الباحث القرآني

ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ صَدَقَ رَسُولَهُ رُؤْياهُ في دُخُولِهِمُ المَسْجِدَ آمِنِينَ، وأنَّهُ سَيَكُونُ ولا بُدَّ، ولَكِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ آنَ وقْتُ ذَلِكَ في هَذا العامِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ عَلِمَ مِن مَصْلَحَةِ تَأْخِيرِهِ إلى وقْتِهِ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ، فَأنْتُمْ أحْبَبْتُمُ اسْتِعْجالَ ذَلِكَ، والرَّبُّ تَعالى يَعْلَمُ مِن مَصْلَحَةِ التَّأْخِيرِ وحِكْمَتِهِ ما لَمْ تَعْلَمُوهُ، فَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا تَوْطِئَةً لَهُ وتَمْهِيدًا. * (فصل) ذَكَرَ الإمامُ أحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِن حَدِيثِ محمد بن عبد الله بن زيد، أنَّ أباهُ حَدَّثَهُ أنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ ﷺ عِنْدَ المَنحَرِ، ورَجُلٌ مِن قُرَيْشٍ، وهو يَقْسِمُ أضاحِيَ فَلَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ، ولا صاحِبَهُ فَحَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَأْسَهُ في ثَوْبِهِ، فَأعْطاهُ فَقَسَمَ مِنهُ عَلى رِجالٍ، وقَلَّمَ أظْفارَهُ فَأعْطاهُ صاحِبَهُ، قالَ: فَإنَّهُ عِنْدَنا مَخْضُوبٌ بِالحِنّاءِ والكَتَمِ يَعْنِي شَعْرَهُ. وَدَعا لِلْمُحَلِّقِينَ بِالمَغْفِرَةِ ثَلاثًا، ولِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً، وحَلَقَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحابَةِ، بَلْ أكْثَرُهم وقَصَّرَ بَعْضُهُمْ، وهَذا مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ إنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكم ومُقَصِّرِينَ﴾ [الفتح: ٢٧] وَمَعَ قَوْلِ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -، «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِإحْرامِهِ قَبْلَ أنْ يُحْرِمَ ولِإحْلالِهِ قَبْلَ أنْ يَحِلَّ»، دَلِيلٌ عَلى أنَّ الحَلْقَ نُسُكٌ ولَيْسَ بِإطْلاقٍ مِن مَحْظُورٍ. * (فائدة) وكان أبو بكر الصديق أفهم الأمة لكلام الله ورسوله، ولهذا لما أشكل على عمر مع قوة فهمه قوله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ إنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾. وقول النبي ﷺ للصحابة: "إنكم تأتونه وتطوفون به" فأورده عليه عام الحديبية فقال له الصديق: أقال لك إنك تأتيه العام؟ قال لا. قال فإنك آتيه ومطوف به. فأجابه بجواب النبي ﷺ. وأشكل عليه قتال الصديق لمانعي الزكاة وقد قال النبي ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فقال ألم يقل "إلا بحقها"؟ فإيتاء الزكاة من حقها. ولما أخبرهم النبي ﷺ: "إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله" بكى أبو بكر وقال نفديك بأبنائنا وأمهاتنا فكان رسول الله ﷺ هو المخير وكان أبو بكر أعلم الأمة به. * (فصل) قوله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ إنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكم ومُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ بين سبحانه حكمة ما كرهوه عام الحديبية من صد المشركين لهم حتى رجعوا ولم يعتمروا وبين لهم أن مطلوبهم يحصل بعد هذا فحصل في العام القابل وقال سبحانه: ﴿فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ وهو صلح الحديبية وهو أول الفتح المذكور في قوله: ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ فإن بسببه حصل من مصالح الدين والدنيا والنصر وظهور الإسلام وبطلان الكفر ما لم يكونوا يرجونه قبل ذلك ودخل الناس بعضهم في بعض وتكلم المسلمون بكلمة الإسلام وبراهينه وأدلته جهرة لا يخافون ودخل في ذلك الوقت في الإسلام قريب ممن دخل فيه إلى ذلك الوقت وظهر لكل أحد بغي المشركين وعداوتهم وعنادهم وعلم الخاص والعام أن محمدا وأصحابه أولى الحق والهدى وأن أعداءهم ليس بأيديهم إلا العدوان والعناد فإن البيت الحرام لم يصد عنه حاج ولا معتمر من زمن إبراهيم فتحققت العرب عناد قريش وعداوتهم وكان ذلك داعية لبشر كثير إلى الإسلام وزاد عناد القوم وطغيانهم وذلك من أكبر العون على نفوسهم وزاد صبر المؤمنين واحتمالهم والتزامهم لحكم الله وطاعة رسوله وذلك من أعظم أسباب نصرهم إلى غير ذلك من الأمور التي علمها الله ولم يعلمها الصحابة ولهذا سماه فتحا وسئل النبي ﷺ أفتح هو؟ قال: "نعم". * (فائدة) الفعل الواقع بعد حرف الشرط تارة يكون القصد إليه والاعتماد عليه، فيكون هو مطلوب المعلق، وجعل الجزاء باعثا ووسيلة إلى تحصيله. وفي هذا الموضع يتأكد أو يتعين الإتيان فيه بلفظ المضارع الدال على أن المقصود منه أن يأتي به فيوقعه، وظهور القصد المعنوي إليه أوجب تأثير العمل اللفظي فيه ليطابق المعنى اللفظ، فيجتمع التأثيران اللفظي والمعنوي. والذي يدل على هذا أنهم قلبوا لفظ الفعل الماضي إلى المستقبل في الشرط لهذا المعنى حتى يظهر تأثير الشرط فيه واقتضاؤه له. وإذا كان الكلام معتمدا على الجزاء والقصد إليه والشرط جعل تابعا ووسيلة إليه كان الإتيان فيه بلفظ: الماضي حسنا أو أحسن من المستقبل فزن بهذه القاعدة ما يرد عليك من هذا الباب. فمنه قوله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ إنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ انظر كيف جعل فعل الشرط ماضيا والجزاء مستقبلا، لأن القصد كان إلى دخولهم المسجد الحرام وعنايتهم كلها مصروفة وهممهم معلقة به، دون وقوع الأفعال بمشيئة الله تعالى، فإنهم لم يكونوا يشكون في ذلك ولا يرتابون. وأكد هذا المعنى تقديم الجزاء على الشرط، وهو إما نفس الجزاء على أصح القولين دليلا كما تقدم تقريره. وإما دال على الجزاء وهو محذوف مقدر تأخيره وعلى القولين فتقدم الجزاء أو تقديم ما يدل عليه اعتناء بأمره، وتجريدا للقصد إليه. ويدل عليه أيضا تأكيده باللام المؤذنة بالقسم المضمر كأنه قيل: والله لتدخلن المسجد الحرام. فهذا كله يدلك على أنه هو المقصود المعنى به.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب