الباحث القرآني

* [فَصْلٌ: اللَّفْظَةُ] وَأمّا اللَّفَظاتُ: فَحِفْظُها بِأنْ لا يُخْرِجَ لَفْظَةً ضائِعَةً، بَلْ لا يَتَكَلَّمُ إلّا فِيما يَرْجُو فِيهِ الرِّبْحَ والزِّيادَةَ في دِينِهِ، فَإذا أرادَ أنْ يَتَكَلَّمَ بِالكَلِمَةِ نَظَرَ: هَلْ فِيها رِبْحٌ وفائِدَةٌ أمْ لا؟ فَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيها رِبْحٌ أمْسَكَ عَنْها، وإنْ كانَ فِيها رِبْحٌ، نَظَرَ: هَلْ تَفُوتُهُ بِها كَلِمَةٌ أرْبَحُ مِنها، فَلا يُضَيِّعُها بِهَذِهِ، وإذا أرَدْتَ أنْ تَسْتَدِلَّ عَلى ما في القَلْبِ، فاسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِحَرَكَةِ اللِّسانِ، فَإنَّهُ يُطْلِعُكَ عَلى ما في القَلْبِ، شاءَ صاحِبُهُ أمْ أبى. قالَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ: القُلُوبُ كالقُدُورِ تَغْلِي بِما فِيها، وألْسِنَتُها مَغارِفُها، فانْظُرْ إلى الرَّجُلِ حِينَ يَتَكَلَّمُ فَإنَّ لِسانَهُ يَغْتَرِفُ لَكَ بِما في قَلْبِهِ، حُلْوٌ وحامِضٌ، وعَذْبٌ وأُجاجٌ، وغَيْرُ ذَلِكَ، ويُبَيِّنُ لَكَ طَعْمَ قَلْبِهِ اغْتِرافُ لِسانِهِ، أيْ كَما تَطْعَمُ بِلِسانِكَ طَعْمَ ما في القُدُورِ مِنَ الطَّعامِ فَتُدْرِكُ العِلْمَ بِحَقِيقَتِهِ، كَذَلِكَ تَطْعَمُ ما في قَلْبِ الرَّجُلِ مِن لِسانِهِ، فَتَذُوقُ ما في قَلْبِهِ مِن لِسانِهِ، كَما تَذُوقُ ما في القِدْرِ بِلِسانِكَ. وَفِي حَدِيثِ أنَسٍ المَرْفُوعِ: «لا يَسْتَقِيمُ إيمانُ عَبْدٍ حَتّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، ولا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتّى يَسْتَقِيمَ لِسانُهُ». «وَسُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أكْثَرِ ما يُدْخِلُ النّاسَ النّارَ؟ فَقالَ: الفَمُ والفَرْجُ» قالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ «سَألَ مُعاذٌ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ العَمَلِ الَّذِي يُدْخِلُهُ الجَنَّةَ ويُباعِدُهُ مِنَ النّارِ، فَأخْبَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِرَأْسِهِ وعَمُودِهِ وذِرْوَةِ سَنامِهِ، ثُمَّ قالَ: ألا أُخْبِرُكَ بِمِلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قالَ: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، فَأخَذَ بِلِسانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذا، فَقالَ: وإنّا لَمُؤاخَذُونَ بِما نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا مُعاذُ، وهَلْ يَكُبُّ النّاسَ عَلى وُجُوهِهِمْ - أوْ عَلى مَناخِرِهِمْ - إلّا حَصائِدُ ألْسِنَتِهِمْ؟» قالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَمِنَ العَجَبِ أنَّ الإنْسانَ يَهُونُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ والِاحْتِرازُ مِن أكْلِ الحَرامِ والظُّلْمِ والزِّنى والسَّرِقَةِ وشُرْبِ الخَمْرِ، ومِنَ النَّظَرِ المُحَرَّمِ وغَيْرِ ذَلِكَ، ويَصْعُبُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ مِن حَرَكَةِ لِسانِهِ، حَتّى تَرى الرَّجُلَ يُشارُ إلَيْهِ بِالدِّينِ والزُّهْدِ والعِبادَةِ، وهو يَتَكَلَّمُ بِالكَلِماتِ مِن سَخَطِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَها بالًا، يَنْزِلُ بِالكَلِمَةِ الواحِدَةِ مِنها أبْعَدَ مِمّا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، وكَمْ تَرى مِن رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عَنِ الفَواحِشِ والظُّلْمِ، ولِسانُهُ يَفْرِي في أعْراضِ الأحْياءِ والأمْواتِ، ولا يُبالِي ما يَقُولُ. وَإذا أرَدْتَ أنْ تَعْرِفَ ذَلِكَ فانْظُرْ فِيما رَواهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قالَ رَجُلٌ: واللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ، فَقالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: مَن ذا الَّذِي يَتَألّى عَلَيَّ أنِّي لا أغْفِرُ لِفُلانٍ؟ قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وأحْبَطْتُ عَمَلَكَ» فَهَذا العابِدُ الَّذِي قَدْ عَبَدَ اللَّهَ ما شاءَ أنْ يَعْبُدَهُ، أحْبَطَتْ هَذِهِ الكَلِمَةُ الواحِدَةُ عَمَلَهُ كُلَّهُ. وَفِي حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُ ذَلِكَ، ثُمَّ قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أوْبَقَتْ دُنْياهُ وآخِرَتَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَها بالًا؛ يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَها بالًا؛ يَهْوِي بِها في نارِ جَهَنَّمَ»، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: «إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ ما يَتَبَيَّنُ ما فِيها يَزِلُّ بِها في النّارِ أبْعَدَ ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ». وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِن حَدِيثِ بِلالِ بْنِ الحارِثِ المُزَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إنَّ أحَدَكم لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ ما يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِها رِضْوانَهُ إلى يَوْمِ يَلْقاهُ، وإنَّ أحَدَكم لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ ما يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِها سَخَطَهُ إلى يَوْمِ يَلْقاهُ» وَكانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: كَمْ مِن كَلامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلالِ بْنِ الحارِثِ. وَفِي جامِعِ التِّرْمِذِيِّ أيْضًا مِن حَدِيثِ أنَسٍ قالَ: «تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحابَةِ، فَقالَ رَجُلٌ: أبْشِرْ بِالجَنَّةِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وما يُدْرِيكَ؟ لَعَلَّهُ تَكَلَّمَ فِيما لا يَعْنِيهِ، أوْ بَخِلَ بِما لا يُنْقِصُهُ» قالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي لَفْظٍ: «أنَّ غُلامًا اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَوُجِدَ عَلى بَطْنِهِ صَخْرَةٌ مَرْبُوطَةٌ مِنَ الجُوعِ، فَمَسَحَتْ أُمُّهُ التُّرابَ عَنْ وجْهِهِ وقالَتْ: هَنِيئًا لَكَ يا بُنَيَّ الجَنَّةُ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: وما يُدْرِيكِ؟ لَعَلَّهُ كانَ يَتَكَلَّمُ فِيما لا يَعْنِيهِ، ويَمْنَعُ ما لا يَضُرُّهُ». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: «مَن كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ». وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «مَن كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَإذا شَهِدَ أمْرًا فَلْيَتَكَلَّمْ بِخَيْرٍ أوْ لِيَسْكُتْ». وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مِن حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيهِ». وَعَنْ سُفْيانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قالَ: «قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أسْألُ عَنْهُ أحَدًا بَعْدَكَ، قالَ: قُلْ آمَنتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ، قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما أخْوَفُ ما تَخافُ عَلَيَّ؟ فَأخَذَ بِلِسانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قالَ: هَذا» والحَدِيثُ صَحِيحٌ. وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «كُلُّ كَلامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لا لَهُ إلّا أمْرًا بِمَعْرُوفٍ أوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أوْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ» قالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إذا أصْبَحَ العَبْدُ، فَإنَّ الأعْضاءَ كُلَّها تُكَفِّرُ اللِّسانَ، تَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينا فَإنَّما نَحْنُ بِكَ، فَإذا اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنا، وإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا». وَقَدْ كانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُحاسِبُ أحَدُهم نَفْسَهُ في قَوْلِهِ: يَوْمٌ حارٌّ، ويَوْمٌ بارِدٌ. وَلَقَدْ رُئِيَ بَعْضُ الأكابِرِ مِن أهْلِ العِلْمِ في النَّوْمِ فَسُئِلَ عَنْ حالِهِ، فَقالَ: أنا مَوْقُوفٌ عَلى كَلِمَةٍ قُلْتُها، قُلْتُ: ما أحْوَجَ النّاسَ إلى غَيْثٍ، فَقِيلَ لِي: وما يُدْرِيكَ؟ أنا أعْلَمُ بِمَصْلَحَةِ عِبادِي. وَقالَ بَعْضُ الصَّحابَةِ لِجارِيَتِهِ يَوْمًا: هاتِي السُّفْرَةَ نَعْبَثُ بِها، ثُمَّ قالَ: أسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ما أتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ إلّا وأنا أخْطُمُها وأزُمُّها إلّا هَذِهِ الكَلِمَةَ خَرَجَتْ مِنِّي بِغَيْرِ خِطامٍ ولا زِمامٍ، أوْ كَما قالَ. وَأيْسَرُ حَرَكاتِ الجَوارِحِ حَرَكَةُ اللِّسانِ وهي أضَرُّها عَلى العَبْدِ. واخْتَلَفَ السَّلَفُ والخَلَفُ هَلْ يُكْتَبُ جَمِيعُ ما يُلْفَظُ بِهِ أوِ الخَيْرُ والشَّرُّ فَقَطْ؟ عَلى قَوْلَيْنِ أظْهَرُهُما الأوَّلُ. وَقالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ كَلامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لا لَهُ، إلّا ما كانَ مِنَ اللَّهِ وما والاهُ، وكانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُمْسِكُ عَلى لِسانِهِ ويَقُولُ: هَذا أوْرَدَنِي المَوارِدَ، والكَلامُ أسِيرُكَ، فَإذا خَرَجَ مِن فِيكَ صِرْتَ أنْتَ أسِيرَهُ، واللَّهُ عِنْدَ لِسانِ كُلِّ قائِلٍ: ﴿ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾. وَفِي اللِّسانِ آفَتانِ عَظِيمَتانِ، إنْ خَلَصَ العَبْدُ مِن إحْداهُما لَمْ يَخْلُصْ مِنَ الأُخْرى: آفَةُ الكَلامِ، وآفَةُ السُّكُوتِ، وقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنهُما أعْظَمَ إثْمًا مِنَ الأُخْرى في وقْتِها، فالسّاكِتُ عَنِ الحَقِّ شَيْطانٌ أخْرَسُ، عاصٍ لِلَّهِ، مُراءٍ مُداهِنٌ إذا لَمْ يَخَفْ عَلى نَفْسِهِ، والمُتَكَلِّمُ بِالباطِلِ شَيْطانٌ ناطِقٌ، عاصٍ لِلَّهِ، وأكْثَرُ الخَلْقِ مُنْحَرِفٌ في كَلامِهِ وسُكُوتِهِ فَهم بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، وأهْلُ الوَسَطِ - وهم أهْلُ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ - كَفُّوا ألْسِنَتَهم عَنِ الباطِلِ، وأطْلَقُوها فِيما يَعُودُ عَلَيْهِمْ نَفْعُهُ في الآخِرَةِ، فَلا تَرى أحَدَهم يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ تَذْهَبُ عَلَيْهِ ضائِعَةً بِلا مَنفَعَةٍ، فَضْلًا أنَ تَضُرَّهُ في آخِرَتِهِ، وإنَّ العَبْدَ لَيَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ بِحَسَناتٍ أمْثالِ الجِبالِ، فَيَجِدُ لِسانَهُ قَدْ هَدَمَها عَلَيْهِ كُلَّها، ويَأْتِي بِسَيِّئاتٍ أمْثالِ الجِبالِ فَيَجِدُ لِسانَهُ قَدْ هَدَمَها مِن كَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ وما اتَّصَلَ بِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب