الباحث القرآني

[اخْتِيارُ الأسْماءِ الحَسَنَةِ لِأنَّ الأسْماءَ قَوالِبُ لِلْمَعانِي] * (فَصْلٌ في فِقْهِ هَذا البابِ) لَمّا كانَتِ الأسْماءُ قَوالِبَ لِلْمَعانِي، ودالَّةً عَلَيْها، اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ أنْ يَكُونَ بَيْنَها وبَيْنَها ارْتِباطٌ وتَناسُبٌ، وأنْ لا يَكُونَ المَعْنى مَعَها بِمَنزِلَةِ الأجْنَبِيِّ المَحْضِ الَّذِي لا تَعَلُّقَ لَهُ بِها، فَإنَّ حِكْمَةَ الحَكِيمِ تَأْبى ذَلِكَ، والواقِعُ يَشْهَدُ بِخِلافِهِ، بَلْ لِلْأسْماءِ تَأْثِيرٌ في المُسَمَّياتِ، ولِلْمُسَمَّياتِ تَأثُّرٌ عَنْ أسْمائِها في الحُسْنِ والقُبْحِ، والخِفَّةِ والثِّقَلِ، واللَّطافَةِ والكَثافَةِ كَما قِيلَ: ؎وَقَلَّما أبْصَرَتْ عَيْناكَ ذا لَقَبٍ ∗∗∗ إلّا ومَعْناهُ إنْ فَكَّرْتَ في لَقَبِهْ «وَكانَ ﷺ يَسْتَحِبُّ الِاسْمَ الحَسَنِ، وأمَرَ إذا أبْرَدُوا إلَيْهِ بَرِيدًا أنْ يَكُونَ حَسَنَ الِاسْمِ حَسَنَ الوَجْهِ» وَكانَ يَأْخُذُ المَعانِيَ مِن أسْمائِها في المَنامِ واليَقَظَةِ كَما «رَأى أنَّهُ وأصْحابَهُ في دارِ عقبة بن رافع، فَأُتُوا بِرُطَبٍ مِن رُطَبِ ابْنِ طابَ، فَأوَّلَهُ بِأنَّ لَهُمُ الرِّفْعَةَ في الدُّنْيا، والعاقِبَةَ في الآخِرَةِ، وأنَّ الدِّينَ الَّذِي قَدِ اخْتارَهُ اللَّهُ لَهم قَدْ أرْطَبَ وطابَ، وتَأوَّلَ سُهُولَةَ أمْرِهِمْ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ مِن مَجِيءِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو إلَيْهِ». «وَنَدَبَ جَماعَةً إلى حَلْبِ شاةٍ، فَقامَ رَجُلٌ يَحْلُبُها، فَقالَ: " ما اسْمُكَ؟ " قالَ: " مرة فَقالَ: اجْلِسْ، فَقامَ آخَرُ، فَقالَ: " ما اسْمُكَ؟ " قالَ: أظُنُّهُ حرب، فَقالَ: اجْلِسْ، فَقامَ آخَرُ، فَقالَ: " ما اسْمُكَ؟ " فَقالَ: يعيش، فَقالَ: " احْلُبْها». وَكانَ يَكْرَهُ الأمْكِنَةَ المُنْكَرَةَ الأسْماءِ ويَكْرَهُ العُبُورَ فِيها، كَما مَرَّ في بَعْضِ غَزَواتِهِ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَسَألَ عَنِ اسْمَيْهِما، فَقالُوا: فاضِحٌ ومُخْزٍ، فَعَدَلَ عَنْهُما، ولَمْ يَجُزْ بَيْنَهُما. وَلَمّا كانَ بَيْنَ الأسْماءِ والمُسَمَّياتِ مِنَ الِارْتِباطِ والتَّناسُبِ والقَرابَةِ ما بَيْنَ قَوالِبِ الأشْياءِ وحَقائِقِها، وما بَيْنَ الأرْواحِ والأجْسامِ عَبَرَ العَقْلُ مِن كُلٍّ مِنهُما إلى الآخَرِ كَما كانَ إياسُ بْنُ مُعاوِيَةَ وغَيْرُهُ يَرى الشَّخْصَ، فَيَقُولُ: يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ اسْمُهُ كَيْتَ وكَيْتَ، فَلا يَكادُ يُخْطِئُ، وضِدُّ هَذا العَبُورُ مِنَ الِاسْمِ إلى مُسَمّاهُ كَما سَألَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا عَنِ اسْمِهِ، فَقالَ: جمرة، فَقالَ: واسْمُ أبِيكَ؟ قالَ: شهاب، قالَ: مِمَّنْ؟ قالَ: مِنَ الحُرَقَةِ، قالَ: فَمَنزِلُكَ؟ قالَ: بِحَرَّةِ النّارِ، قالَ: فَأيْنَ مَسْكَنُكَ؟ قالَ: بِذاتِ لَظى، قالَ: اذْهَبْ فَقَدِ احْتَرَقَ مَسْكَنُكَ، فَذَهَبَ فَوَجَدَ الأمْرَ كَذَلِكَ. فَعَبَرَ عمر مِنَ الألْفاظِ إلى أرْواحِها ومَعانِيها، كَما عَبَرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ اسْمِ سُهَيْلٍ إلى سُهُولَةِ أمْرِهِمْ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، فَكانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، وقَدْ أمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أُمَّتَهُ بِتَحْسِينِ أسْمائِهِمْ، وأخْبَرَ أنَّهم يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ بِها، وفي هَذا - واللَّهُ أعْلَمُ - تَنْبِيهٌ عَلى تَحْسِينِ الأفْعالِ المُناسِبَةِ لِتَحْسِينِ الأسْماءِ؛ لِتَكُونَ الدَّعْوَةُ عَلى رُءُوسِ الأشْهادِ بِالِاسْمِ الحَسَنِ، والوَصْفِ المُناسِبِ لَهُ. وَتَأمَّلْ كَيْفَ اشْتُقَّ لِلنَّبِيِّ ﷺ مِن وصْفِهِ اسْمانِ مُطابِقانِ لِمَعْناهُ، وهُما أحْمَدُ ومُحَمَّدٌ، فَهو لِكَثْرَةِ ما فِيهِ مِنَ الصِّفاتِ المَحْمُودَةِ مُحَمَّدٌ، ولِشَرَفِها وفَضْلِها عَلى صِفاتِ غَيْرِهِ أحْمَدُ، فارْتَبَطَ الِاسْمُ بِالمُسَمّى ارْتِباطَ الرُّوحِ بِالجَسَدِ، وكَذَلِكَ تَكْنِيَتُهُ ﷺ لأبي الحكم بن هشام بأبي جهل، كُنْيَةٌ مُطابِقَةٌ لِوَصْفِهِ ومَعْناهُ، وهو أحَقُّ الخَلْقِ بِهَذِهِ الكُنْيَةِ، وكَذَلِكَ تَكْنِيَةُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ لعبد العزى بأبي لهب؛ لَمّا كانَ مَصِيرُهُ إلى نارٍ ذاتِ لَهَبٍ كانَتْ هَذِهِ الكُنْيَةُ ألْيَقَ بِهِ وأوْفَقَ، وهو بِها أحَقُّ وأخْلَقُ. وَلَمّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ المَدِينَةَ، واسْمُها يَثْرِبُ لا تُعْرَفُ بِغَيْرِ هَذا الِاسْمِ غَيَّرَهُ بِطَيْبَةَ؛ لَمّا زالَ عَنْها ما في لَفْظِ يَثْرِبَ مِنَ التَّثْرِيبِ بِما في مَعْنى طَيْبَةَ مِنَ الطِّيبِ، اسْتَحَقَّتْ هَذا الِاسْمَ، وازْدادَتْ بِهِ طِيبًا آخَرَ، فَأثَّرَ طِيبُها في اسْتِحْقاقِ الِاسْمِ، وزادَها طِيبًا إلى طِيبِها. وَلَمّا كانَ الِاسْمُ الحَسَنُ يَقْتَضِي مُسَمّاهُ ويَسْتَدْعِيهِ مِن قُرْبٍ، قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِبَعْضِ قَبائِلِ العَرَبِ وهو يَدْعُوهم إلى اللَّهِ وتَوْحِيدِهِ: «يا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ قَدْ حَسَّنَ اسْمَكم واسْمَ أبِيكُمْ»، فانْظُرْ كَيْفَ دَعاهم إلى عُبُودِيَّةِ اللَّهِ بِحُسْنِ اسْمِ أبِيهِمْ وبِما فِيهِ مِنَ المَعْنى المُقْتَضِي لِلدَّعْوَةِ، وتَأمَّلْ أسْماءَ السِّتَّةِ المُتَبارِزِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَيْفَ اقْتَضى القَدَرُ مُطابَقَةَ أسْمائِهِمْ لِأحْوالِهِمْ يَوْمَئِذٍ، فَكانَ الكُفّارُ شيبة وعتبة والوليد، ثَلاثَةُ أسْماءٍ مِنَ الضَّعْفِ، فالوليد لَهُ بِدايَةُ الضَّعْفِ، وشيبة لَهُ نِهايَةُ الضَّعْفِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكم مِن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وشَيْبَةً﴾ وعتبة مِنَ العَتَبِ، فَدَلَّتْ أسَماؤُهم عَلى عَتَبٍ يَحِلُّ بِهِمْ، وضَعْفٍ يَنالُهُمْ، وكانَ أقْرانُهم مِنَ المُسْلِمِينَ علي، وعبيدة، والحارث رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثَلاثَةُ أسْماءٍ تُناسِبُ أوْصافَهم وهي العُلُوُّ، والعُبُودِيَّةُ، والسَّعْيُ الَّذِي هو الحَرْثُ، فَعَلَوْا عَلَيْهِمْ بِعُبُودِيَّتِهِمْ وسَعْيِهِمْ في حَرْثِ الآخِرَةِ. وَلَمّا كانَ الِاسْمُ مُقْتَضِيًا لِمُسَمّاهُ ومُؤَثِّرًا فِيهِ كانَ أحَبُّ الأسْماءِ إلى اللَّهِ ما اقْتَضى أحَبَّ الأوْصافِ إلَيْهِ كَعَبْدِ اللَّهِ، وعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وكانَ إضافَةُ العُبُودِيَّةِ إلى اسْمِ اللَّهِ واسْمِ الرَّحْمَنِ أحَبَّ إلَيْهِ مِن إضافَتِها إلى غَيْرِهِما، كالقاهِرِ والقادِرِ، فَعَبْدُ الرَّحْمَنِ أحَبُّ إلَيْهِ مِن عَبْدِ القادِرِ، وعَبْدُ اللَّهِ أحَبُّ إلَيْهِ مِن عَبْدِ رَبِّهِ؛ وهَذا لِأنَّ التَّعَلُّقَ الَّذِي بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ اللَّهِ إنَّما هو العُبُودِيَّةُ المَحْضَةُ، والتَّعَلُّقُ الَّذِي بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ العَبْدِ بِالرَّحْمَةِ المَحْضَةِ، فَبِرَحْمَتِهِ كانَ وُجُودُهُ وكَمالُ وُجُودِهِ، والغايَةُ الَّتِي أوْجَدَهُ لِأجْلِها أنْ يَتَألَّهَ لَهُ وحْدَهُ مَحَبَّةً وخَوْفًا، ورَجاءً وإجْلالًا وتَعْظِيمًا، فَيَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ، وقَدْ عَبَدَهُ لِما في اسْمِ اللَّهِ مِن مَعْنى الإلَهِيَّةِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ أنْ تَكُونَ لِغَيْرِهِ، ولَمّا غَلَبَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ وكانَتِ الرَّحْمَةُ أحَبَّ إلَيْهِ مِنَ الغَضَبِ، كانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أحَبَّ إلَيْهِ مِن عَبْدِ القاهِرِ. * [فَصْلٌ: في أسْمائِهِ ﷺ] وَكُلُّها نُعُوتٌ لَيْسَتْ أعْلامًا مَحْضَةً لِمُجَرَّدِ التَّعْرِيفِ، بَلْ أسْماءٌ مُشْتَقَّةٌ مِن صِفاتٍ قائِمَةٍ بِهِ تُوجِبُ لَهُ المَدْحَ والكَمالَ. فَمِنها مُحَمَّدٌ، وهو أشْهَرُها، وبِهِ سُمِّيَ في التَّوْراةِ صَرِيحًا كَما بَيَّنّاهُ بِالبُرْهانِ الواضِحِ في كِتابِ " جَلاءِ الأفْهامِ في فَضْلِ الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلى خَيْرِ الأنامِ ". والمَقْصُودُ أنَّ اسْمَهُ مُحَمَّدٌ في التَّوْراةِ صَرِيحًا بِما يُوافِقُ عَلَيْهِ كُلُّ عالِمٍ مِن مُؤْمِنِي أهْلِ الكِتابِ. وَمِنها أحْمَدُ، وهو الِاسْمُ الَّذِي سَمّاهُ بِهِ المَسِيحُ لِسِرٍّ ذَكَرْناهُ في ذَلِكَ الكِتابِ. وَمِنها: المُتَوَكِّلُ، ومِنها الماحِي، والحاشِرُ، والعاقِبُ، والمُقَفِّي، ونَبِيُّ التَّوْبَةِ، ونَبِيُّ الرَّحْمَةِ، ونَبِيُّ المَلْحَمَةِ، والفاتِحُ، والأمِينُ. وَيَلْحَقُ بِهَذِهِ الأسْماءِ: الشّاهِدُ، والمُبَشِّرُ، والبَشِيرُ، والنَّذِيرُ، والقاسِمُ، والضَّحُوكُ، والقَتّالُ، وعَبْدُ اللَّهِ، والسِّراجُ المُنِيرُ، وسَيِّدُ ولَدِ آدَمَ، وصاحِبُ لِواءِ الحَمْدِ، وصاحِبُ المَقامِ المَحْمُودِ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأسْماءِ؛ لِأنَّ أسْماءَهُ إذا كانَتْ أوْصافَ مَدْحٍ فَلَهُ مِن كُلِّ وصْفٍ اسْمٌ، لَكِنْ يَنْبَغِي أنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الوَصْفِ المُخْتَصِّ بِهِ أوِ الغالِبِ عَلَيْهِ ويُشْتَقُّ لَهُ مِنهُ اسْمٌ، وبَيْنَ الوَصْفِ المُشْتَرَكِ فَلا يَكُونُ لَهُ مِنهُ اسْمٌ يَخُصُّهُ. وَقالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: سَمّى لَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نَفْسَهُ أسْماءً، فَقالَ: «: أنا مُحَمَّدٌ، وأنا أحْمَدُ، وأنا الماحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الكُفْرَ، وأنا الحاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النّاسُ عَلى قَدَمَيَّ، والعاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ». وَأسْماؤُهُ ﷺ نَوْعانِ: أحَدُهُما: خاصٌّ لا يُشارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ، كَمُحَمَّدٍ، وأحْمَدَ، والعاقِبِ، والحاشِرِ، والمُقَفِّي، ونَبِيِّ المَلْحَمَةِ. والثّانِي: ما يُشارِكُهُ في مَعْناهُ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ ولَكِنْ لَهُ مِنهُ كَمالُهُ، فَهو مُخْتَصٌّ بِكَمالِهِ دُونَ أصْلِهِ، كَرَسُولِ اللَّهِ، ونَبِيِّهِ، وعَبْدِهِ، والشّاهِدِ، والمُبَشِّرِ، والنَّذِيرِ، ونَبِيِّ الرَّحْمَةِ، ونَبِيِّ التَّوْبَةِ. وَأمّا إنْ جُعِلَ لَهُ مِن كُلِّ وصْفٍ مِن أوْصافِهِ اسْمٌ تَجاوَزَتْ أسْماؤُهُ المِائَتَيْنِ، كالصّادِقِ، والمَصْدُوقِ، والرَّءُوفِ الرَّحِيمِ، إلى أمْثالِ ذَلِكَ. وَفِي هَذا قالَ مَن قالَ مِنَ النّاسِ: إنَّ لِلَّهِ ألْفُ اسْمٍ، ولِلنَّبِيِّ ﷺ ألْفُ اسْمٍ، قالَهُ أبُو الخَطّابِ بْنُ دِحْيَةَ، ومَقْصُودُهُ الأوْصافُ. * [فَصْلٌ: في شَرْحِ مَعانِي أسْمائِهِ ﷺ] أمّا مُحَمَّدٌ، فَهو اسْمُ مَفْعُولٍ مِن حَمِدَ فَهو مُحَمَّدٌ، إذا كانَ كَثِيرَ الخِصالِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْها، ولِذَلِكَ كانَ أبْلَغَ مِن مَحْمُودٍ، فَإنَّ مَحْمُودًا مِنَ الثَّلاثِيِّ المُجَرَّدِ، ومُحَمَّدٌ مِنَ المُضاعَفِ لِلْمُبالَغَةِ، فَهو الَّذِي يُحْمَدُ أكْثَرَ مِمّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ مِنَ البَشَرِ، ولِهَذا - واللَّهُ أعْلَمُ - سُمِّيَ بِهِ في التَّوْراةِ لِكَثْرَةِ الخِصالِ المَحْمُودَةِ الَّتِي وُصِفَ بِها هو ودِينُهُ وأُمَّتُهُ في التَّوْراةِ، حَتّى تَمَنّى مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يَكُونَ مِنهُمْ، وقَدْ أتَيْنا عَلى هَذا المَعْنى بِشَواهِدِهِ هُناكَ، وبَيَّنّا غَلَطَ أبي القاسم السهيلي حَيْثُ جَعَلَ الأمْرَ بِالعَكْسِ، وأنَّ اسْمَهُ في التَّوْراةِ أحْمَدُ. وَأمّا أحْمَدُ، فَهو اسْمٌ عَلى زِنَةِ أفْعَلِ التَّفْضِيلِ مُشْتَقٌّ أيْضًا مِنَ الحَمْدِ. وقَدِ اخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ هَلْ هو بِمَعْنى فاعِلٍ أوْ مَفْعُولٍ؟ فَقالَتْ طائِفَةٌ: هو بِمَعْنى الفاعِلِ، أيْ حَمْدُهُ لِلَّهِ أكْثَرُ مِن حَمْدِ غَيْرِهِ لَهُ، فَمَعْناهُ: أحْمَدُ الحامِدِينَ لِرَبِّهِ، ورَجَّحُوا هَذا القَوْلَ بِأنَّ قِياسَ أفْعَلِ التَّفْضِيلِ أنْ يُصاغَ مِن فِعْلِ الفاعِلِ لا مِنَ الفِعْلِ الواقِعِ عَلى المَفْعُولِ، قالُوا: ولِهَذا لا يُقالُ ما أضْرَبَ زَيْدًا، ولا زَيْدٌ أضْرَبُ مِن عَمْرٍو، بِاعْتِبارِ الضَّرْبِ الواقِعِ عَلَيْهِ، ولا: ما أشْرَبَهُ لِلْماءِ، وآكَلَهُ لِلْخُبْزِ، ونَحْوِهِ. قالُوا: لِأنَّ أفْعَلَ التَّفْضِيلِ وفِعْلَ التَّعَجُّبِ إنَّما يُصاغانِ مِنَ الفِعْلِ اللّازِمِ، ولِهَذا يُقَدَّرُ نَقْلُهُ مِن " فَعَلَ " و" فَعِلَ " المَفْتُوحِ العَيْنِ ومَكْسُورِها، إلى " فَعُلَ " المَضْمُومِ العَيْنِ، قالُوا: ولِهَذا يُعَدّى بِالهَمْزَةِ إلى المَفْعُولِ، فَهَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ، كَقَوْلِكَ: ما أظْرَفَ زَيْدًا، وأكْرَمَ عَمْرًا، وأصْلُهُما: مِن ظَرُفَ وكَرُمَ. قالُوا: لِأنَّ المُتَعَجَّبَ مِنهُ فاعِلٌ في الأصْلِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ فِعْلُهُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ، قالُوا: وأمّا نَحْوُ: ما أضْرَبَ زَيْدًا لِعَمْرٍو، فَهو مَنقُولٌ مِن " فَعَلَ " المَفْتُوحِ العَيْنِ إلى " فَعُلَ " المَضْمُومِ العَيْنِ، ثُمَّ عُدِّيَ والحالَةُ هَذِهِ بِالهَمْزَةِ، قالُوا: والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ مَجِيئُهم بِاللّامِ، فَيَقُولُونَ: ما أضْرَبَ زَيْدًا لِعَمْرٍو، ولَوْ كانَ باقِيًا عَلى تَعَدِّيهِ، لَقِيلَ: ما أضْرَبَ زَيْدًا عَمْرًا؛ لِأنَّهُ مُتَعَدٍّ إلى واحِدٍ بِنَفْسِهِ، وإلى الآخَرِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ، فَلَمّا أنْ عَدَّوْهُ إلى المَفْعُولِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ عَدَّوْهُ إلى الآخَرِ بِاللّامِ، فَهَذا هو الَّذِي أوْجَبَ لَهم أنْ قالُوا: إنَّهُما لا يُصاغانِ إلّا مِن فِعْلِ الفاعِلِ، لا مِنَ الفِعْلِ الواقِعِ عَلى المَفْعُولِ. وَنازَعَهم في ذَلِكَ آخَرُونَ، وقالُوا: يَجُوزُ صَوْغُهُما مِن فِعْلِ الفاعِلِ، ومِنَ الواقِعِ عَلى المَفْعُولِ، وكَثْرَةُ السَّماعِ بِهِ مِن أبْيَنِ الأدِلَّةِ عَلى جَوازِهِ، تَقُولُ العَرَبُ: ما أشْغَلَهُ بِالشَّيْءِ، وهو مِن شُغِلَ فَهو مَشْغُولٌ، وكَذَلِكَ يَقُولُونَ ما أوْلَعَهُ بِكَذا، وهو مِن أُولِعَ بِالشَّيْءِ فَهو مُولَعٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ لَيْسَ إلّا، وكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: ما أعْجَبَهُ بِكَذا، فَهو مِن أُعْجِبَ بِهِ، ويَقُولُونَ ما أحَبَّهُ إلَيَّ فَهو تَعَجُّبٌ مِن فِعْلِ المَفْعُولِ، وكَوْنِهِ مَحْبُوبًا لَكُ، وكَذا: ما أبْغَضَهُ إلَيَّ، وأمْقَتَهُ إلَيَّ. وَهاهُنا مَسْألَةٌ مَشْهُورَةٌ ذَكَرَها سِيبَوَيْهِ، وهي أنَّكَ تَقُولُ: ما أبْغَضَنِي لَهُ، وما أحَبَّنِي لَهُ، وما أمْقَتَنِي لَهُ: إذا كُنْتَ أنْتَ المُبْغِضَ الكارِهَ، والمُحِبَّ الماقِتَ، فَتَكُونُ مُتَعَجِّبًا مِن فِعْلِ الفاعِلِ، وتَقُولُ: ما أبْغَضنِي إلَيْهِ، وما أمْقَتَنِي إلَيْهِ، وما أحَبَّنِي إلَيْهِ: إذا كُنْتَ أنْتَ البَغِيضُ المَمْقُوتُ، أوِ المَحْبُوبُ، فَتَكُونُ مُتَعَجِّبًا مِنَ الفِعْلِ الواقِعِ عَلى المَفْعُولِ، فَما كانَ بِاللّامِ فَهو لِلْفاعِلِ، وما كانَ بِـ " إلى " فَهو لِلْمَفْعُولِ. وَأكْثَرُ النُّحاةِ لا يُعَلِّلُونَ بِهَذا، والَّذِي يُقالُ في عِلَّتِهِ واللَّهُ أعْلَمُ: إنَّ اللّامَ تَكُونُ لِلْفاعِلِ في المَعْنى، نَحْوُ قَوْلِكَ: لِمَن هَذا؟ فَيُقالُ: لِزَيْدٍ، فَيُؤْتى بِاللّامِ. وأمّا " إلى " فَتَكُونُ لِلْمَفْعُولِ في المَعْنى، فَتَقُولُ: إلى مَن يَصِلُ هَذا الكِتابُ؟ فَتَقُولُ: إلى عَبْدِ اللَّهِ، وسِرُّ ذَلِكَ أنَّ اللّامَ في الأصْلِ لِلْمِلْكِ والِاخْتِصاصِ، والِاسْتِحْقاقُ إنَّما يَكُونُ لِلْفاعِلِ الَّذِي يَمْلِكُ ويَسْتَحِقُّ، و" إلى " لِانْتِهاءِ الغايَةِ، والغايَةُ مُنْتَهى ما يَقْتَضِيهِ الفِعْلُ فَهي بِالمَفْعُولِ ألْيَقُ؛ لِأنَّها تَمامُ مُقْتَضى الفِعْلِ، ومِنَ التَّعَجُّبِ مِن فِعْلِ المَفْعُولِ قَوْلُ كعب بن زهير في النَّبِيِّ ﷺ: ؎فَلَهْوَ أخْوَفُ عِنْدِي إذْ أُكَلِّمُهُ ∗∗∗ وقِيلَ إنَّكَ مَحْبُوسٌ ومَقْتُولُ ؎مِن خادِرٍ مِن لُيُوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ ∗∗∗ بِبَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ فَأخْوَفُ هاهُنا، مِن خِيفَ فَهو مَخُوفٌ لا مِن خافَ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: ما أجَنَّ زَيْدًا، مِن جُنَّ فَهو مَجْنُونٌ، هَذا مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ ومَن وافَقَهم. قالَ البَصْرِيُّونَ: كُلُّ هَذا شاذٌّ لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، فَلا نُشَوِّشُ بِهِ القَواعِدَ، ويَجِبُ الِاقْتِصارُ مِنهُ عَلى المَسْمُوعِ، قالَ الكُوفِيُّونَ: كَثْرَةُ هَذا في كَلامِهِمْ نَثْرًا ونَظْمًا يَمْنَعُ حَمْلَهُ عَلى الشُّذُوذِ؛ لِأنَّ الشّاذَّ ما خالَفَ اسْتِعْمالَهم ومُطَّرِدَ كَلامِهِمْ، وهَذا غَيْرُ مُخالِفٍ لِذَلِكَ، قالُوا: وأمّا تَقْدِيرُكم لُزُومَ الفِعْلِ ونَقْلَهُ إلى فَعُلَ فَتَحَكُّمٌ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وما تَمَسَّكْتُمْ بِهِ مِنَ التَّعْدِيَةِ بِالهَمْزَةِ إلى آخِرِهِ فَلَيْسَ الأمْرُ فِيها كَما ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ، والهَمْزَةُ في هَذا البِناءِ لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ، وإنَّما هي لِلدَّلالَةِ عَلى مَعْنى التَّعَجُّبِ والتَّفْضِيلِ فَقَطْ، كَألِفِ " فاعِلٍ " ومِيمِ " مَفْعُولٍ " وواوِهُ وتاءِ الِافْتِعالِ والمُطاوَعَةِ ونَحْوِها مِنَ الزَّوائِدِ الَّتِي تَلْحَقُ الفِعْلَ الثَّلاثِيَّ لِبَيانِ ما لَحِقَهُ مِنَ الزَّيادَةِ عَلى مُجَرَّدِهِ، فَهَذا هو السَّبَبُ الجالِبُ لِهَذِهِ الهَمْزَةِ لا تَعْدِيَةُ الفِعْلِ. قالُوا: والَّذِي يَدُلُّ عَلى هَذا أنَّ الفِعْلَ الَّذِي يُعَدّى بِالهَمْزَةِ يَجُوزُ أنْ يُعَدّى بِحَرْفِ الجَرِّ وبِالتَّضْعِيفِ، نَحْوُ: جَلَسْتُ بِهِ وأجْلَسْتُهُ وقُمْتُ بِهِ وأقَمْتُهُ، ونَظائِرِهِ، وهُنا لا يَقُومُ مَقامَ الهَمْزَةِ غَيْرُها، فَعُلِمَ أنَّها لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ المُجَرَّدَةِ أيْضًا، فَإنَّها تُجامِعُ باءَ التَّعْدِيَةِ، نَحْوُ: أكْرِمْ بِهِ وأحْسِنْ بِهِ، ولا يُجْمَعُ عَلى الفِعْلِ بَيْنَ تَعْدِيَتَيْنِ. وَأيْضًا فَإنَّهم يَقُولُونَ: ما أعْطاهُ لِلدَّراهِمِ، وأكْساهُ لِلثِّيابِ، وهَذا مِن أعْطى وكَسا المُتَعَدِّي، ولا يَصِحُّ تَقْدِيرُ نَقْلِهِ إلى " عَطَوَ ": إذا تَناوَلَ ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ لِفَسادِ المَعْنى، فَإنَّ التَّعَجُّبَ إنَّما وقَعَ مِن إعْطائِهِ، لا مِن عَطْوِهِ وهو تَناوُلُهُ، والهَمْزَةُ الَّتِي فِيهِ هَمْزَةُ التَّعَجُّبِ والتَّفْضِيلِ، وحُذِفَتْ هَمْزَتُهُ الَّتِي في فِعْلِهِ فَلا يَصِحُّ أنْ يُقالَ: هي لِلتَّعْدِيَةِ. قالُوا: وأمّا قَوْلُكُمْ: إنَّهُ عُدِّيَ بِاللّامِ في نَحْوِ: ما أضْرَبَهُ لِزَيْدٍ. . . إلى آخِرِهِ، فالإتْيانُ بِاللّامِ هاهُنا لَيْسَ لِما ذَكَرْتُمْ مِن لُزُومِ الفِعْلِ، وإنَّما أُتِيَ بِها تَقْوِيَةً لَهُ لَمّا ضَعُفَ بِمَنعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ، وأُلْزِمَ طَرِيقَةً واحِدَةً خَرَجَ بِها عَنْ سُنَنِ الأفْعالِ، فَضَعُفَ عَنِ اقْتِضائِهِ وعَمَلِهِ، فَقَوِيَ بِاللّامِ كَما يَقْوى بِها عِنْدَ تَقَدُّمِ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ، وعِنْدَ فَرْعِيَّتِهِ، وهَذا المَذْهَبُ هو الرّاجِحُ كَما تَراهُ. فَلْنَرْجِعْ إلى المَقْصُودِ فَنَقُولُ: تَقْدِيرُ أحْمَدَ عَلى قَوْلِ الأوَّلِينَ: أحْمَدُ النّاسِ لِرَبِّهِ، وعَلى قَوْلِ هَؤُلاءِ: أحَقُّ النّاسِ وأوْلاهم بِأنْ يُحْمَدَ، فَيَكُونُ كَمُحَمَّدٍ في المَعْنى، إلّا أنَّ الفَرْقَ بَيْنَهُما أنَّ " مُحَمَّدًا " هو كَثِيرُ الخِصالِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْها، و" أحْمَدُ " هو الَّذِي يُحْمَدُ أفْضَلَ مِمّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ، فَمُحَمَّدٌ في الكَثْرَةِ والكَمِّيَّةِ، وأحْمَدُ في الصِّفَةِ والكَيْفِيَّةِ، فَيَسْتَحِقُّ مِنَ الحَمْدِ أكْثَرَ مِمّا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ، وأفْضَلَ مِمّا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ، فَيُحْمَدُ أكْثَرَ حَمْدٍ وأفْضَلَ حَمْدٍ حَمِدَهُ البَشَرُ. فالِاسْمانِ واقِعانِ عَلى المَفْعُولِ وهَذا أبْلَغُ في مَدْحِهِ وأكْمَلُ مَعْنًى. ولَوْ أُرِيدَ مَعْنى الفاعِلِ لَسُمِّيَ الحَمّادَ، أيْ كَثِيرَ الحَمْدِ، فَإنَّهُ ﷺ كانَ أكْثَرَ الخَلْقِ حَمْدًا لِرَبِّهِ، فَلَوْ كانَ اسْمُهُ أحْمَدَ بِاعْتِبارِ حَمْدِهِ لِرَبِّهِ لَكانَ الأوْلى بِهِ الحَمّادَ كَما سُمِّيَتْ بِذَلِكَ أُمَّتُهُ. وَأيْضًا: فَإنَّ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ إنَّما اشْتُقّا مِن أخْلاقِهِ وخَصائِصِهِ المَحْمُودَةِ الَّتِي لِأجْلِها اسْتَحَقَّ أنْ يُسَمّى مُحَمَّدًا ﷺ، وأحْمَدُ وهو الَّذِي يَحْمَدُهُ أهْلُ السَّماءِ وأهْلُ الأرْضِ وأهْلُ الدُّنْيا وأهْلُ الآخِرَةُ؛ لِكَثْرَةِ خَصائِلِهِ المَحْمُودَةِ الَّتِي تَفُوقُ عَدَّ العادِّينَ وإحْصاءَ المُحْصِينَ، وقَدْ أشْبَعْنا هَذا المَعْنى في كِتابِ الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَيْهِ ﷺ، وإنَّما ذَكَرْنا هاهُنا كَلِماتٍ يَسِيرَةً اقْتَضَتْها حالُ المُسافِرِ وتَشَتُّتُ قَلْبِهِ وتَفَرُّقُ هِمَّتِهِ، وبِاللَّهِ المُسْتَعانُ وعَلَيْهِ التَّكْلانُ. وَأمّا اسْمُهُ المُتَوَكِّلُ، فَفي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قالَ: قَرَأْتُ في التَّوْراةِ صِفَةَ النَّبِيِّ ﷺ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، عَبْدِي ورَسُولِي، سَمَّيْتُهُ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ ولا غَلِيظٍ، ولا سَخّابٍ في الأسْواقِ، ولا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، بَلْ يَعْفُو ويَصْفَحُ، ولَنْ أقْبِضَهُ حَتّى أُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجاءَ، بِأنْ يَقُولُوا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ) وَهُوَ ﷺ أحَقُّ النّاسِ بِهَذا الِاسْمِ؛ لِأنَّهُ تَوَكَّلَ عَلى اللَّهِ في إقامَةِ الدِّينِ تَوَكُّلًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَأمّا الماحِي، والحاشِرُ، والمُقَفِّي، والعاقِبُ، فَقَدْ فُسِّرَتْ في حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، فالماحِي: هو الَّذِي مَحا اللَّهُ بِهِ الكُفْرَ، ولَمْ يَمْحُ الكُفْرَ بِأحَدٍ مِنَ الخَلْقِ ما مُحِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ، فَإنَّهُ بُعِثَ وأهْلُ الأرْضِ كُلُّهم كُفّارٌ إلّا بَقايا مِن أهْلِ الكِتابِ، وهم ما بَيْنَ عُبّادِ أوْثانٍ ويَهُودَ مَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ ونَصارى ضالِّينَ وصابِئَةٍ دَهْرِيَّةٍ لا يَعْرِفُونَ رَبًّا ولا مَعادًا، وبَيْنَ عُبّادِ الكَواكِبِ، وعُبّادِ النّارِ، وفَلاسِفَةٍ لا يَعْرِفُونَ شَرائِعَ الأنْبِياءِ، ولا يُقِرُّونَ بِها، فَمَحا اللَّهُ سُبْحانَهُ بِرَسُولِهِ ذَلِكَ حَتّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ عَلى كُلِّ دِينٍ، وبَلَغَ دِينُهُ ما بَلَغَ اللَّيْلُ والنَّهارُ، وسارَتْ دَعْوَتُهُ مَسِيرَ الشَّمْسِ في الأقْطارِ. وَأمّا الحاشِرُ، فالحَشْرُ هو الضَّمُّ والجَمْعُ، فَهو الَّذِي يُحْشَرُ النّاسُ عَلى قَدَمِهِ، فَكَأنَّهُ بُعِثَ لِيُحْشَرَ النّاسُ. والعاقِبُ: الَّذِي جاءَ عَقِبَ الأنْبِياءِ، فَلَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ، فَإنَّ العاقِبَ هو الآخِرُ، فَهو بِمَنزِلَةِ الخاتَمِ، ولِهَذا سُمِّيَ العاقِبَ عَلى الإطْلاقِ، أيْ: عَقِبَ الأنْبِياءَ جاءَ بِعَقِبِهِمْ. وَأمّا المُقَفِّي فَكَذَلِكَ، وهو الَّذِي قَفّى عَلى آثارِ مَن تَقَدَّمَهُ، فَقَفّى اللَّهُ بِهِ عَلى آثارِ مَن سَبَقَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وهَذِهِ اللَّفْظَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ القَفْوِ، يُقالُ: قَفاهُ يَقْفُوهُ: إذا تَأخَّرَ عَنْهُ، ومِنهُ: قافِيَةُ الرَّأْسِ، وقافِيَةُ البَيْتِ، فالمُقَفِّي: الَّذِي قَفّى مَن قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ فَكانَ خاتَمَهم وآخِرَهم. وَأمّا نَبِيُّ التَّوْبَةِ: فَهو الَّذِي فَتَحَ اللَّهُ بِهِ بابَ التَّوْبَةِ عَلى أهْلِ الأرْضِ فَتابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تَوْبَةً لَمْ يَحْصُلْ مِثْلُها لِأهْلِ الأرْضِ قَبْلَهُ. وكانَ ﷺ أكْثَرَ النّاسِ اسْتِغْفارًا وتَوْبَةً، حَتّى كانُوا يَعُدُّونَ لَهُ في المَجْلِسِ الواحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أنْتَ التَّوّابُ الغَفُورُ». وَكانَ يَقُولُ: «يا أيُّها النّاسُ تُوبُوا إلى اللَّهِ رَبِّكم فَإنِّي أتُوبُ إلى اللَّهِ في اليَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»، وكَذَلِكَ تَوْبَةُ أُمَّتِهِ أكْمَلُ مِن تَوْبَةِ سائِرِ الأُمَمِ وأسْرَعُ قَبُولًا وأسْهَلُ تَناوُلًا، وكانَتْ تَوْبَةُ مَن قَبْلَهم مِن أصْعَبِ الأشْياءِ، حَتّى كانَ مِن تَوْبَةِ بَنِي إسْرائِيلَ مِن عِبادَةِ العِجْلِ قَتْلُ أنْفُسِهِمْ، وأمّا هَذِهِ الأُمَّةُ فَلِكَرامَتِها عَلى اللَّهِ تَعالى جَعَلَ تَوْبَتَها النَّدَمَ والإقْلاعَ. وَأمّا نَبِيُّ المَلْحَمَةِ، فَهو الَّذِي بُعِثَ بِجِهادِ أعْداءِ اللَّهِ، فَلَمْ يُجاهِدْ نَبِيٌّ وأُمَّتُهُ قَطُّ ما جاهَدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأُمَّتُهُ، والمَلاحِمُ الكِبارُ الَّتِي وقَعَتْ وتَقَعُ بَيْنَ أُمَّتِهِ وبَيْنَ الكُفّارِ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُها قَبْلَهُ، فَإنَّ أُمَّتَهُ يَقْتُلُونَ الكُفّارَ في أقْطارِ الأرْضِ عَلى تَعاقُبِ الأعْصارِ، وقَدْ أوْقَعُوا بِهِمْ مِنَ المَلاحِمِ ما لَمْ تَفْعَلْهُ أُمَّةٌ سِواهم. وَأمّا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، فَهو الَّذِي أرْسَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ، فَرُحِمَ بِهِ أهْلُ الأرْضِ كُلُّهم مُؤْمِنُهم وكافِرُهُمْ، أمّا المُؤْمِنُونَ فَنالُوا النَّصِيبَ الأوْفَرَ مِنَ الرَّحْمَةِ، وأمّا الكُفّارُ فَأهْلُ الكِتابِ مِنهم عاشُوا في ظِلِّهِ وتَحْتَ حَبْلِهِ وعَهْدِهِ، وأمّا مَن قَتَلَهُ مِنهم هو وأُمَّتُهُ فَإنَّهم عَجَّلُوا بِهِ إلى النّارِ وأراحُوهُ مِنَ الحَياةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي لا يَزْدادُ بِها إلّا شِدَّةَ العَذابِ في الآخِرَةِ. وَأمّا الفاتِحُ، فَهو الَّذِي فَتَحَ اللَّهُ بِهِ بابَ الهُدى بَعْدَ أنْ كانَ مُرْتَجًا، وفَتَحَ بِهِ الأعْيُنَ العُمْيَ والآذانَ الصُّمَّ والقُلُوبَ الغُلْفَ، وفَتَحَ اللَّهُ بِهِ أمْصارَ الكُفّارِ، وفَتَحَ بِهِ أبْوابَ الجَنَّةِ، وفَتَحَ بِهِ طُرُقَ العِلْمِ النّافِعِ والعَمَلِ الصّالِحِ فَفَتَحَ بِهِ الدُّنْيا والآخِرَةَ والقُلُوبَ والأسْماعَ والأبْصارَ والأمْصارَ. وَأمّا الأمِينُ، فَهو أحَقُّ العالَمِينَ بِهَذا الِاسْمِ، فَهو أمِينُ اللَّهِ عَلى وحْيِهِ ودِينِهِ، وهو أمِينُ مَن في السَّماءِ، وأمِينُ مَن في الأرْضِ، ولِهَذا كانُوا يُسَمُّونَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ الأمِينَ. وَأمّا الضَّحُوكُ القَتّالُ، فاسْمانِ مُزْدَوِجانِ لا يُفْرَدُ أحَدُهُما عَنِ الآخَرِ، فَإنَّهُ ضَحُوكٌ في وُجُوهِ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ عابِسٍ ولا مُقَطِّبٍ ولا غَضُوبٍ ولا فَظٍّ، قَتّالٌ لِأعْداءِ اللَّهِ لا تَأْخُذُهُ فِيهِمْ لَوْمَةُ لائِمٍ. وَأمّا البَشِيرُ، فَهو المُبَشِّرُ لِمَن أطاعَهُ بِالثَّوابِ، والنَّذِيرُ المُنْذِرُ لِمَن عَصاهُ بِالعِقابِ، وقَدْ سَمّاهُ اللَّهُ عَبْدَهُ في مَواضِعَ مِن كِتابِهِ مِنها، قَوْلُهُ: ﴿وَأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ [الجن: ٢٠] وقَوْلُهُ: ﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان: ١] وَقَوْلُهُ: ﴿فَأوْحى إلى عَبْدِهِ ما أوْحى﴾ [النجم: ١٠] وقَوْلُهُ: ﴿وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا﴾ [البقرة: ٢٣] وَثَبَتَ عَنْهُ في " الصَّحِيحِ " أنَّهُ قالَ: «أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيامَةِ ولا فَخْرَ» وسَمّاهُ اللَّهُ سِراجًا مُنِيرًا، وسَمّى الشَّمْسَ سِراجًا وهّاجًا. والمُنِيرُ: هو الَّذِي يُنِيرُ مِن غَيْرِ إحْراقٍ، بِخِلافِ الوَهّاجِ فَإنَّ فِيهِ نَوْعُ إحْراقٍ وتَوَهُّجٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب