الباحث القرآني
أخْبَرَ سُبْحانَهُ عَنْ رِضاهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ بِدُخُولِهِمْ تَحْتَ البَيْعَةِ لِرَسُولِهِ وأنَّهُ سُبْحانَهُ عَلِمَ ما في قُلُوبِهِمْ حِينَئِذٍ مِنَ الصِّدْقِ والوَفاءِ وكَمالِ الِانْقِيادِ والطّاعَةِ، وإيثارِ اللَّهِ ورَسُولِهِ عَلى ما سِواهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ السَّكِينَةَ والطُّمَأْنِينَةَ والرِّضى في قُلُوبِهِمْ، وأثابَهم عَلى الرِّضى بِحُكْمِهِ والصَّبْرِ لِأمْرِهِ فَتْحًا قَرِيبًا ومَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها، وكانَ أوَّلُ الفَتْحِ والمَغانِمِ فَتْحَ خَيْبَرَ ومَغانِمَها، ثُمَّ اسْتَمَرَّتِ الفُتُوحُ والمَغانِمُ إلى انْقِضاءِ الدَّهْرِ.
[مَنشَأُ أيْمانِ البَيْعَةِ]
وَمِن هَذِهِ الِالتِزاماتِ الَّتِي لَمْ يُلْزِمْ بِها اللَّهُ ولا رَسُولُهُ لِمَن حَلَفَ بِها الأيْمانَ الَّتِي رَتَّبَها الفاجِرُ الظّالِمُ الحَجّاجُ بْنُ يُوسُفَ، وهي أيْمانُ البَيْعَةِ
«وَكانَتْ البَيْعَةُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالمُصافَحَةِ، وبَيْعَةُ النِّساءِ بِالكَلامِ، وما مَسَّتْ يَدُهُ الكَرِيمَةُ ﷺ يَدَ امْرَأةٍ لا يَمْلِكُها، فَيَقُولُ لِمَن يُبايِعُهُ: بايَعْتُك، أوْ أُبايِعُك، عَلى السَّمْعِ والطّاعَةِ في العُسْرِ واليُسْرِ والمَنشَطِ والمَكْرَهِ»، كَما في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «كُنّا نُبايِعُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلى السَّمْعِ والطّاعَةِ، فَيَقُولُ: فِيما اسْتَطَعْت» وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جابِرٍ «كُنّا يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ ألْفًا وأرْبَعَمِائَةٍ، فَبايَعْناهُ وعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، بايَعْناهُ عَلى أنْ لا نَفِرَّ، ولَمْ نُبايِعْهُ عَلى المَوْتِ».
[كَيْفَ كانَتْ بَيْعَةُ النَّبِيِّ لِلنّاسِ؟]
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ قالَ «بايَعْنا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلى السَّمْعِ والطّاعَةِ في العُسْرِ واليُسْرِ والمَنشَطِ والمَكْرَهِ، وعَلى أثَرَةٍ عَلَيْنا، وعَلى أنْ لا نُنازِعَ الأمْرَ أهْلَهُ، وعَلى أنْ نَقُولَ بِالحَقِّ أيْنَما كُنّا، لا تَأْخُذُنا في اللَّهِ لَوْمَةُ لائِمٍ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أيْضًا عَنْ «جُنادَةَ بْنِ أبِي أُمَيَّةَ قالَ: دَخَلْنا عَلى عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ وهو مَرِيضٌ، فَقُلْنا: حَدِّثْنا أصْلَحَك اللَّهُ بِحَدِيثٍ نَنْتَفِعُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قالَ: دَعانا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَبايَعْناهُ، وكانَ فِيما أخَذَ عَلَيْنا أنْ بايَعْناهُ عَلى السَّمْعِ والطّاعَةِ في مَنشَطِنا ومَكْرَهِنا وعُسْرِنا ويُسْرِنا وأثَرَةٍ عَلَيْنا، وأنْ لا نُنازِعَ الأمْرَ أهْلَهُ، قالَ إلّا أنْ تَرَوْا كُفْرًا بَواحًا عِنْدَكم مِن اللَّهِ فِيهِ بُرْهانٌ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: «كانَ المُؤْمِناتُ إذا هاجَرْنَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا جاءَكَ المُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ ولا يَقْتُلْنَ أوْلادَهُنَّ﴾ [الممتحنة: ١٢] إلى آخِرِ الآيَةِ.
قالَتْ عائِشَةُ: فَمَن أقَرَّتْ بِهَذا مِن المُؤْمِناتِ فَقَدْ أقَرَّتْ بِالمِحْنَةِ، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا أقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِن قَوْلِهِنَّ قالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ انْطَلِقْنَ فَقَدْ بايَعْتُكُنَّ ولا واللَّهِ ما مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَدَ امْرَأةٍ قَطُّ، غَيْرَ أنَّهُ يُبايِعُهُنَّ بِالكَلامِ».
«قالَتْ عائِشَةُ: واللَّهِ ما أخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى النِّساءِ قَطُّ إلّا بِما أمَرَهُ اللَّهُ، وما مَسَّتْ كَفُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَفَّ امْرَأةٍ قَطُّ، وكانَ يَقُولُ لَهُنَّ إذا أخَذَ عَلَيْهِنَّ قَدْ بايَعْتُكُنَّ كَلامًا».
فَهَذِهِ هي البَيْعَةُ النَّبَوِيَّةُ الَّتِي قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فِيها: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ فَمَن نَكَثَ فَإنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ومَن أوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: ١٠] وقالَ فِيها: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: ١٨].
[أيْمانُ البَيْعَةِ الَّتِي أحْدَثَها الحَجّاجُ الثَّقَفِيُّ]
فَأحْدَثَ الحَجّاجُ في الإسْلامِ بَيْعَةً غَيْرَ هَذِهِ تَتَضَمَّنُ اليَمِينَ بِاللَّهِ تَعالى والطَّلاقَ والعَتاقَ وصَدَقَةَ المالِ والحَجَّ؛ فاخْتَلَفَ عُلَماءُ الإسْلامِ في ذَلِكَ عَلى عِدَّةِ أقْوالٍ، ونَحْنُ نَذْكُرُ تَحْرِيرَ هَذِهِ المَسْألَةِ وكَشْفَها؛ فَإنْ كانَ مُرادُ الحالِفِ بِقَوْلِهِ " أيْمانُ البَيْعَةِ تَلْزَمُنِي " البَيْعَةَ النَّبَوِيَّةَ الَّتِي كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُبايِعُ عَلَيْها أصْحابَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلاقُ والإعْتاقُ ولا شَيْءٌ مِمّا رَتَّبَهُ الحَجّاجُ، وإنْ لَمْ يَنْوِ تِلْكَ البَيْعَةَ ونَوى البَيْعَةَ الحَجّاجِيَّةَ فَلا يَخْلُو: إمّا أنْ يَذْكُرَ في لَفْظِهِ طَلاقًا أوْ عَتاقًا أوْ حَجًّا أوْ صَدَقَةً أوْ يَمِينًا بِاللَّهِ أوْ لا يَذْكُرَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ؛ فَإنْ لَمْ يَذْكُرْ في لَفْظِهِ شَيْئًا فَلا يَخْلُو: إمّا أنْ يَكُونَ عارِفًا بِمَضْمُونِها أوْ لا؛ وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَإمّا أنْ يَنْوِيَ مَضْمُونَها كُلَّهُ أوْ بَعْضَ ما فِيها أوْ لا يَنْوِيَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، فَهَذِهِ تَقاسِيمُ هَذِهِ المَسْألَةِ.
* [فصل: العِلْمُ والحِلْمُ والوَقارُ والسَّكِينَةُ]
وَأمّا قَوْلُهُ: " أنْ يَكُونَ لَهُ حِلْمٌ ووَقارٌ وسَكِينَةٌ "
فَلَيْسَ صاحِبُ العِلْمِ والفُتْيا إلى شَيْءٍ أحْوَجَ مِنهُ إلى الحِلْمِ والسَّكِينَةِ والوَقارِ؛ فَإنَّها كِسْوَةُ عِلْمِهِ وجَمالِهِ، وإذا فَقَدَها كانَ عِلْمُهُ كالبَدَنِ العارِي مِن اللِّباسِ.
وَقالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ما قُرِنَ شَيْءٌ إلى شَيْءٍ أحْسَنُ مِن عِلْمٍ إلى حِلْمٍ.
والنّاسُ هاهُنا أرْبَعَةُ أقْسامٍ، فَخِيارُهم مِن أُوتِيَ الحِلْمَ والعِلْمَ، وشِرارُهم مِن عَدَمِهِما، الثّالِثُ: مِن أُوتِيَ عِلْمًا بِلا حِلْمٍ، الرّابِعُ: عَكْسُهُ فالحِلْمُ زِينَةُ العِلْمِ وبَهاؤُهُ وجَمالُهُ.
وَضِدُّ الطَّيْشِ والعَجَلَةِ والحِدَةِ والتَّسَرُّعِ وعَدَمِ الثَّباتِ؛ فالحَلِيمُ لا يَسْتَفِزُّهُ البَدَواتُ، ولا يَسْتَخِفُّهُ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، ولا يُقْلِقُهُ أهْلُ الطَّيْشِ والخِفَّةِ والجَهْلِ.
بَلْ هو وقُورٌ ثابِتٌ ذُو أناةٍ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ وُرُودِ أوائِلِ الأُمُورِ عَلَيْهِ ولا تَمْلِكُهُ أوائِلُها، ومُلاحَظَتُهُ لِلْعَواقِبِ تَمْنَعُهُ مِن أنْ تَسْتَخِفَّهُ دَواعِي الغَضَبِ والشَّهْوَةِ؛ فَبِالعِلْمِ تَنْكَشِفُ لَهُ مَواقِعُ الخَيْرِ والشَّرِّ والصَّلاحِ والفَسادِ، وبِالحِلْمِ يَتَمَكَّنُ مِن تَثْبِيتِ نَفْسِهِ عِنْدَ الخَيْرِ فَيُؤْثِرُهُ ويَصِيرُ عَلَيْهِ وعِنْدَ الشَّرِّ فَيَصْبِرُ عَنْهُ؛ فالعِلْمُ يُعَرِّفُهُ رُشْدَهُ والحِلْمُ يُثَبِّتُهُ عَلَيْهِ، وإذا شِئْتَ أنْ تَرى بَصِيرًا بِالخَيْرِ والشَّرِّ لا صَبْرَ لَهُ عَلى هَذا ولا عَنْ هَذا رَأيْته، وإذا شِئْتَ أنْ تَرى صابِرًا عَلى المَشاقِّ لا بَصِيرَةَ لَهُ رَأيْتَهُ، وإذا شِئْتَ أنْ تَرى مِن لا صَبْرَ لَهُ ولا بَصِيرَةَ رَأيْتَهُ، وإذا شِئْتَ أنْ تَرى بَصِيرًا صابِرًا لَمْ تَكَدْ، فَإذا رَأيْتَهُ فَقَدْ رَأيْتَ إمامَ هُدًى حَقًّا فاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ.
والوَقارُ والسَّكِينَةُ ثَمَرَةُ الحِلْمِ ونَتِيجَتُهُ.
وَلِشِدَّةِ الحاجَةِ إلى السَّكِينَةِ وحَقِيقَتِها وتَفاصِيلِها وأقْسامِها نُشِيرُ إلى ذَلِكَ بِحَسَبِ عُلُومِنا القاصِرَةِ، وأذْهانِنا الجامِدَةِ، وعِباراتِنا النّاقِصَةِ، ولَكِنْ نَحْنُ أبْناءُ الزَّمانِ، والنّاسُ بِزَمانِهِمْ أشْبَهُ مِنهم بِآبائِهِمْ، ولِكُلِّ زَمانٍ دَوْلَةٌ ورِجالٌ.
[حَقِيقَةُ السَّكِينَةِ]
فالسَّكِينَةُ فَعِيلَةٌ مِن السُّكُونِ، وهو طُمَأْنِينَةُ القَلْبِ واسْتِقْرارُهُ، وأصْلُها في القَلْبِ، ويَظْهَرُ أثَرُها عَلى الجَوارِحِ، وهي عامَّةُ وخاصَّةٌ.
فَسَكِينَةُ الأنْبِياءِ - صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ - أخَصُّ مَراتِبِها وأعْلى أقْسامِها كالسَّكِينَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِإبْراهِيمَ الخَلِيلِ وقَدْ أُلْقِيَ في المَنجَنِيقِ مُسافِرًا إلى ما أضْرَمَ لَهُ أعْداءُ اللَّهِ مِن النّارِ، فَلِلَّهِ تِلْكَ السَّكِينَةُ الَّتِي كانَتْ في قَلْبِهِ حِينَ ذَلِكَ السَّفَرِ، وكَذَلِكَ السَّكِينَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لِمُوسى وقَدْ غَشِيَهُ فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ مِن ورائِهِمْ والبَحْرُ أمامَهم وقَدْ اسْتَغاثَ بَنُو إسْرائِيلَ: يا مُوسى إلى أيْنَ تَذْهَبُ بِنا؟ هَذا البَحْرُ أمامَنا وهَذا فِرْعَوْنُ خَلْفَنا، وكَذَلِكَ السَّكِينَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ وقْتَ تَكْلِيمِ اللَّهِ لَهُ نِداءً ونِجاءً كَلامًا حَقِيقَةً سَمِعَهُ حَقِيقَةً بِأُذُنِهِ، وكَذَلِكَ السَّكِينَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ وقَدْ رَأى العَصا ثُعْبانًا مُبِينًا، وكَذَلِكَ السَّكِينَةُ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ وقَدْ رَأى حِبالَ القَوْمِ وعِصِيَّهم كَأنَّها تَسْعى فَأوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً، وكَذَلِكَ السَّكِينَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لِنَبِيِّنا ﷺ وقَدْ أشْرَفَ عَلَيْهِ وعَلى صاحِبِهِ عَدُوُّهُما وهُما في الغارِ فَلَوْ نَظَرَ أحَدُهم إلى تَحْتِ قَدَمَيْهِ لَرَآهُما، وكَذَلِكَ السَّكِينَةُ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ في مَواقِفِهِ العَظِيمَةِ وأعْداءُ اللَّهِ قَدْ أحاطُوا بِهِ كَيَوْمِ بَدْرٍ ويَوْمِ حُنَيْنٍ ويَوْمِ الخَنْدَقِ وغَيْرِهِ؛ فَهَذِهِ السَّكِينَةُ أمْرٌ فَوْقَ عُقُولِ البَشَرِ، وهي مِن أعْظَمِ مُعْجِزاتِهِ عِنْدَ أرْبابِ البَصائِرِ، فَإنَّ الكَذّابَ - ولا سِيَّما عَلى اللَّهِ - أقْلَقُ ما يَكُونُ وأخْوَفُ ما يَكُونُ وأشَدُّهُ اضْطِرابًا في مِثْلِ هَذِهِ المَواطِنِ؛ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلرُّسُلِ - صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ - مِن الآياتِ إلّا هَذِهِ وحْدَها لَكَفَتْهم.
[السَّكِينَةُ الخاصَّةُ]
وَأمّا الخاصَّةُ فَتَكُون لِأتْباعِ الرُّسُلِ بِحَسَبِ مُتابَعَتِهِمْ، وهي سَكِينَةُ الإيمانِ، وهي سَكِينَةٌ تُسَكِّنُ القُلُوبَ عَنْ الرَّيْبِ والشَّكِّ، ولِهَذا أنْزَلَها اللَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ في أصْعَبِ المَواطِنِ أحْوَجَ ما كانُوا إلَيْها ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إيمانًا مَعَ إيمانِهِمْ ولِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ والأرْضِ وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الفتح: ٤]
فَذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ بِالجُنُودِ الخارِجَةِ عَنْهم والجُنُودِ الدّاخِلَةِ فِيهِمْ، وهي السَّكِينَةُ عِنْدَ القَلِقِ والِاضْطِرابِ الَّذِي لَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهِ مِثْلُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذَلِكَ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، قالَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - يَذْكُرُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ بِإنْزالِها أحْوَجَ ما كانُوا إلَيْها: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِمْ فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأثابَهم فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: ١٨]
لَمّا عَلِمَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - ما في قُلُوبِهِمْ مِن القَلِقِ والِاضْطِرابِ لَمّا مَنَعَهم كُفّارُ قُرَيْشٍ مِن دُخُولِ بَيْتِ اللَّهِ، وحَبَسُوا الهَدْيَ عَنْ مَحِلِّهِ، واشْتَرَطُوا عَلَيْهِمْ تِلْكَ الشُّرُوطَ الجائِرَةَ الظّالِمَةَ، فاضْطَرَبَتْ قُلُوبُهُمْ، وقَلِقَتْ ولَمْ تُطِقْ الصَّبْرَ، فَعَلِمَ - تَعالى - ما فِيها، فَثَبَّتَها بِالسَّكِينَةِ رَحْمَةً مِنهُ ورَأْفَةً ولُطْفًا، وهو اللَّطِيفُ الخَبِيرُ.
وَتَحْتَمِلُ الآيَةَ وجْهًا آخَرَ، وهو أنَّهُ - سُبْحانَهُ - عَلِمَ ما في قُلُوبِهِمْ مِن الإيمانِ والخَيْرِ ومَحَبَّتِهِ ومَحَبَّةِ رَسُولِهِ فَثَبَّتَها بِالسَّكِينَةِ وقْتَ قَلَقِها واضْطِرابِها، والظّاهِرُ أنَّ الآيَةَ تَعُمُّ الأمْرَيْنِ، وهو أنَّهُ عَلِمَ ما في قُلُوبِهِمْ مِمّا يَحْتاجُونَ مَعَهُ إلى إنْزالِ السَّكِينَةِ وما في قُلُوبِهِمْ مِن الخَيْرِ الَّذِي هو سَبَبُ إنْزالِها، ثُمَّ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا في قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجاهِلِيَّةِ فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلى المُؤْمِنِينَ وألْزَمَهم كَلِمَةَ التَّقْوى وكانُوا أحَقَّ بِها وأهْلَها وكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الفتح: ٢٦]
لَمّا كانَتْ حَمِيَّةُ الجاهِلِيَّةِ تُوجِبُ مِن الأقْوالِ والأعْمالِ ما يُناسِبُها جَعَلَ اللَّهُ في قُلُوبِ أوْلِيائِهِ سَكِينَةً تُقابِلُ حَمِيَّةَ الجاهِلِيَّةِ، وفي ألْسِنَتِهِمْ كَلِمَةَ التَّقْوى مُقابِلَةً لِما تُوجِبُهُ حَمِيَّةُ الجاهِلِيَّةِ مِن كَلِمَةِ الفُجُورِ، فَكانَ حَظُّ، المُؤْمِنِينَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِهِمْ، وكَلِمَةَ التَّقْوى عَلى ألْسِنَتِهِمْ، وحَظُّ أعْدائِهِمْ حَمِيَّةُ الجاهِلِيَّةِ في قُلُوبِهِمْ، وكَلِمَةُ الفُجُورِ والعَدُوّانِ عَلى ألْسِنَتِهِمْ؛ فَكانَتْ هَذِهِ السَّكِينَةُ وهَذِهِ الكَلِمَةُ جُنْدًا مِن جُنْدِ اللَّهِ أيَّدَ بِها اللَّهُ رَسُولَهُ والمُؤْمِنِينَ في مُقابَلَةِ جُنْدِ الشَّيْطانِ الَّذِي في قُلُوبِ أوْلِيائِهِ وألْسِنَتِهِمْ.
وَثَمَرَةُ هَذِهِ السَّكِينَةِ الطُّمَأْنِينَةُ لِلْخَيْرِ تَصْدِيقًا وإيقانًا ولِلْأمْرِ تَسْلِيمًا وإذْعانًا، فَلا تَدَعْ شُبْهَةً تُعارِضُ الخَيْرَ ولا إرادَةً تُعارِضُ الأمْرَ، فَلا تَمُرُّ مُعارَضاتُ السُّوءِ بِالقَلْبِ إلّا وهي مُجْتازَةٌ مِن مُرُورِ الوَساوِسِ الشَّيْطانِيَّةِ الَّتِي يُبْتَلى بِها العَبْدُ لِيَقْوى إيمانُهُ، ويَعْلُوَ عِنْدَ اللَّهِ مِيزانُهُ، بِمُدافَعَتِها ورَدِّها وعَدَمِ السُّكُونِ إلَيْها، فَلا يَظُنُّ المُؤْمِنُ أنَّها لِنَقْصِ دَرَجَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ.
* [فَصْلٌ: السَّكِينَةُ عِنْدَ القِيامِ بِوَظائِفِ العُبُودِيَّةِ]
وَمِنها السَّكِينَةُ عِنْدَ القِيامِ بِوَظائِف العُبُودِيَّةِ، وهي الَّتِي تُوَرِّثُ الخُضُوعَ والخُشُوعَ وغَضَّ الطَّرَفِ وجَمْعِيَّةَ القَلْبِ عَلى اللَّهِ - تَعالى - بِحَيْثُ يُؤَدِّي عُبُودِيَّتَهُ بِقَلْبِهِ وبَدَنِهِ، والخُشُوعُ نَتِيجَةُ هَذِهِ السَّكِينَةِ وثَمَرَتُها، وخُشُوعُ الجَوارِحِ نَتِيجَةُ خُشُوعِ القَلْبِ، وقَدْ رَأى النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ في الصَّلاةِ، فَقالَ «لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذا لَخَشَعَتْ جَوارِحُهُ».
فَإنْ قُلْتَ: قَدْ ذَكَرْتَ أقْسامَها ونَتِيجَتَها وثَمَرَتَها وعَلامَتَها، فَما أسْبابُها الجالِبَةُ لَها؟
[أسْبابُ السَّكِينَةِ]
قُلْتُ: سَبَبُها اسْتِيلاءُ مُراقَبَةِ العَبْدِ لِرَبِّهِ جَلَّ جَلالُهُ حَتّى كَأنَّهُ يَراهُ، وكَلَّما اشْتَدَّتْ هَذِهِ
المُراقَبَةُ أوْجَبَتْ لَهُ مِن الحَياءِ والسَّكِينَةِ والمَحَبَّةِ والخُضُوعِ والخُشُوعِ والخَوْفِ والرَّجاءِ ما لا يَحْصُلُ بِدُونِها، فالمُراقَبَةُ أساسُ الأعْمالِ القَلْبِيَّةِ كُلِّها وعَمُودُها الَّذِي قِيامُها بِهِ، ولَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ أُصُولَ أعْمالِ القَلْبِ، وفُرُوعَها كُلَّها في كَلِمَةٍ واحِدَةٍ، وهي قَوْلُهُ في الإحْسانِ «أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ» فَتَأمَّلْ كُلَّ مَقامٍ مِن مَقاماتِ الدِّينِ، وكُلَّ عَمَلٍ مِن أعْمالِ القُلُوبِ، كَيْف تَجِدُ هَذا أصْلُهُ ومَنبَعُهُ؟
والمَقْصُودُ أنَّ العَبْدَ مُحْتاجٌ إلى السَّكِينَةِ عِنْدَ الوَساوِسِ المُعْتَرِضَةِ في أصْلِ الإيمانِ لِيَثْبُتَ قَلْبُهُ ولا يَزِيغَ، وعِنْدَ الوَساوِسِ والخَطِراتِ القادِحَةِ في أعْمالِ الإيمانِ لِئَلّا تَقْوى وتَصِيرَ هُمُومًا وغُمُومًا وإراداتٌ يَنْقُصُ بِها إيمانُهُ، وعِنْدَ أسْبابِ المَخاوِفِ عَلى اخْتِلافِها لِيَثْبُتَ قَلْبُهُ ويَسْكُنُ جَأْشُهُ، وعِنْدَ أسْبابِ الفَرَحِ لِئَلّا يَطْمَحَ بِهِ مَرْكَبُهُ فَيُجاوِزَ الحَدَّ الَّذِي لا يُعْبَرُ فَيَنْقَلِبُ تَرَحًا وحُزْنًا، وكَمْ مِمَّنْ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِما يُفْرِحُهُ فَجَمَحَ بِهِ مَرْكَبُ الفَرَحِ وتَجاوَزَ الحَدَّ فانْقَلَبَ تَرَحًا عاجِلًا، ولَوْ أُعِينَ بِسَكِينَةٍ تَعْدِلُ فَرَحَهُ لِأُرِيدَ بِهِ الخَيْرُ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وعِنْدَ هُجُومِ الأسْبابِ المُؤْلِمَةِ عَلى اخْتِلافِها الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ، فَما أحْوَجَهُ إلى السَّكِينَةِ حِينَئِذٍ، وما أنْفَعَها لَهُ، وأجْداها عَلَيْهِ، وأحْسَنَ عاقِبَتَها،.
والسَّكِينَةُ في هَذِهِ المَواطِنِ عَلامَةٌ عَلى الظَّفَرِ، وحُصُولِ المَحْبُوبِ، وانْدِفاعِ المَكْرُوهِ، وفَقْدُها عَلامَةٌ عَلى ضِدِّ ذَلِكَ، لا يُخْطِئُ هَذا ولا هَذا، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
* [فَصْلٌ: في قِصّةِ الحُدَيْبِيَةِ]
قالَ نافع: كانَتْ سَنَةَ سِتٍّ في ذِي القَعْدَةِ، وهَذا هو الصَّحِيحُ، وهو قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وقتادة ومُوسى بْنِ عُقْبَةَ ومحمد بن إسحاق وغَيْرِهِمْ.
وَقالَ هِشامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى الحُدَيْبِيَةِ في رَمَضانَ، وكانَتْ في شَوّالٍ، وهَذا وهْمٌ، وإنَّما كانَتْ غَزاةُ الفَتْحِ في رَمَضانَ، وقَدْ قالَ أبو الأسود عَنْ عروة: إنَّها كانَتْ في ذِي القَعْدَةِ، عَلى الصَّوابِ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أنس أنَّ النَّبِيَّ ﷺ: «اعْتَمَرَ أرْبَعَ عُمَرٍ كُلَّهُنَّ في ذِي القَعْدَةِ».
فَذَكَرَ مِنها عُمْرَةَ الحُدَيْبِيَةِ.
وَكانَ مَعَهُ ألْفٌ وخَمْسُمِائَةٍ، هَكَذا في " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ جابر وعَنْهُ فِيهِما: (كانُوا ألْفًا وأرْبَعَمِائَة)، وفِيهِما: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي أوْفى: " كُنّا ألْفًا وثَلاثَمِائَةٍ ".
قالَ قتادة: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ: كَمْ كانَ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوانِ؟ قالَ: خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةٍ. قالَ: قُلْتُ: فَإنَّ جابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: كانُوا أرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ. قالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، أوْهَمَ، هو حَدَّثَنِي أنَّهم كانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةٍ. قُلْتُ: وقَدْ صَحَّ عَنْ جابر القَوْلانِ، وصَحَّ عَنْهُ أنَّهم نَحَرُوا عامَ الحُدَيْبِيَةِ سَبْعِينَ بَدَنَةً، البَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قالَ: ألْفًا وأرْبَعَمِائَةٍ بِخَيْلِنا ورَجْلِنا.
يَعْنِي فارِسَهم وراجِلَهُمْ، والقَلْبُ إلى هَذا أمْيَلُ، وهو قَوْلُ البَراءِ بْنِ عازِبٍ ومَعْقِلِ بْنِ يَسارٍ وسَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ في أصَحِّ
الرِّوايَتَيْنِ.
وَقَوْلُ المسيب بن حزن: قالَ شعبة: عَنْ قتادة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أبِيهِ: «كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ألْفًا وأرْبَعَمِائَةٍ».
وَغَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا مَن قالَ: كانُوا سَبْعَمِائَةٍ، وعُذْرُهُ أنَّهم نَحَرُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ بَدَنَةً، والبَدَنَةُ قَدْ جاءَ إجْزاؤُها عَنْ سَبْعَةٍ وعَنْ عَشَرَةٍ، وهَذا لا يَدُلُّ عَلى ما قالَهُ هَذا القائِلُ؛ فَإنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِأنَّ البَدَنَةَ كانَتْ في هَذِهِ العُمْرَةِ عَنْ سَبْعَةٍ، فَلَوْ كانَتِ السَّبْعُونَ عَنْ جَمِيعِهِمْ لَكانُوا أرْبَعَمِائَةٍ وتِسْعِينَ رَجُلًا، وقَدْ قالَ في تَمامِ الحَدِيثِ بِعَيْنِهِ: إنَّهم (كانُوا ألْفًا وأرْبَعَمِائَةٍ)
* [فَصْلٌ: في تَقْلِيدُهُ ﷺ الهَدْيَ بِذِي الحُلَيْفَةِ وبَعْثُهُ عَيْنًا لَهُ ابْنَ خُزاعَةَ إلى قُرَيْشٍ]
«فَلَمّا كانُوا بِذِي الحُلَيْفَةِ قَلَّدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الهَدْيَ وأشْعَرَهُ، وأحْرَمَ بِالعُمْرَةِ، وبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَيْنًا لَهُ مِن خُزاعَةَ يُخْبِرُهُ عَنْ قُرَيْشٍ، حَتّى إذا كانَ قَرِيبًا مِن عُسْفانَ أتاهُ عَيْنُهُ فَقالَ: إنِّي تَرَكْتُ كعب بن لؤي قَدْ جَمَعُوا لَكَ الأحابِيشَ، وجَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وهم مُقاتِلُوكَ وصادُّوكَ عَنِ البَيْتِ ومانِعُوكَ، واسْتَشارَ النَّبِيُّ ﷺ أصْحابَهُ وقالَ: أتَرَوْنَ أنْ نَمِيلَ إلى ذَرارِيِّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أعانُوهم فَنُصِيبَهُمْ، فَإنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْرُوبِينَ، وإنْ يَجِيئُوا تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَها اللَّهُ، أمْ تَرَوْنَ أنْ نَؤُمَّ البَيْتَ، فَمَن صَدَّنا عَنْهُ قاتَلْناهُ؟
فَقالَ أبو بكر: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، إنَّما جِئْنا مُعْتَمِرِينَ، ولَمَ نَجِئْ لِقِتالِ أحَدٍ، ولَكِنْ مَن حالَ بَيْنَنا وبَيْنَ البَيْتِ قاتَلْناهُ. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: (فَرُوحُوا إذًا) فَراحُوا حَتّى إذا كانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قالَ النَّبِيُّ ﷺ:
" إنَّ خالِدَ بْنَ الوَلِيدِ بِالغَمِيمِ في خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً فَخُذُوا ذاتَ اليَمِينِ "
فَواللَّهِ ما شَعَرَ بِهِمْ خالد حَتّى إذا هم بِقَتَرَةِ الجَيْشِ فانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وسارَ النَّبِيُّ ﷺ حَتّى إذا كانَ بِالثَّنِيِّةِ الَّتِي يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ مِنها بَرَكَتْ بِهِ راحِلَتُهُ، فَقالَ النّاسُ: حَلْ حَلْ. فَألَحَّتْ، فَقالُوا: خَلَأتِ القَصْواءُ خَلَأتِ القَصْواءُ. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: (ما خَلَأتِ القَصْواءُ وما ذاكَ لَها بِخُلُقٍ، ولَكِنْ حَبَسَها حابِسُ الفِيلِ).
ثُمَّ قالَ (والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسْألُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيها حُرُماتِ الله إلّا أعْطَيْتُهم إيّاها)، ثُمَّ زَجَرَها فَوَثَبَتْ بِهِ، فَعَدَلَ حَتّى نَزَلَ بِأقْصى الحُدَيْبِيَةِ عَلى ثَمَدٍ قَلِيلِ الماءُ إنَّما يَتَبَرَّضُهُ النّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يُلْبِثْهُ النّاسُ أنْ نَزَحُوهُ، فَشَكَوْا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ العَطَشَ، فانْتَزَعَ سَهْمًا مِن كِنانَتِهِ ثُمَّ أمَرَهم أنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ. قالَ: فَواللَّهِ ما زالَ يَجِيشُ لَهم بِالرِّيِّ حَتّى صَدَرُوا عَنْهُ.
وَفَزِعَتْ قُرَيْشٌ لِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ، فَأحَبَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَجُلًا مِن أصْحابِهِ، فَدَعا عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ لِيَبْعَثَهُ إلَيْهِمْ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي بِمَكَّةَ أحَدٌ مِن بَنِي كَعْبٍ يَغْضَبُ لِي إنْ أُوذِيتُ، فَأرْسِلْ عُثْمانَ بْنَ عَفّانَ فَإنَّ عَشِيرَتَهُ بِها، وإنَّهُ مُبَلِّغٌ ما أرَدْتَ. فَدَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عُثْمانَ بْنَ عَفّانَ فَأرْسَلَهُ إلى قُرَيْشٍ وقالَ: أخْبِرْهم أنّا لَمْ نَأْتِ لِقِتالٍ، وإنَّما جِئْنا عُمّارًا، وادْعُهم إلى الإسْلامِ، وأمَرَهُ أنْ يَأْتِيَ رِجالًا بِمَكَّةَ مُؤْمِنِينَ ونِساءً مُؤْمِناتٍ فَيَدْخُلَ عَلَيْهِمْ، ويُبَشِّرَهم بِالفَتْحِ، ويُخْبِرَهم أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ مُظْهِرٌ دِينَهُ بِمَكَّةَ، حَتّى لا يُسْتَخْفى فِيها بِالإيمانِ، فانْطَلَقَ عثمان فَمَرَّ عَلى قُرَيْشٍ بِبَلْدَحَ فَقالُوا: أيْنَ تُرِيدُ؟
فَقالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أدْعُوكم إلى اللَّهِ وإلى الإسْلامِ، وأُخْبِرُكم أنّا لِمَ نَأْتِ لِقِتالٍ، وإنَّما جِئْنا عُمّارًا. فَقالُوا: قَدْ سَمِعْنا ما تَقُولُ، فانْفُذْ لِحاجَتِكَ، وقامَ إلَيْهِ أبانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ العاصِ فَرَحَّبَ بِهِ وأسْرَجَ فَرَسَهُ، فَحَمَلَ عثمان عَلى الفَرَسِ، وأجارَهُ، وأرْدَفَهُ أبانٌ حَتّى جاءَ مَكَّةَ، وقالَ المُسْلِمُونَ قَبْلَ أنْ يَرْجِعَ عثمان: خَلَصَ عثمان قَبْلَنا إلى البَيْتِ وطافَ بِهِ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (ما أظُنُّهُ طافَ بِالبَيْتِ ونَحْنُ مَحْصُورُونَ ". فَقالُوا: وما يَمْنَعُهُ يا رَسُولَ اللَّهِ وقَدْ خَلَصَ؟ قالَ " ذاكَ ظَنِّي بِهِ ألّا يَطُوفَ بِالكَعْبَةِ حَتى نَطُوفَ مَعَهُ)»
«واخْتَلَطَ المُسْلِمُونَ بِالمُشْرِكِينَ في أمْرِ الصُّلْحِ، فَرَمى رَجُلٌ مِن أحَدِ الفَرِيقَيْنِ رَجُلًا مِنَ الفَرِيقِ الآخَرِ، وكانَتْ مَعْرَكَةً، وتَرامَوْا بِالنَّبْلِ والحِجارَةِ، وصاحَ الفَرِيقانِ كِلاهُما، وارْتَهَنَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ بِمَن فِيهِمْ، وبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أنَّ عثمان قَدْ قُتِلَ، فَدَعا إلى البَيْعَةِ، فَثارَ المُسْلِمُونَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهو تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَبايَعُوهُ عَلى ألّا يَفِرُّوا، فَأخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِ نَفْسِهِ وقالَ: (هَذِهِ عَنْ عثمان) ولَمّا تَمَّتِ البَيْعَةُ رَجَعَ عثمان فَقالَ لَهُ المُسْلِمُونَ: اشْتَفَيْتَ يا أبا عبد الله مِنَ الطَّوافِ بِالبَيْتِ؟
فَقالَ: (بِئْسَ ما ظَنَنْتُمْ بِي، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ مَكَثْتُ بِها سَنَةً، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُقِيمٌ بِالحُدَيْبِيَةِ ما طُفْتُ بِها حَتّى يَطُوفَ بِها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ولَقَدْ دَعَتْنِي قُرَيْشٌ إلى الطَّوافِ بِالبَيْتِ فَأبَيْتُ).
فَقالَ المُسْلِمُونَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كانَ أعْلَمَنا بِاللَّهِ وأحْسَنَنا ظَنًّا، (وَكانَ عمر آخِذًا بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِلْبَيْعَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَبايَعَهُ المُسْلِمُونَ كُلُّهم إلّا الجد بن قيس).
(وَكانَ مَعْقِلُ بْنُ يَسارٍ آخِذًا بِغُصْنِها يَرْفَعُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وكانَ أوَّلَ مَن بايَعَهُ أبو سنان الأسدي)
وَبايَعَهُ سَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ ثَلاثَ مَرّاتٍ في أوَّلِ النّاسِ وأوْسَطِهِمْ وآخِرِهِمْ.
فَبَيْنَما هم كَذَلِكَ إذْ جاءَ بديل بن ورقاء الخزاعي في نَفَرٍ مِن خُزاعَةَ، وكانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن أهْلِ تِهامَةَ، فَقالَ: إنِّي تَرَكْتُ كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نَزَلُوا أعْدادَ مِياهِ الحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمُ العُوذُ المَطافِيلُ:، وهم مُقاتِلُوكَ وصادُّوكَ عَنِ البَيْتِ.
قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إنّا لَمْ نَجِئْ لِقِتالِ أحَدٍ ولَكِنْ جِئْنا مُعْتَمِرِينَ، وإنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الحَرْبُ وأضَرَّتْ بِهِمْ، فَإنْ شاءُوا مادَدْتُهم ويُخَلُّوا بَيْنِي وبَيْنَ النّاسِ، وإنْ شاءُوا أنْ يَدْخُلُوا فِيما دَخَلَ فِيهِ النّاسُ فَعَلُوا وإلّا فَقَدْ جَمُّوا، وإنْ هم أبَوْا إلّا القِتالَ فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقاتِلَنَّهم عَلى أمْرِي هَذا حَتّى تَنْفَرِدَ سالِفَتِي أوْ لَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أمْرَه)
قالَ بديل: سَأُبْلِغُهم ما تَقُولُ. فانْطَلَقَ حَتّى أتى قُرَيْشًا فَقالَ: إنِّي قَدْ جِئْتُكم مِن عِنْدِ هَذا الرَّجُلِ، وقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَوْلًا، فَإنْ شِئْتُمْ عَرَضْتُهُ عَلَيْكم. فَقالَ سُفَهاؤُهُمْ: لا حاجَةَ لَنا أنْ تُحَدِّثَنا عَنْهُ بِشَيْءٍ. وقالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنهُمْ: هاتِ ما سَمِعْتَهُ. قالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذا وكَذا. فَحَدَّثَهم بِما قالَ النَّبِيُّ ﷺ. فَقالَ عروة بن مسعود الثقفي: إنَّ هَذا قَدْ عَرَضَ عَلَيْكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقْبَلُوها ودَعُونِي آتِهِ. فَقالُوا: ائْتِهِ. فَأتاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُهُ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ نَحْوًا مِن قَوْلِهِ لبديل، فَقالَ لَهُ عروة عِنْدَ ذَلِكَ: أيْ مُحَمَّدٌ، أرَأيْتَ لَوِ اسْتَأْصَلْتَ قَوْمَكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأحَدٍ مِنَ العَرَبِ اجْتاحَ أهْلَهُ قَبْلَكَ؟ وإنْ تَكُنِ الأُخْرى فَواللَّهِ إنِّي لَأرى وُجُوهًا وأرى أوْشابًا مِنَ النّاسِ خَلِيقًا أنْ يَفِرُّوا ويَدَعُوكَ. فَقالَ لَهُ أبو بكر: امْصُصْ بَظْرَ اللّاتِ، أنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ ونَدَعُهُ؟! قالَ: مَن ذا؟ قالُوا: أبو بكر.
قالَ: أما والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا يَدٌ كانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أجْزِكَ بِها لَأجَبْتُكَ. وجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ ﷺ وكُلَّما كَلَّمَهُ أخَذَ بِلِحْيَتِهِ، والمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عِنْدَ رَأْسِ النَّبِيِّ ﷺ ومَعَهُ السَّيْفُ وعَلَيْهِ المِغْفَرُ، فَكُلَّما أهْوى عروة إلى لِحْيَةِ النَّبِيِّ ﷺ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ وقالَ: أخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَرَفَعَ عروة رَأْسَهُ وقالَ: مَن ذا؟ قالُوا: المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ.
فَقالَ: أيْ غُدَرُ، أوَلَسْتُ أسْعى في غَدْرَتِكَ؟ وكانَ المغيرة صَحِبَ قَوْمًا في الجاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهم وأخَذَ أمْوالَهم ثُمَّ جاءَ فَأسْلَمَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: (أمّا الإسْلامُ فَأقْبَلُ، وأمّا المالُ فَلَسْتُ مِنهُ في شَيْء)
ثُمَّ إنَّ عروة جَعَلَ يَرْمُقُ أصْحابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِعَيْنَيْهِ، فَواللَّهِ ما تَنَخَّمَ النَّبِيُّ ﷺ نُخامَةً إلّا وقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ مِنهُمْ، فَدَلَكَ بِها جِلْدَهُ ووَجْهَهُ، وإذا أمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أمْرَهُ، وإذا تَوَضَّأ كادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلى وضُوئِهِ، وإذا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أصْواتَهم عِنْدَهُ، وما يُحِدُّونَ إلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عروة إلى أصْحابِهِ فَقالَ: أيْ قَوْمُ، واللَّهِ لَقَدْ وفَدْتُ عَلى المُلُوكِ عَلى كِسْرى وقيصر والنَّجاشِيِّ، واللَّهِ ما رَأيْتُ مَلِكًا يُعَظِّمُهُ أصْحابُهُ ما يُعَظِّمُ أصْحابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، واللَّهِ إنْ تَنَخَّمَ نُخامَةً إلّا وقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ مِنهُمْ، فَدَلَكَ بِها وجْهَهُ وجِلْدَهُ، وإذا أمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أمْرَهُ، وإذا تَوَضَّأ كادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلى وُضُوئِهِ، وإذا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أصْواتَهم عِنْدَهُ، وما يُحِدُّونَ إلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وقَدْ عَرَضَ عَلَيْكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقْبَلُوها، فَقالَ رَجُلٌ مِن بَنِي كِنانَةَ: دَعُونِي آتِهِ. فَقالُوا: ائْتِهِ. فَلَمّا أشْرَفَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ، قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (هَذا فُلانٌ، وهو مِن قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ البُدْنَ، فابْعَثُوها لَهُ. فَبَعَثُوها لَهُ، واسْتَقْبَلَهُ القَوْمُ يُلَبُّونَ، فَلَمّا رَأى ذَلِكَ قالَ: سُبْحانَ اللَّهِ، ما يَنْبَغِي لِهَؤُلاءِ أنْ يُصَدُّوا عَنِ البَيْتِ) فَرَجَعَ إلى أصْحابِهِ فَقالَ: رَأيْتُ البُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وأُشْعِرَتْ وما أرى أنْ يُصَدُّوا عَنِ البَيْتِ. فَقامَ مكرز بن حفص فَقالَ: دَعُونِي آتِهِ. فَقالُوا: ائْتِهِ. فَلَمّا أشْرَفَ عَلَيْهِمْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: (هَذا مكرز بن حفص، وهو رَجُلٌ فاجِرٌ).
فَجَعَلَ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَبَيْنا هو يُكَلِّمُهُ إذْ جاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: (قَدْ سُهِّلَ لَكم مِن أمْرِكُمْ) فَقالَ: هاتِ اكْتُبْ بَيْنَنا وبَيْنَكم كِتابًا.
فَدَعا الكاتِبَ فَقالَ: " اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ".
فَقالَ سهيل: أمّا الرَّحْمَنُ فَواللَّهِ ما نَدْرِي ما هُوَ، ولَكِنِ اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَما كُنْتَ تَكْتُبُ. فَقالَ المُسْلِمُونَ: واللَّهِ لا نَكْتُبُها إلّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: (اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ ".
ثُمَّ قالَ: اكْتُبْ: هَذا ما قاضى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ). فَقالَ سهيل: فَواللَّهِ لَوْ كُنّا نَعْلَمُ أنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ما صَدَدْناكَ عَنِ البَيْتِ ولا قاتَلْناكَ، ولَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: (إنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وإنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه). فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: عَلى أنْ تُخَلُّوا بَيْنَنا وبَيْنَ البَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ.
فَقالَ سهيل واللَّهِ لا تَتَحَدَّثُ العَرَبُ أنّا أُخِذْنا ضَغْطَةً، ولَكِنْ ذَلِكَ مِنَ العامِ المُقْبِلِ. فَكَتَبَ، فَقالَ سهيل: عَلى أنْ لا يَأْتِيَكَ مِنّا رَجُلٌ وإنْ كانَ عَلى دِينِكَ إلّا رَدَدْتَهُ إلَيْنا.
فَقالَ المُسْلِمُونَ: سُبْحانَ اللَّهِ، كَيْفَ يُرَدُّ إلى المُشْرِكِينَ وقَدْ جاءَ مُسْلِمًا؟! بَيْنا هم كَذَلِكَ إذْ جاءَ أبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ في قُيُودِهِ، قَدْ خَرَجَ مِن أسْفَلِ مَكَّةَ حَتّى رَمى بِنَفْسِهِ بَيْنَ ظُهُورِ المُسْلِمِينَ، فَقالَ سهيل: هَذا يا مُحَمَّدُ أوَّلُ ما أُقاضِيكَ عَلَيْهِ أنْ تَرُدَّهُ إلَيَّ. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: إنّا لَمْ نَقْضِ الكِتابَ بَعْدُ.
فَقالَ: فَواللَّهِ إذًا لا أُصالِحُكَ عَلى شَيْءٍ أبَدًا.
فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: فَأجِزْهُ لِي.
قالَ: ما أنا بِمُجِيزِهِ لَكَ.
قالَ: بَلى فافْعَلْ. قالَ: ما أنا بِفاعِلٍ. قالَ مكرز: بَلى قَدْ أجَزْناهُ، فَقالَ أبُو جَنْدَلٍ: يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إلى المُشْرِكِينَ وقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا، ألا تَرَوْنَ ما لَقِيتُ؟!
وَكانَ قَدْ عُذِّبَ في اللَّهِ عَذابًا شَدِيدًا.
قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: واللَّهِ ما شَكَكْتُ مُنْذُ أسْلَمْتُ إلّا يَوْمَئِذٍ، فَأتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، ألَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قالَ: بَلى.
قُلْتُ: ألَسْنا عَلى الحَقِّ وعَدُوُّنا عَلى الباطِلِ؟ قالَ: بَلى.
فَقُلْتُ: عَلامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنا إذًا ونَرْجِعُ ولَمّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنا وبَيْنَ أعْدائِنا؟ فَقالَ: (إنِّي رَسُولُ اللَّهِ وهو ناصِرِي ولَسْتُ أعْصِيهِ). قُلْتُ: أوَلَسْتَ كُنْتَ تُحَدِّثُنا أنّا سَنَأْتِي البَيْتَ ونَطُوفُ بِهِ؟ قالَ: بَلى، أفَأخْبَرْتُكَ أنَّكَ تَأْتِيهِ العامَ؟ قُلْتُ: لا. قالَ: فَإنَّكَ آتِيهِ ومُطَّوِّفٌ بِهِ.
قالَ فَأتَيْتُ أبا بكر فَقُلْتُ لَهُ كَما قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ورَدَّ عَلَيَّ أبو بكر كَما رَدَّ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَواءً، وزادَ: فاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ حَتّى تَمُوتَ فَواللَّهِ إنَّهُ لَعَلى
الحَقِّ.
قالَ عمر: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أعْمالًا.
فَلَمّا فُرِغَ مِن قَضِيِّةِ الكِتابِ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (قُومُوا فانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا).
فَواللَّهِ ما قامَ مِنهم رَجُلٌ واحِدٌ حَتّى قالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، فَلَمّا لَمْ يَقُمْ مِنهم أحَدٌ قامَ فَدَخَلَ عَلى أم سلمة، فَذَكَرَ لَها ما لَقِيَ مِنَ النّاسِ، فَقالَتْ أم سلمة: يا رَسُولَ اللَّهِ، أتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أحَدًا مِنهم كَلِمَةً حَتّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وتَدْعُوَ حالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَقامَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أحَدًا مِنهم حَتّى فَعَلَ ذَلِكَ: نَحَرَ بُدْنَهُ ودَعا حالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمّا رَأى النّاسُ ذَلِكَ قامُوا فَنَحَرُوا، وجَعَلَ بَعْضُهم يَحْلِقُ بَعْضًا حَتّى كادَ بَعْضُهم يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِناتٌ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فامْتَحِنُوهُنَّ﴾ [الممتحنة: ١٠]، حَتّى بَلَغَ ﴿بِعِصَمِ الكَوافِرِ﴾ فَطَلَّقَ عمر يَوْمَئِذٍ امْرَأتَيْنِ كانَتا لَهُ في الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إحْداهُما معاوية والأُخْرى صَفْوانُ بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ إلى المَدِينَةِ، وفي مَرْجِعِهِ أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا - لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا - ويَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾
فَقالَ عمر: أوَفَتْحٌ هو يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: نَعَمْ. فَقالَ الصَّحابَةُ: هَنِيئًا لَكَ يا رَسُولَ اللَّهِ، فَما لَنا؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ﴾»
«وَلَمّا رَجَعَ إلى المَدِينَةِ جاءَهُ أبو بصير - رَجُلٌ مِن قُرَيْشٍ - مُسْلِمًا، فَأرْسَلُوا في طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، وقالُوا: العَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنا. فَدَفَعَهُ إلى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجا بِهِ حَتّى بَلَغا ذا الحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِن تَمْرٍ لَهُمْ، فَقالَ أبو بصير لِأحَدِ الرَّجُلَيْنِ: واللَّهِ إنِّي لَأرى سَيْفَكَ هَذا جَيِّدًا. فاسْتَلَّهُ الآخَرُ، فَقالَ: أجَلْ واللَّهِ إنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ.
فَقالَ أبو بصير: أرِنِي أنْظُرْ إلَيْهِ. فَأمْكَنَهُ مِنهُ، فَضَرَبَهُ بِهِ حَتّى بَرَدَ، وفَرَّ الآخَرُ يَعْدُو حَتّى بَلَغَ المَدِينَةَ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ رَآهُ: " لَقَدْ رَأى هَذا ذُعْرًا ".
فَلَمّا انْتَهى إلى النَّبِيِّ ﷺ قالَ: قُتِلَ واللَّهِ صاحِبِي، وإنِّي لَمَقْتُولٌ. فَجاءَ أبو بصير فَقالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ واللَّهِ أوْفى اللَّهُ ذِمَّتَكَ، قَدْ رَدَدْتَنِي إلَيْهِمْ فَأنْجانِي اللَّهُ مِنهم.
فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: " ويْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كانَ لَهُ أحَدٌ ". فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أنَّهُ سَيَرُدُّهُ إلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتّى أتى سِيفَ البَحْرِ، ويَنْفَلِتُ مِنهم أبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بأبي بصير، فَلا يَخْرُجُ مِن قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أسْلَمَ إلّا لَحِقَ بأبي بصير، حَتّى اجْتَمَعَتْ مِنهم عِصابَةٌ، فَواللَّهِ لا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ لِقُرَيْشٍ خَرَجَتْ إلى الشّامِ إلّا اعْتَرَضُوا لَها فَقَتَلُوهم وأخَذُوا أمْوالَهُمْ، فَأرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ تُناشِدُهُ اللَّهَ والرَّحِمَ لَما أرْسَلَ إلَيْهِمْ، فَمَن أتاهُ مِنهم فَهو آمِنٌ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهم عَنْكم وأيْدِيَكم عَنْهم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أنْ أظْفَرَكم عَلَيْهِمْ﴾ [الفتح: ٢٤]، حَتّى بَلَغَ ﴿حَمِيَّةَ الجاهِلِيَّةِ﴾ [الفتح: ٢٤]، وكانَتْ حَمِيَّتُهم أنَّهم لَمْ يُقِرُّوا أنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، ولَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وحالُوا بَيْنَهم وبَيْنَ البَيْتِ».
قُلْتُ: في " الصَّحِيحِ ": أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «تَوَضَّأ ومَجَّ في بِئْرِ الحُدَيْبِيَةِ مِن فَمِهِ، فَجاشَتْ بِالماء»
كَذَلِكَ قالَ البَراءُ بْنُ عازِبٍ وسَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ في " الصَّحِيحَيْنِ ".
وَقالَ عروة: عَنْ مَرْوانَ بْنِ الحَكَمِ والمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أنَّهُ «غَرَزَ فِيها سَهْمًا مِن كِنانَتِه»، وهو في " الصَّحِيحَيْنِ " أيْضًا.
وَفِي مَغازِي أبي الأسود عَنْ عروة: تَوَضَّأ في الدَّلْوِ، ومَضْمَضَ فاهُ، ثُمَّ مَجَّ فِيهِ، وأمَرَ أنْ يُصَبَّ في البِئْرِ، ونَزَعَ سَهْمًا مِن كِنانَتِهِ وألْقاهُ في البِئْرِ، ودَعا اللَّهَ تَعالى فَفارَتْ بِالماءِ، حَتّى جَعَلُوا يَغْتَرِفُونَ بِأيْدِيهِمْ مِنها وهم جُلُوسٌ عَلى شِقِّها، فَجَمَعَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ، وهَذا أشْبَهُ. واللهُ أعْلَمُ.
وَفِي " صَحِيحِ البُخارِيِّ ": عَنْ جابر قالَ:
«عَطِشَ النّاسُ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ يَتَوَضَّأُ مِنها، إذْ جَهَشَ النّاسُ نَحْوَهُ، فَقالَ: ما لَكُمْ؟ قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، ما عِنْدَنا ماءٌ نَشْرَبُ، ولا ما نَتَوَضَّأُ إلّا ما بَيْنَ يَدَيْكَ، فَوَضَعَ يَدَهُ في الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الماءُ يَفُورُ مِن بَيْنِ أصابِعِهِ أمْثالَ العُيُونِ، فَشَرِبُوا وتَوَضَّئُوا، وكانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةٍ»
وَهَذِهِ غَيْرُ قِصَّةِ البِئْرِ.
وَفِي هَذِهِ الغَزْوَةِ أصابَهم لَيْلَةً مَطَرٌ، فَلَمّا صَلّى النّبِيّ ﷺ الصُّبْحَ قالَ:
«أتَدْرُونَ ماذا قالَ رَبُّكُمُ اللَّيْلَةَ؟ "
قالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ.
قالَ: " أصْبَحَ مِن عِبادِي مُؤْمِنٌ بِي وكافِرٌ، فَأمّا مَن قالَ: مُطِرْنا بِفَضْلِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وأمّا مَن قالَ: مُطِرْنا بِنَوْءِ كَذا وكَذا، فَذَلِكَ كافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالكَوْكَب».
* [فصل في ما جرى عليه صلح الحديبية]
وَجَرى الصُّلْحُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وأهْلِ مَكَّةَ عَلى وضْعِ الحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، وأنْ يَأْمَنَ النّاسُ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ، وأنْ يَرْجِعَ عَنْهم عامَهُ ذَلِكَ، حَتّى إذا كانَ العامُ المُقْبِلُ قَدِمَها وخَلَّوْا بَيْنَهُ وبَيْنَ مَكَّةَ فَأقامَ بِها ثَلاثًا، وأنْ لا يَدْخُلَها إلّا بِسِلاحِ الرّاكِبِ والسُّيُوفُ في القِرَبِ، وأنَّ مَن أتانا مِن أصْحابِكَ لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْكَ، ومَن أتاكَ مِن أصْحابِنا رَدَدْتَهُ عَلَيْنا، وأنَّ بَيْنَنا وبَيْنَكَ عَيْبَةً مَكْفُوفَةً، وأنَّهُ لا إسْلالَ ولا إغْلالَ، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، نُعْطِيهِمْ هَذا؟ فَقالَ: «مَن أتاهم مِنّا فَأبْعَدَهُ اللَّهُ، ومَن أتانا مِنهم فَرَدَدْناهُ إلَيْهِمْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا ومَخْرَجًا».
وَفِي قِصَّةِ الحُدَيْبِيَةِ أنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - فِدْيَةَ الأذى لِمَن حَلَقَ رَأْسَهُ بِالصِّيامِ أوِ الصَّدَقَةِ أوِ النُّسُكِ في شَأْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ.
وَفِيها دَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْمُحَلِّقِينَ بِالمَغْفِرَةِ ثَلاثًا، ولِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً.
وَفِيها نَحَرُوا البَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، والبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ.
وَفِيها أهْدى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في جُمْلَةِ هَدْيِهِ جَمَلًا كانَ لأبي جهل كانَ في أنْفِهِ بُرَةٌ مِن فِضَّةٍ؛ لِيَغِيظَ بِهِ المُشْرِكِينَ.
وَفِيها أُنْزِلَتْ سُورَةُ الفَتْحِ، ودَخَلَتْ خُزاعَةُ في عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وعَهْدِهِ، ودَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ في عَقْدِ قُرَيْشٍ وعَهْدِهِمْ، وكانَ في الشَّرْطِ أنَّ مَن شاءَ أنْ يَدْخُلَ في عَقْدِهِ ﷺ دَخَلَ، ومَن شاءَ أنْ يَدْخُلَ في عَقْدِ قُرَيْشٍ دَخَلَ.
وَلَمّا رَجَعَ إلى المَدِينَةِ جاءَهُ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ، مِنهُنَّ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فَجاءَ أهْلُها يَسْألُونَها رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالشَّرْطِ الَّذِي كانَ بَيْنَهُمْ، فَلَمْ يُرْجِعْها إلَيْهِمْ، ونَهاهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَنْ ذَلِكَ.
فَقِيلَ: هَذا نَسْخٌ لِلشَّرْطِ في النِّساءِ.
وَقِيلَ: تَخْصِيصٌ لِلسُّنَّةِ بِالقُرْآنِ، وهو عَزِيزٌ جِدًّا.
وَقِيلَ: لَمْ يَقَعِ الشَّرْطُ إلّا عَلى الرِّجالِ خاصَّةً، وأرادَ المُشْرِكُونَ أنْ يُعَمِّمُوهُ في الصِّنْفَيْنِ فَأبى اللَّهُ ذَلِكَ.
* [فَصْلٌ: في بَعْضِ ما في قِصَّةِ الحُدَيْبِيَةِ مِنَ الفَوائِدِ الفِقْهِيَّةِ]
فَمِنها: اعْتِمارُ النَّبِيِّ ﷺ في أشْهُرِ الحَجِّ، فَإنَّهُ خَرَجَ إلَيْها في ذِي القَعْدَةِ.
وَمِنها: أنَّ الإحْرامَ بِالعُمْرَةِ مِنَ المِيقاتِ أفْضَلُ، كَما أنَّ الإحْرامَ بِالحَجِّ كَذَلِكَ، فَإنَّهُ أحْرَمَ بِهِما مِن ذِي الحُلَيْفَةِ، وبَيْنَها وبَيْنَ المَدِينَةِ مِيلٌ أوْ نَحْوُهُ، وأمّا حَدِيثُ «مَن أحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأخَّرَ»
وَفِي لَفْظٍ: «كانَتْ كَفّارَةً لِما قَبْلَها مِنَ الذُّنُوبِ» فَحَدِيثٌ لا يَثْبُتُ، وقَدِ اضْطُرِبَ فِيهِ إسْنادًا ومَتْنًا اضْطِرابًا شَدِيدًا.
وَمِنها: أنَّ سَوْقَ الهَدْيِ مَسْنُونٌ في العُمْرَةِ المُفْرَدَةِ كَما هو مَسْنُونٌ في القِرانِ.
وَمِنها: أنَّ إشْعارَ الهَدْيِ سُنَّةٌ لا مُثْلَةٌ مَنهِيٌّ عَنْها.
وَمِنها: اسْتِحْبابُ مُغايَظَةِ أعْداءِ اللَّهِ؛ فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ أهْدى في جُمْلَةِ هَدْيِهِ جَمَلًا لأبي جهل في أنْفِهِ بُرَةٌ مِن فِضَّةٍ يَغِيظُ بِهِ المُشْرِكِينَ، وقَدْ قالَ تَعالى في صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ: ﴿وَمَثَلُهم في الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ فَآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ﴾ [الفتح: ٢٩]
وَقالَ عَزَّ وجَلَّ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم لا يُصِيبُهم ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ في سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفّارَ ولا يَنالُونَ مِن عَدُوٍّ نَيْلًا إلّا كُتِبَ لَهم بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ﴾ [التوبة: ١٢٠].
وَمِنها: أنَّ أمِيرَ الجَيْشِ يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَبْعَثَ العُيُونَ أمامَهُ نَحْوَ العَدُوِّ.
وَمِنها: أنَّ الِاسْتِعانَةَ بِالمُشْرِكِ المَأْمُونِ في الجِهادِ جائِزَةٌ عِنْدَ الحاجَةِ؛ لِأنَّ عينه الخزاعي كانَ كافِرًا إذْ ذاكَ، وفِيهِ مِنَ المَصْلَحَةِ أنَّهُ أقْرَبُ إلى اخْتِلاطِهِ بِالعَدُوِّ وأخْذِهِ أخْبارَهم.
وَمِنها: اسْتِحْبابُ مَشُورَةِ الإمامِ رَعِيَّتَهُ وجَيْشَهُ اسْتِخْراجًا لِوَجْهِ الرَّأْيِ واسْتِطابَةً لِنَفُوسِهِمْ، وأمْنًا لِعَتَبِهِمْ وتَعَرُّفًا لِمَصْلَحَةٍ يَخْتَصُّ بِعِلْمِها بَعْضُهم دُونَ بَعْضٍ، وامْتِثالًا لِأمْرِ الرَّبِّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَشاوِرْهم في الأمْرِ﴾ [آل عمران: ١٥٩]
وَقَدْ مَدَحَ سُبْحانَهُ وتَعالى عِبادَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأمْرُهم شُورى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: ٣٨].
وَمِنها: جَوازُ سَبْيِ ذَرارِيِّ المُشْرِكِينَ إذا انْفَرَدُوا عَنْ رِجالِهِمْ قَبْلَ مُقاتَلَةِ الرِّجالِ.
وَمِنها: رَدُّ الكَلامِ الباطِلِ، ولَوْ نُسِبَ إلى غَيْرِ مُكَلَّفٍ، فَإنَّهم لَمّا قالُوا: خَلَأتِ القَصْواءُ. يَعْنِي حَرَنَتْ وألَحَّتْ فَلَمْ تَسِرْ، والخِلاءُ في الإبِلِ بِكَسْرِ الخاءِ والمَدِّ، نَظِيرُ الحِرانِ في الخَيْلِ، فَلَمّا نَسَبُوا إلى النّاقَةِ ما لَيْسَ مِن خُلُقِها وطَبْعِها رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وقالَ:
«ما خَلَأتْ وما ذاكَ لَها بِخُلُقٍ»
ثُمَّ أخْبَرَ ﷺ عَنْ سَبَبِ بُرُوكِها، وأنَّ الَّذِي حَبَسَ الفِيلَ عَنْ مَكَّةَ حَبَسَها لِلْحِكْمَةِ العَظِيمَةِ الَّتِي ظَهَرَتْ بِسَبَبِ حَبْسِها وما جَرى بَعْدَهُ.
وَمِنها: أنَّ تَسْمِيَةَ ما يُلابِسُهُ الرَّجُلُ مِن مَراكِبِهِ ونَحْوِها سُنَّةٌ.
وَمِنها: جَوازُ الحَلِفِ، بَلِ اسْتِحْبابُهُ عَلى الخَبَرِ الدِّينِيِّ الَّذِي يُرِيدُ تَأْكِيدَهُ، وقَدْ حُفِظَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ الحَلِفُ في أكْثَرَ مِن ثَمانِينَ مَوْضِعًا، وأمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِالحَلِفِ عَلى تَصْدِيقِ ما أخْبَرَ بِهِ في ثَلاثَةِ مَواضِعَ: في (سُورَةِ يُونُسَ) و (سَبَأ) و (التَّغابُنِ).
وَمِنها: أنَّ المُشْرِكِينَ وأهْلَ البِدَعِ والفُجُورِ والبُغاةِ والظَّلَمَةِ إذا طَلَبُوا أمْرًا يُعَظِّمُونَ فِيهِ حُرْمَةً مِن حُرُماتِ اللَّهِ تَعالى، أُجِيبُوا إلَيْهِ وأُعْطُوهُ وأُعِينُوا عَلَيْهِ، وإنْ مَنَعُوا غَيْرَهُ فَيُعاوَنُونَ عَلى ما فِيهِ تَعْظِيمُ حُرُماتِ اللَّهِ تَعالى، لا عَلى كُفْرِهِمْ وبَغْيِهِمْ، ويُمْنَعُونَ مِمّا سِوى ذَلِكَ، فَكُلُّ مَنِ التَمَسَ المُعاوَنَةَ عَلى مَحْبُوبٍ لِلَّهِ تَعالى مُرْضٍ لَهُ، أُجِيبَ إلى ذَلِكَ كائِنًا مَن كانَ، ما لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلى إعانَتِهِ عَلى ذَلِكَ المَحْبُوبِ مَبْغُوضٌ لِلَّهِ أعْظَمُ مِنهُ، وهَذا مِن أدَقِّ المَواضِعِ وأصْعَبِها وأشَقِّها عَلى النُّفُوسِ، ولِذَلِكَ ضاقَ عَنْهُ مِنَ الصَّحابَةِ مَن ضاقَ، وقالَ عمر ما قالَ، حَتّى عَمِلَ لَهُ أعْمالًا بَعْدَهُ، والصِّدِّيقُ تَلَقّاهُ بِالرِّضى والتَّسْلِيمِ، حَتّى كانَ قَلْبُهُ فِيهِ عَلى قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وأجابَ عمر عَمّا سَألَ عَنْهُ مِن ذَلِكَ بِعَيْنِ جَوابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ الله عَنْهُ أفْضَلُ الصَّحابَةِ وأكْمَلُهم وأعْرَفُهم بِاللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ ﷺ، وأعْلَمُهم بِدِينِهِ وأقْوَمُهم بِمَحابِّهِ وأشَدُّهم مُوافَقَةً لَهُ، ولِذَلِكَ لَمْ يَسْألْ عمر عَمّا عَرَضَ لَهُ إلّا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وصِدِّيقَهُ خاصَّةً دُونَ سائِرِ أصْحابِهِ.
وَمِنها: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَدَلَ ذاتَ اليَمِينِ إلى الحُدَيْبِيَةِ. قالَ الشّافِعِيُّ: بَعْضُها مِنَ الحِلِّ وبَعْضُها مِنَ الحَرَمِ.
وَرَوى الإمامُ أحْمَدُ في هَذِهِ القِصَّةِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «كانَ يُصَلِّي في الحَرَمِ، وهو مُضْطَرِبٌ في الحِلِّ»، وفي هَذا كالدَّلالَةِ عَلى أنَّ مُضاعَفَةَ الصَّلاةِ بِمَكَّةَ تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الحَرَمِ، لا يُخَصُّ بِها المَسْجِدُ الَّذِي هو مَكانُ الطَّوافِ، وأنَّ قَوْلَهُ: «صَلاةٌ في المَسْجِدِ الحَرامِ أفْضَلُ مِن مِائَةِ صَلاةٍ في مَسْجِدِي»، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ﴾ [التوبة: ٢٨] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ وكانَ الإسْراءُ مِن بَيْتِ أم هانئ.
وَمِنها: أنَّ مَن نَزَلَ قَرِيبًا مِن مَكَّةَ فَإنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنْزِلَ في الحِلِّ، ويُصَلِّيَ في الحَرَمِ، وكَذَلِكَ كانَ ابْنُ عُمَرَ يَصْنَعُ.
وَمِنها: جَوازُ ابْتِداءِ الإمامِ بِطَلَبِ صُلْحِ العَدُوِّ، إذا رَأى المَصْلَحَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ، ولا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلى أنْ يَكُونَ ابْتِداءُ الطَّلَبِ مِنهم.
وَفِي قِيامِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَلى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالسَّيْفِ - ولَمْ يَكُنْ عادَتَهُ أنْ يُقامَ عَلى رَأْسِهِ وهو قاعِدٌ - سُنَّةٌ يُقْتَدى بِها عِنْدَ قُدُومِ رُسُلِ العَدُوِّ مِن إظْهارِ العِزِّ والفَخْرِ وتَعْظِيمِ الإمامِ وطاعَتِهِ ووِقايَتِهِ بِالنُّفُوسِ، وهَذِهِ هي العادَةُ الجارِيَةُ عِنْدَ قُدُومِ رُسُلِ المُؤْمِنِينَ عَلى الكافِرِينَ، وقُدُومِ رُسُلِ الكافِرِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ، ولَيْسَ هَذا مِن هَذا النَّوْعِ الَّذِي ذَمَّهُ النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ:
«مَن أحَبَّ أنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجالُ قِيامًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ»
كَما أنَّ الفَخْرَ والخُيَلاءَ في الحَرْبِ لَيْسا مِن هَذا النَّوْعِ المَذْمُومِ في غَيْرِهِ، وفي بَعْثِ البُدْنِ في وجْهِ الرَّسُولِ الآخَرِ دَلِيلٌ عَلى اسْتِحْبابِ إظْهارِ شَعائِرِ الإسْلامِ لِرُسُلِ الكُفّارِ.
وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ للمغيرة: «أمّا الإسْلامُ فَأقْبَلُ، وأمّا المالُ فَلَسْتُ مِنهُ في شَيْءٍ» دَلِيلٌ عَلى أنَّ مالَ المُشْرِكِ المُعاهَدِ مَعْصُومٌ، وأنَّهُ لا يُمْلَكُ بَلْ يُرَدُّ عَلَيْهِ؛ فَإنَّ المغيرة كانَ قَدْ صَحِبَهم عَلى الأمانِ ثُمَّ غَدَرَ بِهِمْ وأخَذَ أمْوالَهُمْ، فَلَمْ يَتَعَرَّضِ النَّبِيُّ ﷺ لِأمْوالِهِمْ ولا ذَبَّ عَنْها، ولا ضَمِنَها لَهُمْ؛ لِأنَّ ذَلِكَ كانَ قَبْلَ إسْلامِ المغيرة.
وَفِي قَوْلِ الصِّدِّيقِ لعروة: امْصُصْ بَظْرَ اللّاتِ. دَلِيلٌ عَلى جَوازِ التَّصْرِيحِ بِاسْمِ العَوْرَةِ إذا كانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ تَقْتَضِيها تِلْكَ الحالُ، كَما أذِنَ النَّبِيُّ ﷺ أنْ يُصَرِّحَ لِمَنِ ادَّعى دَعْوى الجاهِلِيَّةِ بِهَنِ أبِيهِ، ويُقالُ لَهُ: اعْضُضْ أيْرَ أبِيكَ، ولا يُكَنِّى لَهُ، فَلِكُلِّ مَقامٍ مَقالٌ.
وَمِنها: احْتِمالُ قِلَّةِ أدَبِ رَسُولِ الكُفّارِ وجَهْلِهِ وجَفْوَتِهِ، ولا يُقابَلُ عَلى ذَلِكَ؛ لِما فِيهِ مِنَ المَصْلَحَةِ العامَّةِ، ولَمْ يُقابِلِ النَّبِيُّ ﷺ عروة عَلى أخْذِهِ بِلِحْيَتِهِ وقْتَ خِطابِهِ، وإنْ كانَتْ تِلْكَ عادَةَ العَرَبِ، لَكِنَّ الوَقارَ والتَّعْظِيمَ خِلافُ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ لَمْ يُقابِلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَسُولَيْ مسيلمة حِينَ قالا: نَشْهَدُ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وقالَ: «لَوْلا أنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُما»
وَمِنها: طَهارَةُ النُّخامَةِ سَواءٌ كانَتْ مِن رَأْسٍ أوْ صَدْرٍ.
وَمِنها: طَهارَةُ الماءِ المُسْتَعْمَلِ.
وَمِنها: اسْتِحْبابُ التَّفاؤُلِ، وأنَّهُ لَيْسَ مِنَ الطِّيَرَةِ المَكْرُوهَةِ؛ لِقَوْلِهِ لَمّا جاءَ سهيل " «سَهُلَ أمْرُكُمْ» ".
وَمِنها: أنَّ المَشْهُودَ عَلَيْهِ إذا عُرِفَ بِاسْمِهِ واسْمِ أبِيهِ أغْنى ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ الجَدِّ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَزِدْ عَلى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وقَنِعَ مِن سهيل بِذِكْرِ اسْمِهِ واسْمِ أبِيهِ خاصَّةً، واشْتِراطُ ذِكْرِ الجَدِّ لا أصْلَ لَهُ، ولَمّا اشْتَرى العداء بن خالد مِنهُ ﷺ الغُلامَ، فَكَتَبَ لَهُ: «هَذا ما اشْتَرى العداء بن خالد بن هوذة»، فَذَكَرَ جَدَّهُ، فَهو زِيادَةُ بَيانٍ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ جائِزٌ لا بَأْسَ بِهِ، ولا تَدُلُّ عَلى اشْتِراطِهِ، ولَمّا لَمْ يَكُنْ في الشُّهْرَةِ بِحَيْثُ يُكْتَفى بِاسْمِهِ واسْمِ أبِيهِ ذَكَرَ جَدَّهُ، فَيُشْتَرَطُ ذِكْرُ الجَدِّ عِنْدَ الِاشْتِراكِ في الِاسْمِ واسْمِ الأبِ، وعِنْدَ عَدَمِ الِاشْتِراكِ اكْتُفِيَ بِذِكْرِ الِاسْمِ واسْمِ الأبِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
وَمِنها: أنَّ مُصالَحَةَ المُشْرِكِينَ بِبَعْضِ ما فِيهِ ضَيْمٌ عَلى المُسْلِمِينَ جائِزَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ، ودَفْعِ ما هو شَرٌّ مِنهُ، فَفِيهِ دَفْعُ أعْلى المَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمالِ أدْناهُما.
وَمِنها: أنَّ مَن حَلَفَ عَلى فِعْلِ شَيْءٍ أوْ نَذَرَهُ أوْ وعَدَ غَيْرَهُ بِهِ، ولَمْ يُعَيِّنْ وقْتًا، لا بِلَفْظِهِ ولا بِنِيَّتِهِ، لَمْ يَكُنْ عَلى الفَوْرِ، بَلْ عَلى التَّراخِي.
وَمِنها: أنَّ الحِلاقَ نُسُكٌ، وأنَّهُ أفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ، وأنَّهُ نُسُكٌ في العُمْرَةِ كَما هو نُسُكٌ في الحَجِّ، وأنَّهُ نُسُكٌ في عُمْرَةِ المَحْصُورِ كَما هو نُسُكٌ في عُمْرَةِ غَيْرِهِ.
وَمِنها: أنَّ المُحْصَرَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ مِنَ الحِلِّ أوِ الحَرَمِ، وأنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يُواعِدَ مَن يَنْحَرُهُ في الحَرَمِ إذا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ، وأنَّهُ لا يَتَحَلَّلُ حَتّى يَصِلَ إلى مَحَلِّهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والهَدْيَ مَعْكُوفًا أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: ٢٥].
وَمِنها: أنَّ المَوْضِعَ الَّذِي نَحَرَ فِيهِ الهَدْيَ كانَ مِنَ الحِلِّ، لا مِنَ الحَرَمِ؛ لِأنَّ الحَرَمَ كُلَّهُ مَحِلُّ الهَدْيِ.
وَمِنها: أنَّ المُحْصَرَ لا يَجِبُ عَلَيْهِ القَضاءُ؛ لِأنَّهُ ﷺ أمَرَهم بِالحَلْقِ والنَّحْرِ، ولَمْ يَأْمُرْ أحَدًا مِنهم بِالقَضاءِ، والعُمْرَةُ مِنَ العامِ القابِلِ لَمْ تَكُنْ واجِبَةً، ولا قَضاءً عَنْ عُمْرَةِ الإحْصارِ، فَإنَّهم كانُوا في عُمْرَةِ الإحْصارِ ألْفًا وأرْبَعَمِائَةٍ، وكانُوا في عُمْرَةِ القَضِيَّةِ دُونَ ذَلِكَ، وإنَّما سُمِّيَتْ عُمْرَةَ القَضِيَّةِ والقَضاءِ لِأنَّها العُمْرَةُ الَّتِي قاضاهم عَلَيْها، فَأُضِيفَتِ العُمْرَةُ إلى مَصْدَرِ فِعْلِهِ.
وَمِنها: أنَّ الأمْرَ المُطْلَقَ عَلى الفَوْرِ وإلّا لَمْ يَغْضَبْ لِتَأْخِيرِهِمُ الِامْتِثالَ عَنْ وقْتِ الأمْرِ، وقَدِ اعْتُذِرَ عَنْ تَأْخِيرِهِمُ الِامْتِثالَ بِأنَّهم كانُوا يَرْجُونَ النَّسْخَ، فَأخَّرُوا مُتَأوِّلِينَ لِذَلِكَ، وهَذا الِاعْتِذارُ أوْلى أنْ يُعْتَذَرَ عَنْهُ، وهو باطِلٌ؛ فَإنَّهُ ﷺ لَوْ فَهِمَ مِنهم ذَلِكَ لَمْ يَشْتَدَّ غَضَبُهُ لِتَأْخِيرِ أمْرِهِ، ويَقُولُ:
«ما لِي لا أغْضَبُ وأنا آمُرُ بِالأمْرِ فَلا أُتَّبَعُ»
وَإنَّما كانَ تَأْخِيرُهم مِنَ السَّعْيِ المَغْفُورِ لا المَشْكُورِ، وقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وغَفَرَ لَهم وأوْجَبَ لَهُمُ الجَنَّةَ.
وَمِنها: أنَّ الأصْلَ مُشارَكَةُ أُمَّتِهِ لَهُ في الأحْكامِ، إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ، ولِذَلِكَ قالَتْ أم سلمة: «اخْرُجْ ولا تُكَلِّمْ أحَدًا حَتّى تَحْلِقَ رَأْسَكَ وتَنْحَرَ هَدْيَكَ»، وعَلِمَتْ أنَّ النّاسَ سَيُتابِعُونَهُ.
فَإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ فَعَلُوا ذَلِكَ اقْتِداءً بِفِعْلِهِ ولَمْ يَمْتَثِلُوهُ حِينَ أمَرَهم بِهِ؟ قِيلَ: هَذا هو السَّبَبُ الَّذِي لِأجْلِهِ ظَنَّ مَن ظَنَّ أنَّهم أخَّرُوا الِامْتِثالَ طَمَعًا في النَّسْخِ، فَلَمّا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ عَلِمُوا حِينَئِذٍ أنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَقِرٌّ غَيْرُ مَنسُوخٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ فَسادُ هَذا الظَّنِّ، ولَكِنْ لَمّا تَغَيَّظَ عَلَيْهِمْ وخَرَجَ ولَمْ يُكَلِّمْهم وأراهم أنَّهُ بادَرَ إلى امْتِثالِ ما أُمِرَ بِهِ، وأنَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْ كَتَأْخِيرِهِمْ، وأنَّ اتِّباعَهم لَهُ وطاعَتَهم تُوجِبُ اقْتِداءَهم بِهِ، بادَرُوا حِينَئِذٍ إلى الِاقْتِداءِ بِهِ وامْتِثالِ أمْرِهِ.
وَمِنها: جَوازُ صُلْحِ الكُفّارِ عَلى رَدِّ مَن جاءَ مِنهم إلى المُسْلِمِينَ، وألّا يُرَدَّ مَن ذَهَبَ مِنَ المُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ، هَذا في غَيْرِ النِّساءِ، وأمّا النِّساءُ فَلا يَجُوزُ اشْتِراطُ رَدِّهِنَّ إلى الكُفّارِ، وهَذا مَوْضِعُ النَّسْخِ خاصَّةً في هَذا العَقْدِ بِنَصِّ القُرْآنِ، ولا سَبِيلَ إلى دَعْوى النَّسْخِ في غَيْرِهِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ.
وَمِنها: أنَّ خُرُوجَ البُضْعِ مِن مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ، ولِذَلِكَ أوْجَبَ اللَّهُ سُبْحانَهُ رَدَّ المَهْرِ عَلى مَن هاجَرَتِ امْرَأتُهُ وحِيلَ بَيْنَهُ وبَيْنَها، وعَلى مَنِ ارْتَدَّتِ امْرَأتُهُ مِنَ المُسْلِمِينَ إذا اسْتَحَقَّ الكُفّارُ عَلَيْهِمْ رَدَّ مُهُورِ مَن هاجَرَ إلَيْهِمْ مِن أزْواجِهِمْ، وأخْبَرَ أنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ بَيْنَهم ثُمَّ لَمْ يَنْسَخْهُ شَيْءٌ، وفي إيجابِهِ رَدَّ ما أعْطى الأزْواجُ مِن ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى تَقَوُّمِهِ بِالمُسَمّى، لا بِمَهْرِ المِثْلِ.
وَمِنها: أنَّ رَدَّ مَن جاءَ مِنَ الكُفّارِ إلى الإمامِ لا يَتَناوَلُ مَن خَرَجَ مِنهم مُسْلِمًا إلى غَيْرِ بَلَدِ الإمامِ، وأنَّهُ إذا جاءَ إلى بَلَدِ الإمامِ لا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ بِدُونِ الطَّلَبِ؛ فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَرُدَّ أبا بصير حِينَ جاءَهُ، ولا أكْرَهَهُ عَلى الرُّجُوعِ، ولَكِنْ لَمّا جاءُوا في طَلَبِهِ مَكَّنَهم مِن أخْذِهِ ولَمْ يُكْرِهْهُ عَلى الرُّجُوعِ.
وَمِنها أنَّ المُعاهَدِينَ إذا تَسَلَّمُوهُ وتَمَكَّنُوا مِنهُ فَقَتَلَ أحَدًا مِنهم لَمْ يَضْمَنهُ بِدِيَةٍ ولا قَوَدٍ، ولَمْ يَضْمَنهُ الإمامُ، بَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ في ذَلِكَ حُكْمَ قَتْلِهِ لَهم في دِيارِهِمْ، حَيْثُ لا حُكْمَ لِلْإمامِ عَلَيْهِمْ؛ فَإنَّ أبا بصير قَتَلَ أحَدَ الرَّجُلَيْنِ المُعاهَدَيْنِ بِذِي الحُلَيْفَةِ، وهي مِن حُكْمِ المَدِينَةِ، ولَكِنْ كانَ قَدْ تَسَلَّمُوهُ وفُصِلَ عَنْ يَدِ الإمامِ وحُكْمِهِ.
وَمِنها: أنَّ المُعاهَدِينَ إذا عاهَدُوا الإمامَ فَخَرَجَتْ مِنهم طائِفَةٌ، فَحارَبَتْهم وغَنِمَتْ أمْوالَهُمْ، ولَمْ يَتَحَيَّزُوا إلى الإمامِ، لَمْ يَجِبْ عَلى الإمامِ دَفْعُهم عَنْهم ومَنعُهم مِنهُمْ، وسَواءٌ دَخَلُوا في عَقْدِ الإمامِ وعَهْدِهِ ودِينِهِ أوْ لَمْ يَدْخُلُوا، والعَهْدُ الَّذِي كانَ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وبَيْنَ المُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ عَهْدًا بَيْنَ أبي بصير وأصْحابِهِ وبَيْنَهُمْ، وعَلى هَذا فَإذا كانَ بَيْنَ بَعْضِ مُلُوكِ المُسْلِمِينَ وبَعْضِ أهْلِ الذِّمَّةِ مِنَ النَّصارى وغَيْرِهِمْ عَهْدٌ جازَ لِمَلِكٍ آخَرَ مِن مُلُوكِ المُسْلِمِينَ أنْ يَغْزُوَهم ويَغْنَمَ أمْوالَهم إذا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وبَيْنَهم عَهْدٌ، كَما أفْتى بِهِ شَيْخُ الإسْلامِ في نَصارى مَلَطْيَةَ وسَبْيِهِمْ، مُسْتَدِلًّا بِقِصَّةِ أبي بصير مَعَ المُشْرِكِينَ.
* [فَصْلٌ: في الإشارَةِ إلى بَعْضِ الحِكَمِ الَّتِي تَضَمَّنَتْها هَذِهِ الهُدْنَةُ]
وَهِيَ أكْبَرُ وأجَلُّ مِن أنْ يُحِيطَ بِها إلّا اللَّهُ الَّذِي أحْكَمَ أسْبابَها، فَوَقَعَتِ الغايَةُ عَلى الوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وحَمْدُهُ.
فَمِنها: أنَّها كانَتْ مُقَدِّمَةً بَيْنَ يَدَيِ الفَتْحِ الأعْظَمِ الَّذِي أعَزَّ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وجُنْدَهُ، ودَخَلَ النّاسُ بِهِ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا، فَكانَتْ هَذِهِ الهُدْنَةُ بابًا لَهُ ومِفْتاحًا ومُؤْذِنًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وهَذِهِ عادَةُ اللَّهِ سُبْحانَهُ في الأُمُورِ العِظامِ الَّتِي يَقْضِيها قَدَرًا وشَرْعًا أنْ يُوَطِّئَ لَها بَيْنَ يَدَيْها مُقَدِّماتٍ وتَوْطِئاتٍ تُؤْذِنُ بِها وتَدُلُّ عَلَيْها.
وَمِنها: أنَّ هَذِهِ الهُدْنَةَ كانَتْ مِن أعْظَمِ الفُتُوحِ؛ فَإنَّ النّاسَ أمِنَ بَعْضُهم بَعْضًا، واخْتَلَطَ المُسْلِمُونَ بِالكُفّارِ، وبادَءُوهم بِالدَّعْوَةِ وأسْمَعُوهُمُ القُرْآنَ، وناظَرُوهم عَلى الإسْلامِ جَهْرَةً آمِنِينَ، وظَهَرَ مَن كانَ مُخْتَفِيًا بِالإسْلامِ، ودَخَلَ فِيهِ في مُدَّةَ الهُدْنَةِ مَن شاءَ اللَّهُ أنْ يَدْخُلَ، ولِهَذا سَمّاهُ اللَّهُ فَتْحًا مُبِينًا. قالَ ابن قتيبة: قَضَيْنا لَكَ قَضاءً عَظِيمًا. وقالَ مجاهد: هو ما قَضى اللَّهُ لَهُ بِالحُدَيْبِيَةِ.
وَحَقِيقَةُ الأمْرِ أنَّ الفَتْحَ - في اللُّغَةِ - فَتْحُ المُغْلَقِ، والصُّلْحُ الَّذِي حَصَلَ مَعَ المُشْرِكِينَ بِالحُدَيْبِيَةِ كانَ مَسْدُودًا مُغْلَقًا حَتّى فَتَحَهُ اللَّهُ، وكانَ مِن أسْبابِ فَتْحِهِ صَدُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأصْحابِهِ عَنِ البَيْتِ، وكانَ في الصُّورَةِ الظّاهِرَةِ ضَيْمًا وهَضْمًا لِلْمُسْلِمِينَ، وفي الباطِنِ عِزًّا وفَتْحًا ونَصْرًا، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَنْظُرُ إلى ما وراءَهُ مِنَ الفَتْحِ العَظِيمِ والعِزِّ والنَّصْرِ مِن وراءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ، وكانَ يُعْطِي المُشْرِكِينَ كُلَّ ما سَألُوهُ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي لَمْ يَحْتَمِلْها أكْثَرُ أصْحابِهِ ورُءُوسُهُمْ، وهو ﷺ يَعْلَمُ ما في ضِمْنِ هَذا المَكْرُوهِ مِن مَحْبُوبٍ ﴿وَعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهو خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦].
؎وَرُبَّما كانَ مَكْرُوهُ النُّفُوسِ إلى ∗∗∗ مَحْبُوبِها سَبَبًا ما مِثْلُهُ سَبَبُ
فَكانَ يَدْخُلُ عَلى تِلْكَ الشُّرُوطِ دُخُولَ واثِقٍ بِنَصْرِ اللَّهِ لَهُ وتَأْيِيدِهِ، وأنَّ العاقِبَةَ لَهُ، وأنَّ تِلْكَ الشُّرُوطَ واحْتِمالَها هو عَيْنُ النُّصْرَةِ، وهو مِن أكْبَرِ الجُنْدِ الَّذِي أقامَهُ المُشْتَرِطُونَ ونَصَبُوهُ لِحَرْبِهِمْ وهم لا يَشْعُرُونَ، فَذَلُّوا مِن حَيْثُ طَلَبُوا العِزَّ، وقُهِرُوا مِن حَيْثُ أظْهَرُوا القُدْرَةَ والفَخْرَ والغَلَبَةَ، وعَزَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وعَساكِرُ الإسْلامِ مِن حَيْثُ انْكَسَرُوا لِلَّهِ واحْتَمَلُوا الضَّيْمَ لَهُ وفِيهِ، فَدارَ الدَّوْرُ وانْعَكَسَ الأمْرُ وانْقَلَبَ العِزُّ بِالباطِلِ ذُلًّا بِحَقٍّ، وانْقَلَبَتِ الكَسْرَةُ لِلَّهِ عِزًّا بِاللَّهِ، وظَهَرَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ وآياتُهُ وتَصْدِيقُ وعْدِهِ ونُصْرَةُ رَسُولِهِ عَلى أتَمِّ الوُجُوهِ وأكْمَلِها الَّتِي لا اقْتِراحَ لِلْعُقُولِ وراءَها.
وَمِنها: ما سَبَّبَهُ سُبْحانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِن زِيادَةِ الإيمانِ والإذْعانِ والِانْقِيادِ عَلى ما أحَبُّوا وكَرِهُوا، وما حَصَلَ لَهم في ذَلِكَ مِنَ الرِّضى بِقَضاءِ اللَّهِ وتَصْدِيقِ مَوْعُودِهِ، وانْتِظارِ ما وُعِدُوا بِهِ، وشُهُودِ مِنَّةِ اللَّهِ ونِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ الَّتِي أنْزَلَها في قُلُوبِهِمْ أحْوَجَ ما كانُوا إلَيْها في تِلْكَ الحالِ الَّتِي تُزَعْزَعُ لَها الجِبالُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن سَكِينَتِهِ ما اطْمَأنَّتْ بِهِ قُلُوبُهم وقَوِيَتْ بِهِ نُفُوسُهم وازْدادُوا بِهِ إيمانًا.
وَمِنها: أنَّهُ سُبْحانَهُ جَعَلَ هَذا الحُكْمَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ لِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ سَبَبًا لِما ذَكَرَهُ مِنَ المَغْفِرَةِ لِرَسُولِهِ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأخَّرَ، ولِإتْمامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، ولِهِدايَتِهِ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ، ونَصْرِهِ النَّصْرَ العَزِيزَ، ورِضاهُ بِهِ، ودُخُولِهِ تَحْتَهُ، وانْشِراحِ صَدْرِهِ بِهِ، مَعَ ما فِيهِ مِنَ الضَّيْمِ وإعْطاءِ ما سَألُوهُ، كانَ مِنَ الأسْبابِ الَّتِي نالَ بِها الرَّسُولُ وأصْحابُهُ ذَلِكَ، ولِهَذا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ جَزاءً وغايَةً، وإنَّما يَكُونُ ذَلِكَ عَلى فِعْلٍ قامَ بِالرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ عِنْدَ حُكْمِهِ تَعالى وفَتْحِهِ.
وَتَأمَّلْ كَيْفَ وصَفَ - سُبْحانَهُ - النَّصْرَ بِأنَّهُ عَزِيزٌ في هَذا المَوْطِنِ ثُمَّ ذَكَرَ إنْزالَ السَّكِينَةِ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ في هَذا المَوْطِنِ الَّذِي اضْطَرَبَتْ فِيهِ القُلُوبُ وقَلِقَتْ أشَدَّ القَلَقِ، فَهي أحْوَجُ ما كانَتْ إلى السَّكِينَةِ، فازْدادُوا بِها إيمانًا إلى إيمانِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ بَيْعَتَهم لِرَسُولِهِ وأكَّدَها بِكَوْنِها بَيْعَةً لَهُ سُبْحانَهُ، وأنَّ يَدَهُ تَعالى كانَتْ فَوْقَ أيْدِيهِمْ إذْ كانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَذَلِكَ، وهو رَسُولُهُ ونَبِيُّهُ، فالعَقْدُ مَعَهُ عَقْدٌ مَعَ مُرْسِلِهِ، وبَيْعَتُهُ بَيْعَتُهُ، فَمَن بايَعَهُ فَكَأنَّما بايَعَ اللَّهَ، ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ يَدِهِ، وإذا كانَ «الحَجَرُ الأسْوَدُ يَمِينَ اللَّهِ في الأرْضِ، فَمَن صافَحَهُ وقَبَّلَهُ فَكَأنَّما صافَحَ اللَّهَ وقَبَّلَ يَمِينَهُ» فَيَدُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أوْلى بِهَذا مِنَ الحَجَرِ الأسْوَدِ. ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ ناكِثَ هَذِهِ البَيْعَةِ إنَّما يَعُودُ نَكْثُهُ عَلى نَفْسِهِ، وأنَّ لِلْمُوَفِّي بِها أجْرًا عَظِيمًا، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ قَدْ بايَعَ اللَّهَ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ بَيْعَةً عَلى الإسْلامِ وحُقُوقِهِ، فَناكِثٌ ومُوفٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ حالَ مَن تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنَ الأعْرابِ، وظَنَّهم أسْوَأ الظَّنِّ بِاللَّهِ أنَّهُ يَخْذُلُ رَسُولَهُ وأوْلِياءَهُ وجُنْدَهُ ويُظْفِرُ بِهِمْ عَدُوَّهم فَلَنْ يَنْقَلِبُوا إلى أهْلِيهِمْ، وذَلِكَ مِن جَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وأسْمائِهِ وصِفاتِهِ وما يَلِيقُ بِهِ، وجَهْلِهِمْ بِرَسُولِهِ وما هو أهْلٌ أنْ يُعامِلَهُ بِهِ رَبُّهُ ومَوْلاهُ.
ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ عَنْ رِضاهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ بِدُخُولِهِمْ تَحْتَ البَيْعَةِ لِرَسُولِهِ وأنَّهُ سُبْحانَهُ عَلِمَ ما في قُلُوبِهِمْ حِينَئِذٍ مِنَ الصِّدْقِ والوَفاءِ وكَمالِ الِانْقِيادِ والطّاعَةِ، وإيثارِ اللَّهِ ورَسُولِهِ عَلى ما سِواهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ السَّكِينَةَ والطُّمَأْنِينَةَ والرِّضى في قُلُوبِهِمْ، وأثابَهم عَلى الرِّضى بِحُكْمِهِ والصَّبْرِ لِأمْرِهِ فَتْحًا قَرِيبًا ومَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها، وكانَ أوَّلُ الفَتْحِ والمَغانِمِ فَتْحَ خَيْبَرَ ومَغانِمَها، ثُمَّ اسْتَمَرَّتِ الفُتُوحُ والمَغانِمُ إلى انْقِضاءِ الدَّهْرِ.
{"ayah":"۞ لَّقَدۡ رَضِیَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذۡ یُبَایِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِی قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِینَةَ عَلَیۡهِمۡ وَأَثَـٰبَهُمۡ فَتۡحࣰا قَرِیبࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق