الباحث القرآني

والدُّعاء نَوْعانِ دُعاء عبادَة، ودُعاء مَسْألَة، والعابِد داع كَما أن السّائِل داع، وبِهِما فسر قَوْله تَعالى ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ قيل أطِيعُونِي أثبكم. وَقيل سلوني أعطكم، وفسّر بهما قَوْله تَعالى ﴿وَإذا سَألَكَ عِبادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذا دَعانِ﴾ [البقرة: ١٨٦] والصَّواب أن الدُّعاء يعم النَّوْعَيْنِ وهَذا لفظ متواطئ لا اشْتِراك فِيهِ. [الدُّعاءُ يَدْفَعُ المَكْرُوهَ] وَكَذَلِكَ الدُّعاءُ، فَإنَّهُ مِن أقْوى الأسْبابِ في دَفْعِ المَكْرُوهِ، وحُصُولِ المَطْلُوبِ، ولَكِنْ قَدْ يَتَخَلَّفُ أثَرُهُ عَنْهُ، إمّا لِضَعْفِهِ في نَفْسِهِ - بِأنْ يَكُونَ دُعاءً لا يُحِبُّهُ اللَّهُ، لِما فِيهِ مِنَ العُدْوانِ - وإمّا لِضَعْفِ القَلْبِ وعَدَمِ إقْبالِهِ عَلى اللَّهِ وجَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ وقْتَ الدُّعاءِ، فَيَكُونُ بِمَنزِلَةِ القَوْسِ الرِّخْوِ جِدًّا، فَإنَّ السَّهْمَ يَخْرُجُ مِنهُ خُرُوجًا ضَعِيفًا، وإمّا لِحُصُولِ المانِعِ مِنَ الإجابَةِ: مِن أكْلِ الحَرامِ، والظُّلْمِ، ورَيْنِ الذُّنُوبِ عَلى القُلُوبِ، واسْتِيلاءِ الغَفْلَةِ والشَّهْوَةِ واللَّهْوِ، وغَلَبَتِها عَلَيْها. كَما في مُسْتَدْرَكِ الحاكِمِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «ادْعُوا اللَّهَ وأنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإجابَةِ». «واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ دُعاءً مِن قَلْبٍ غافِلٍ لاهٍ» فَهَذا دَواءٌ نافِعٌ مُزِيلٌ لِلدّاءِ، ولَكِنَّ غَفْلَةَ القَلْبِ عَنِ اللَّهِ تُبْطِلُ قُوَّتَهُ، وكَذَلِكَ أكْلُ الحَرامِ يُبْطِلُ قُوَّتَهُ ويُضْعِفُها. كَما في صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «يا أيُّها النّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ، لا يَقْبَلُ إلّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِما أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقالَ: ﴿ياأيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ واعْمَلُوا صالِحًا إنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: ٥١] وَقالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ١٧٢] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبِّ يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِّيَ بِالحَرامِ، فَأنّى يُسْتَجابُ لِذَلِكَ؟». وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ في كِتابِ الزُّهْدِ لِأبِيهِ: أصابَ بَنِي إسْرائِيلَ بَلاءٌ، فَخَرَجُوا مَخْرَجًا، فَأوْحى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ إلى نَبِيِّهِمْ أنْ أخْبِرْهُمْ: إنَّكم تَخْرُجُونَ إلى الصَّعِيدِ بِأبْدانٍ نَجِسَةٍ، وتَرْفَعُونَ إلَيَّ أكُفًّا قَدْ سَفَكْتُمْ بِها الدِّماءَ، ومَلَأْتُمْ بِها بُيُوتَكم مِنَ الحَرامِ، الآنَ حِينَ اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَيْكُمْ؟ ولَنْ تَزْدادُوا مِنِّي إلّا بُعْدًا. وَقالَ أبُو ذَرٍّ: يَكْفِي مِنَ الدُّعاءِ مَعَ البِرِّ، ما يَكْفِي الطَّعامَ مِنَ المِلْحِ. وَهاهُنا سُؤالٌ مَشْهُورٌ وهُوَ: أنَّ المَدْعُوَّ بِهِ إنْ كانَ قَدْ قُدِّرَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِن وُقُوعِهِ، دَعا بِهِ العَبْدُ أوْ لَمْ يَدْعُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدِّرَ لَمْ يَقَعْ، سَواءٌ سَألَهُ العَبْدُ أوْ لَمْ يَسْألْهُ. فَظَنَّتْ طائِفَةٌ صِحَّةَ هَذا السُّؤالِ، فَتَرَكَتِ الدُّعاءَ وقالَتْ: لا فائِدَةَ فِيهِ، وهَؤُلاءِ مَعَ فَرْطِ جَهْلِهِمْ وضَلالِهِمْ، مُتَناقِضُونَ فَإنَّ طَرْدَ مَذْهَبِهِمْ يُوجِبُ تَعْطِيلَ جَمِيعِ الأسْبابِ فَيُقالُ لِأحَدِهِمْ: إنْ كانَ الشِّبَعُ والرِّيُّ قَدْ قُدِّرا لَكَ فَلابُدَّ مِن وُقُوعِهِما، أكَلْتَ أوْ لَمْ تَأْكُلْ، وإنْ لَمْ يُقَدَّرا لَمْ يَقَعا أكَلْتَ أوْ لَمْ تَأْكُلْ. وَإنْ كانَ الوَلَدُ قُدِّرَ لَكَ فَلابُدَّ مِنهُ، وطِئْتَ الزَّوْجَةَ أوِ الأمَةَ أوْ لَمْ تَطَأْ، وإنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَمْ يَكُنْ، فَلا حاجَةَ إلى التَّزْوِيجِ والتَّسَرِّي، وهَلُمَّ جَرّا. فَهَلْ يَقُولُ هَذا عاقِلٌ أوْ آدَمِيٌّ؟ بَلِ الحَيَوانُ البَهِيمُ مَفْطُورٌ عَلى مُباشَرَةِ الأسْبابِ الَّتِي بِها قِوامُهُ وحَياتُهُ، فالحَيَواناتُ أعْقَلُ وأفْهَمُ مِن هَؤُلاءِ الَّذِينَ هم كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ سَبِيلًا. وَتَكايَسَ بَعْضُهم وقالَ: الِاشْتِغالُ بِالدُّعاءِ مِن بابِ التَّعَبُّدِ المَحْضِ يُثِيبُ اللَّهُ عَلَيْهِ الدّاعِيَ، مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ في المَطْلُوبِ بِوَجْهٍ ما ولا فَرْقَ عِنْدَ هَذا المُتَكَيِّسِ بَيْنَ الدُّعاءِ والإمْساكِ عَنْهُ بِالقَلْبِ واللِّسانِ في التَّأْثِيرِ في حُصُولِ المَطْلُوبِ، وارْتِباطُ الدُّعاءِ عِنْدَهم بِهِ كارْتِباطِ السُّكُوتِ ولا فَرْقَ. وَقالَتْ طائِفَةٌ أُخْرى أكْيَسُ مِن هَؤُلاءِ: بَلِ الدُّعاءُ عَلامَةٌ مُجَرَّدَةٌ نَصَبَها اللَّهُ سُبْحانَهُ أمارَةً عَلى قَضاءِ الحاجَةِ، فَمَتى وُفِّقَ العَبْدُ لِلدُّعاءِ كانَ ذَلِكَ عَلامَةً لَهُ وأمارَةً عَلى أنَّ حاجَتَهُ قَدِ انْقَضَتْ، وهَذا كَما إذا رَأيْتَ غَيْمًا أسْوَدَ بارِدًا في زَمَنِ الشِّتاءِ، فَإنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ وعَلامَةٌ عَلى أنَّهُ يُمْطِرُ. قالُوا: وهَكَذا حُكْمُ الطّاعاتِ مَعَ الثَّوابِ، والكُفْرُ والمَعاصِي مَعَ العِقابِ، هي أماراتٌ مَحْضَةٌ لِوُقُوعِ الثَّوابِ والعِقابِ لا أنَّها أسْبابٌ لَهُ. وَهَكَذا عِنْدَهُمُ الكَسْرُ مَعَ الِانْكِسارِ، والحَرْقُ مَعَ الإحْراقِ، والإزْهاقُ مَعَ القَتْلِ لَيْسَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ سَبَبًا ألْبَتَّةَ، ولا ارْتِباطَ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، إلّا مُجَرَّدُ الِاقْتِرانِ العادِيِّ، لا التَّأْثِيرُ السَّبَبِيُّ وخالَفُوا بِذَلِكَ الحِسَّ والعَقْلَ، والشَّرْعَ والفِطْرَةَ، وسائِرَ طَوائِفِ العُقَلاءِ، بَلْ أضْحَكُوا عَلَيْهِمُ العُقَلاءَ. وَلِلصَّوابِ أنَّ هاهُنا قِسْمًا ثالِثًا، غَيْرَ ما ذَكَرَهُ السّائِلُ، وهو أنَّ هَذا المَقْدُورَ قُدِّرَ بِأسْبابٍ، ومِن أسْبابِهِ الدُّعاءُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ مُجَرَّدًا عَنْ سَبَبِهِ، ولَكِنْ قُدِّرَ بِسَبَبِهِ، فَمَتى أتى العَبْدُ بِالسَّبَبِ، وقَعَ المَقْدُورُ، ومَتى لَمْ يَأْتِ بِالسَّبَبِ انْتَفى المَقْدُورُ، وهَذا كَما قُدِّرَ الشِّبَعُ والرِّيُّ بِالأكْلِ والشُّرْبِ وقُدِّرَ الوَلَدُ بِالوَطْءِ، وقُدِّرَ حُصُولُ الزَّرْعِ بِالبَذْرِ، وقُدِّرَ خُرُوجُ نَفْسِ الحَيَوانِ بِذَبْحِهِ، وكَذَلِكَ قُدِّرَ دُخُولُ الجَنَّةِ بِالأعْمالِ، ودُخُولُ النّارِ بِالأعْمالِ، وهَذا القِسْمُ هو الحَقُّ، وهَذا الَّذِي حُرِمَهُ السّائِلُ ولَمْ يُوَفَّقْ لَهُ. الدُّعاءُ مِن أقْوى الأسْبابِ وَحِينَئِذٍ فالدُّعاءُ مِن أقْوى الأسْبابِ، فَإذا قُدِّرَ وُقُوعُ المَدْعُوِّ بِهِ بِالدُّعاءِ لَمْ يَصِحَّ أنْ يُقالَ: لا فائِدَةَ في الدُّعاءِ، كَما لا يُقالُ: لا فائِدَةَ في الأكْلِ والشُّرْبِ وجَمِيعِ الحَرَكاتِ والأعْمالِ، ولَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الأسْبابِ أنْفَعَ مِنَ الدُّعاءِ، ولا أبْلَغَ في حُصُولِ المَطْلُوبِ. عُمَرُ يَسْتَنْصِرُ بِالدُّعاءِ وَلَمّا كانَ الصَّحابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أعْلَمَ الأُمَّةِ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ﷺ وأفْقَهَهم في دِينِهِ، كانُوا أقْوَمَ بِهَذا السَّبَبِ وشُرُوطِهِ وآدابِهِ مِن غَيْرِهِمْ. وَكانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْتَنْصِرُ بِهِ عَلى عَدُوِّهِ، وكانَ أعْظَمَ جُنْدَيْهِ، وكانَ يَقُولُ لِأصْحابِهِ: لَسْتُمْ تُنْصَرُونَ بِكَثْرَةٍ، وإنَّما تُنْصَرُونَ مِنَ السَّماءِ، وكانَ يَقُولُ: إنِّي لا أحْمِلُ هَمَّ الإجابَةِ، ولَكِنْ هَمَّ الدُّعاءِ، فَإذا أُلْهِمْتُمُ الدُّعاءَ، فَإنَّ الإجابَةَ مَعَهُ، وأخَذَ الشّاعِرُ هَذا المَعْنى فَنَظَمَهُ فَقالَ: ؎لَوْ لَمْ تُرِدْ نَيْلَ ما أرْجُو وأطْلُبُهُ ∗∗∗ مِن جُودِ كَفَّيْكَ ما عَلَّمْتَنِي الطَّلَبا فَمَن أُلْهِمَ الدُّعاءَ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الإجابَةُ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يَقُولُ: ﴿ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠] وقالَ: ﴿وَإذا سَألَكَ عِبادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذا دَعانِ﴾ وفي سُنَنِ ابْنِ ماجَهْ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن لَمْ يَسْألِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ». وَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ رِضاءَهُ في سُؤالِهِ وطاعَتِهِ، وإذا رَضِيَ الرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى فَكُلُّ خَيْرٍ في رِضاهُ، كَما أنَّ كُلَّ بَلاءٍ ومُصِيبَةٍ في غَضَبِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الإمامُ أحْمَدُ في كِتابِ الزُّهْدِ أثَرًا «أنا اللَّهُ، لا إلَهَ إلّا أنا، إذا رَضِيتُ بارَكْتُ، ولَيْسَ لِبَرَكَتِي مُنْتَهًى وإذا غَضِبْتُ لَعَنْتُ، ولَعْنَتِي تَبْلُغُ السّابِعَ مِنَ الوَلَدِ». وَقَدْ دَلَّ العَقْلُ والنَّقْلُ والفِطْرَةُ وتَجارِبُ الأُمَمِ - عَلى اخْتِلافِ أجْناسِها ومِلَلِها ونِحَلِها - عَلى أنَّ التَّقَرُّبَ إلى رَبِّ العالَمِينَ، وطَلَبِ مَرْضاتِهِ، والبِرِّ والإحْسانِ إلى خَلْقِهِ مِن أعْظَمِ الأسْبابِ الجالِبَةِ لِكُلِّ خَيْرٍ، وأضْدادَها مِن أكْبَرِ الأسْبابِ الجالِبَةِ لِكُلِّ شَرٍّ، فَما اسْتُجْلِبَتْ نِعَمُ اللَّهِ، واسْتُدْفِعَتْ نِقْمَتُهُ، بِمِثْلِ طاعَتِهِ، والتَّقَرُّبِ إلَيْهِ، والإحْسانِ إلى خَلْقِهِ. ارْتِباطُ الخَيْرِ والشَّرِّ بِالعَمَلِ وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ سُبْحانَهُ حُصُولَ الخَيْراتِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وحُصُولَ السُّرُورِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ في كِتابِهِ عَلى الأعْمالِ، تُرَتُّبَ الجَزاءِ عَلى الشَّرْطِ، والمَعْلُولِ عَلى العِلَّةِ، والمُسَبَّبِ عَلى السَّبَبِ، وهَذا في القُرْآنِ يَزِيدُ عَلى ألْفِ مَوْضِعٍ. وَبِالجُمْلَةِ فالقُرْآنُ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ صَرِيحٌ في تُرَتُّبِ الجَزاءِ بِالخَيْرِ والشَّرِّ والأحْكامِ الكَوْنِيَّةِ والأمْرِيَّةِ عَلى الأسْبابِ، بَلْ تَرْتِيبِ أحْكامِ الدُّنْيا والآخِرَةِ ومَصالِحِهِما ومَفاسِدِهِما عَلى الأسْبابِ والأعْمالِ. وَمَن تَفَقَّهَ في هَذِهِ المَسْألَةِ وتَأمَّلَها حَقَّ التَّأمُّلِ انْتَفَعَ بِها غايَةَ النَّفْعِ، ولَمْ يَتَّكِلْ عَلى القَدَرِ جَهْلًا مِنهُ، وعَجْزًا وتَفْرِيطًا وإضاعَةً، فَيَكُونُ تَوَكُّلُهُ عَجْزًا، وعَجْزُهُ تَوَكُّلًا، بَلِ الفَقِيهُ كُلَّ الفِقْهِ الَّذِي يَرُدُّ القَدَرَ بِالقَدَرِ، ويَدْفَعُ القَدَرَ بِالقَدَرِ، ويُعارِضُ القَدَرَ بِالقَدَرِ، بَلْ لا يُمْكِنُ لِإنْسانٍ أنْ يَعِيشَ إلّا بِذَلِكَ، فَإنَّ الجُوعَ والعَطَشَ والبَرْدَ وأنْواعَ المَخاوِفِ والمَحاذِيرِ هي مِنَ القَدَرِ. والخَلْقُ كُلُّهم ساهُونَ في دَفْعِ هَذا القَدَرِ بِالقَدَرِ، وهَكَذا مَن وفَّقَهُ اللَّهُ وألْهَمَهُ رُشْدَهُ يَدْفَعُ قَدَرَ العُقُوبَةِ الأُخْرَوِيَّةِ بِقَدَرِ التَّوْبَةِ والإيمانِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ، فَهَذا وِزانُ القَدَرِ المُخَوِّفِ في الدُّنْيا وما يُضادُّهُ سَواءٌ، فَرَبُّ الدّارَيْنِ واحِدٌ وحِكْمَتُهُ واحِدَةٌ لا يُناقِضُ بَعْضُها بَعْضًا، ولا يُبْطِلُ بَعْضُها بَعْضًا، فَهَذِهِ المَسْألَةُ مِن أشْرَفِ المَسائِلِ لِمَن عَرَفَ قَدْرَها، ورَعاها حَقَّ رِعايَتِها، واللَّهُ المُسْتَعانُ. * (فائدة) سمع بعض أهل العلم رجلا يدعوا بالعافية فقال له: "يا هذا استعمل الأدوية وادع بالعافية فإن الله تعالى إذا كان قد جعل إلى العافية طريقا وهو التداوي ودعوته بالعافية ربما كان جوابه قد عافيتك بما جعلته ووضعته سببا للعافية، وما هذا إلا بمثابة من بين زرعه وبين الماء ثلمة يدخل منها الماء يسقي زرعه فجعل يصلي ويستسقي لزرعه، ويطلب المطر مع قدرته على فتح تلك الثلمة لسقي زرعة فإن ذلك لا يحسن منه شرعا ولا عقلا ولم يكن ذلك إلا لأنه سبق بإعطاء الأسباب فهو إعطاء بأحد الطريقين وله أن يعطي بسبب وبغير سبب وبالسبب ليتبين به ما أفاض من صنعه وما أودع في مخلوقاته من القوى والطبائع والمنافع، وإعطاؤه لغير سبب ليتبين للعباد أن القدرة غير مفتقرة إلى واسطة في فعله فإذا دعوته بالعافية فاستنقذ ما أعطاك من العتائد والأرزاق فإن وصلت بها وإلا فاطلب طلب من أفلس من مطلوبه فرغب إلى المعدن كما قال سيد الخلائق: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك". قلت: هذا كلام حسن وأكمل منه أن يبذل الأسباب ويسأل سؤال من لم يدل بشيء ألبتة. والناس في هذا المقام أربعة أقسام: - فأعجزهم من لم يبذل السبب ولم يكثر الطلب فذاك أمهن الخلق. - والثاني: مقابلة وهو أحزم الناس من أدلى بالأسباب التي نصبها الله تعالى مفضية إلى المطلوب وسأل سؤال من لم يدل بسبب أصلا بل سؤال مفلس بائس ليس له حيلة ولا وسيلة. - والثالث: من استعمل الأسباب وصرف همته إليها وقصر نظره عليها فهذا وإن كان له حظ مما رتبه الله تعالى عليها لكنه منقوص منقطع نصب الآفات والمعارضات لا يحصل له إلا بعد جهد فإذا حصل فهو وشيك الزوال سريع الانتقال غير معقب له توحيدا ولا معرفة ولا كان سببا لفتح الباب بينه وبين معبوده. - الرابع: مقابلة وهو رجل نبذ الأسباب وراء ظهره وأقبل على الطلب والدعاء والابتهال فهذا يحمد في موضع ويذم في موضع ويشينه الأمر في موضع فيحمد عند كون تلك الأسباب غير مأمور بها إذ فيها مضرة عليه في دينه فإذا تركها وأقبل على السؤال والابتهال والتضرع لله كان محمودا ويذم حيث كانت الأسباب مأمورا بها فتركها وأقبل على الدعاء، كمن حصره العدو وأمر بجهاده فترك جهاده وأقبل على الدعاء والتضرع أن يصرفه الله عنه وكمن جهده العطش وهو قادر على تناول الماء فتركه وأقبل يسأل الله تعالى أن يرويه وكمن أمكنه التداوي الشرعي فتركه وأقبل يسأل العافية ونظائر هذا. ويشتبه الأمر في الأسباب التي لا يتبين له عواقبها وفيها بعض الاشتباه ولها لوازم قد يعجز عنها وقد يتولد عنها ما يعود بنقصان دينه فهذا موضع اشتباه وخطر والحاكم في ذلك كله الأمر فإن خفي فالاستخارة وأمر الله وراء ذلك.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب