الباحث القرآني

* (فصل) النوع السادس ذكر ما هو من صرائح التعليل وهو من أجل كقوله: ﴿مِن أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إسْرائيلَ أنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ في الأرْضِ فَكَأنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا﴾ وقد ظنت طائفة أن قوله ﴿من أجل ذلك﴾ تعليل لقوله ﴿فأصبح من النادمين﴾ أي من أجل قتله لأخيه وهذا ليس بشيء لأنه يشوش صحة النظم وتقل الفائدة بذكره ويذهب شأن التعليل بذلك للكتابة المذكورة وتعظيم شأن القتل حين جعل علة لهذا الكتابة فتأمله. فإن قلت كيف يكون قتل أحد بني آدم للآخر علة لحكمه على أمة أخرى بذلك الحكم وإذا كان علة فكيف كان قاتل نفس واحدة بمنزلة قاتل الناس كلهم. قلت الرب سبحانه يجعل أقضيته وأقداره عللا وأسبابا لشرعة وأمره فجعل حكمه الكوني القدري علة لحكمه الديني الأمري وذلك أن القتل عنده لما كان من أعلى أنواع الظلم والفساد فخم أمره وعظم شأنه وجعل إثمه أعظم من إثم غيره ونزل قاتل النفس الواحدة منزلة قاتل الأنفس كلها ولا يلزم من التشبيه أن يكون المشبه بمنزلة المشبه به من كل الوجوه فإذا كان قاتل الأنفس كلها يصلى النار وقاتل النفس الواحدة يصلاها صح تشبيهه به كما يأثم من شرب قطرة واحدة من الخمر ومن شرب عدة قناطير وإن اختلف مقدار الإثم وكذلك من زنى مرة واحدة وآخر زنى مرارا كثيرة كلاهما آثم وإن اختلف قدر الإثم وهذا معنى قول مجاهد: "من قتل نفسا واحدة يصلى النار بقتلها كما يصلاها من قتل الناس جميعا. وعلى هذا فالتشبيه في أصل العذاب لا في وصفه وإن شئت قلت التشبيه في أصل العقوبة الدنيوية وقدرها فإنه لا يختلف بقلة القتل وكثرته كما لو شرب قطرة فإن حده حد من شرب راوية ومن زنى بامرأة واحدة حده حد من زنى بألف وهذا تأويل الحسن وابن زيد قالا: "يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعا" ولك أن تجعل التشبيه في الأذى والغم الواصل إلى المؤمنين بقتل الواحد منهم فقد جعلهم كلهم خصماءه وأوصل إليهم من الأذى والغم ما يشبه القتل وهذا تأويل ابن الأنباري وفي الآية تأويلات أخر. * [فَصْلٌ جَرِيمَةُ القَتْلِ] وَلَمّا كانَتْ مَفْسَدَةُ القَتْلِ هَذِهِ المَفْسَدَةَ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿مِن أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ في الأرْضِ فَكَأنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا ومَن أحْياها فَكَأنَّما أحْيا النّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ٣٢]. وَقَدْ أشْكَلَ فَهْمُ هَذا عَلى كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ، وقالَ: مَعْلُومٌ أنَّ إثْمَ قاتِلِ مِائَةٍ أعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِن إثْمِ قاتِلِ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وإنَّما أتَوْهُ مِن ظَنِّهِمْ أنَّ التَّشْبِيهَ في مِقْدارِ الإثْمِ والعُقُوبَةِ، واللَّفْظُ لَمْ يَدُلَّ عَلى هَذا، ولا يَلْزَمُ مِن تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ أخْذُهُ بِجَمِيعِ أحْكامِهِ. وَقَدْ قالَ تَعالى: ﴿كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إلّا عَشِيَّةً أوْ ضُحاها﴾ [النازعات: ٤٦]. وَقالَ تَعالى: ﴿كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِن نَهارٍ﴾ [الأحقاف: ٣٥]. وَذَلِكَ لا يُوجِبُ أنَّ لُبْثَهم في الدُّنْيا إنَّما كانَ هَذا المِقْدارَ. وَقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَن صَلّى العِشاءَ في جَماعَةٍ فَكَأنَّما قامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، ومَن صَلّى الفَجْرَ في جَماعَةٍ فَكَأنَّما قامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ»، أيْ: مَعَ العِشاءِ كَما جاءَ في لَفْظٍ آخَرَ، وأصْرَحُ مِن هَذا قَوْلُهُ: «مَن صامَ رَمَضانَ وأتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِن شَوّالٍ فَكَأنَّما صامَ الدَّهْرَ»، وقَوْلُهُ ﷺ: «مَن قَرَأ " ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ " فَكَأنَّما قَرَأ ثُلُثَ القُرْآنِ»، ومَعْلُومٌ أنَّ ثَوابَ فاعِلِ هَذِهِ الأشْياءَ لَمْ يَبْلُغْ ثَوابَ المُشَبَّهِ بِهِ، فَيَكُونُ قَدْرُهُما سَواءً، ولَوْ كانَ قَدْرُ الثَّوابِ سَواءً لَمْ يَكُنْ لِمُصَلِّي العِشاءِ والفَجْرِ جَماعَةً في قِيامِ اللَّيْلِ مَنفَعَةٌ غَيْرُ التَّعَبِ والنَّصَبِ، وما أُوتِيَ أحَدٌ - بَعْدَ الإيمانِ - أفْضَلَ مِنَ الفَهْمِ عَنِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، ﷺ. وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ. فَإنْ قِيلَ: فَفي أيِّ شَيْءٍ وقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ قاتِلِ نَفْسٍ واحِدَةٍ وقاتِلِ النّاسِ جَمِيعًا؟ قِيلَ: في وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: أحَدُها: أنَّ كُلًّا مِنهُما عاصٍ لِلَّهِ ورَسُولِهِ ﷺ مُخالِفٌ لِأمْرِهِ مُتَعَرِّضٌ لِعُقُوبَتِهِ، وكُلٌّ مِنهُما قَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ولَعْنَتِهِ، واسْتِحْقاقِ الخُلُودِ في نارِ جَهَنَّمَ، وإعْدادِهِ عَذابًا عَظِيمًا، وإنَّما التَّفاوُتُ في دَرَجاتِ العَذابِ، فَلَيْسَ إثْمُ مَن قَتَلَ نَبِيًّا أوْ إمامًا عادِلًا أوْ عالِمًا يَأْمُرُ النّاسَ بِالقِسْطِ، كَإثْمِ مَن قَتَلَ مَن لا مَزِيَّةَ لَهُ مِن آحادِ النّاسِ. الثّانِي: أنَّهُما سَواءٌ في اسْتِحْقاقِ إزْهاقِ النَّفْسِ. الثّالِثُ: أنَّهُما سَواءٌ في الجَراءَةِ عَلى سَفْكِ الدَّمِ الحَرامِ، فَإنَّ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ اسْتِحْقاقٍ، بَلْ لِمُجَرَّدِ الفَسادِ في الأرْضِ، أوْ لِأخْذِ مالِهِ: فَإنَّهُ يَجْتَرِئُ عَلى قَتْلِ كُلِّ مَن ظَفَرَ بِهِ وأمْكَنَهُ قَتْلُهُ، فَهو مُعادٍ لِلنَّوْعِ الإنْسانِيِّ. وَمِنها: أنَّهُ يُسَمّى قاتِلًا أوْ فاسِقًا أوْ ظالِمًا أوْ عاصِيًا بِقَتْلِهِ واحِدًا، كَما يُسَمّى كَذَلِكَ بِقَتْلِهِ النّاسَ جَمِيعًا. وَمِنها: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ جَعَلَ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ وتَراحُمِهِمْ وتَواصُلِهِمْ كالجَسَدِ الواحِدِ، إذا اشْتَكى مِنهُ عُضْوٌ تَداعى لَهُ سائِرُ الجَسَدِ بِالحُمّى والسَّهَرِ، فَإذا أتْلَفَ القاتِلُ مِن هَذا الجَسَدِ عُضْوًا، فَكَأنَّما أتْلَفَ سائِرَ الجَسَدِ، وآلَمَ جَمِيعَ أعْضائِهِ، فَمَن آذى مُؤْمِنًا واحِدًا فَكَأنَّما آذى جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ، وفي أذى جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ أذى جَمِيعِ النّاسِ، فَإنَّ اللَّهَ إنَّما يُدافِعُ عَنِ النّاسِ بِالمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ، فَإيذاءُ الخَفِيرِ إيذاءُ المَخْفُورِ، وقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ، إلّا كانَ عَلى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنها؛ لِأنَّهُ أوَّلُ مَن سَنَّ القَتْلَ». وَلَمْ يَجِئْ هَذا الوَعِيدُ في أوَّلِ زانٍ ولا أوَّلِ سارِقٍ ولا أوَّلِ شارِبِ مُسْكِرٍ، وإنْ كانَ أوَّلُ المُشْرِكِينَ قَدْ يَكُونُ أوْلى بِذَلِكَ مِن أوَّلِ قاتِلٍ؛ لِأنَّهُ أوَّلُ مَن سَنَّ الشِّرْكَ؛ ولِهَذا رَأى النَّبِيُّ ﷺ عَمْرَو بْنَ لَحْيٍ الخُزاعِيَّ يُعَذَّبُ أعْظَمَ العَذابِ في النّارِ، لِأنَّهُ أوَّلُ مَن غَيَّرَ دِينَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَقَدْ قالَ تَعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا أوَّلَ كافِرٍ بِهِ﴾ [البقرة: ٤١]. أيْ فَيَقْتَدِي بِكم مَن بَعْدَكُمْ، فَيَكُونُ إثْمُ كَفْرِهِ عَلَيْكُمْ، وكَذَلِكَ حُكْمُ مَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فاتُّبِعَ عَلَيْها. وَفِي جامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «يَجِيءُ المَقْتُولُ يَوْمَ القِيامَةِ، ناصِيَتُهُ ورَأْسُهُ بِيَدِهِ، وأوْداجُهُ تَشْخَبُ دَمًا، يَقُولُ: يا رَبِّ سَلْ هَذا فِيمَ قَتَلَنِي؟» فَذَكَرُوا لِابْنِ عَبّاسٍ التَّوْبَةَ، فَتَلا هَذِهِ الآيَةَ: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها﴾ [النساء: ٩٣]. ثُمَّ قالَ: ما نُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ ولا بُدِّلَتْ، وأنّى لَهُ التَّوْبَةُ؟ قالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِيهِ أيْضًا عَنْ نافِعٍ قالَ: نَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَوْمًا إلى الكَعْبَةِ، فَقالَ: ما أعْظَمَكِ وأعْظَمَ حُرْمَتَكِ، والمُؤْمِنُ عِنْدَ اللَّهِ أعْظَمُ حُرْمَةً مِنكِ، قالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قالَ: أوَّلُ ما يُنْتِنُ مِنَ الإنْسانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطاعَ مِنكم أنْ لا يَأْكُلَ إلّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، ومَنِ اسْتَطاعَ أنْ لا يَحُولَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِن دَمٍ أهْراقَهُ فَلْيَفْعَلْ. وَفِي صَحِيحِهِ أيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يَزالُ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِن دِينِهِ ما لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرامًا». وَذَكَرَ البُخارِيُّ أيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: مِن ورَطاتِ الأُمُورِ الَّتِي لا مَخْرَجَ لِمَن أوْقَعَ نَفْسَهُ فِيها: سَفْكُ الدَّمِ الحَرامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: «سِبابُ المُؤْمِنِ فُسُوقٌ وقِتالُهُ كُفْرٌ». وَفِيهِما أيْضًا عَنْهُ ﷺ «لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكم رِقابَ بَعْضٍ». وَفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْهُ ﷺ: «مَن قَتَلَ مُعاهَدًا لَمْ يُرَحْ رائِحَةَ الجَنَّةِ، وإنَّ رِيحَها لَيُوجَدُ مِن مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ عامًا». هَذِهِ عُقُوبَةُ قاتِلِ عَدُوِّ اللَّهِ إذا كانَ في عَهْدِهِ وأمانِهِ، فَكَيْفَ عُقُوبَةُ قاتِلِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ؟ وإذا كانَتِ امْرَأةٌ قَدْ دَخَلَتِ النّارَ في هِرَّةٍ حَبَسَتْها حَتّى ماتَتْ جُوعًا وعَطَشًا، فَرَآها النَّبِيُّ ﷺ في النّارِ والهِرَّةُ تَخْدِشُها في وجْهِها وصَدْرِها، فَكَيْفَ عُقُوبَةُ مَن حَبَسَ مُؤْمِنًا حَتّى ماتَ بِغَيْرِ جُرْمٍ؟ وفي بَعْضِ السُّنَنِ عَنْهُ ﷺ: «لَزَوالُ الدُّنْيا أهْوَنُ عَلى اللَّهِ مِن قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب