنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ﴾ أي ما توعدون من أمر الساعة والثواب والعقاب لحق كائن وهو وعد صدق لا كذب ﴿وإن الدين لواقع﴾ أي إن الجزاء لكائن لا محالة ويجوز أن تكون ما موصولة والعائد محذوف والمعنى الذي توعدونه لصادق أي كائن وثابت وأن تكون مصدرية أي إن وعدكم لحق وصدق. ووصف الوعد بكونه صادقًا أبلغ من وصفه بكونه صدقًا ولا حاجة إلى تكلف جعله بمعنى مصدوق فيه بل هو صادق نفسه كما يوصف المتكلم بأنه صادق في كلامه فوصف كلامه بأنه صادق. وهذا مثل قولهم "سر كاتم وليل قاتم ونهار صائم وماء دافق" ومنه ﴿عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ وليس ذلك بمجاز ولا مخالف لمقتضى التركيب. وإذا تأملت هذا التناسب والارتباط بين المقسم به والمقسم عليه وجدته دالًا عليه مرشدًا إليه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب