الباحث القرآني

* (فائدة) قوله تعالى: ﴿وإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا﴾ إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأحقاف:٢٩-٣٢] يدل على تكليف الجن من وجوه متعددة: أحدها: أن الله سبحانه وتعالى صرفهم إلى رسوله يستمعون القرآن ليؤمنوا به ويأتْمروا بأوامره وينتهوا عن نواهيه. الثاني: أنهم ولوا إلى قومهم منذرين والإنذار هو الإعلام بالخوف بعد انعقاد أسبابه، فعلم أنهم منذرون لهم بالنار إن عصوا الرسول. الثالث: أنهم أخبروا أنهم سمعوا القرآن وعقلوه وفهموه وأنه يهدى إلى الحق، وهذا القول منهم يدل على أنهم عالمون بموسى وبالكتاب المنزل عليه، وأن القرآن مصدق له وأنه هاد إلى صراط مستقيم. وهذا يدل على تمكينهم من العلم الذي تقوم به الحجة، وهم قادرون على امتثال ما فيه والتكليف إنما يستلزم العقل والقدرة. الرابع: إنهم قالوا لقومهم: ﴿يا قَوْمنا أجِيبُوا داعِى اللهِ وآمِنُوا بِهِ﴾ [الأحقاف:٣١] وهذا صريح في أنهم مكلفون مأْمورون بإجابة الرسول، وهي تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر. الخامس: أنهم قالوا: ﴿يَغْفِرْ لَكم مِن ذُنُوبِكُمْ﴾ والمغفرة لا تكون إلا عن ذنب وهو مخالفة الأمر. السادس: أنهم قالوا: ﴿مِن ذُنُوبِكُمْ﴾ والذنب مخالفة الأمر. السابع: أنهم قالوا: ﴿وَيُجِرْكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾، وهذا يدل على أن من لم يستجب منهم لداعي الله لم يجره من العذاب الأليم. وهذا صريح في تعلق الشريعة الإسلامية بهم. الثامن: أنهم قالوا: ﴿وَمَن لا يُجِبْ داعِى اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الأرْضِ ولَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أوْلِياءُ﴾ [الأحقاف: ٣٢] وهذا تهديد لمن تخلف عن إجابة داعي الله منهم. وقد استدل بها على أنهم كانوا متعبدين بشريعة موسى كما هم متعبدون بشريعة محمد، وهذا ممكن والآية لا تستلزمه، ولكن قوله تعالى: ﴿يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكم رُسُلٌ مِنكُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٠] الآية تدل على أن الجن كانوا متعبدين بشرائع الرسل قبل محمد ﷺ، والآيات المتقدمة تدل على ذلك أيضًا. وعلى هذا فيكون اختصاص النبي ﷺ بالبعثة إلى الثقلين إلى جميعهم لا إلى بعضهم ومن قبله كان يبعث إلى طائفة مخصوصة، وأيضًا فقد قال تعالى عن نبيه سليمان: ﴿وَمِنَ الجِنِّ من يعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإذْنِ رَبِّهِ، ومَن يَزِغْ مِنهم عَنْ أمْرِنا نُذِقْهُ مِن عَذابِ السَّعِيرِ﴾ [سبأ: ١٢]، وهذا محض التكليف. * [فَصْلٌ: في مَوْتَ أبِي طالِبٍ ومَوْتَ خَدِيجَةَ والخُرُوجُ إلى الطّائِفِ] فَلَمّا نُقِضَتِ الصَّحِيفَةُ وافَقَ مَوْتَ أبِي طالِبٍ ومَوْتَ خَدِيجَةَ، وبَيْنَهُما يَسِيرٌ، فاشْتَدَّ البَلاءُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن سُفَهاءِ قَوْمِهِ، وتَجَرّءُوا عَلَيْهِ فَكاشَفُوهُ بِالأذى، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى الطّائِفِ رَجاءَ أنْ يُؤْوُوهُ ويَنْصُرُوهُ عَلى قَوْمِهِ ويَمْنَعُوهُ مِنهُمْ، ودَعاهم إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فَلَمْ يَرَ مَن يُؤْوِي، ولَمْ يَرَ ناصِرًا، وآذَوْهُ مَعَ ذَلِكَ أشَدَّ الأذى، ونالُوا مِنهُ ما لَمْ يَنَلْهُ قَوْمُهُ، وكانَ مَعَهُ زَيْدُ بْنُ حارِثَةَ مَوْلاهُ، فَأقامَ بَيْنَهم عَشَرَةَ أيّامٍ لا يَدَعُ أحَدًا مِن أشْرافِهِمْ إلّا جاءَهُ وكَلَّمَهُ، فَقالُوا: اخْرُجْ مِن بَلَدِنا، وأغْرَوْا بِهِ سُفَهاءَهُمْ، فَوَقَفُوا لَهُ سِماطَيْنِ، وجَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِالحِجارَةِ حَتّى دَمِيَتْ قَدَماهُ وزَيْدُ بْنُ حارِثَةَ يَقِيهِ بِنَفْسِهِ حَتّى أصابَهُ شِجاجٌ في رَأْسِهِ، فانْصَرَفَ راجِعًا مِنَ الطّائِفِ إلى مَكَّةَ مَحْزُونًا، وفي مَرْجِعِهِ ذَلِكَ دَعا بِالدُّعاءِ المَشْهُورِ دُعاءِ الطّائِفِ: «اللَّهُمَّ إلَيْكَ أشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وقِلَّةَ حِيلَتِي، وهَوانِي عَلى النّاسِ، يا أرْحَمَ الرّاحِمِينَ، أنْتَ رَبُّ المُسْتَضْعَفِينَ وأنْتَ رَبِّي، إلى مَن تَكِلُنِي؟ إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أوْ إلى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أمْرِي، إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلا أُبالِي، غَيْرَ أنَّ عافِيَتَكَ هي أوْسَعُ لِي، أعُوذُ بِنُورِ وجْهِكَ الَّذِي أشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُماتُ، وصَلُحَ عَلَيْهِ أمْرُ الدُّنْيا والآخِرَةِ، أنْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ أوْ أنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ، لَكَ العُتْبى حَتّى تَرْضى، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِكَ. فَأرْسَلَ رَبُّهُ تَبارَكَ وتَعالى إلَيْهِ مَلَكَ الجِبالِ يَسْتَأْمِرُهُ أنْ يُطْبِقَ الأخْشَبَيْنِ عَلى أهْلِ مَكَّةَ، وهُما جَبَلاها اللَّذانِ هي بَيْنَهُما، فَقالَ: لا، بَلْ أسْتَأْنِي بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا». فَلَمّا نَزَلَ بِنَخْلَةَ مَرْجِعَهُ، قامَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَصُرِفَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ فاسْتَمَعُوا قِراءَتَهُ، ولَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتّى نَزَلَ عَلَيْهِ: ﴿وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا فَلَمّا قُضِيَ ولَّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ - قالُوا ياقَوْمَنا إنّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الحَقِّ وإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ - ياقَوْمَنا أجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكم مِن ذُنُوبِكم ويُجِرْكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ - ومَن لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الأرْضِ ولَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أولِياءُ أُولَئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأحقاف: ٢٩-٣٢]. «وَأقامَ بِنَخْلَةَ أيّامًا، فَقالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ حارِثَةَ: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وقَدْ أخْرَجُوكَ؟ يَعْنِي قُرَيْشًا، فَقالَ يا زيد: إنَّ اللَّهَ جاعِلٌ لِما تَرى فَرَجًا ومَخْرَجًا، وإنَّ اللَّهَ ناصِرٌ دِينَهُ ومُظْهِرٌ نَبِيَّهُ». ثُمَّ انْتَهى إلى مَكَّةَ فَأرْسَلَ رَجُلًا مِن خُزاعَةَ إلى مطعم بن عدي: أدْخُلُ في جِوارِكَ؟ فَقالَ: نَعَمْ، ودَعا بَنِيهِ وقَوْمَهُ فَقالَ: البِسُوا السِّلاحَ، وكُونُوا عِنْدَ أرْكانِ البَيْتِ فَإنِّي قَدْ أجَرْتُ مُحَمَّدًا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ومَعَهُ زَيْدُ بْنُ حارِثَةَ حَتّى انْتَهى إلى المَسْجِدِ الحِرامِ، فَقامَ المطعم بن عدي عَلى راحِلَتِهِ فَنادى: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنِّي قَدْ أجَرْتُ مُحَمَّدًا، فَلا يَهِجْهُ أحَدٌ مِنكُمْ، فانْتَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى الرُّكْنِ فاسْتَلَمَهُ، وصَلّى رَكْعَتَيْنِ، وانْصَرَفَ إلى بَيْتِهِ، والمطعم بن عدي ووَلَدُهُ مُحْدِقُونَ بِهِ بِالسِّلاحِ حَتّى دَخَلَ بَيْتَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب