الباحث القرآني

ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ عَمّا جَعَلَهُ الكُفّارُ في قُلُوبِهِمْ مِن حَمِيَّةِ الجاهِلِيَّةِ الَّتِي مَصْدَرُها الجَهْلُ والظُّلْمُ الَّتِي لِأجْلِها صَدُّوا رَسُولَهُ وعِبادَهُ عَنْ بَيْتِهِ، ولَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولَمْ يُقِرُّوا لِمُحَمَّدٍ بِأنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ صِدْقَهُ وتَيَقُّنِهِمْ صِحَّةَ رِسالَتِهِ بِالبَراهِينِ الَّتِي شاهَدُوها وسَمِعُوا بِها في مُدَّةِ عِشْرِينَ سَنَةً، وأضافَ هَذا الجَعْلَ إلَيْهِمْ وإنْ كانَ بِقَضائِهِ وقَدَرِهِ كَما يُضافُ إلَيْهِمْ سائِرُ أفْعالِهِمُ الَّتِي هي بِقُدْرَتِهِمْ وإرادَتِهِمْ. ثُمَّ أخْبَرَ - سُبْحانَهُ - أنَّهُ أنْزَلَ في قَلْبِ رَسُولِهِ وأوْلِيائِهِ مِنَ السَّكِينَةِ ما هو مُقابِلٌ لِما في قُلُوبِ أعْدائِهِ مِن حَمِيَّةِ الجاهِلِيَّةِ، فَكانَتِ السَّكِينَةُ حَظَّ رَسُولِهِ وحِزْبِهِ، وحَمِيَّةُ الجاهِلِيَّةِ حَظَّ المُشْرِكِينَ وجُنْدِهِمْ، ثُمَّ ألْزَمَ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ كَلِمَةَ التَّقْوى، وهي جِنْسٌ يَعُمُّ كُلَّ كَلِمَةٍ يُتَّقى اللَّهُ بِها، وأعْلى نَوْعِها كَلِمَةُ الإخْلاصِ، وقَدْ فُسِّرَتْ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وهي الكَلِمَةُ الَّتِي أبَتْ قُرَيْشٌ أنْ تَلْتَزِمَها، فَألْزَمَها اللَّهُ أوْلِياءَهُ وحِزْبَهُ، وإنَّما حَرَمَها أعْداءَهُ صِيانَةً لَها عَنْ غَيْرِ كُفْئِها، وألْزَمَها مَن هو أحَقُّ بِها وأهْلُها، فَوَضَعَها في مَوْضِعَها ولَمْ يُضَيِّعْها بِوَضْعِها في غَيْرِ أهْلِها، وهو العَلِيمُ بِمَحالِّ تَخْصِيصِهِ ومَواضِعِهِ. * [فصل: الفرق بين الحمية والجفاء] وكذا الفرق بين الحمية والجفاء فالحمية فطام النفس عن رضاع اللوم من ثدي هو مصب الخبائث والرذائل والدنايا ولو غزر لبنه وتهالك الناس عليه فإن لهم فطاما تنقطع معه الأكباد حسرات فلا بد من الفطام فإن شئت عجل وأنت محمود مشكور. وإن شئت أخر وأنت غير مأجور. بخلاف الجفاء فإن غلظة في النفس وقساوة في القلب وكثافة في الطبع يتولد عنها خلق يسمى الجفاء. * (فصل) وكلمة التقوى هي الكلمة التي يتقى الله بها وأعلى أنواع هذه الكلمة هي قول (لا إله إلا الله) ثم كل كلمة يتقى الله بها بعدها فهي من كلمة التقوى. وقد أخبر سبحانه أنه ألزمها عبادة المؤمنين فجعلها لازمة لهم لا ينفكون عنها، فبإلزامه التزموها، ولولا إلزامه لهم إياها لما التزموها، والتزامها فعل اختياري تابع لإرادتهم واختيارهم فهو الملزم وهم الملتزمون. قوله تعالى: ﴿وَألْزَمَهم كَلِمَةَ التَّقْوى وكانُوا أحَقَّ بِها وأهْلَها﴾ (قاعِدَة) لشهادة أن لا إلَه إلّا الله عند المَوْت تَأْثِير عَظِيم في تَكْفِير السَّيِّئات وإحباطها لِأنَّها شَهادَة من عبد موقن بها عارِف بمضمونها قد ماتَت مِنهُ الشَّهَوات ولانت نَفسه المتمردة وانقادت بعد إبائها واستعصائها، وأقْبَلت بعد إعراضها وذلت بعد عزها وخرج مِنها حرصا على الدُّنْيا وفضولها واستخذت بَين يَدي رَبها وفاطرها ومولاها الحق أذلّ ما كانَت لَهُ وأرجى ما كانَت لعفوه ومغفرته ورَحمته وتجرد مِنها التَّوْحِيد بِانْقِطاع أسباب الشّرك وتحقّق بُطْلانه فَزالَتْ مِنها تِلْكَ المنازعات الَّتِي كانَت مَشْغُولَة بها واجْتمعَ همها على من أيقنت بالقدوم عَلَيْهِ والمصير إلَيْهِ فَوجه العَبْد وجهه بكليته إلَيْهِ وأقْبل بِقَلْبِه وروحه وهمه عَلَيْهِ فاستسلم وحده ظاهرا وباطنا واستوى سره وعلانيته فَقالَ لا إلَه إلّا الله مخلصا من قلبه وقد تخلص قلبه من التَّعَلُّق بِغَيْرِهِ والالتفات إلى ما سواهُ قد خرجت الدُّنْيا كلها من قلبه وشارف القدوم على ربه وخمدت نيران شَهْوَته وامتلأ قلبه من الآخِرَة فَصارَت نصب عَيْنَيْهِ وصارَت الدُّنْيا وراء ظَهره فَكانَت تِلْكَ الشَّهادَة الخالِصَة خاتِمَة عمله فطهّرته من ذنُوبه وأدخلته على ربه لِأنَّهُ لَقِي ربه بِشَهادَة صادِقَة خالِصَة وافق ظاهرها باطِنها وسرها علانيتها فَلَو حصلت لَهُ الشَّهادَة على هَذا الوَجْه في أيّام الصِّحَّة لاستوحش من الدُّنْيا وأهْلها وفر إلى الله من النّاس وأنس بِهِ دون ما سواهُ لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحَياة وأسبابها ونَفس مَمْلُوءَة بِطَلَب الحظوظ والالتفات إلى غير الله فَلَو تجردت كتجردها عند المَوْت لَكانَ لَها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي والله المُسْتَعان.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب