الباحث القرآني

(من حِكَم وأسرار الابتلاء) اعلم أنه قد يترتب على خلق من يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة ما لم يكن يحصل بدون ذلك فلولا كفر قوم نوح لما ظهرت آية الطوفان وبقيت يتحدث بها الناس على ممر الزمان ولولا كفر عاد لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمرت ما مرت عليه ولولا كفر قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة ولا كفر فرعون لما ظهرت تلك الآيات والعجائب يتحدث بها الأمم أمة بعد أمة واهتدى من شاء الله فهلك بها من هلك عن بينه وحي بها من حي عن بينة وظهر بها فضل الله وعدله وحكمته وآيات رسله وصدقهم فمعارضة الرسل وكسر حججهم ودحضها والجواب عنها وإهلاك الله لهم من أعظم أدلة صدقهم وبراهينه ولولا مجيء المشركين بالحد والحديد والعدد والشوكة يوم بدر لما حصلت تلك الآية العظيمة التي يترتب عليها من الإيمان والهدى والخير ما لم يكن حاصلا مع عدمها وقد بينا أن الموقوف على الشيء لا يوجد بدونه ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع فلله كم عمرت قصة بدر من ربع أصبح آهلا بالإيمان وقد فتحت لأولي النهى من باب وصلوا منه إلى الهدى والإيقان وكم حصل بها من محبوب للرحمن وغيظ للشيطان وتلك المفسدة التي حصلت في ضمنها للكفار مغمورة جدا بالنسبة إلى مصالحها وحكمها وهي كمفسدة المطر إذا قطع المسافر وبل الثياب وخرب بعض البيوت بالنسبة إلى مصلحة العامة وتأمل ما حصل بالطوفان وغرق آل فرعون للأمم من الهدى والإيمان الذي غمر مفسدة من هلك به حتى تلاشت في جنب مصلحته وحكمته فكم لله من حكمة في آياته التي ابتلى بها أعداءه وأكرم فيها أولياءه وكم له فيها من آية وحجة وتبصرة وتذكرة ولهذا أمر سبحانه رسوله أن يذكر بها أمته فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ وذَكِّرْهم بِأيّامِ اللَّهِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ أنْجاكم مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكم سُوءَ العَذابِ ويُذَبِّحُونَ أبْناءَكم ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكم وفي ذَلِكم بَلاءٌ مِن رَبِّكم عَظِيمٌ﴾ فذكرهم بأيامه وإنعامه ونجاتهم من عدوهم وإهلاكهم وهم ينظرون فحصل بذلك من ذكره وشكره ومحبته وتعظيمه وإجلاله ما تلاشت فيه مفسدة إهلاك الأبناء وذبحهم واضمحلت فإنهم صاروا إلى النعيم وخلصوا من مفسدة العبودية لفرعون. * (فصل) وقد ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الحسنة الأولى وأن المعصية قد تكون عقوبة للمعصية الأولى فالأول كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أنَّهم فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرًا لَهم وأشَدَّ تَثْبِيتًا وإذًا لآتَيْناهم مِن لَدُنّا أجْرًا عَظِيمًا ولَهَدَيْناهم صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ وقال تعالى: ﴿والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا﴾ وقال: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ويُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ بِإذْنِهِ ويَهْدِيهِمْ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وأما قوله: ﴿والَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أعْمالَهم سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بالَهُمْ﴾ فيحتمل أن لا يكون من هذا وتكون الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة فإنه رتب هذا الجزاء على قتلهم. ويحتمل أن يكون منه ويكون قوله ﴿سيهديهم ويصلح بالهم﴾ إخبارا منه سبحانه عما يفعله بهؤلاء الذين قتلوا في سبيله قبل أن قتلوا. وأتى به بصيغة المستقبل إعلاما منه بأنه يجدد له كل وقت نوعا من أنواع الهداية وإصلاح البال شيئا بعد شيء. فإن قلت فكيف يكون ذلك المستقبل خبرا عن الذين قتلوا؟ قلت الخبر قوله: ﴿فلن يضل أعمالهم﴾ أي أنه لا يبطلها عليهم ولا يترهم إياها. هذا بعد أن قتلوا، ثم أخبر سبحانه خبرا مستأنفا عنهم أنه سيهديهم ويصلح بالهم لما علم أنهم سيقتلون في سبيله، وأنهم بذلوا أنفسهم له. فلهم جزاآن جزاء في الدنيا بالهداية على الجهاد، وجزاء في الآخرة بدخول الجنة. فيرد السامع كل جملة إلى وقتها لظهور المعنى وعدم التباسه، وهو في القرآن كثير والله أعلم. * (فصل) المرتبة الرابعة من مراتب الهداية الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة قال تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهم وما كانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فاهْدُوهم إلى صِراطِ الجَحِيمِ﴾ وقال تعالى: ﴿والَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أعْمالَهم سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بالَهُمْ﴾ فهذه هداية بعد قتلهم. فقيل: المعنى سيهديهم إلى طريق الجنة ويصلح حالهم في الآخرة بإرضاء خصومهم وقبول أعمالهم وقال ابن عباس سيهديهم إلى أرشد الأمور ويعصمهم أيام حياتهم في الدنيا. واستشكل هذا القول لأنه أخبر عن المقتولين في سبيله بأنهم سيهديهم. واختاره الزجاج وقال: "يصلح بالهم في المعاش وأحكام الدنيا" قال: "وأراد به يجمع لهم خير الدنيا والآخرة" وعلى هذا القول فلا بد من حمل قوله ﴿قتلوا في سبيل الله﴾ على معنى يصح معه إثبات الهداية وإصلاح البال. * (فصل: في ذكر معرفتهم لمنازلهم ومساكنهم إذا دخلو الجنة وإن لم يروها قبل ذلك) قال تعالى ﴿والَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أعْمالَهم سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بالَهم ويُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ﴾ قال مجاهد: "يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلوا عليها أحدا" وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: "هم أعرف بمنازلهم من أهل الجنة إذا انصرفوا إلى منازلهم" وقال محمد بن كعب: "يعرفونها كما تعرفون بيوتكم في الدنيا إذا انصرفتم من يوم الجمعة" هذا قول جمهور المفسرين وتلخيص أقوالهم ما قاله أبو عبيدة عرفها لهم أي بينها لهم حتى عرفوها من غير استدلال وقال مقاتل ابن حيان: "بلغنا أن الملك الموكل بحفظ بني آدم يمشي في الجنة ويتبعه ابن آدم حتى يأتيه أقصى منزل هو له فيعرفه كل شيء أعطاه الله في الجنة فإذا دخل إلى منزله وأزواجه انصرف الملك عنه" وقال سلمة بن كهيل: "طرقها لم ومعنى هذا أنه طرقها لهم حتى يهتدوا إليها" وقال الحسن: "وصف الله الجنة في الدينا لهم فإذا دخلوها عرفوها بصفتها. وعلى هذا القول فالتعريف وقع في الدنيا، ويكون المعنى يدخلهم الجنة التي عرفها لهم. وعلى القول الأول يكون التعريف واقعا في الآخرة. هذا كله إذا قيل إنه من التعريف. وفيها قول آخر أنه من العرف وهو الرائحة الطيبة. وهذا اختيار الزجاج أي طيبها ومنه طعام معرف أي مطيب. وقيل: هو من العرف وهو التتابع: أي تابع لهم طيباتها وملاذها. والقول هو الأول وأنه سبحانه أعلمها وبينها بما يعلم به كل أحد منزله وداره فلا يتعداه إلى غيره. وفي صحيح البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله ﷺ قال: "إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم بدخول الجنة، والذي نفسي بيده أن أحدهم بمنزلة في الجنة أدل منه بمسكنه كان في الدنيا" وفي مسند آخر من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأحوالكم ومساكنكم من أهل الجنة وبأزواجهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنة". ((الجزء السادس عشر))
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب