الباحث القرآني
* (فصل)
وَمِن دُعاءِ المَلائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ قَوْلُهُمْ: ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ ومَن تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ [غافر: ٩].
فَهَذا يَتَضَمَّنُ طَلَبَ وِقايَتِهِمْ مِن سَيِّئاتِ الأعْمالِ وعُقُوباتِها الَّتِي تَسُوءُ صاحِبَها، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ مَتى وقاهم عَمَلَ السَّيِّئِ وقاهم جَزاءَ السَّيِّئِ، وإنْ كانَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَن تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ أظْهَرَ في عُقُوباتِ الأعْمالِ المَطْلُوبِ وِقايَتُها يَوْمَئِذٍ.
فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ سَألُوهُ سُبْحانَهُ أنْ يَقِيَهم عَذابَ الجَحِيمِ، وهَذا هو وِقايَةُ العُقُوباتِ السَّيِّئَةِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالسَّيِّئَةِ الَّتِي سَألُوا وِقايَتَها، الأعْمالُ السَّيِّئَةُ، يَكُونُ الَّذِي سَألَهُ المَلائِكَةُ نَظِيرَ ما اسْتَعاذَ مِنهُ النَّبِيُّ ﷺ.
وَلا يَرِدُ عَلى هَذا قَوْلُهُ: " يَوْمَئِذٍ " فَإنَّ المَطْلُوبَ وِقايَةُ شُرُورِ سَيِّئاتِ الأعْمالِ ذَلِكَ اليَوْمَ، وهي سَيِّئاتٌ في أنْفُسِها.
قِيلَ: وِقايَةُ السَّيِّئاتِ نَوْعانِ.
أحَدُهُما: وِقايَةُ فِعْلِها بِالتَّوْفِيقِ فَلا تَصْدُرُ مِنهُ.
والثّانِي: وِقايَةُ جَزائِها بِالمَغْفِرَةِ، فَلا يُعاقَبُ عَلَيْها، فَتَضَمَّنَتِ الآيَةُ سُؤالَ الأمْرَيْنِ، والظَّرْفُ تَقْيِيدٌ لِلْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ لا لِلْجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ.
وَتَأمَّلْ ما تَضَمَّنَهُ هَذا الخَبَرُ عَنِ المَلائِكَةِ مِن مَدْحِهِمْ بِالإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ والإحْسانِ إلى المُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِغْفارِ لَهُمْ، وقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اسْتِغْفارِهِمْ تَوَسُّلَهم إلى اللَّهِ تَعالى بِسَعَةِ عِلْمِهِ وسَعَةِ رَحْمَتِهِ، فَسَعَةُ عِلْمِهِ يَتَضَمَّنُ عِلْمَهُ بِذُنُوبِهِمْ وأسْبابِها وضَعْفِهِمْ عَنِ العِصْمَةِ، واسْتِيلاءِ عَدُوِّهِمْ وأنْفُسِهِمْ وهَواهم وطِباعِهِمْ وما زُيِّنَ لَهم مِنَ الدُّنْيا وزِينَتِها، وعِلْمَهُ بِهِمْ إذْ أنْشَأهم مِنَ الأرْضِ، وإذْ هم أجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهاتِهِمْ، وعِلْمَهُ السّابِقَ بِأنَّهم لا بُدَّ أنْ يَعْصُوهُ، وأنَّهُ يُحِبُّ العَفْوَ والمَغْفِرَةَ، وغَيْرَ ذَلِكَ مِن سَعَةِ عِلْمِهِ الَّذِي لا يُحِيطُ بِهِ أحَدٌ سِواهُ.
وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ تَتَضَمَّنُ أنَّهُ لا يَهْلَكُ عَلَيْهِ أحَدٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِهِ أهْلِ تَوْحِيدِهِ ومَحَبَّتِهِ، فَإنَّهُ واسِعُ الرَّحْمَةِ لا يُخْرِجُ عَنْ دائِرَةِ رَحِمَتِهِ إلّا الأشْقِياءَ، ولا أشْقى مِمَّنْ لَمْ تَسَعْهُ رَحْمَتُهُ الَّتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ سَألُوهُ أنْ يَغْفِرَ لِلتّائِبِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَبِيلَهُ، وهو صِراطُهُ المُوَصِّلُ إلَيْهِ الَّذِي هو مَعْرِفَتُهُ ومَحَبَّتُهُ وطاعَتُهُ، فَتابُوا مِمّا يَكْرَهُ، واتَّبَعُوا السَّبِيلَ الَّتِي يُحِبُّها، ثُمَّ سَألُوهُ أنْ يَقِيَهم عَذابَ الجَحِيمِ، وأنْ يُدْخِلَهم والمُؤْمِنِينَ مِن أُصُولِهِمْ وفُرُوعِهِمْ وأزْواجِهِمْ جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدَهم بِها، وهو سُبْحانَهُ، وإنْ كانَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ، فَإنَّهُ وعَدَهم بِها بِأسْبابٍ، ومِن جُمْلَتِها: دُعاءُ مَلائِكَتِهِ لَهم أنْ يُدْخِلَهم إيّاها بِرَحْمَتِهِ الَّتِي مِنها أنْ وفَّقَهم لِأعْمالِهِمْ وأقامَ مَلائِكَتَهُ يَدْعُونَ لَهم بِها.
ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ عَنْ مَلائِكَتِهِ أنَّهم قالُوا عَقِيبَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ: ﴿إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [غافر: ٨].
أيْ مَصْدَرُ ذَلِكَ وسَبَبُهُ وغايَتُهُ صادِرٌ عَنْ كَمالِ قُدْرَتِكَ وكَمالِ عِلْمِكَ، فَإنَّ العِزَّةَ كَمالُ القُدْرَةِ، والحِكْمَةَ كَمالُ العِلْمِ، وبِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ يَقْضِي سُبْحانَهُ وتَعالى ما شاءَ، ويَأْمُرُ ويَنْهى ويُثِيبُ ويُعاقِبُ، فَهاتانِ الصِّفَتانِ مَصْدَرُ الخَلْقِ والأمْرِ.
والمَقْصُودُ أنَّ عُقُوباتِ السَّيِّئاتِ تَتَنَوَّعُ إلى عُقُوباتٍ شَرْعِيَّةٍ، وعُقُوباتٍ قَدَرِيَّةٍ، وهي إمّا في القَلْبِ، وإمّا في البَدَنِ، وإمّا فِيهِما، وعُقُوباتٍ في دارِ البَرْزَخِ بَعْدَ المَوْتِ، وعُقُوباتٍ يَوْمَ عَوْدِ الأجْسادِ، فالذَّنْبُ لا يَخْلُو مِن عُقُوبَةٍ ألْبَتَّةَ، ولَكِنْ لِجَهْلِ العَبْدِ لا يَشْعُرُ بِما فِيهِ مِنَ العُقُوبَةِ، لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ السَّكْرانِ والمُخَدَّرِ والنّائِمِ الَّذِي لا يَشْعُرُ بِالألَمِ، فَتَرَتُّبُ العُقُوباتِ عَلى الذُّنُوبِ كَتَرَتُّبِ الإحْراقِ عَلى النّارِ، والكَسْرِ عَلى الِانْكِسارِ، والغَرَقِ عَلى الماءِ، وفَسادِ البَدَنِ عَلى السُّمُومِ، والأمْراضِ عَلى الأسْبابِ الجالِبَةِ لَها، وقَدْ تُقارِنُ المَضَرَّةُ الذَّنْبَ وقَدْ تَتَأخَّرُ عَنْهُ، إمّا يَسِيرًا وإمّا مُدَّةً، كَما يَتَأخَّرُ المَرَضُ عَنْ سَبَبِهِ أنْ يُقارِنَهُ، وكَثِيرًا ما يَقَعُ الغَلَطُ لِلْعَبْدِ في هَذا المَقامِ ويُذْنِبُ الذَّنْبَ فَلا يَرى أثَرَهُ عَقِبَهُ، ولا يَدْرِي أنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُ عَلى التَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا، كَما تَعْمَلُ السُّمُومُ والأشْياءُ الضّارَّةُ حَذْوَ القَذَّةِ بِالقَذَّةِ، فَإنْ تَدارَكَ العَبْدُ نَفْسَهُ بِالأدْوِيَةِ والِاسْتِفْراغِ والحِمْيَةِ، وإلّا فَهو صائِرٌ إلى الهَلاكِ، هَذا إذا كانَ ذَنْبًا واحِدًا لَمْ يَتَدارَكْهُ بِما يُزِيلُ أثَرَهُ، فَكَيْفَ بِالذَّنْبِ عَلى الذَّنْبِ كُلَّ يَوْمٍ وكُلَّ ساعَةٍ؟ واللَّهُ المُسْتَعانُ.
{"ayahs_start":8,"ayahs":["رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ جَنَّـٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِی وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَأَزۡوَ ٰجِهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ","وَقِهِمُ ٱلسَّیِّـَٔاتِۚ وَمَن تَقِ ٱلسَّیِّـَٔاتِ یَوۡمَىِٕذࣲ فَقَدۡ رَحِمۡتَهُۥۚ وَذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ"],"ayah":"رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ جَنَّـٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِی وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَأَزۡوَ ٰجِهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق