الباحث القرآني
وهذا التنزل يكون عند الموت، ويكون في القبر، ويكون عند البعث، وأول بشارة الآخرة عند الموت.
* (فصل)
قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إذا أصْبَحَ ابْنُ آدَمَ ابْتَدَرَهُ المَلَكُ والشَّيْطانُ، فَإنْ ذَكَرَ اللَّهَ وكَبَّرَهُ وحَمِدَهُ وهَلَّلَهُ، طُرِدَ الشَّيْطانُ وتَوَلّاهُ المَلَكُ، وإنِ افْتَتَحَ بِغَيْرِ ذَلِكَ ذَهَبَ المَلَكُ عَنْهُ وتَوَلّاهُ الشَّيْطانُ.
وَلا يَزالُ المَلَكُ يَقْرُبُ مِنَ العَبْدِ حَتّى يَصِيرَ الحُكْمُ والطّاعَةُ والغَلَبَةُ لَهُ، فَتَتَوَلّاهُ المَلائِكَةُ في حَياتِهِ وعِنْدَ مَوْتِهِ وعِنْدَ بَعْثِهِ، كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ ألّا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا وأبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ - نَحْنُ أوْلِياؤُكم في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ [فصلت: ٣٠-٣١].
وَإذا تَوَلّاهُ المَلَكُ تَوَلّاهُ أنْصَحُ الخَلْقِ وأنْفَعُهم وأبَرُّهُمْ، فَثَبَّتَهُ وعَلَّمَهُ، وقَوّى جَنانَهُ، وأيَّدَهُ اللَّهُ تَعالى: ﴿إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى المَلائِكَةِ أنِّي مَعَكم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأنفال: ١٢].
فَيَقُولُ المَلَكُ عِنْدَ المَوْتِ: لا تَخَفْ ولا تَحْزَنْ وأبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، ويُثَبِّتُهُ بِالقَوْلِ الثّابِتِ أحْوَجَ ما يَكُونُ إلَيْهِ في الحَياةِ الدُّنْيا، وعِنْدَ المَوْتِ، وفي القَبْرِ عِنْدَ المَسْألَةِ.
فَلَيْسَ أحَدٌ أنْفَعَ لِلْعَبْدِ مِن صُحْبَةِ المَلَكِ لَهُ، وهو ولِيُّهُ في يَقَظَتِهِ ومَنامِهِ، وحَياتِهِ وعِنْدَ مَوْتِهِ وفي قَبْرِهِ، ومُؤْنِسُهُ في وحْشَتِهِ، وصاحِبُهُ في خَلْوَتِهِ، ومُحَدِّثُهُ في سِرِّهِ، ويُحارِبُ عَنْهُ عَدُوَّهُ، ويُدافِعُ عَنْهُ ويُعِينُهُ عَلَيْهِ، ويَعِدُهُ بِالخَيْرِ ويُبَشِّرُهُ بِهِ، ويُحِثُّهُ عَلى التَّصْدِيقِ بِالحَقِّ، كَما جاءَ في الأثَرِ الَّذِي يُرْوى مَرْفُوعًا ومَوْقُوفًا: «إنَّ لِلْمَلَكِ بِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ لَمَّةً، ولِلشَّيْطانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ المَلَكِ: إيعادٌ بِالخَيْرِ وتَصْدِيقٌ بِالوَعْدِ، ولَمَّةُ الشَّيْطانِ: إيعادٌ بِالشَّرِّ وتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ».
وَإذا اشْتَدَّ قُرْبُ المَلَكِ مِنَ العَبْدِ تَكَلَّمَ عَلى لِسانِهِ، وألْقى عَلى لِسانِهِ القَوْلَ السَّدِيدَ، وإذا بَعُدَ مِنهُ وقَرُبَ الشَّيْطانُ، تَكَلَّمَ عَلى لِسانِهِ، وألْقى عَلَيْهِ قَوْلَ الزُّورِ والفُحْشِ، حَتّى يُرى الرَّجُلُ يَتَكَلَّمُ عَلى لِسانِهِ المَلَكُ والرَّجُلُ يَتَكَلَّمُ عَلى لِسانِهِ الشَّيْطانُ
وَفِي الحَدِيثِ: «إنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلى لِسانِ عُمَرَ» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكانَ أحَدُهم يَسْمَعُ الكَلِمَةَ الصّالِحَةَ مِنَ الرَّجُلِ الصّالِحِ فَيَقُولُ: ما ألْقاهُ عَلى لِسانِكَ إلّا المَلَكُ، ويَسْمَعُ ضِدَّها فَيَقُولُ: ما ألْقاها عَلى لِسانِكَ إلّا الشَّيْطانُ، فالمَلَكُ يُلْقِي بِالقَلْبِ الحَقَّ ويُلْقِيهِ عَلى اللِّسانِ، والشَّيْطانُ يُلْقِي الباطِلَ في القَلْبِ ويُجْرِيهِ عَلى اللِّسانِ.
فَمِن عُقُوبَةِ المَعاصِي أنَّها تُبْعِدُ مِنَ العَبْدِ ولِيَّهُ الَّذِي سَعادَتُهُ في قُرْبِهِ ومُجاوَرَتِهِ ومُوالاتِهِ، وتُدْنِي مِنهُ عَدُوَّهُ الَّذِي شَقاؤُهُ وهَلاكُهُ وفَسادُهُ في قُرْبِهِ ومُوالاتِهِ، حَتّى إنَّ المَلَكَ لَيُنافِحُ عَنِ العَبْدِ، ويَرُدُّ عَنْهُ إذا سَفِهَ عَلَيْهِ السَّفِيهُ وسَبَّهُ، كَما اخْتَصَمَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ رَجُلانِ، فَجَعَلَ أحَدُهُما يَسُبُّ الآخَرَ وهو ساكِتٌ، فَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ يَرُدُّ بِها عَلى صاحِبِهِ، فَقامَ النَّبِيُّ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ لَمّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ قُمْتَ، فَقالَ: «كانَ المَلَكُ يُنافِحُ عَنْكَ، فَلَمّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ جاءَ الشَّيْطانُ فَلَمْ أكُنْ لِأجْلِسَ».
وَإذا دَعا العَبْدُ المُسْلِمُ لِأخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ أمَّنَ المَلَكُ عَلى دُعائِهِ، وقالَ: «وَلَكَ بِمِثْلٍ».
وَإذا فَرَغَ مِن قِراءَةِ الفاتِحَةِ أمَّنَتِ المَلائِكَةُ عَلى دُعائِهِ.
وَإذا أذْنَبَ العَبْدُ المُوَحِّدُ المُتَّبِعُ لِسَبِيلِهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ اسْتَغْفَرَ لَهُ حَمَلَةُ العَرْشِ ومَن حَوْلَهُ.
وَإذا نامَ العَبْدُ عَلى وُضُوءٍ باتَ في شِعارِ مَلَكٍ.
فَمَلَكُ المُؤْمِنِ يَرُدُّ عَنْهُ ويُحارِبُ ويُدافِعُ عَنْهُ، ويُعَلِّمُهُ ويُثَبِّتُهُ ويُشَجِّعُهُ، فَلا يَلِيقُ بِهِ أنْ يُسِيءَ جِوارَهُ ويُبالِغَ في أذاهُ وطَرْدِهِ عَنْهُ وإبْعادِهِ، فَإنَّهُ ضَيْفُهُ وجارُهُ.
وَإذا كانَ إكْرامُ الضَّيْفِ مِنَ الآدَمِيِّينَ والإحْسانُ إلى الجارِ مِن لَوازِمِ الإيمانِ ومُوجِباتِهِ، فَما الظَّنُّ بِإكْرامِ أكْرَمِ الأضْيافِ، وخَيْرِ الجِيرانِ وأبَرِّهِمْ؟ وإذا آذى العَبْدُ المَلَكَ بِأنْواعِ المَعاصِي والظُّلْمِ والفَواحِشِ دَعا عَلَيْهِ رَبَّهُ، وقالَ: لا جَزاكَ اللَّهُ خَيْرًا، كَما يَدْعُو لَهُ إذا أكْرَمَهُ بِالطّاعَةِ والإحْسانِ.
قالَ بَعْضُ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: إنَّ مَعَكم مَن لا يُفارِقُكُمْ، فاسْتَحْيُوا مِنهم وأكْرِمُوهم.
وَلا ألْأمَ مِمَّنْ لا يَسْتَحِي مِنَ الكَرِيمِ العَظِيمِ القَدْرِ، ولا يُجِلُّهُ ولا يُوَقِّرُهُ، وقَدْ نَبَّهَ سُبْحانَهُ عَلى هَذا المَعْنى بِقَوْلِهِ: ﴿وَإنَّ عَلَيْكم لَحافِظِينَ - كِرامًا كاتِبِينَ - يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: ١٠-١٢] أيِ اسْتَحْيُوا مِن هَؤُلاءِ الحافِظِينَ الكِرامِ وأكْرِمُوهُمْ، وأجِلُّوهم أنْ يَرَوْا مِنكم ما تَسْتَحْيُونَ أنْ يَراكم عَلَيْهِ مَن هو مِثْلُكُمْ، والمَلائِكَةُ تَتَأذّى مِمّا يَتَأذّى مِنهُ بَنُو آدَمَ، وإذا كانَ ابْنُ آدَمَ يَتَأذّى مِمَّنْ يَفْجُرُ ويَعْصِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وإنْ كانَ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِ، فَما الظَّنُّ بِأذى المَلائِكَةِ الكِرامِ الكاتِبِينَ؟ واللَّهُ المُسْتَعانُ.
* (فصل)
وباعث الدين بالإضافة إلى باعث الهوى له ثلاثة أحوال:
إحداها: أن يكون القهر والغلبة لداعي الدين فيرد جيش الهوى مغلولا وهذا إنما يصل إليه بدوام الصبر والواصلون إلى هذه الرتبة هم المنصورون في الدنيا والآخرة وهم الذين قالوا ﴿رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا﴾
وهم الذين تقول لهم الملائكة عند الموت ﴿ألاَّ تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا وأبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أوْلِياؤُكم في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾
وهم الذين نالوا معية الله مع الصابرين وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده وخصهم بهدايته دون من عداهم.
الحالة الثانية أن تكون القوة والغلبة لداعي الهوى فيسقط منازعه باعث الدين بالكلية فيستسلم البائس للشيطان وجنده فيقودونه حيث شاءوا وله معهم حالتان إحداهما أن يكون من جندهم وأتباعهم وهذه حال العاجز الضعيف الثانية أن يصير الشيطان من جنده وهذه حال الفاجر القوي المتسلط والمبتدع الداعية المتبوع كما قال القائل:
؎وكنت امرءا من جند إبليس فارتقى ∗∗∗ بي الحال حتى صار إبليس من جندي
فيصير إبليس وجنده من أعوإنه وأتباعه وهؤلاء هم الذين غلبت عليهم شقوتهم واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة وإنما صاروا إلى هذه الحال لما أفلسوا من الصبر وهذه الحالة هي حالة جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء وجند أصحابها المكر والخداع والأماني الباطلة والغرور والتسويف بالعمل وطول الأمل وإيثار العاجل على الآجل، وهي التي قال في صاحبها النبي:
"العاجز من أتبع نفسه هواها وتمني على الله الأماني" وأصحاب هذه الحال أنواع شتى:
فمنهم المحارب لله ورسوله الساعي في أبطال ما جاء به الرسول ﷺ يصد عن سبيل الله ويبغيها جهده عوجا وتحريفا ليصد الناس عنها.
ومنهم المعرض عما جاء به الرسول المقبل على دنياه وشهواتها فقط.
ومنهم المنافق ذو الوجهين الذي يأكل بالكفر والإسلام.
ومنهم الماجن المتلاعب الذي قطع أنفاسه بالمجون واللهو واللعب.
ومنهم من إذا وعظ قال واشواقاه إلى التوبة ولكنها قد تعذرت عليَّ فلا مطمع لي فيها.
ومنهم من يقول ليس الله محتاجا إلى صلاتي وصيامي، وأنا لا أنجو بعملي، والله غفور رحيم.
ومنهم من يقول ترك المعاصي استهانة بعفو الله ومغفرته.
؎فكثر ما استطعت من الخطايا ∗∗∗ إذا كان القدوم على كريم
ومنهم من يقول ماذا تقع طاعتي في جنب ما عملت، وما قد ينفع الغريق خلاص أصبعه وباقي بدنه غريق.
ومنهم من يقول سوف أتوب، وإذا جاء الموت ونزل بساحتي تبت وقُبلت توبتي ..
إلى غير ذلك من أصناف المغترين الذين صارت عقولهم في أيدي شهواتهم، فلا يستعمل أحدهم عقله إلا في دقائق الحيل التي بها يتوصل إلى قضاء شهوته.
فعقله مع الشيطان كالأسير في يد الكافر يستعمله في رعاية الخنازير، وعصر الخمر، وحمل الصليب، وهو بقهره عقله وتسليمه إلى أعدائه عند الله بمنزلة رجل قهر مسلما وباعه للكفار وسلمه إليهم، وجعله أسيرا عندهم.
* (فصل)
وهاهنا نكتة بديعة يجب التفطن لها وينبغي إخلاء القلب لتأملها وهو أن هذا المغرور لما أذل سلطان الله الذي أعزه به وشرفه ورفع به قدره، وسلمه في يد أبغض أعدائه إليه وجعله أسيرا له تحت قهره وتصرفه وسلطانه سلط الله عليه من كان حقه هو أن يتسلط عليه، فجعله تحت قهره وتصرفه وسلطانه يسخره حيث شاء، ويسخر منه، ويسخر منه جنده وحزبه، فكما أذل سلطان الله وسلمه إلى عدوه أذله الله وسلط عليه عدوه الذي أمره أن يتسلط هو عليه ويذله ويقهره، فصار بمنزلة من سلم نفسه إلى أعدى عدو له يسومه سوء العذاب، وقد كان بصدد أن يستأسره ويقهره ويشفي غيظه منه، فلما ترك مقاومته ومحاربته واستسلم له سلط عليه عقوبة له قال الله تعالى ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إنَّما سُلْطانُهُ عَلى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ والَّذِينَ هم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾.
* [فَصْلٌ مَنزِلَةُ الِاسْتِقامَةِ]
[حَقِيقَةُ الِاسْتِقامَةِ]
* فَصْلٌ مَنزِلَةُ الِاسْتِقامَةِ
وَمِن مَنازِلِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] مَنزِلَةُ الِاسْتِقامَةِ.
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ ألّا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا وأبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: ٣٠].
وَقالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أصْحابُ الجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأحقاف: ١٣].
وَقالَ لِرَسُولِهِ ﷺ: ﴿فاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ومَن تابَ مَعَكَ ولا تَطْغَوْا إنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [هود: ١١٢].
فَبَيَّنَ أنَّ الِاسْتِقامَةَ ضِدُّ الطُّغْيانِ. وهو مُجاوَزَةُ الحُدُودِ في كُلِّ شَيْءٍ.
وَقالَ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكم يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ واسْتَغْفِرُوهُ﴾ [فصلت: ٦].
وَقالَ تَعالى: ﴿وَألَّوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ لَأسْقَيْناهم ماءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهم فِيهِ﴾ [الجن: ١٦].
سُئِلَ صِدِّيقُ الأمَةِ وأعْظَمُها اسْتِقامَةً - أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ الِاسْتِقامَةِ؟ فَقالَ: أنْ لا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا. يُرِيدُ الِاسْتِقامَةَ عَلى مَحْضِ التَّوْحِيدِ.
وَقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الِاسْتِقامَةُ: أنْ تَسْتَقِيمَ عَلى الأمْرِ والنَّهْيِ. ولا تَرُوغُ رَوَغانَ الثَّعالِبِ.
وَقالَ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اسْتَقامُوا: أخْلَصُوا العَمَلَ لِلَّهِ.
وَقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: اسْتَقامُوا: أدَّوُا الفَرائِضَ.
وَقالَ الحَسَنُ: اسْتَقامُوا عَلى أمْرِ اللَّهِ فَعَمِلُوا بِطاعَتِهِ، واجْتَنَبُوا مَعْصِيَتَهُ.
وَقالَ مُجاهِدٌ: اسْتَقامُوا عَلى شَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ حَتّى لَحِقُوا بِاللَّهِ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ: اسْتَقامُوا عَلى مَحَبَّتِهِ وعُبُودِيَّتِهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا عَنْهُ يَمْنَةً ولا يَسْرَةً.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سُفْيانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قُلْتُ: «يا رَسُولَ اللَّهِ
قُلْ لِي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أسْألُ عَنْهُ أحَدًا غَيْرَكَ. قالَ: قُلْ آمَنَتْ بِاللَّهِ. ثُمَّ اسْتَقِمْ».
وَفِيهِ عَنْ ثَوْبانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «اسْتَقِيمُوا ولَنْ تُحْصُوا. واعْلَمُوا أنَّ خَيْرَ أعْمالِكُمُ الصَّلاةُ. ولا يُحافِظُ عَلى الوُضُوءِ إلّا مُؤْمِنٌ».
والمَطْلُوبُ مِنَ العَبْدِ الِاسْتِقامَةُ. وهي السَّدادُ. فَإنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْها فالمُقارَبَةُ. فَإنْ نَزَلَ عَنْها: فالتَّفْرِيطُ والإضاعَةُ. كَما في صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «سَدِّدُوا وقارِبُوا. واعْلَمُوا أنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أحَدٌ مِنكم بِعَمَلِهِ. قالُوا: ولا أنْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: ولا أنا، إلّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنهُ وفَضْلٍ».
فَجَمَعَ في هَذا الحَدِيثِ مَقاماتِ الدِّينِ كُلَّها. فَأمَرَ بِالِاسْتِقامَةِ، وهي السَّدادُ والإصابَةُ في النِّيّاتِ والأقْوالِ والأعْمالِ.
وَأخْبَرَ في حَدِيثِ ثَوْبانَ: أنَّهم لا يُطِيقُونَها. فَنَقَلَهم إلى المُقارَبَةِ. وهي أنْ يَقْرَبُوا مِن الِاسْتِقامَةِ بِحَسَبِ طاقَتِهِمْ. كالَّذِي يَرْمِي إلى الغَرَضِ، فَإنْ لَمْ يُصِبْهُ يُقارِبْهُ. ومَعَ هَذا فَأخْبَرَهم أنَّ الِاسْتِقامَةَ والمُقارَبَةَ لا تُنْجِي يَوْمَ القِيامَةِ. فَلا يَرْكَنُ أحَدٌ إلى عَمَلِهِ. ولا يُعْجَبُ بِهِ. ولا يَرى أنَّ نَجاتَهُ بِهِ، بَلْ إنَّما نَجاتُهُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وعَفْوِهِ وفَضْلِهِ.
فالِاسْتِقامَةُ كَلِمَةٌ جامِعَةٌ، آخِذَةٌ بِمَجامِعِ الدِّينِ. وهي القِيامُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَلى حَقِيقَةِ الصِّدْقِ، والوَفاءِ بِالعَهْدِ.
والِاسْتِقامَةُ تَتَعَلَّقُ بِالأقْوالِ، والأفْعالِ، والأحْوالِ، والنِّيّاتِ. فالِاسْتِقامَةُ فِيها: وُقُوعُها لِلَّهِ، وبِاللَّهِ، وعَلى أمْرِ اللَّهِ.
قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: كُنْ صاحِبَ الِاسْتِقامَةِ، لا طالِبَ الكَرامَةِ. فَإنَّ نَفْسَكَ مُتَحَرِّكَةٌ في طَلَبِ الكَرامَةِ. ورَبَّكَ يُطالِبُكَ بِالِاسْتِقامَةِ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى رَوْحَهُ - يَقُولُ: أعْظَمُ الكَرامَةِ لُزُومُ الِاسْتِقامَةِ.
* [فَصْلٌ دَرَجاتُ الِاسْتِقامَةِ]
[الدَّرَجَةُ الأُولى الِاسْتِقامَةُ عَلى الِاجْتِهادِ في الِاقْتِصادِ]
قالَ: وهي عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ. الدَّرَجَةُ الأُولى: الِاسْتِقامَةُ عَلى الِاجْتِهادِ في الِاقْتِصادِ. لا عادِيًا رَسْمَ العِلْمِ، ولا مُتَجاوِزًا حَدَّ الإخْلاصِ، ولا مُخالِفًا نَهْجَ السُّنَّةِ.
هَذِهِ دَرَجَةٌ تَتَضَمَّنُ سِتَّةَ أُمُورٍ: عَمَلًا واجْتِهادًا فِيهِ، وهو بَذْلُ المَجْهُودِ، واقْتِصادًا،
وَهُوَ السُّلُوكُ بَيْنَ طَرَفَيِ الإفْراطِ، وهو الجَوْرُ عَلى النُّفُوسِ، والتَّفْرِيطُ بِالإضاعَةِ، ووُقُوفًا مَعَ ما يَرْسُمُهُ العِلْمُ، لا وُقُوفًا مَعَ داعِي الحالِ. وإفْرادُ المَعْبُودِ بِالإرادَةِ، وهو الإخْلاصُ، ووُقُوعُ الأعْمالِ عَلى الأمْرِ، وهو مُتابَعَةُ السُّنَّةِ.
فَبِهَذِهِ الأُمُورِ السِّتَّةِ تَتِمُّ لِأهْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ اسْتِقامَتُهم. وبِالخُرُوجِ عَنْ واحِدٍ مِنها يَخْرُجُونَ عَنِ الِاسْتِقامَةِ: إمّا خُرُوجًا كُلِّيًّا، وإمّا خُرُوجًا جُزْئِيًّا.
والسَّلَفُ يَذْكُرُونَ هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ كَثِيرًا - وهُما الِاقْتِصادُ في الأعْمالِ، والِاعْتِصامُ بِالسُّنَّةِ - فَإنَّ الشَّيْطانَ يَشُمُّ قَلْبَ العَبْدِ ويَخْتَبِرُهُ. فَإنْ رَأى فِيهِ داعِيَةً لِلْبِدْعَةِ، وإعْراضًا عَنْ كَمالِ الِانْقِيادِ لِلسُّنَّةِ: أخْرَجَهُ عَنِ الِاعْتِصامِ بِها. وإنْ رَأى فِيهِ حِرْصًا عَلى السُّنَّةِ، وشِدَّةَ طَلَبِ لَها: لَمْ يَظْفَرْ بِهِ مِن بابِ اقْتِطاعِهِ عَنْها، فَأمَرَهُ بِالِاجْتِهادِ، والجَوْرِ عَلى النَّفْسِ، ومُجاوَزَةِ حَدِّ الِاقْتِصادِ فِيها، قائِلًا لَهُ: إنَّ هَذا خَيْرٌ وطاعَةٌ. والزِّيادَةُ والِاجْتِهادُ فِيها أكْمَلُ. فَلا تَفْتُرْ مَعَ أهْلِ الفُتُورِ. ولا تَنَمْ مَعَ أهْلِ النَّوْمِ، فَلا يَزالُ يَحُثُّهُ ويُحَرِّضُهُ، حَتّى يُخْرِجَهُ عَنِ الِاقْتِصادِ فِيها، فَيَخْرُجَ عَنْ حَدِّها. كَما أنَّ الأوَّلَ خارِجُ هَذا الحَدِّ. فَكَذا هَذا الآخَرُ خارِجٌ عَنِ الحَدِّ الآخَرِ.
وَهَذا حالُ الخَوارِجِ الَّذِينَ يَحْقِرُ أهْلُ الِاسْتِقامَةِ صَلاتَهم مَعَ صَلاتِهِمْ، وصِيامَهم مَعَ صِيامِهِمْ. وقِراءَتَهم مَعَ قِراءَتِهِمْ. وكِلا الأمْرَيْنِ خُرُوجٌ عَنِ السُّنَّةِ إلى البِدْعَةِ. لَكِنَّ هَذا إلى بِدْعَةِ التَّفْرِيطِ، والإضاعَةِ، والآخَرَ إلى بِدْعَةِ المُجاوَزَةِ والإسْرافِ.
وَقالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ما أمَرَ اللَّهُ بِأمْرٍ إلّا ولِلشَّيْطانِ فِيهِ نَزَعَتانِ، إمّا إلى تَفْرِيطٍ، وإمّا إلى مُجاوَزَةٍ، وهي الإفْراطُ، ولا يُبالِي بِأيِّهِما ظَفَرَ: زِيادَةٍ أوْ نُقْصانٍ.
وَقالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: «يا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، إنَّ لِكُلِّ عامِلٍ شِرَّةً، ولِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً. فَمَن كانَتْ فَتْرَتُهُ إلى سُنَّةٍ أفْلَحَ، ومَن كانَتْ فَتْرَتُهُ إلى بِدْعَةٍ خابَ وخَسِرَ». قالَ لَهُ ذَلِكَ حِينَ أمَرَهُ بِالِاقْتِصادِ في العَمَلِ.
فَكُلُّ الخَيْرِ في اجْتِهادٍ بِاقْتِصادٍ، وإخْلاصٍ مَقْرُونٍ بِالِاتِّباعِ. كَما قالَ بَعْضُ الصَّحابَةِ: اقْتِصادٌ في سَبِيلٍ وسُنَّةٍ، خَيْرٌ مِنَ اجْتِهادٍ في خِلافِ سَبِيلٍ وسُنَّةٍ، فاحْرِصُوا أنْ تَكُونَ أعْمالُكم عَلى مِنهاجِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وسُنَّتِهِمْ.
وَكَذَلِكَ الرِّياءُ في الأعْمالِ يُخْرِجُهُ عَنِ الِاسْتِقامَةِ. والفُتُورُ والتَّوانِي يُخْرِجُهُ عَنْها أيْضًا.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ اسْتِقامَةُ الأحْوالِ]
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: اسْتِقامَةُ الأحْوالِ. وهي شُهُودُ الحَقِيقَةِ لا كَسْبًا. ورَفَضُ الدَّعْوى لا عِلْمًا. والبَقاءُ مَعَ نُورِ اليَقَظَةِ لا تَحَفُّظًا.
يَعْنِي أنَّ اسْتِقامَةَ الحالِ بِهَذِهِ الثَّلاثَةِ.
أمّا شُهُودُ الحَقِيقَةِ فالحَقِيقَةُ حَقِيقَتانِ: حَقِيقَةٌ كَوْنِيَّةٌ، وحَقِيقَةٌ دِينِيَّةٌ، يَجْمَعُهُما حَقِيقَةٌ ثالِثَةٌ، وهي مَصْدَرُهُما ومَنشَؤُهُما، وغايَتُهُما. وأكْثَرُ أرْبابِ السُّلُوكِ مِنَ المُتَأخِّرِينَ: إنَّما يُرِيدُونَ بِالحَقِيقَةِ الحَقِيقَةَ الكَوْنِيَّةَ. وشُهُودُها هو شُهُودُ تَفَرُّدِ الرَّبِّ بِالفِعْلِ. وأنَّ ما سِواهُ مَحَلُّ جَرَيانِ أحْكامِهِ وأفْعالِهِ. فَهو كالحَفِيرِ الَّذِي هو مَحَلٌّ لِجَرَيانِ الماءِ حَسْبُ.
وَعِنْدَهم أنَّ شُهُودَ هَذِهِ الحَقِيقَةِ والفَناءِ فِيها غايَةُ السّالِكِينَ.
وَمِنهم مَن يَشْهَدُ حَقِيقَةَ الأزَلِيَّةِ والدَّوامِ، وفَناءَ الحادِثاتِ وطَيَّها في ضِمْنِ بِساطِ الأزَلِيَّةِ والأبَدِيَّةِ، وتَلاشِيها في ذَلِكَ. فَيَشْهَدُها مَعْدُومَةً، ويَشْهَدُ تَفَرُّدَ مُوجِدِها بِالوُجُودِ الحَقِّ بِالحَقِّ، وأنَّ وُجُودَ ما سِواهُ رُسُومٌ وظِلالٌ.
فالأوَّلُ: شَهِدَ تَفَرُّدَهُ بِالأفْعالِ. وهَذا شَهِدَ تَفَرُّدَهُ بِالوُجُودِ.
وَصاحِبُ الحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ في طَوْرٍ آخَرَ. فَإنَّهُ في مَشْهَدِ الأمْرِ والنَّهْيِ، والثَّوابِ والعِقابِ، والمُوالاةِ والمُعاداةِ، والفِرَقُ بَيْنَ ما يُحِبُّهُ اللَّهُ ويَرْضاهُ، وبَيْنَ ما يُبْغِضُهُ ويَسْخَطُهُ. فَهو في مَقامِ الفَرْقِ الثّانِي الَّذِي لا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ دَرَجَةُ الإسْلامِ - فَضْلًا عَنْ مَقامِ الإحْسانِ - إلّا بِهِ.
فالمُعْرِضُ عَنْهُ صَفْحًا لا نَصِيبَ لَهُ في الإسْلامِ ألْبَتَّةَ، وهو كالَّذِي كانَ الجُنَيْدُ يُوصِي بِهِ أصْحابَهُ، فَيَقُولُ: عَلَيْكم بِالفَرْقِ الثّانِي. وإنَّما سُمِّيَ ثانِيًا لِأنَّ الفَرْقَ الأوَّلَ: فَرْقٌ بِالطَّبْعِ والنَّفْسِ. وهَذا فَرْقٌ بِالأمْرِ.
والجَمْعُ أيْضًا جَمْعانِ: جَمْعٌ في فَرْقٍ، وهو جَمْعُ أهْلِ الِاسْتِقامَةِ والتَّوْحِيدِ. وجَمْعٌ بِلا فَرْقٍ، وهو جَمْعُ أهْلِ الزَّنْدَقَةِ والإلْحادِ.
فالنّاسُ ثَلاثَةٌ: صاحِبُ فَرْقٍ بِلا جَمْعٍ، فَهو مَذْمُومٌ ناقِصٌ مَخْذُولٌ.
وَصاحِبُ جَمْعٍ بِلا فَرْقٍ. وهو جَمْعُ أهْلِ الزَّنْدَقَةِ، والإلْحادِ. فَصاحِبُهُ مُلْحِدٌ زِنْدِيقٌ.
وَصاحِبُ فَرْقٍ وجَمْعٍ. يَشْهَدُ الفَرْقَ في الجَمْعِ، والكَثْرَةَ في الوَحْدَةِ. فَهو المُسْتَقِيمُ المُوَحِّدُ الفارِقُ. وهَذا صاحِبُ الحَقِيقَةِ الثّالِثَةِ، الجامِعَةُ لِلْحَقِيقَتَيْنِ الدِّينِيَّةِ والكَوْنِيَّةِ. فَشُهُودُ هَذِهِ الحَقِيقَةِ الجامِعَةِ: هو عَيْنُ الِاسْتِقامَةِ.
وَأمّا شُهُودُ الحَقِيقَةِ الكَوْنِيَّةِ، أوِ الأزَلِيَّةِ، والفَناءُ فِيها: فَأمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والكُفّارِ. فَإنَّ الكافِرَ مُقِرٌّ بِقَدَرِ اللَّهِ وقَضائِهِ، وأزَلِيَّتِهِ وأبَدِيَّتِهِ. فَإذا اسْتَغْرَقَ في هَذا الشُّهُودِ وفَنِيَ بِهِ عَنْ سِواهُ: فَقَدْ شَهِدَ الحَقِيقَةَ.
وَأمّا قَوْلُهُ: لا كَسْبًا. أيْ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ مُشاهَدَةِ الحَقِيقَةِ أنَّ شُهُودَها لَمْ يَكُنْ بِالكَسْبِ؛ لِأنَّ الكَسْبَ مِن أعْمالِ النَّفْسِ. فالحَقِيقَةُ لا تَبْدُو مَعَ بَقاءِ النَّفْسِ؛ إذِ الحَقِيقَةُ فَرْدانِيَّةٌ أحَدِيَّةٌ نُورانِيَّةٌ. فَلا بُدَّ مِن زَوالِ ظُلْمَةِ النَّفْسِ، ورُؤْيَةِ كَسْبِها، وإلّا لَمْ يَشْهَدِ الحَقِيقَةَ.
وَأمّا رَفْضُ الدَّعْوى لا عِلْمًا، فالدَّعْوى نِسْبَةُ الحالِ وغَيْرِهِ إلى نَفْسِكَ وإنِّيَتِكَ. فالِاسْتِقامَةُ لا تَصِحُّ إلّا بِتَرْكِها، سَواءٌ كانَتْ حَقًّا أوْ باطِلًا. فَإنَّ الدَّعْوى الصّادِقَةَ تُطْفِئُ نُورَ المَعْرِفَةِ. فَكَيْفَ بِالكاذِبَةِ؟
وَأمّا قَوْلُهُ: لا عِلْمًا؛ أيْ لا يَكُونُ الحامِلُ لَهُ عَلى تَرْكِ الدَّعْوى مُجَرَّدَ عِلْمِهِ بِفَسادِ الدَّعْوى، ومُنافاتِها لِلِاسْتِقامَةِ. فَإذا تَرَكَها يَكُونُ تَرْكُها لِكَوْنِ العِلْمِ قَدْ نَهى عَنْها. فَيَكُونُ تارِكًا لَها ظاهِرًا لا حَقِيقَةً، أوْ تارِكًا لَها لَفْظًا، قائِمًا بِها حالًا؛ لِأنَّهُ يَرى أنَّهُ قَدْ قامَ بِحَقِّ العِلْمِ في تَرْكِها. فَيَتْرُكُها تَواضُعًا، بَلْ يَتْرُكُها حالًا وحَقِيقَةً. كَما يَتْرُكُ مَن أحَبَّ شَيْئًا تَضُرُّهُ مَحَبَّتُهُ حُبَّهُ حالًا وحَقِيقَةً. وإذا تَحَقَّقَ أنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ - كَما قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لِخَيْرِ خَلْقِهِ عَلى الإطْلاقِ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران: ١٢٨]- تَرَكَ الدَّعْوى شُهُودًا وحَقِيقَةً وحالًا.
وَأمّا البَقاءُ مَعَ نُورِ اليَقَظَةِ فَهو الدَّوامُ في اليَقَظَةِ، وأنْ لا يُطْفِئَ نُورَها بِظُلْمَةِ الغَفْلَةِ. بَلْ يَسْتَدِيمُ يَقَظَتَهُ. ويَرى أنَّهُ في ذَلِكَ كالمَجْذُوبِ المَأْخُوذِ عَنْ نَفْسِهِ، حِفْظًا مِنَ اللَّهِ لَهُ. لا أنَّ ذَلِكَ حَصَلَ بِتَحَفُّظِهِ واحْتِرازِهِ.
فَهَذِهِ ثَلاثَةُ أُمُورٍ: يَقَظَةٌ، واسْتِدامَةٌ لَها، وشُهُودٌ أنَّ ذَلِكَ بِالحَقِّ سُبْحانَهُ لا بِكَ. فَلَيْسَ سَبَبُ بَقائِهِ في نُورِ اليَقَظَةِ بِحِفْظِهِ. بَلْ بِحِفْظِ اللَّهِ لَهُ.
وَكَأنَّ الشَّيْخَ يُشِيرُ إلى أنَّ الِاسْتِقامَةَ في هَذِهِ الدَّرَجَةِ لا تَحْصُلُ بِكَسْبٍ. وإنَّما هو مُجَرَّدُ مَوْهِبَةٍ مِنَ اللَّهِ. فَإنَّهُ قالَ في الأُولى " الِاسْتِقامَةَ عَلى الِاجْتِهادِ " وفي الثّانِيَةِ " اسْتِقامَةُ الأحْوالِ، لا كَسْبًا ولا تَحَفُّظًا ".
وَمُنازَعَتُهُ في ذَلِكَ مُتَوَجِّهَةٌ. وأنَّ ذَلِكَ مِمّا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ كَسْبًا يَتَعاطى الأسْبابَ الَّتِي تَهْجُمُ بِصاحِبِها عَلى هَذا المَقامِ.
نَعَمْ، الَّذِي يُنْفى في هَذا المَقامِ: شُهُودُ الكَسْبِ، وأنَّ هَذا حَصَلَ لَهُ بِكَسْبِهِ. فَنَفْيُ الكَسْبِ شَيْءٌ ونَفْيُ شُهُودِهِ شَيْءٌ آخَرَ.
وَلَعَلَّ أنْ نُشْبِعَ الكَلامَ في هَذا فِيما يَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ اسْتِقامَةٌ بِتَرْكِ رُؤْيَةِ الِاسْتِقامَةِ]
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: اسْتِقامَةٌ بِتَرْكِ رُؤْيَةِ الِاسْتِقامَةِ. وبِالغَيْبَةِ عَنْ تَطَلُّبِ الِاسْتِقامَةِ بِشُهُودِ إقامَةٍ، وتَقْوِيمُهُ الحَقُّ.
هَذِهِ الِاسْتِقامَةُ مَعْناها: الذُّهُولُ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ. فَيَغِيبُ بِالمَشْهُودِ المَقْصُودُ سُبْحانَهُ عَنْ رُؤْيَةِ اسْتِقامَتِهِ في طَلَبِهِ. فَإنَّ رُؤْيَةَ الِاسْتِقامَةِ تَحْجُبُهُ عَنْ حَقِيقَةِ الشُّهُودِ.
وَأمّا الغَيْبَةُ عَنْ تَطَلُّبِ الِاسْتِقامَةِ فَهو غَيْبَتُهُ عَنْ طَلَبِها بِشُهُودِ إقامَةِ الحَقِّ لِلْعَبْدِ، وتَقْوِيمِهِ إيّاهُ، فَإنَّهُ إذا شَهِدَ أنَّ اللَّهَ هو المُقِيمُ لَهُ والمُقَوِّمُ، وأنَّ اسْتِقامَتَهُ وقِيامَهُ بِاللَّهِ، لا بِنَفْسِهِ ولا بِطَلَبِهِ: غابَ بِهَذا الشُّهُودِ عَنِ اسْتِشْعارِ طَلَبِهِ لَها.
وَهَذا القَدْرُ مِن مُوجِباتِ شُهُودِ مَعْنًى اسْمُهُ القَيُّومُ، وهو الَّذِي قامَ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلى أحَدٍ. وقامَ كُلُّ شَيْءٍ بِهِ. فَكُلُّ ما سِواهُ مُحْتاجٌ إلَيْهِ بِالذّاتِ. ولَيْسَتْ حاجَتُهُ إلَيْهِ مُعَلَّلَةً بِحُدُوثٍ، كَما يَقُولُ المُتَكَلِّمُونَ. ولا بِإمْكانٍ، كَما يَقُولُ الفَلاسِفَةُ المَشّاءُونَ. بَلْ حاجَتُهُ إلَيْهِ ذاتِيَّةٌ، وما بِالذّاتِ لا يُعَلَّلُ.
نَعَمْ، الحُدُوثُ والإمْكانُ دَلِيلانِ عَلى الحاجَةِ. فالتَّعْلِيلُ بِهِما مِن بابِ التَّعْرِيفِ، لا مِن بابِ العِلَلِ المُؤَثِّرَةِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":30,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ تَتَنَزَّلُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ أَلَّا تَخَافُوا۟ وَلَا تَحۡزَنُوا۟ وَأَبۡشِرُوا۟ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی كُنتُمۡ تُوعَدُونَ","نَحۡنُ أَوۡلِیَاۤؤُكُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۖ وَلَكُمۡ فِیهَا مَا تَشۡتَهِیۤ أَنفُسُكُمۡ وَلَكُمۡ فِیهَا مَا تَدَّعُونَ","نُزُلࣰا مِّنۡ غَفُورࣲ رَّحِیمࣲ"],"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ تَتَنَزَّلُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ أَلَّا تَخَافُوا۟ وَلَا تَحۡزَنُوا۟ وَأَبۡشِرُوا۟ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی كُنتُمۡ تُوعَدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











